خطبة الجمعة (284) 1 جمادى الأول 1428هـ – 18 مايو 2007م
مواضيع الخطبة:
متابعة موضوع العمل + الحوزات العلميّة الدينيّة + في حماس وفتح عبرة + الإسلام والمسلمون وحدة وتعددية:
فليعتبر كل أهل الطوائف، وليعتبر كل أهل الأحزاب، ولتعتبر مختلف الفئات والفرقاء في كل أرض يمثل الواقع الفلسطيني، والواقع العراقي، وواقع مماثل عاشته لبنان من قبل في أكثر من صورة، وواقع كثيرين ممن بدأت معاركهم كلامية متهوّرة لا تراعي ضوابط الخُلق والدين، وتستسيغ لفظ السوء من غير حساب، ولغة القذف والبهتان والتشهير الظالم والتسقيط والتحقير، فقادت قهرا إلى معارك دموية طاحنة، ومحارق للحياة والثروة والأمن والقيم.
الخطبة الاولى
الحمد لله الذي لا رافع ولا خافض، ولا معزَّ ولا مذلَّ، ولا مغني ولا مفقر إلا هو، ولا يؤمِّن منه غيره، ولا خوف على من آمنه، ولا نفع ولا ضرَّ إلا من عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخطّاءة بتقوى الله، وأن لا نعدل برضاه رضا أحد من مخلوقيه، ولا بغضبه غضبهم، وأن لا تعدل بنا الأقوال عن حقٍّ نراه إلى باطل نعرفه، أو أن تخدعنا عن ديننا الكلمات. كن كم لا يسمع للخلق إذا عرفت أن في الشيء رضا الخالق أو سخطه، فإن الصبر على أذى المخلوقين سهلٌ إذا قيس إلى عذاب الخالق، والله يحفظ من كل شيء، ولا يحفظ من أخذه شيء.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأخيار الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل إقبال الناس علينا كإدبارهم لا يعيضنا أنساً عن أنس طاعتك، ولا يخفّف عنا من وحشة معصيتك، واجعل إدبارهم كإقبالهم، لا نفتقد معه أنساً بأنس طاعتك، ولا تلحقنا به وحشة بتجنُّب معصيتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
أما بعد فمع آخر حلقة من الحديث عن العمل:
{وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}(1).
الله أعظم رقيب، ولا حاجة لله مع رقابته الشاملة المستوعبة الكاملة الدائمة إلى رقابة أخرى، ولكن الله عزّ وجلّ شاء ومن باب الحكمة وتعليم الناس قضيّة الضبط، وقضيّة الشهادة، والتوثيق، والأخذ بأدقّ العدل، ومقتضيات هذه الدقّة أن يجعل من دونه وهو الغنيّ شهداء على الناس.
وإذا كانت الأرض تقوم شاهداً لفاعل الطاعة وعلى فاعل المعصية كما يُفهم من هذا المضمون وهو أن العبد إذا تاب إلى الله عز وجل من معصيته جاء أمر الله إلى تلك الأرض أن استري عليه.
وإذا كان الناس اليوم يمتلكون من وسائل التوثيق، وحفظ الوقائع ما لا يستطيع المرء أن يتفلّت منه فإن الله عز وجل أملك للأمر كلّه، ولن يسابق العبادُ ربّهم العلي القدير في قضية التوثيق وكأي قضية أخرى من قضايا الخلق والتصرف في الكون، فإنه مهما بلغ علم الإنسان فالله عز وجل يقول عنه {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(2).
ستأتي توثيقات الله عز وجل وشهادات الشهداء ملزمة، ولا مفرّ منها، وهي شيءٌ فوق ما نتصوّر.
الأعمال مرئية لمالك العباد تبارك وتعالى، وكيف تخفى خافية على الله في أرض أو سماء، ولا أرض ولا سماء، ولا شيء في أرض ولا سماء إلا بمدده. الأشياء في وجودها وفي حياتها وفي ممارساتها إنما تعتمد على مدد الله عز وجل فكيف يمدّ الكون كلّه بما يحتاجه من وجود ومن حياة، ومن قدرة على الفاعلية وهو لا يعلم به؟!
كيف يوصل سبحانه وتعالى الوجود، والرزق، ويوصل الحياة إلى الأشياء وكلَّ ما به قوامُها وأثرها وهو لا يعلم بها؟!
