خطبة الجمعة رقم (260) 2 ذي القعدة 1427هـ – 24 نوفمبر2006م
مواضيع الخطبة:
موضوع الابتلاء + أولاً: غداً الانتخابات + ثانياً: تسألني + ثالثاً: لماذا الاعتقال؟
إذا جاملتكم وطلبت رضا كل الشعب فسأخون ديني، ليس من عانى من أجل هذا الشعب، وذاق الأمرّين في تجاربه الصعبة كمن وقف متفرِّجاً على التل، وطلب العافية، ليس من بذل وكان له صوت مرتفع في أحداث الانتفاضة وما قبل الانتفاضة كصوت كان خافتاً وصار لا يعلو إلا اليوم مع الانفراج.
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، رحم الله من قرأ سورة الفاتحة وأهداها إلى روح آية الله العظمى الشيخ التبريزي، عظّم الله أجورنا وأجوركم وأجور المؤمنين بمناسبة رحيله إلى جوار ربّه الكريم.
رحم الله الشهداء الأبرار في العراق وفي كل شبر من بلاد الإسلام، وعظّم الله أجور الأمة المؤمنة لمثل هذه الفجائع الكبرى.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي ذكره حياة للذاكرين، وشكره خير للشاكرين، وطاعته نجاة للمطيعين، وعبادته كمال للعابدين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله الذي لا إله إلا هو ولا قدير سواه، ولا مناهض له في ملكه، ولا منافس له في سلطانه، ولا يقوم شيء لسخطه، ومن اتّق الله لم يذهب وراء ما تسوِّل إليه نفسه، ويوسوس به له الشيطان الرجيم، ولم يسقط في رذيلة، ولم يتأخر عن فضيلة يسعها مقدوره، وتطالها الأسباب التي بيده، فالتقوى سبب نجاة، وطريق كمال.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى، وآله الأخيار الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من نكد الحياة، وسوء الممات، وعذاب البرزخ، وعسر الحساب، وخسارة المنقلب.
أما بعد أيها الكرام من المؤمنين والمؤمنات أجمعين فهذه عودة للحديث في موضوع الابتلاء في حلقة أخرى تتمثّل كغيرها في وقفة مع بعض النصوص الشريفة:
الكلمة عن علي عليه السلام:”لتُبلبلن بلبلة، ولتُغربلن غربلة حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سبّاقون كانوا قصّروا، وليقصّرن سبّاقون كانوا سبقوا” أبطال الرخاء غير أبطال الشدة، ورجال السّرّاء غير رجال الضرّاء، والإيمان الهشّ الضعيف، حال الجوّ الهادئ يتبيّن فشله عندما تطغى أمواج الفتن، والأحداث مختبر الرجال، فكثير من الرجال وهم مغمورون تُظهرهم الأحداث قِمماً، وكثير ممن يتبوؤن القمم في حال هدأة الموج ينغمرون تحت طغيان الموج عندما تكبر الشدائد. ولذلك تأتي كلمة علي عليه السلام وهي فيما يُرى تعالج هذا المعنى.
“إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل” وهي عن الصادق عليه السلام. بلاء الأنبياء ليس في الأكثر هو بلاء أمراض، مسؤولياتهم ضخمة وهم عند مسؤولياتهم، وكلما كبرت المسؤولية، وكان صاحبها قائماً بما تفرضه كلما كثر أعداؤه واشتدّت محنته. وليس أكبر من مسؤولية الأنبياء، وليس من مسؤولية يمكن أن تجمع أعداءً للشخص كما تفعل مسؤولية الأنبياء التي تجعلهم في مواجهة مكشوفة وحادّة مع الطغاة.
ضخامة المسؤولية، والإخلاص للمسؤولية، والأخلاقيّة الإيمانية الملتزمة التي لا تُتيح للشخص أن يُنفس عن نفسه كما يُنفّس الآخرون عن أنفسهم تلك الأخلاقية التي تفرض على صاحبها أن يتعالى على كل الجراح، وأن يكبر على كل المنازلات الرخيصة تُتعبه، وتُحمّل نفسه الكثير من الضنى، حتى تتجاوز تلك النفس ما عليه الناس من سفاسف الأمور، وتعيش لذّة الوصال الإلهي بحيث تتغذّى بشكل كافٍ على ذلك الوصال.
