خطبة الجمعة (222) 29 شوال 1426هـ – 2 ديسمبر 2005م

مواضيع الخطبة:

 

حديث في الكتمان + ذكرى وفاة الصادق عليه السلام + حدثٌ مُزلزِل + المُفتون الجُدُد

إنّنا وبوحي من السيرة الواعية الهادية المعصومة للإمام الصادق عليه السلام مسؤولون عن تركيز وعي إسلامي رشيد مؤصَّل، وتقديم رؤية إيمانية واضحة، وتجلية كافية للمفاهيم الإسلامية، وتثبيت القيمة العالية للأحكام الشرعية في النفوس، وتأكيد الانشداد إلى المرجعية التي تُمثِّل الامتداد الطبيعي لخطِّ الإمامة إبقاءً للجيل الحاضر والأجيال القادمة على الخطِّ الإلهي الصحيح.

الخطبة الأولى

الحمدلله الواحد الأحد الذي لايُغني عن رضاه رضا، ولايضرُّ معه غضبٌ من أحد، ولايقوم لقدرته شيء، وليس من سطوته ملتحد. قاهرٌ للأشياء، مالكٌ للأمور، مقلّبٌ للأحوال، ولاتعتريه الأحوال، ولاتغيّره الدهور.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصِرةَ بتقوى الله وطلب الإخلاص في العمل فكثيراً مايُجهد العبدُ بدنَه، ويبذل من ماله، ويأتي ماظاهره أنه من الصالحات، وهو في كل ذلك يبعُد عن الله، ويهدِم صلاح نفسه، ويُدخل عليها السوء لمايستهدفه بهذه الأعمال من رضا المخلوق معرضاً عن رضا الخالق. ونفسٌ لاترى جمال الله ولاجلاله، وتُدبِر عنه إلى غيره تصغر ولاتكبر، وتَضِلّ ولاتهتدي، وتسفُلُ ولاتعلو، وتُظلِمُ ولاتكون على إنارة.
ولايخلص العبدُ عمله لله حتى يعظُم الله في نفسه عظمةً لاتكون لغيره، ولايرى أحداً سواه مالكاً نفعاً ولاضرّاً، ولاحياة ولانشوراً، وحتّى يملك شعوره بعظمة ربّه، ورؤيتُه لتفرّده ووحدانيته عليه أقطار نفسه وأعماق وجوده، وذلك حظٌّ عظيم من الإيمان.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم الرؤوف الكريم، وارزقنا الجدّ في الطاعة، والرغبة في العبادة، والصدق في النية، والإخلاص في العمل، وامنن علينا بقبول السعي، والعفو عن التقصير، وغفران الزلّة، والتسامح عن الغفلة يامحسن يامتفضّل يارحمن يارحيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فمع حديثٍ في الكُتمان:-
كتمان السّر: الاحتفاظ به وإمساكه عن الغير، وإفشاء السر: نقله وتسريبه ونشره.
ولما كان السّرُّ غالياً كان الكتمان لازماً فالكلمة عن الصادق عليه السلام تقول:”سرُّك من دمك فلايجرينَّ من غير أوداجك” فالسر غالٍ غلاء دمك كلّه، والإنسانُ العاقل لايسترخص دمه عبثاً ولايهدره، وكم يكون في إفشاء السرِّ من هدرٍ لدم مُفشيه، ودم خلق كثير غيره؟! والسر قد يكون ملك النفس، وقد يكون ملك الغير من وجود فرديّ أو وجود جماعي.
وماكان سرّاً من أسرار الشخص كان في إفشائه تعريضٌ له للمخاطر، وماكان سرّا من أسرار الغير فهو أمانة عند حامله لايجوز التفريط بها.
نعم، لاأمانة فيما كان فيه إعانة على الظلم، وخدمة للباطل، وتسهيل للمعصية؛ كأن يكون في إمساكه خراب الدّين، أو قتل مؤمن بغير حق.
وإنّ للشخص أسراراً، وللأسرة أسراراً، وللمؤسسات والجماعات والمجتمعات والأمم أسراراً، وإفشاء الأسرار كثيراً مايُضعف هذه الجهات، ويقضي على مصالحها، ويُعرِّضها للأخطار الكبيرة، وينسف كياناتها القوية نسفاً.
وإذا كان نقل الآخرين للسرّ خيانة في حق صاحبه، فإن واضع السّرّ في غير موضعه أحمق معين على نفسه. وإنَّ المرء ليمكِّن من عنقه وعِرضه ودينه ودنياه ومصلحة أمّته بأن يضع السرّ الخطير من أسرار نفسه أو غيره في غير موضعه، وعند غير أهله.
ومن النَّاس من لايُقدّر خطورة مايقول، ولاعاقبة مايتحدّث به فيُقدِم على فضيحته وهلاك نفسه في غفلةٍ وسذاجة مَقيتتين.
وجديرٌ بمن فكَّر أن يأتمن أحداً سرّه أن يُفكِّر في من يليق به أن يأتمنه على ماله وشرفه ودمه لأنه يأتمن كلَّ ذلك عند من يأتمنه سرّه.
والحكيم لايبيح سرّه عند الثقة – فضلاً عن غير الثّقة – إلا للضرورة، وإلا كان في ذلك فضول لاترتكبه حكمتُه.
ووراء إفشاء الأسرار ووضعها في غير موضعها أسبابٌ منها:-