تلك رقابة الله، ومن الرقباء والشهداء الذين أكرمهم الله عز وجل بالرقابة والشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
اتخاذ رسول الله صلى الله عليه وآله شاهداً يعني أنه الروح الطاهرة، النفس الزكيّة، الكلمة الحقّة، الرأي الصائب، الإنسان الذي لا يأتي عمله ولا قوله ولا تحمّله للشهادة، ولا أداؤه لها إلا معصوماً.
{وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}.
ومما يعنيه هذا التذييل للآية الكريمة أن إعطاء الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وآله أمر تشريفي وليس محلّ حاجة لله عز وجلّ، حيث تقول الآية {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، وإذا كان لرسول الله صلى الله عليه وآله علم أو لغيره علم فإنما هو من الله، ويجب أن تَعظُم رقابة رسول الله صلى الله عليه وآله على النفوس، لكن تبقى عظمة رقابة الله عز وجلّ على النفوس المؤمنة أكبر.
وإن أحد الناس لينكشف عيب من عيوبه المعنوية أمام مستوى عاديٍّ من الناس ليؤلمه ذلك ألماً شديداً، ويكون بذلك أسير عيبه، أما إذا انكشف إلى علية الناس، إلى أشرف الناس، إلى أكرم الناس في مجتمعه فسقوطه في نفسه أكبر، وكلما انكشف إلى من هو أعظم في نفسه كلّما ثقل عليه ذلك بدرجة أشدّ، فانكشاف العيوب أمام رسول الله صلى الله عليه وآله مأساة في حياة من يحسّ بالشرف، من تعزّ عليه نفسه، شرفه، كرامته.
أما هنا الانكشاف أمام الله عز وجل – ولا أحد منا إلا وهو مكشوف بالكامل أمام خالقه عزّ وجل – فما أعظمه على النفوس الرفيعة، فأن ينكشف أمام الله عزّ وجلّ أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أمضى لحظة من حياته في مباحٍ لم يرتبط بنيّة القربة فذلك ما لا تستطيعه نفس علي عليه السلام، لذلك لابد أنه كان يحرص صلوات الله وسلامه عليه أن تتعبّأ كل لحظات حياته بالطاعة، وأن تمضي كل ثانية من ثواني حياته في سبيل الله عزّ وجلّ.
الأحاديث في هذا المجال:
“إنّ الأعمال تعرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله أبرارها وفجارها”(3) هذا عن الرضا عليه السلام.
وفي الحديث الآخر:
“إنّ أعمال العباد تعرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله كلّ صباح أبرارها وفجّارها، فاحذروا فليستحيي أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح”(4).
“تعرض الأعمال على رسول الله صلّى الله عليه وآله أعمال العباد كلّ صباح أبرارها وفجّارها، فاحذروها، وهو قول الله عزّ وجلّ:{وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}”(5).
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”إنّ أعمالكم تعرض عليّ كلّ يوم فما كان من حَسَنٍ استزدت الله لكم وما كان من قبيبح استغفرت الله لكم”(6).
والمستودع لأسرار الناس من الله سبحانه وتعالى لابد أن يكون الأمين، ومن هو على خلق عظيم، لا يُبدي سوءات الناس وعوراتهم، ولا يهدم شخصياتهم.
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بقدراته البشرية لا يمكن له أن يقف على أعمال العباد وخفاياها، لكن لا يعظم على الله عزّ وجل وليس بعزيز على الله عزّ وجلّ أن يوصل أعمال العباد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هي عليه من طراوة ودقّة وضبط من أجل أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وآله على هذه الأعمال.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله له درجة من الاطّلاع الخاص من خلال الموهوب له من قوّته النفسيّة والروحيّة والعقليّة القائمة في زمان حياته من ربّه فإنَّه ليس له شيء من ذلك بعد مماته كذلك إلا بتدخّل غيبي، وبعناية خاصّة من الله سبحانه وتعالى.
أما القدرات البشرية العادية فهي عاجزة عن الاطلاع على أعمال العباد كلهم في الحياة فضلا عن الممات.
الأئمة عليهم السلام جاء الحديث بعرض الأعمال عليهم كذلك، وهذا العرض بمعنى إراءة الأئمة عليهم السلام عن طريق الكشف الغيبي من الله عزّ وجل لأعمال العباد لتلك النفوس الشريفة فهي لذلك ترى أعمال العباد.