لكن تبقى النفس البشرية في تعاملها مع الأرض، ومع مشكلات الأرض تستقبل وتنفعل للصدامات بدرجة وأخرى، وفرق بين من ينفعل فيُعطي ردّ الفعل الذي يفرّغ شحنة الألم، وبين شخص آخر يضمّ جوانبه على الآلام من أجل الله.
“إن أهل الحقّ لم يزالوا منذ كانوا في شدّة أما أن ذلك إلى مدة قريبة وعافية طويلة” عن الصادق عليه السلام.
والحديث في معناه – فيما أرى – من سياق الحديث السابق حيث إن أهل الحق يتحملون من المسؤوليات ومن الآلام ومن محاولة الترفّع ما لا يتحمّله الآخرون.
ولكنها الجولة الصغيرة مع الآلام تعقبها العافية الطويلة المقيمة التي لا انقضاء لها عافية الآخرة، فتبدأ سعادة المؤمن تلك السعادة الحقيقية منذ لحظة وفاته وإن كان في هذه الحياة قد يعدّه الآخرون من السعداء، إلا أن كل سعادة في هذه الحياة صغيرة وضامرة أمام سعادة الآخرة.
ليس معنى أن سعادة المؤمن في الآخرة أنه في الدنيا دائما يقاسي الآلام ويقاسي الأمراض، ولكن الحياة الفسيحة تبدو ضيّقة أمام الآخرة الكبيرة العملاقة الممتدة، كل لذة هنا لا تساوي شيئا من لذّة هناك.
وإذا كانت الأفراح في الحياة تختلط بالآلام، وإذا كانت الطمأنينة يشوبها قلق فهناك لا قلق ولا ألم ولا شقاء على الإطلاق.
عن زين العابدين عن آبائه عليهم السلام قال:”فما تمدون أعينكم؟!(1) لقد كان من قبلكم ممن هو على ما أنتم عليه(2) يؤخذ فتُقطع يده ورجله، ويصلب ثم تلا {أم حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ …}(3)”.
“في قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ}(4) سُلِّط عليه قومه فكشطوا وجهه، وفروة رأسه… – ثم يقول الصادق عليهم السلام والرواية عنه – وليس هو إسماعيل ابن إبراهيم”(5).
“بعث الله نبيّاً حبشيّاً إلى قومه فقاتلهم فقُتل أصحابه وأسروا وخدّوا لهم أخدودا من نار(6) ثم نادوا(7) من كان من أهل ملّتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبي فليقتحم النار(8) فجعلوا يقتحمون النار وأتت امرأة معها صبيٌّ لها فهابت النّار(9) فقال لها صغيرها اقتحمي فاقتحمت النار وهم أصحاب الأخدود”. هذه ضريبة الإيمان، وهذه ضريبة الدور الرسالي الذي فرضه الله عزّ وجلّ على عباده المؤمنين.
وهناك بلاءات من نوع آخر، وابتلاءات الله فيها ما قد يكون ابتداءاً، ومنها ما قد يكون جزاءاً، وابتلاءات الله الابتدائية لا تأتي ظلماً ولا جزافاً، وإنما دائما لحكمة وراءها، والجزاء لا يأتي ظالما،ً إنما يأتي عدلاً وفاقاً أو هو أقل مما يقتضيه العدل.
تقول الآية الكريمة:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}(10) التفريط اليومي في التعامل مع المنهج الإسلامي، والتخلّف الكبير عن القيام بدور وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تعملق الظلم في الأرض، ويؤدي إلى طغيان الظلمة، ويؤدي حتى إلى فساد البيئة المادية، ويؤدي إلى كثير من الأمراض، واضطراب الأحوال، وظروف الفقر والشح. ولا وقت لشرح هذه العلاقة، فإنها ليست علاقة غيبية قبل أن تكون علاقة طبيعية.
