خطبة الجمعة (293) 5 رجب 1428هـ – 20 يوليو 2007م

مواضيع الخطبة:

لحلقة الثانية: التفكّر + التقاعد للحياة لا للموت + كلمات قصيرة

التقاعد يجب أن يكون لتدارك الكثير من المعارف الفائتة، والواجبات المعطّلة في حياة الشّخص، وللعمل القربي الفردي والاجتماعي، وهو لمواصلة الكسب الحلال عند الحاجة، وللمشاركة الفعّالة في النهوض بمستوى الذّات والمجتمع.

الخطبة الأولى

الحمد لله الهادي، ولا هادي معه، الشافي ولا شافي من دونه، المعافي ولا يملك المعافاةَ غيرُه، الكافي من كلِّ شيء ولا يُكفَي منه، الدّافع المانع ولا دافع له، ولا مانع من قَدَرِه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله الذين خَلَقَ، ورَزَقَ، وآوى، وإليه ترجعون علينا بتقوى الله، والتّفكير في المبدأ والمعاد حتى يعرف امرؤ قدره، ويستذكر نعمةَ الوجود عليه، ويستعدّ لليوم الموعود الذي لابدَّ منه، ويخرج من الغفلة، وينتفع بأيام المُهلة، ويكسب صالحاً، ويكون مفلحاً.
ألا وإنَّ كلّ النعم مردّها إلى الله تبارك وتعالى، وكلُّ الخير من عنده، واستذكارُ النِّعم، والتّأمّل فيها سببٌ للشُّكر، وطريقٌ للطاعة، وباب للاستقامة، والتأمّل فيها لا يأتي منها على نهاية {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا…}(1).
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أعذنا من سُكر الغفلة، والاشتغال عن الذكر، ونسيان الشُّكر، والكفر بالنِّعم، واستحقاق النّقم، والاستخفاف بالطاعة، والرياء في العمل، ومواقعة المأثم، واجعلنا من صالحي عبادك، وخير أهل طاعتك ياكريم يارحيم.
أمّا بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في التفكّر، وهذه هي الحلقة الثانية منه:
{… كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(2). فالتفكّر غاية شريفة، ومطمح كبير في حياة العبد، وهي وسيلة هدى ورشاد وسمو لابد منها.
والآيات التي يزخر بها الكون العريض لإيقاظ الفكر، وبعث العقل على التّأمّل، وإحياء طاقةٍ هي من أكبر الطاقات في الوجود الإنساني وهي الفكر ووضعها على طريق الإنتاج.
والآيات يسبقها الفكر، ويلحقها الفكر. التعامل مع الآيات يتوقّف على التفكّر، والإمعان والتأمّل، والغوص إلى أسرار الآيات، واكتشاف مكنونها يتوقّف على إعمال العقل.
ثم من بعد الوقوف على أسرار الآيات، وما تزخر به من لطائف الصُّنع، والدقّة، والحكمة يأتي الفكر الأكبر وهو السير حتى الوصول إلى سرّ الأسرار، وخاب فكرٌ يقف عند الأسرار القريبة في الآيات وتنقطع رحلته عند ذلك. كلُّ العلم ليس بعلم ما لم ينتهِ فكر الإنسان وعقله إلى خالق الخلق، وباسط الرزق، ومدبّر الكون.
وكم هم العلماء الذين يتعاملون مع أسرار الفلك، وأسرار الأحياء، وأسرار هذا الكون العريض ثمّ تعمى بصيرتهم عن رؤية الله؟!