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} المؤمنون الذين هم أصحاب بصيرة فسيحة ممتدّة صادقة، أمينة، وأصحاب عدالة بالغة لا تظلم، وأصحاب رؤية واضحة لا تُغشّ إنما هم صفوة المؤمنين وهم أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
المؤمن الذي يرضاه الله عز وجل شاهدا مطلقا لا تأتي عليه غفلة، لا يأتي عليه السهو، لا يرتكب الخطأ في مرحلة التحمّل للشهادة، ولا في مرحلة الأداء، لابد أن يكون هو المؤمن المعصوم حتى تأتي الشهادة معصومة، وبما هي شهادة مرضية عند الله سبحانه فهي مما يتوقّف عليها مصير العباد إمّا إلى جنة أو نار.
الشهادة يوم القيامة نتيجتها ليس حبس سنة، وإنّما قد يكون نتيجتها تخليداً في النار أو خلوداً في الجنّة، فالشهداء هناك لابد أن يكونوا كبارا عظاما دقيقين أمناء كل الأمانة.
ويقول الحديث عن الصادق عليه السلام “(في قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد…): نزلت في أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله خاصّة في كلّ قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم، ومحمّد شاهد علينا”(7).
الإمام في زمنه شاهد على كلّ الأمّة، ونقول هنا كذلك بأن قوى الإمام البشرية العاديّة لا يمكن أن تؤهّله إلى الشهادة على أعمال الأمّة كل الأمّة وإن كان على قيد الحياة، فلا بد هنا من عناية خاصة، ورحمة إلهية، ومضافة تدخل غيبي من الله سبحانه وتعالى يعطي الإراءة الصادقة الأمينة للإمام عليه السلام ليشهد علي أعمال العباد.
“ومحمد شاهد علينا” شهادة الرسول صلى الله عليه وآله على الأئمة عليهم السلام في كل قرن لابد أن تكون بعد وفاة، ولا فرق في قدرة الله عز وجل أن يزوّد الشاهد بما يؤهله للشهادة في حياة أو بعد ممات.
“عن محمّد بن مسلم وزرارة قالا: سألنا أبا عبدالله عليه السّلام عن الأعمال تعرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله؟
قال: ما فيه شكٌ، ثمَّ تلا هذه الآية:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} قال: إنّ لله شهداء في أرضه”(8).
أنتم تجدون كلمة العرض، ولم يأت في هذه الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وآله يعلم بما يشهد عن غير عرض وتدخل غيبي خاص، والعرض يحتاج إلى معروض وعارض ومعروض عليه، ومن يَعرِض على رسول الله صلى الله عليه وآله إلا الله أو ملك وظّفه الله سبحانه وتعالى لهذه الوظيفة؟!
“هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون”(9).
أي استنساخ هو؟ استنساخ فيديو؟ استنساخ يمكن أن يدخله التلفيق؟ يمكن أن يدفع محام بدفع تجاهه؟ إنه الاستنساخ الصارخ بالشهادة الحقّة التي لا ريب فيها، والتي لا تملك نفس أن تبدي إنكارا أمامها.
وهناك رأي يذهب إلى أن الأعمال تجسّم، وبغض النظر عن تجسيم الأعمال أو عدم تجسيمها فإن كتابة الأعمال واستنساخها مما تتحدث عنه الآية الكريمة ليست على حد ما نستنسخ أو ما نكتب مما يمكن أن يشكك في صدقه وأمانته مشكك.
إنه العمل التوثيقي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تملك نفس أن تقف موقف الإنكار أمامه.
عن عليه السلام:”فاتقوا الله الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده(10)، وتقلّبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، وقد وكّل بذلك حفظةً كراماً، لا يُسقطون حقّاً، ولا يُثبتون باطلاً”(11).