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} هذا الذي ترون من المحن ليس هو كل الجزاء، هذا جزاء مخفّف على تفريطات متراكمة.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}(11) حين تستكبر على أي قانون طبيعي من قوانين الله التي لا تقوم الحياة إلاّ بها، ماذا ستكون النتيجة؟ مرض، موت، حين تضرب عن الاستفادة من الأوكسجين، والحياة في هذه الأرض في قانون الله لا تقوم إلا بالأوكسجين، ماذا يكون مآلك؟ حين تعاند قانون الله فتقتحم النار، والنار في قانون الله تنهي حياة هذا الجسم، ماذا سيكون المآل؟ الوقوف في وجه القوانين الكونية الطبيعية المادية يعطي نتائج سريعة حاسمة، وتكون الضربة قاصمة سريعة بسبب التخلّف عن التعامل الصحيح مع هذه القوانين، وهذا فرق بينها وبين القوانين الاجتماعية، فإنها بطيئة التأثير في بعض الأحيان، وهي تحتاج لظهور نتائجها المدمّرة في شكل حرب طاحنة، في شكل طبقية مشقية، في شكل اضطراب للأمن يسقط قيمة الحياة إلى شيء من الوقت وتراكم المخالفات.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} بفعل ابتدائي من الله؟ أم بفعل جزائي من الله؟ والسبب {مَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(12).
هذا الدرس درس رحمة، حتى درس البلايا يستبطن رحمة الله تبارك وتعالى، إنك لتصفع صبيّك صفعة لتحدث في حياته نقلة من طريق تدهور الشخصية إلى طريق استقامة الشخصية بعد أن تفتقد كل الوسائل الهادئة ويبقى المؤثر الوحيد عندك الصفع.
وهذه صفعات من قدر الله تبارك وتعالى لتأديب الناس وتربيتهم وردهم إلى الطريق.
ويبقى للحديث امتداد إن شاء الله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا إليك مفرّنا من كلّ شرّ، وفيك أملنا في كل خير، وإياك نسأل كفاية شرّ ما نحذر وما لا نحذر، وإليك نرغب في خير ما نرجو وما لا نرجو، يا مالك كل مرجو ومحذور، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) }
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الحمد والثناء، والفخر والبهاء، والمجد والسناء، والعهد والوفاء، والعفو والرضا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرّد بالجبروت والكبرياء، والعزِّ والبقاء، له لا لغيره الجلالُ بلا حدّ، والجمال بلا نهاية، والكمال بلا مدى. تبارك الله ربنا وهو أحسن الخالقين. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله أوحى إليه الكتاب وعِلمه، والشريعة وحدودها، وهدى به العباد، ودلّ به على الرشاد صلّى الله عليه وآله وزداهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله فما خاب من اتّقى، وصدَّق بالحسنى، وقد خاب من افترى، وكان دليلُه الهوى. عباد الله لا يستقيم بالنفس عند النعم الباذخة، وفي مضايق الحياة، وموارد اشتداد الفتن، وحيث مثار الشهوات إلا التقوى إذ لا تُجدي كثرة علم، ولا وفرةُ تجارب، ولا دروس حياة إلا ما أدّى من ذلك إلى معرفة الله وتقواه. فلنعتصم بتقوى الله فإن لصاحبها منها عصمةً وحاجزاً عن السقوط والانحدار وكلّ معصية وبغي وخيانة وسخف.
اللهم قلوبنا ضالّةٌ لولا هداك، فإلى الحقّ اهدنا، وبصائرنا لولا تثبيتك زائغة فعلى طريقك ثبّتنا، وإرادات الخير عندنا لو لا مددك ساقطة فبقوَّتك امددنا. لا خير لنا إلا من عندك، ولا وقاية لنا من شرٍّ إلا بفضلك يا رحمن يا رحيم يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد فالحديث يستعرض عدداً من الأمور:
أولاً: غداً الانتخابات:-
1. أترون أن الانتخابات التي تتصل بالشأن العام سياسيِّه واقتصاديِّه واجتماعِيِّه وثقافيِّه وإلى آخر أبعاده لأربع سنوات قادمة هل ترون أن هذه الانتخابات ستمرّ بلا أثر سلبي ولا إيجابي؟ ثم أترون بأن الأثر سيكون سلبيّاً شاركنا أو لم نشارك؟ ضارّاً جدّاً وبلا تغيّر شاركنا أو لم نشارك؟ أو سيكون إيجابيّاً على كل تقدير؟ إنِّي أراكم أراكم لا تجيبون بنعم على السؤال الأول، ولا بنعم على السؤال الثاني.