لم يصلوا إلى غاية العلم، ولم يبلغوا كنهه، وما الذي ينقطع بهم عن تمام الرحلة؟! وما الذي يجعلهم عمياً صمّاً بكماً وهم يرون آيات الحكمة، وآيات الحياة التي لا تُحدّ، والعلم الذي لا يتناهَ، والتدبير الذي لا يماثله تدبير؟! سوءٌ في النفس، ارتباط بالأرض، تعاملٌ غير مسؤول مع الهدايات الأولى التي آتاها الله سبحانه وتعالى هذه النفس البشرية. موقف عنادٍ واحد للحق في الأمثلة الصغيرة، في الأمثلة اليومية على مستوى تعامل الإنسان والإنسان، على مستوى المدرّس والطالب و على مستوى الجدليات بين أي طرف وطرف آخر يكفي لأن يكون بداية لعناد للحق يتعاظم حتى يصدّ عن ذكر الله، وعن معرفته ، فلا يعوّدنّ أحد نفسه على العناد في الحق فإن العناد للحق خطير على بصيرة الإنسان، وإنه ليعميها.
كم من آية في الكون؟! وكم أطلعت قدرة الله سبحانه وتعالى عقل الإنسان على الآيات؟! ذلك ليس شيئاً من الترف، إنما هي الحجّة تتلو الحجّة، والبرهان يعقب البرهان لإلزام هذا الإنسان {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(3).
تقول الكلمة عن الحسن الزكي عليه السلام:”أُوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكّر، فإنّ التفكّر أبو كلّ خير وأمّه”(4).
ينتج هذا أنّه مع فقد التفكّر يكون فقد لأبي الخير وأمّه وكأنه بفقدهما لا سبيل إلى الخير.
وأولى الأمور بالتفكّر هو الأمر المرتبط بالحياة كلّها، فيمَ أبذلها؟ لِمَا أعطيها؟ كيف أتعامل معها؟ تُفكّر في الرياضيات، وتفكّر في مسائل فلسفية جانبية من هنا وهناك، وتفكّر في أمور اجتماعية وأمور أخرى، كلّ هذا صحيح، وكلّ هذا ينبغي، ولكنّ ما هو الأهم من مسائل التفكير هو هذه المسألة: مسألة كيف جئت؟ كيف سأنتهي؟ كيف أتعامل مع الحياة؟
“تمييز الباقي من الفاني من أشرف النّظر”(5).
الذي تتساوى عنده لذّة فانية مع لذّة باقية غبي وسفيه، والذي تتساوى عنده عقوبة الدّنيا مع عقوبة الآخرة غبيٌّ وسفيه، فكيف بمن يُقدّم خير الدنيا على خير الآخرة، وكيف بمن يفرّ من شرّ الدنيا بطلب شرّ الآخرة؟! افرضه فيلسوفاً، افرضا فقيهاً، افرضه أي عظيم تراه، إلا أنه في واقعه جاهل، غافل، ساقط، سفيه، غبي، أعمى، بعد أن تتساوى عنده لذائذ فانية متقضّية لا يمسك أحدنا منها لذّة مضت قبل لحظة في لحظته الحاضرة مع لذائذ لا تعرف النفاذ، ونعم لا يأتي عليها نقص أخطر مرض، وأقسى سجن تنتهي آثاره لا يشكو منه البدن، أما عقوبات الآخرة فهي باقية، ولذائذ الآخرة لا تفنى، ثم الفرق الكبير في نوع اللذّة، وكمّ اللذة، وفي نوع العقوبة، وكمّ العقوبة بين ما هو في الدنيا وبين ما هو في الآخرة وهذا يجعل النظر المساوي لهما نظراً ساقطاً في العقل بالمرّة.
“تمييز الباقي من الفاني من أشرف النّظر” ثمّ الاعتماد على من يفنى، والإدبار عمن يبقى، الإدبار عن الله، والاستغناء عنه بعبد من عبيده تسافل في العقل، وعمىً في الرؤية، وسفه في الخيار، فمن تُفرضه ذاك؟ تفرضه فقيهاً؟ تفرضه فيلسوفاً؟ تفرضه سياسياً؟ تفرضه أي مستوى من المستويات؟ حيث يبيع العلاقة مع الله عزّ وجلّ بالعلاقة مع عبيده أقارب، أباعد، أكابر، أصاغر فهو سفيه.