وإذا كان الكرام الكاتبون لا يسقطون حقّاً ولا يثبتون باطلا فكيف بالرب العظيم ورقابته الشاملة؟
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نضرع إليك ونتوسل إليك باسمك العظيم الأعظم أن تعفو عنا وتغفر لنا وترحمنا وتكفينا وتحمينا وتقينا من شر الدارين، وأن تلقينا خيرهما، وتنصرنا بنصرك، وتعزنا بعزّك، وتهزم المحاربين لدينك وأوليائك الظالمين لمستضعفي عبادك، والساعين بالشر في الناس، وبالفساد في أرضك وبحرك، وما تحت سمائك يا قوي يا عزيز، يا غالباً لا يُغلب، وقهّاراً لا يُطاق قهره، يا علي يا عظيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) }
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بيده لا بيد غيره الموتُ والحياة، والبعث والنشور، والحسابُ والجزاء، والبسطُ والقبض والتقدير والرزق والتدبير، وإليه يرجع الأمر كلُّه، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى معين ولا وزير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله المملوكين له، والذين لا مفرَّ لنا من ملكه، والمتقلّبين في نِعَمِه بملازمة تقواه، والتمسّك بطاعته، ومفارقة معصيته خضوعاً لعظمته، وشُكرا لنعمته، وخوفاً من نقمته، وحُبّاً له، ورجاءً في كرمه، وطلباً لمرضاته، وفَراراً من سخطه. عباد الله خَسِر من شك في نصح الله ونصح أنبيائه ورسله وأوليائه وَوَثِق في الشيطان وجنده، وسقط في خداعه فضلَّ الطريق، ونأى عن الغاية، واستبدل عن الجنّة النار، وعن السعادة الشقاء.
حذارِ عباد الله من الشيطان فإن الشيطان غويٌّ رجيم، ومضِلٌّ مبين، وحذارِ من جند الشيطان فإنهم عدوٌّ لدود عنيد، يمكرون مكره، ويكيدون كيده، ولا يرضون للنَّاس إلا الضلال.
ربنا أعذنا من شرِّ الظالمين، وكيد الكائدين، وغواية الغاوين، وضلال المضلّين فإنك ذو القوّة المتين، غالبٌ لا تُغلب، وقاهر لا تُقهر، فعَّال لما تريد.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. واهدنا هدى المتقين، ويسّر لنا سبل طاعتك، وجافِ بيننا وبين معصتك، واعصمنا بعصمتك يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المطصفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً.
أما بعد أيها الملأ الطيب الصالح فإلى بعض كلمات:
الحوزات العلميَّة الدينيَّة:
كل مجتمع له مقوّماته الحضارية، ومن أبرز مقوّمات الهويَّة الإسلامية لأي مجتمع من المجتمعات وجودُ الحوزة العلمية الدينية بمهماتها العالية: التوفُّر على الفهم الديني الدقيق القائم على البرهنة المتينة، واكتشاف عظمة الإسلام في بُعده المعرفي، ونظامِه المتكامل، واكتساب روح العزّة به، ثم الدعوة إليه، والهداية على أساسه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد التخلّق بخُلق الإسلام، والتحلّي بروح التقوى، والتشبُّث بالعمل الصالح.
ونشوء الحوزات الدينية النسوية وتناميها يُعدّ مفخرة من مفاخر هذا المجتمع، ومكسباً عالياً من مكاسب الحركة الحضارية فيه.
وإننا لنأمل أن تُقدِّم هذه الحوزات المباركة نماذج تخصصية ملحوظة في مستواها المتقدّم في مختلف حقول المعرفة الإسلامية من بين المؤمنات الصالحات المنتسبات إلى هذه الحوزات، وأن يتخرج عدد من الفقيهات الكفؤات ممن يحملن وعي الإسلام وهمّه من مخاضات هذا المسار على المدى غير البعيد.
وإن الفتاة الحوزوية الفاضلة المتأدّبة بأدب الدين، المتخلِّقة بأخلاق القرآن وأختها الجامعية الملتزمة المحتشمة المحترمة ممن يعددن أنفسهن لخدمة الدين والأمة والوطن الخدمة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى وتقرّب منه ليستحقان منّا كل التقدير الاحترام، وإنهما لتعدّان من أكبر الثروة المعنوية في واقع البلد، ومن أبرز مصادر الخير والبركة والصلاح فيه، ومن صمَّامات الأمن له عن المنزلقات الخطيرة.
إننا لنقف بكلّ قوّة وإخلاص مع الوعي الإسلامي للحوزويات، ومع وقارهن وحشمتهن، وأخذهن بتعاليم الشريعة المقدَّسة في حياتهن العامة والخاصة، وإننا لنقف كذلك مع دورهن الفاعل الكريم في توعية المجتمع وشدِّه إلى جذور حضارته الإسلامية الرائعة، وإشاعة الأجواء الإيمانية النورانية العبقة في فضاءات مجتمعنا الإسلامي الكريم.