لن تكون الانتخابات بلا أثر مطلقا، ولن يكون الأثر واحدا على كل التقادير، شاركنا أو لم نشارك، شاركنا بصفٍّ متين قويّ مؤمن كفوء، أو شاركنا بعدد من الوزن الهزيل؟! أراكم لا تجيبون بنعم، وبالمساواة بين كل هذه الفروض.
2. من هنا تنشأ المسؤولية الدينية. إذا كان للمشاركة عطاء، وللمقاطعة عطاء تنشأ المسؤولية الدينية بلزوم المقاطعة أو بلزوم المشاركة، وقد سمعتم كل ما سمعتم في هذه الساحة، ووقفتم على نصيحة السيد الجليل آية الله العظمى السيد علي السيستاني فاختاروا ما تختارون.
وإذا كان إيصال الكتلة القويّة من عناصر إيمانيّة أكثر فائدة لدين ودنيا المؤمنين من أن تصل أصوات متناثرة متفرّقة وزن هذا كبير ووزن ذاك صغير، وهذا مخلص وذاك غير مخلص فإذاً علينا أن نختار الكتلة على أن يكون عنصر الكتلة مؤمناً(13).
إذا جاملتكم وطلبت رضا كل الشعب فسأخون ديني لذا أقول أنْ ليس من عانى من أجل هذا الشعب، وذاق الأمرّين في تجاربه الصعبة كمن وقف متفرِّجاً على التل، وطلب العافية، ليس من بذل وكان له صوت مرتفع في أحداث الانتفاضة وما قبل الانتفاضة كصوت كان خافتاً وصار لا يعلو إلا اليوم مع الانفراج.
3. نصوص هادية:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(14) الآية تفرض شرط الكفاءة العلمية، والكفاءة في دين ليست فكريّة فقط وإنما هي فكرية ونفسية كذلك.
{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ}(15) إنسان كان متفرِّجاً قاعداً، وإنسان قائم في غمار الأحداث الصعبة، وفي وجه المشكلات الحادّة وهو لا يتوقّع إلا السجن والمطاردة والفصل من الوظيفة، هل نساوي بينهما؟!
{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(16) جماعتان: جماعة كانت تبذل من مالها، ومن عرفها، ودمها قبل تباشير النصر، وقبل حالة الانفراج، وجماعة كانت تبذل بنية مخلصة كذلك ولكن بعد الفتح، الآية الكريمة لا تساوي بينهما في الدرجة، هذا إذا كان البذل المتأخّر من منطلق الإخلاص لا من منطلق طلب المواقع والنجاح في الانتخابات.
عن علي عليه السلام:”من لا إيمان له لا أمانة له”(17). ومن هنا شرطنا الإيمان، أنا أريد أمانة. المسؤوليات المودعة صعبة، الأمانة التي تُعطى النائب كبيرة، أمانة على أموال ودماء وأعراض، على دنيا ودين. هذا الوزن من الأمانة بحسب طبيعة المودَع يتطلّب وزناً كبيراً من الأمانة في نفس النائب، والكلمة عن علي عليه السلام تقول:”من لا إيمان له لا أمانة له” ولا شيء كخوف الله، وكخشية الله في مسألة الردع وفي مسألة النزاهة.
انظروا ماذا تقول الكلمة، عن الباقر عليه السلام:”من ائتمن غير مؤمن فلا حجة له على الله عزّ وجل”(18) خسرت مالك، خسرت نفسك، خسرت أمنك، لا حجة لك على الله عزّ وجل، أنت الذي فرّطت، أنت الذي فعلت بنفسك هذا الفعل.
وعنه عليه السلام:”من عرف من عبد من عبيد الله كذباً إذا حدّث، وخيانة إذا أؤتمن، ثم ائتمنه على أمانة الله، كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يبتليه(19) فيها ثم لا يخلِّف عليه ولا يأجره”(20) لا يعطيه عوضا في الدنيا ولا عوضا في الآخرة.
4. المشاركة لحفظ مصالح الدين والدنيا، ودفع بعض المفاسد عنهما. لذلك تكون المشاركة بما تقدم من مقدمات سابقة وظيفة شرعية، والتخلّف عنها فيه تقصير، والمشاركة باتنخاب غير المؤتمن مع وجود المؤتمن خيانة، وتقديم الأشدّ ضرراً على الأخفّ ضرراً سفهٌ ومخالفة للقواعد الشرعية.