وتقول الكلمة عن عليٍّ عليه السلام:”إنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جَدَداً واضحاً يتجنَّب فيه الصّرعة في المهاوى…”(6).
“إنّما البصير من سمع فتفكّر…” الإنسان لا يكون عاقلاً حيث يكون بمنزلة جهاز الكمبيوتر، وظيفته تلقّي المعلومات.وارتسام المعلومات في الذهن وإن كثرت لا يمثّل الشيء الكبير في حياة الإنسان، أن نستنتج، أن نستنبط، أن نصل من المقدّمات إلى النتائج ثم لا نقف هذا هو الصحيح. تمام العلم أن نصل إلى النتيجة الصحيحة من خلال المقدمات ثم أن نبني عليها، فكما لا فائدة في معلومات طبّيّة، وفي نتائج طبيّة باهرة لا يتعامل معها الطبيب على مستوى التطبيق، كذلك لا فائدة في نتائج فلسفية كبيرة، نتائج فقهية كبيرة، في معلومات معمّقة، في قدرة عقلية فائقة تصل إلى نتائج لا يصل إليه كثير من العقول ثمّ لا تأخذ تلك النتائج مكانها في التعامل مع الحياة، في التعامل مع هذا العمر القصير، في التعامل مع الحقائق الكبرى.
الحيوان يسمع، ولكنّ الحيوان لا يتفكّر، والحيوان أحسن منّا في بعض الموارد؛ حيث يفهم المعلومة الحسّيّة فيبني عليها، فيجتنب ما يضرّ، ويُقبل على ما يفنع، أما البشر فيعلم أن الخمر ضارّ، وأن المخدّرات قاتلة، ولكنّه لا يمسك نفسه عنها. أحمارٌ أحسن أم إنسان من هذا النوع؟! لك أن تجيب وبكل جزم أن الحمار أحسن.
“ونظر فأبصر” ينظر ما يُري الحقيقة، ولكنه يعمى عن الحقيقة، أو يرى الحقيقة على مستوى الفكر، ولكنه يعمى عنها على مستوى النفس والشعور.
“وانتفع بالعبر” كم نقرأ من تاريخ، وكم وقف بك عمر عشرين سنة على دروس في هذه الحياة لا تُعدّ ولا تُحصى، كم رأيت من حياة حيّ، من ولادة وليد، ومن موت شاب، ومن غنى فقير، ومن فقر غني، ومن قيام دولة، وسقوط دولة، ومن مرض يعصف بصحّة وقوّة بطل، كم رأيتَ من هذا وغيره الكثير الكثير، أنا إذا رأيتُ كلّ ذلك وإن كنتُ ابن العشرين ولم أعتبر فأنا الغبيّ السافل الساهي الساقط، ولحمار أحسن من إنسان بهذا المستوى، لأن الحمار كما سبق ينتفع يفهم.
“ثمّ سلك جَدَداً واضحاً” هذا كلّه يجب أن يعطيه خيار الطريق الصحيح، الطريق المنقذ، طريق النجاة “يتجنَّب فيه الصّرعة في المهاوى…”.
وعلى نسق هذا الحديث:”رحم الله امرأً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر، فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا عن قليل لم يكن، وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل…”(7).
هذه الأحداث، هذا الضجيج، هذا العجيج، هذه الصراعات، هذه المكاسب الهائلة، هذه المليارات، هذه الاختراعات والاكتشافات كلّ هذا كأنه لم يكن حيث تقع لحظة المفارقة لهذه الدنيا، وكأن هذه الدنيا لم تقم.
“وكأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل…” لحظة واحدة تنقلك من هذه الحياة وأحداثها وحساباتها وأرباحها وخسائرها إلى عالم آخر لا علاقة له بهذا العالم إلا فيما يتصل بما عمله إنسان في هذه الحياة من خير أو شرّ.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا العقل الراجح، والفكر الصائب، والحكمة الوافية، والعمل الصالح، والسعي الرابح، والنية المخلصة، والقصد السليم، وارزقنا العافية عافية الدنيا والآخرة، يا أكرم من سُئل، وخير من أعطى، وأجود من أفاض.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }

الخطبة الثانية

الحمد لله نور النّور، ربّ كلّ نور، الوارث الباعث لمن في القبور، له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى والكبرياء والآلاء، مانع السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وحافظهما أن تزولا إلا ماشاء وهو العليّ القدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والانصراف إلى النّظر والتفكّر في عيوب النّفس قبل عيوب الغير قصد إصلاحها، ومن أخذ على نفسه أن يفعل ذلك شغله عيبه عن عيب غيره لأن غير المعصوم لا تخلص نفسه من كلِّ العيوب، والمعصومون مشغولون بطلب كمال فوق كمال، وقربٍ إلى قرب، فهم بذلك كذلك مشغولون. وهذا لا يُعطِّل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ظهر من الغير لأن ذلك من وظيفة النفس التي كُلِّفت بها، ومِنْ قصورها وتقصيرها أن تتخلَّف عنها.
اللهم إنَّا نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن الاشتغال بما يضرّ أو لا ينفع، وما يُلهي عن ذكرك، ويؤدي إلى معصيتك، ويُوقع في غضبك، ومن فراغٍ لا تملأه طاعتك، ولا يُتقرّب فيه إليك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك، وانصرنا نصراً عزيزاً مبيناً.
اللهم إنّا نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات أجمعين فإلى هذه النقاط:
التقاعد للحياة لا للموت:
التقاعد بمعناه السائد في مجال الوظائف والأعمال ليس موتاً فيما ينبغي، وليس بداية موت، وإنما هو بداية حياة جديدة. إنه في الواقع موتٌ في وجود الكثيرين، أو بداية موت خطير، ولكنّه فيما ينبغي ويصحّ هو غير ذلك.
التقاعد يجب أن يكون لتدارك الكثير من المعارف الفائتة، والواجبات المعطّلة في حياة الشّخص، وللعمل القربي الفردي والاجتماعي، وهو لمواصلة الكسب الحلال عند الحاجة، وللمشاركة الفعّالة في النهوض بمستوى الذّات والمجتمع.
إنه يعطي فرصة جديدة سانحة لتدارك الكثير مما فات من تكميل النفس، ومن صناعة المستوى المتقدّم، والنهوض بالمجتمع.
التقاعد فرصة للقفزة بالذّات لا للانتكاسة، فرصة لصناعة عقل أكثر تقدّماً، ولنفس أكثر حيوية، ولإرادة أكثر جدّية، ولنشاط أوسع أفقا، ولعمل جديد أكثر وأوسع إثماراً.
التقاعد بالتخطيط الفردي والاجتماعي يُعتبر مكسب أمّة، وفرصة لمشاركة الفرد مشاركة مشهودة في التقدّم بمستوى شعبه وأمّته.
وكيف نجعل التقاعد حياة جديدة، لا موتا ويأساً وعذابا؟
هذا أمر يدخل في مسؤولية الفرد كما سبق، ومسؤولية المجتمع كما سبق، هناك متقاعدون يتوفّرون على الكثير من الخبرة، وكبير من الكفاءة، ويمتلئون جدّاً ونشاطاً، وهناك متقاعدون هم دون ذلك، ولكنّ المتقاعد الذي لا يملك قدرة على أيّ مشاركة اجتماعية هو فرد فرضيّ أكثر منه أنّه واقع.
هناك متقاعدون يُعدّون ثروة هائلة لما اكتسبوه من خبرة في العمل، وما قطعوه من شوط طويل في الدراسة، وبما صنعوه لأنفسهم من شخصيّة اجتماعية يمكن أن يكون لها الأثر الكبير في إصلاح المجتمع.