في حماس وفتح عبرة:
ظلّ الخصام من حماس فتح كلاميّاً زمناً، ثمّ تحوّل إلى تخاصم السلاح والقتل والفتك والاختطاف وألوان الرعب. لم يلههم عن سفك دمائهم ودماء الأبرياء من شعبهم تكالب العدو عليهم، واستهدافهم من دبّاباته ومدافعه وطائراته وأسلحة الفتك عنده.
الفصيلان مسلمان سنّيان فلسيطينيان يعيشان محنة واحدة، ويواجهان عدوّاً مشتركاً ينال منهما معاً الراحة والأمن والاستقرار والحياة والثروة وكلّ شيء.
ويعيشان حالة الحصار الظالم، وكل ذلك لم يمنعهما من الإسراف في الاقتتال والتمادي فيه، وهو قتال شرس يهدم الهدنة بعد الهدنة، والصلح بعد الصلح.
والبداية خصام الكلام، ولكن هذا الخصام وفي العادة ما لم يعرف الأدب الإلهي، والانضباط والتقوى فهو مؤدٍّ حتماً إلى تحرك السلاح، ومن لم يجد رصاصا وبندقية وما فوق فإنه يمكن له أن يجد سكّيناً وفأساً ومنجلاً أو خشبة أو حجرة، وأي أداة يمكن أن تفتك بالحياة وتهدمها.
فليعتبر كل أهل الطوائف، وليعتبر كل أهل الأحزاب، وليعتبر مختلف الفئات والفرقاء في كل أرض بمثل الواقع الفلسطيني، والواقع العراقي، وواقع مماثل عاشته لبنان من قبل في أكثر من صورة، وواقع كثيرين ممن بدأت معاركهم كلامية متهوّرة لا تراعي ضوابط الخُلق والدين، وتستسيغ لفظ السوء من غير حساب، ولغة القذف والبهتان والتشهير الظالم والتسقيط والتحقير، فقادت قهرا إلى معارك دموية طاحنة، ومحارق للحياة والثروة والأمن والقيم.
إنه إذا تقابل فريقان في خصام الكلمة الجائرة هذا يشتم وذاك يشتم، وهذا يفتري وذاك يفتري، وهذا يبهت وذاك يبهت فلابد أن تشب حرب جاهلية تنشر الرعب والدمار.
ولا يحمي من هذه النتيجة المرّة السوداء وحدة دين، ولا وحدة مذهب، ولا وحدة وطن، ولا نسب، وإن القبيلة الواحدة لتتقاتل فيما بينها بلا رحمة إذا سلكت هذا الطريق وأبناؤها أبناء عمومة وخؤولة ورحم قريب، وما تحرّك السلاح بين فريقين فسهل من بعد ذلك عليهما في العادة وضعه بلا خسائر ضخمة وأنهار أو برك من دم.
الإسلام والمسلمون وحدة وتعددية: موضوع ربّما يتواصل الحديث عنه في أكثر من حلقة:
توضيح أوّلي:
ما هو المبحوث تحت هذا العنوان؟
هنا أسئلة:
1. هل الإسلام واحد أو كثير؟
2. وهل كثرته تخرج منه؟ أو هي كثرة في إطار وحدته؟
3. وهل المسلمون وهم مذاهب ومشارب أمة واحدة، أو هم أكثر من أمة والمسلمون منهم أهل مذهب واحد، ورأي واحد فحسب؟
4. وهل هذا الكلام بحساب حياتنا الدنيا أو الآخرة؟
سريعاً أقول: بأن الإسلام عند الله واحد، والإسلام الذي يحاسب عليه الناس في الآخرة واحد، لكن بحسب ما وصلهم، وأما المسلمون في الآخرة فهم مراتب، وليسوا على مرتبة واحدة في جنّة ولا في نار.
والأسئلة السابقة يجيب عليها الموضوع بطوله.
نقف أولاً مع الإسلام وحدة وتعددية.