1. عادة كثرة الكلام والهذر، وهي عادة تدفع صاحبها إلى القول لاعن علم فضلاً عما يعلم مما حُمّل سرَّه، وإنك لاتكاد تجد مهذاراً قادراً على حفظ السر، وصون أمانته.
2. روح الإضرار بالغير والتشهير به.
3. حب الظهور وإلفات النظر إلى القرب من المواقع المهمَّة، أو القدرة على الاختراق، والوصول إلى ما لايستطيع الآخرون الوصول إليه من معلومات الساحة وشؤونها، أو شخص معين مرموق، أو جماعة خاصة مهمَّة.
4. السَّذاجة وعدم التقييم الدقيق لقيمة المعلومة ولآثارها الخطيرة المترتّبة على تسريبها.
5. محاولة إظهار التقرّب والإخلاص لمن يُفشي إليه السر.
6. العمالة لجهة معينة يُتقاضى منها الأجرُ على تزويدها بالأسرار.
7. الاطمئنان السريع للغير.
8. ضيق الصدر عن الاختزان حسب طبيعة الشخص.
9. الشعور بالإثم مع عدم الفقه، ويتسبب ذلك في إفشاء قبائح لِلذَّات لايحب الله للعبد أن يفضح نفسه بالحديث عنها. قد يتأثّم الشخص لأنه فعل منكرا، وليس له من الفقه مايعرف به أن الله يحب الستر، فيفضح نفسه عند هذا أو ذاك. ولنتعلّم أنه حتى في السؤال الفقهي عمّا ارتكبه الشخص من القبيح؛ الصحيح أن لايذكر السائل اسمه، ولاينسب الحادثة إلى نفسه، وإنّما يطرح الحادثة على تقدير الفرض، وبتعبير لو أنَّ شخصا حدث له ذلك. إن الله ستّارٌ يحب الستر.
10. استدراج الآخرين مع قابلية الشخص للوقوع في حبائل الاستدراج. قد يستدرج شخص ما بقدرة فائقة من الطرف الآخر على أن يفشي أسرار نفسه أو أسرار غيره التي أُودعت إيّاه.
11. عدم تقدير وزن الأمانة وثقلها ومسؤوليتها. والسّر من أكبر الأمانات.
والآن فلنستضئ بجملة من النصوص الهادية في الموضوع:
“سرّك أسيرك فإن أفشيته صرت أسيره”(1) عن الإمام علي (ع).
تختزن السّر، وتكون حاكماً عليه، لك أن تبرزه وقت الضرورة، ولك أن تحتفظ به، أما إذا أفشيته صرت محكوما له، محكوما لآثار إفشائك لهذا السّر، وقد لاتستطيع أن تدفع الضرر الخطير من وراء افشائه.
ستُدان بإفشائك السر، وستترتّب كل النتائج الوخيمة على هذا التسرّع، وعدم الضبط.
وعنه عليه السلام:”المرء أحفظ لسرّه”(2). ليس من ثقة في النّاس يصحُّ لك أنت تعتبره أحفظ لسرك من نفسك، ومابقي السر في النفس كان أقرب ذلك إلى حفظه، وإذا وصل سمعاً ما كان معرّضاً للنقل والإفشاء. فإذا طلبت طريقا أكثر حفظاً للسّر فاطلب أن لاتبوح به إلى أحد، كلّما أمكن ذلك.
وعنه أيضاً:”كلما كثر خزان الأسرار كثر ضياعها”(3).
السّرّ عند واحدٍ محفوظ بدرجة كبيرة، وإذا وصل اثنين قلّت نسبة حفظه، وإذا عمّ ثلاثة كبرت فرصة إفشائه، فكلّما أودعت سرّك عددا أكبر ارتفع احتمال أن يضيع عليك سرُّك.
ولتعلم بأن لكل ثقة ثقة، كما أنك وثقت في فلان فأودعته سرّك فإن فلاناً يثق في شخص آخر ويُحتمل أن يودعه ذلك السر.