أما سؤال: كيف نصنع من التقاعد حياة جديدة عامرة بالنشاط والعطاء؟ فذلك ما ينبغي التحضير له قبل التقاعد.
المتعدد المهارات غير صاحب المهارة الواحدة، من قضى جُلّ حياته في العمل لا يعرف إلا ما يرتبط بمهنته سيكون أقلّ كفاءة، وأقرب إلى المعاناة أيام التعطّل، فتعدد المهارات، وتعدد الخبرات، والاشتغال بتربية الفكر، والمطالعة الغزيرة أيام العمل يُعدّ منك شخصية قادرة على التعامل الناجح مع أيام التقاعد.
الانفتاح الاجتماعي بابٌ من أبواب تسهيل عملية التعامل مع المجتمع، وباب من أبواب العطاء القادر أيام التقاعد، أما المنغلقون اجتماعيا فهم من قعدة البيوت أيام التقاعد.
الذين اقتصرت علاقاتهم أيام الحيوية والنشاط والشباب على الدائرة الصغيرة من الموظفين أو العمّال الذين يشتركون معهم في مجال العمل فهؤلاء قد اختاروا لأنفسهم مبكّراً حياة معاناة، وحياة انغلاق، وحياة انكفاء مضرّ أيام التقاعد.
الإحساس الاجتماعي وهو غير الانفتاح الاجتماعي، أن تحسّ بهمّ المجتمع، بالمسؤولية الاجتماعية، وأن تقدم المجتمع من مسؤولية الفرد، وأن تحسّ بالواجب الإلهي في صناعة المجتمع المسلم المؤمن وتقدّمه، وفي إنقاذ المجتمع الإنساني، هذا الإحساس كلّما غزر كلما صنع منك رجلاً قادراً على استثمار الوقت، وفتح لك أبواب العمل وأبواب النشاط أيام عملك الرسمي وأيام تقاعدك.
والعامل أو الموظف الذي يضم إلى ساعات عمله الرسمي نشاطا اجتماعيا، وتحمّل مسؤولية اجتماعية على مستوى التطبيق يكون جاهزا جدا أيام التقاعد للقيام بدور فعّال مؤثّر.
فتعلّم وأنت شاب أن تقرأ كثيراً، أن تعرف قيمة حياتك، أن تعدد مهاراتك، أن تتحسس مسؤوليتك الاجتماعية، أن تنفتح على المجتمع في هادفية ومن خلال رؤية واضحة، أن تتحمل دوراً اجتماعيا فاعلاً، وعندئذ لن تعرف حياتك لحظة من لحظات التقاعد حتى أيام ما يسمى بالتقاعد.
وهناك مسؤولية اجتماعية تتركّز في إيجاد مشاريع تستثمر هذه الكفاءات العالية، والخبرات المتراكمة، والقدرة على العطاء عند كثير من المتخصصين ممن يدخلون في سنّ التقاعد بالمعنى المصطلح، ونحن نعرف أن لاتقاعد في الإسلام، ولا تقاعد في الوظيفة الرسالية، ولا تقاعد على طريق صناعة الإنسان لنفسه ولمجتمعه وخدمة دينه.
كلمات قصيرة:
* حقّ للذين يطلّقون المعنويات أو يكفرون بها أساساً، ولا يرون تقديراً إلا للحسّيّ والماديّ والشهوة العابرة أن يعشقوا أمريكا وأوروبا، وليس لأحد من حقّ على الإطلاق أن يعشق أمريكا وأوروبا إنسانية وخلقا معنويّا، وحريّة حقيقية، وحتى ديموقراطية صادقة، وتقدّمية ورقيا حضاريا بالمعنى الصحيح.