5. غداً الانتخابات، وغداً اختبار الإيمان وجدّيته وفاعليته، وغداً اختبار العقل والإرادة والأمانة، والخيانة، والحكمة، والسفه عند الناخب، غداً يتاجر قوم مع الله عزَّ وجلَّ متجاوزين كل العلاقات من أجل الله، ويُتاجر آخرون مع غيره فيقدّمون ما للدنيا على ما للآخرة، ويقدِّمون رضا المخلوق على رضا الخالق، ولكلٍّ عاقبة ومصير، وأنت حرٌّ، وإرادتك بيدك، ولستُ ولا غيري يستطيع أن يفرض عليك شيئاً، قف مع ضميرك، مع دينك، مع وجدانك الطاهر(21).
6. إخوتي الكرام: ثم إنه لا ينبغي التغاضي عن أي عملية تزوير وإن صغرت، ثمّ إن التزوير تزويران: هناك تزوير يحتاج في إثباته إلى جهد، وهناك تزوير آخر لا يحتاج في إثباته إلى جهد وهو معلن عن نفسه، وهناك تزوير يقلل من قيمة العملية الانتخابية، أما تزوير آخر فينسف قيمتها بالكامل، ويؤسس لحياة مواجهات لا يتمناها عاقل مخلص لشعبه ووطنه.
7. وكان التركيز كثيراً على الانتخابات النيابية وهي وإن كانت ذات آثار إيجابية وسلبية بدرجة أكبر أهمية وخطورة، وأكثر عمومية، وأمسّ بالحالة المصيرية من الانتخابات البلدية إلا أن القرارات البلدية ذات الطابع الخدمي تمسُّ حياة الناس بصورة ملموسة وسريعة في الغالب، وبعضها له تأثيره الكبير على نظافة البيئة المعنوية وسلامة الدين والاجتماع. أن يُفتتح منتزهٌ سافل لا يراعي أي حدٍّ من حدود الشرعية، في هذه المنطقة أو في تلك المنطقة، أن يؤتى بمشاريع سياحية منفلتة، متسيّبة، لا ملتزمة في هذه المنطقة أو في تلك المنطقة، هذا أمر خطير وإنما يدرأ عنه البلديون الملتزمون الأكفاء الشجعان.
وقد شدّدنا في السابق على أهمية الكتلة الموحّدة في الانتخابات النيابية إلا أن هذا لا يعني أن ليست للكتلة أهمية خاصة بالنسبة للانتخابات، فإن فوائد الكتلة في الانتخابات النيابية يأتي الكثير منها في الانتخابات البلدية.
ثانياً: تسألني:
هل أنت مذهبي؟ أقول لك نعم، أنا مؤمن بمذهب معيّن من المذاهب الإسلامية لا غبار عليه في رأيي، وهو المذهب المتلقّى عن أهل البيت عليهم السلام، وانتمائي له عن نظر وبرهان ترشّحت عنه قناعة تامّة وإيمان أكيد، وفي الوقت نفسه لا أكفّر أحداً من إخواني المسلمين، ولا أكنّ لهم حقدا، ولا أستحل أن أمكر بهم لهذا المذهب أو ذاك.
وتسألني: هل أنت طائفي؟ أقول لك إذا كان ذلك بمعنى أني أُحبّ لطائفتي الاستقامة والخير والتقدّم، وأحبُّ منها ولها العدل، وهو الشيء الذي أُحبّه لكل المسلمين، بل ولكل إنسان فأنا بهذا المعنى طائفي، وهو معنى لا يؤاخذ عليه أحد أحداً، وهو من أكبر معاني الانفتاح الإنساني الكريم.
وإذا كان معنى الطائفية أن أحب لطائفتي الهدى ولغيرها الضلال، ولها الاستقامة وله الانحراف، ولها الخير وله الشر، وأن يسودها العدل وأن يُعامل الغير بالظلم فهذه طائفية أمجّها، وأكرهها، والسبب واضح. ذلك لأن ديني ومذهبي يُكرّهُها لي ولكل منتسبيه، فهي طائفية ينبذها القرآن الكريم، وسنة المعصومين عليهم السلام، وسيرتهم الوضّاءة الشريفة.
نعم، أبغض الكفر والفسق والظلم والعدوان أين كان، ومن أيّ كان، وأؤمن بمواجهته بما يُستطاع، ومن منطلق حبّ الخير للإنسان كل إنسان، إذ لا خير في الكفر، والخير كلّه في الإيمان والهدى والاستقامة والالتزام.