الإسلام في اللغة يحمل معنى الانقياد، ومعنى التسليم للأمر، والطاعة، والإسلام في المصطلح هو ما نعرفه من آخر رسالة سماوية وهي الرسالة الخاتمة التي تنزّلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا دين بعده كما لا رسول ولا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والإسلام ضروريات واجتهاديات. الإسلام فيه ما هو ضروري، وفيه ما هو اجتهادي. والضرورة مرّة من ضرورات الدين، ومرّة من ضرورات المذهب.
مثلاً الإيمان باليوم الآخر ضرورة من ضرورات الإسلام، فلا إسلام مع التخلّف عن هذا الإيمان، أما الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام وإمامتهم فهو ضرورة ولكن من ضرورات المذهب الإمامي الإثني عشري.
فمن لم يعترف بإمامة الأئمة عليهم السلام وبعصمتهم لا نخرجه من الإسلام ما دام الاعتقاد بالعصمة والإمامة هو من ضرورات المذهب لا الإسلام الذي على المسلمين أن يعترفوا بحقوق بعضهم البعض على أساسه.
الحديث يدور هنا عن الإسلام الذي عليّ أن أعتبرك على أساسه مسلماً، وأن تعتبرني على أساسه مسلماً، عن الإسلام الذي يثبت لي عليك حقوقا، ويثبت لك عليّ حقوقا. أما الإسلام الذي به النجاة عند الله سبحانه وتعالى فمسؤولية كل مسلم أن يبحث عنه ويطلبه ولا يرضى عنه بَدلا.
وهناك ضرورات فقهية عند المسلمين عامة كوجوب الصلاة والصوم والحج والزكاة، أما الكثير من الفقه فهو داخل في إطار الاجتهاديات.
العقيدة ضرورية، سواء كانت عقيدة الإسلام العام التي يصدق بها عنوانه أو كانت عقيدة مذهب في إطار الإسلام يصدق بها عنوان ذلك المذهب. لكن ما هو الضروري في العقيدة؟ ليس أكثر ضرورة وأوضح ضرورة وأشد ضرورة في مقوّمات العقيدة من ضرورة التوحيد، وهو الاعتراف بالله الواحد الأحد، لكن لا يمكن أن يكلّف الناس كل الناس بتوحيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوحيد علي بن أبي طالب عليه السلام.
هذا العاميُّ الصرف، هذا الأعرابي الذي دخل الإسلام اليوم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله هل يحمل صورة التوحيد التي في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله؟ يحمل اعترافاً إجماليّاً ضبابيّاً بقضية التوحيد، ولا يحمل روح التوحيد الخالص النقي كما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا الصورة الصافية النقيّة الللألآة للتوحيد والتي يتوفر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا هو الركن الأول في مسألة العقيدة، والمسلم العادي لا يمكن أن يُكلّف بأن يتوفّر على التوحيد الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا خرج من الإسلام.
تجدون أنه كما سبق يُعلن الكافر الذي لا يدري عن الإسلام شيئا أبدا بعد عرض الإسلام عليه شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقال عنه مسلم كما يقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه مسلم – بغض النظر عن قداسة الرسالة، وعن موقع الرسالة وعن تميّز الرسالة والتي لا يبلغها منصب –. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له مسلم، وهذا الأعرابي الذي دخل الإسلام توّاً يقال عنه مسلم، ويثبت من الحقوق الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام العام لهذا الأعرابي، فكل الحقوق الثابتة على أرضية الإسلام العام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تثبت لهذا الأعرابي الذي دخل الإسلام جديداً مع المسافة البعيدة بين مستوى إسلامه وإسلام الرسول صلَّى الله عليه وآله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أكرم وجوهنا عن سواد يوم القيامة وعن النار، وأدخلنا الجنة وغرفها الآمنة الرفيعة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 94/ التوبة.
2 – 85/ الإسراء.
3 – ميزان الحكمة ج 7 ص 33.
4 – المصدر نفسه.
5 – المصدر نفسه.
6 – المصدر نفسه.
7 – ميزان الحكمة ج7 ص 34.
8 – المصدر ص 35.
9 – 29/ الجاثية.
10 – فلنعرض الحديث؛ على أنفسنا هل تملك أن تنكر مضمون جملة واحدة من هذه الجمل؟ غص في وجدانك، فتّش إن كنت تجد إمكانا في النفس أن تنكر شيئا من هذه المضامين.
11 – المصدر ص 38.