هؤلاء الذين يقدّمون أمريكا نموذجا خلقيا رفيعا، وقدوة حضارية رائعة لمجتمعاتنا الإسلامية مخطئون، فلنفتّش عن أمريكا الراقية، عن إنسانيتها، عن خلقها، عن حضارتها، عن ديموقراطيتها، عن تبجّحاتها بالحضارة في سجن غوانتنامو، في السجن العراقي، في أفغانستان، في لبنان، في باكستان، في كل موطئ قدم لأمريكا على الأرض، فلنقرأ عن العذابات التي واجهت السجناء الإسلاميين في غوانتنامو، فلنقرأ عن جود الأمريكيين وأفاعيلهم الشنيعة في العراق، فلنقرأ عن موقف أمريكا من مناصرة الأنظمة الرجعية القاسية على شعوبها، فلنقرأ عن أمريكا في موقفها مع التجارب الرائدة في الحكم في عالمنا الإسلامي ومعاداة أمريكا لهذه الأنظمة، فلنقف على سلوك أمريكا في كل الأبعاد الإنسانية وفي كل الأبعاد الأخلاقية لنجد أمريكا ثعلبا خادعا، وذئبا مفترسا، وأسدا وحشيّا، لنجد أمريكا صورة شائهة للإنسانية لا مثلاً أعلى.
* إلى الذين يطاردون دين الله في هذه الأرض، ويحاربون كلمة الإسلام ليل نهار في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، وفي كل زاوية من زوايا المجتمع، وحتى في المسجد والمحراب، إلى الذين يسعون حثيثا لأن يقودوا الحياة هنا على طريق المادية العمياء خبر ثلاث الفتيات اللاتي تسارعن إلى الانتحار في هذا البلد لأسباب هي التالية:
رسوب في بعض المواد الدراسية، هذا سبب، سبب آخر أن والدها لم يستجب لها أن يأخذ سيارتها لإصلاحها، السبب الثالث أن أمّاً مشفقة على ابنتها طالبتها أن تأكل لحاجتها للأكل فأبت أن تأكل فقالت لها” موتي أحسن لك”، فذهبت لتنتحر. هذه هي القيم المادية، وهذه هي نتيجة مطاردة الدين، ومعنى أن الدين يختفي من الساحة أن تتحول الساحة إلى فوضى.
تشتكون من الظلم، تشتكون من التجنيس، وتشتكون من غياب دستور عادل، وتشتكون من بطالة، وتشتكون من فقد أمن، وتشتكون من مشاكل كثيرة وستزيد مشاكلكم أضعافاً أضعافاً مهما حاولتم ما دام هناك إقصاء للدين، وما دام هناك بعد للمسيرة عن أحكام الله سبحانه وتعالى، ولن يعالج أي طرح مشكلة الإنسان، ولن ترتفع أزمة هذه الأرض كلّ الأرض إلا بأن تحكم كلمة الله.
* لماذا كانت المقاطعة لإسرائيل؟ ولماذا ترتفع؟ سؤال يوجّه إلى الدولة، إما أن إسرائيل قد تغيرت، وتبدّل ظلمها عدلاً، وإساءتها إحسانا، وعداوتها صداقة، وإما أن نكون نحن قد تبدّلنا، وأن قرار المقاطعة كان ظلما لإسرائيل، وعدوانية عليها. أتصور أن المتبدل نحن ولكن ليس بأن كنّا ظالمين والآن نقترب من العدل، وإنما لأننا كنا نشعر ولو بعض الشيء بالذّات الحضارية، وبالذات المنتمية ، والآن تستولي علينا الغيبوبة بصورة أكبر، والآن ندخل في البيعة بصورة أصرح، والآن نكون قد فقدنا الحياء، وصرنا نستطيع المجاهرة بالذيلية بصورة أوضح. (8)
* ترى أن عجلة الإصلاح لا تفتر إذا قرأت الإعلام، وأن البلد تسارع خطاها على طريق الإصلاح، ولكن شيئاً على الأرض لا تجد. كلّ ما تنفقونه في الإعلام ليخدع الشعب بأنّ هناك إصلاح فهو هباء وأن أحدا لن يخدع، انفقوا ربع ما تنفقونه على الإعلام وعلى غير الإعلام من زيف في الإصلاح الحقيقي فسيصدّق الناس، ولا أدري كيف أنّ الأنظمة تعمل على عدم الاستقرار؟ استقرار الأوضاع محلّ حاجة الشعب والحكومة، ولكنّ الأنظمة وهي المستفيد الأكبر حاجتها إلى الاستقرار أكبر.