ومن ناحية سياسية، ومن منطلق مذهبي أجدني مع حكومة سنّيّة في سيرتها المنصفة للشيعة والسنة على السواء، ولست مع حكومة شيعية في سيرتها المجحفة بحقّ أهل السنة. إذا وجدتُ الأولى فسأكون معها في سيرتها العادلة، وإذا وجدتُ الثانية فسأكون ضدّها في سيرتها الباغية.
ومن ناحية المرشّحين أنا مع مرشّح سنيّ يقف مع حقوق الشعب على مرشّح شيعي يقف ضدّها، هذا صدق، وأنا مستعد أن أُبرهن عليه في أي امتحان في مورده، وأنا أستقي ذلك من وحي مذهبي.
ثالثاً: لماذا الاعتقال؟
لماذا اعتقال الدكتور محمد سعيد وحسن عبدالعزيز؟ الذي يمكن قوله بأن الاعتقال إذا كان لتداول معلومات تنتقد النظام فما ينبغي في ميزان العدل أن يُباح قانوناً هذا النقد في صورته العلمية من أجل الإصلاح حتّى لا يستخفي أحد بشيء من ذلك لمنع القانون، لأن هذا هو الأصل الصحيح.
وإذا كان الكلام الذي يُعتقلان من أجله هو فيما يتصل بقضية البندر وترتيب احتاج يتعلق بها فما ينبغي أن يُدان في هذا المورد هو منع الكلمة ودفن القضية بلا حلٍّ عادل، ولا عقوبة لمن تآمر على الشعب ومصلحته وأمن واستقراره وأخوّته، وهو ما يتحتّم المصير إليه بعد التحقيق المحايد أو المشترك والمعلن في نتائجه على رؤوس الأشهاد.
أما الكلام عن القضية والسعي للتوصل لأعماق حقيقتها فهو حقّ ثابت لا ينبغي المراء فيه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الأخيار الأطهار، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قولنا بما يرضيك، وعملنا بما يقرّب إليك، واختيارنا لما يوافق دينك، وتقديمنا لمن قدّمت، وتأخيرنا لمن أخّرت، ونصرتنا وولاءنا لمن نصر دينك ووالاك، يا أكرم من سئل، وأرحم من استُرحم، وأجود من أعطى. اللهم أخرجنا من كل شرٍّ، واكتب لنا خير الدارين يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – خطاب للمؤمنين، يعني تتمنّون أن تعيشوا في هذه الحياة عيشة الراحة؟ وعيشة الطمأنينة؟ عيشة الأمن الكامل؟ عيشة من تُرك في شأنه، لو تُرك القطا لغفا ونام.
2 – من إيمان، من رسالية، من إرادة إيمانية، من إصرار على الطريق، من هدى تبشّرون به، من مواجهة للطغاة.
3 – 214/ البقرة.
4 – 54/ مريم.
5 – أرأيتم كيف أن أهل الحق يواجهون من التحديات والمحن والدروس الصعبة ما لا يواجهه غيرهم ممن لا يحاول أن ينهض بمسؤوليته، وأن يكون خطة الخط الرسالي الصاعد إلى الله، فرق بين من يعيش للقمته، وبين من يعيش الهموم الكبيرة التي تفرضها رسالته الضخمة.
6 – أي أعداءهم، حفروا لهم حفرة في الأرض.
7 – أي أعداءالمؤمنين أتباع ذلك النبي.
8 – خياران: خيار وتمتٌّع ونجاة بحياة آنية، وخيار اقتحام للنار يعني النقلة إلى الجنة.
9 – والموت مرعب، إلا على قلب تم إيمانه، واستبشر بوعد ربّه تبارك وتعالى.
10 – 30/ الشورى.
11 – 165/ آل عمران.
12 – 41/ الروم.
13 – وهذا شرط وليس وصفاً قد أخذ مفروغاً من وجوده وليس فيه تعريض بأحد.
14 – 9/ الزمر.
15 – 95/ النساء.
16 – 10/ الحديد.
17 – ميزان الحكمة ج1 ص 346.
18 – المصدر ص348.
19 – أن يبتلي المؤتمِن.
20 – المصدر والصفحة.
21 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).