الأنظمة نظامان: نظام أخروي، مصالحه أخروية، وقيمه أخروية، ويخدم الناس من أجل ثواب الله، والحاكم في تلك الأنظمة يعتبر نفسه خادماً للناس، أما الأجر فمن الله.
وأنظمة تطلب الدنيا، وتتقاضى الثمن فيها، فتأخذ نصف الثروة، ثلاثة أرباع الثروة، أربعة أخماس الثروة، فالنظام الأخروي وهو يريد ثواب الله سبحانه وتعالى استقرار الأوضاع الأمنية أنفع له، والنظام الدنيوي والذي يتقاضى من الثروة العامة ثلاثة أرباعها أو أربعة أخماسها هذه الأوضاع مستقرة حتى يبقى أنفع له في دنياه وأبقى في غالب الظروف.
العضو في النظام، المستفيد من النظام عنده قصران، وخمسة قصور، وعشرة قصور، وعشرون قصرا، وستمائة خادمة، وكذا مليار، وكذا كيلو متر من الأرض، وأبناء الشعب العاديون الكثير منهم لا يجد مسكنا، لا يجد لقمة، تضيق به المعيشة، فاستقرار الأوضاع في صالح من أكثر؟ ولا يكون استقرار الأوضاع في صالح شعب حتى تكون هناك درجة عدل معقولة يمكن أن يُصبر على الحياة في ظلّها، أما مع انتفاء العدل، أو مع تقلص مساحة العدل إلى حد محرج فأبناء الشعب لا يكتثرون في العادة في أن الأوضاع استقرت أو لم تستقر، فمن صالح الحكومات أن تهدّئ، أن تعطي أقراص اسبيرين، أن تعطي إبراً مخدّرة لتهدأة الأوضاع، في حين أنها تؤجج الطائفية، تستحدث عمليات استفزازية كلّ يوم. هذا ليس من العقل، هذا غباء، اعطِ إبراً مهدّئة، قم ببعض الإصلاحات، هذه الإصلاحات وإن كانت جزئية قد تهدأ شريحة كبيرة من الناس، إما أن تبعّد المسافة بينك وبين الناس وتواصل السخرية بهم، واستنزاف خيرات البلد، وتستثير دين الناس، وتفتت الأخوة الإسلامية بين الناس، وتستثير الأخ ضدّ أخيه فذلك في العاقبة ما يؤول عليك أنت أولاً بالخسارة، الفقير إذا فقد ماذا سيفقد؟ إذا اضطربت الأحوال، وسادت الفوضى ماذا سيخسر الفقير؟ لن يخسر الكثير، أنت الذي سيخسر الكثير، فلا أدري من يُسوّل للأنظمة أن تزيد في الظلم، وأن تواصل السلب، والابتزاز، وأن تحدث مشاكل الفتنة بين حين وآخر؟
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن لا يستبدل عن القرآن، ولا يفارق الإسلام، ولا يضلّه تقلّب الأزمان، ومن الدّاعين إلى دينك، والمجاهدين في سبيلك، والمستغنين برضاك عن رضى من سواك، وأسعدنا في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 18/ النحل.
2 – 219/ البقرة.
3 – 21/ الحشر.
4 – ميزان الحكمة ج 7 ص540.
5 – المصدر نفسه. عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام.
6 – المصدر نفسه.
7 – المصدر نفسه. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
8 – وقد يكون اليوم والأمس سواء ولكن المتغيّر مقتضى الخداع السياسي والتستّر على العلاقات بينما موجبات المقاطعة على ماهي عليه

زر الذهاب إلى الأعلى