وعنه (ع):”أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان”(4).
الأمر قد ينتهي إلى الإفشاء، وقد يكون نجاحه متوقّفاً على نشره، ولكنه حيث يُنشر قبل الوقت المناسب، فإن في ذلك وأداً للنتيجة، ومصادرة للمطلوب من هذا الأمر.
غداً يمكن لك أن تفشي السر، ويتحتم عليك أن تفشيه لأنك خطّطت الأمر من أجل أن تعلنه، ولكنك لو أفشيته اليوم لأحبطت خطّتك؛ خطّتك موضوعة للمجتمع، خطتك موضوعة للتبليغ العام، خطتك قوام نجاحها خلق كثير، ولكن كل ذلك في وقته، وللتخطيط وقت، وللتنفيذ وقت، ومتطلبات التخطيط غير متطلبات التنفيذ.
وعنه (ع):”لاحرز لمن لايسع سرَّه صدره”(5).
إذا ضاق صدري عن حفظ أسراري فلأعذر الآخرين في ضيق صدرهم عن حفظ سرّي. إذا كنتُ أنا الأكثر حرصا على سرّي، ومع ذلك لم يتّسع صدري لحفظه فلأرتقب من الآخرين – وليس حرصهم على سرّي كما هو حرصي – أن يضيق صدرهم عن حفظ هذا السر.
وعنه (ع):”إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له”(6).
وهذا ماتقدّم فهمُه. وأن إبراز الأمر قبل اليوم المناسب افشالٌ له عن الإنتاج.
وعنه (ع):”انفرد بسرك ولاتودعه حازماً فيزل، ولاجاهلاً فيخون”(7).
من تريد أن تودعه سرّك هو أحد إثنين؛ حازم ثقة أمين، قويّ شديد، وجاهل خؤون. إيداعُك سرّك الجاهل تعريض له بالإفشاء بشكل واضح لأن عليك أن ترتقب خيانة هذا الجاهل، وإيداعُك سرّك الحازم فيه شيء من تعريض سرّك للإفشاء لأنه حازم وليس معصوماً. والحازم ربّما ضعُف، والمستقيم ربّما زلّت له قدم.
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”لاتطلع صديقك من سرِّك إلا على مالو اطْلَعت عليه عدوَّك لم يضرَّك، فإن الصديق قد يكون عدوّاً يوماً ما”(8).
صديقك لاتُودعه سرك الذي تخاف عليه. وهذا على مستوى القاعدة وللضرورة مواردها، لأنّه لو كتم كلٌّ منّا سرّه في كل الأمور وفي كل المناسبات لما قام بناء اجتماعي، ولما نُهي عن منكر يحتاج إلى اجتماع اليدي ولما استعان أحد بأحد على صناعة معروف. على مستوى القاعدة لاتُودع صديقك من سرّك إلا مالو أودعته عدوّك ماضرّك إفشاؤه، وماضرّك أن يصل سرُّك إليه لماذا؟ لأن هذا الصديق قد ينقلب يوماً ما عدوّاً وما أكثر كما نشهد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم ارزقنا البصيرة في الدين والدنيا، والحكمة في القول والعمل، وإصابة الرشد في الفعل والترك، والتقدير النافع في الأمور، ونسألك نُجح المحاولة في الخير، والبُعد عن الشر، والتوفيق لما تحب وترضى، وأن لانُعين على أنفسنا ولاعلى أخٍ لنا في الإسلام بكلمة نفشيها، وسرّ نفضحه، ومستورٍ نكشفه، واجعلنا من أهل الود الصادق والنصيحة الخالصة لعبادك المؤمنين والمؤمنات ياأرحم الراحمين، وياأكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }

الخطبة الثانية

الحمدلله الذي لايضرُّ مع رحمته ضارٌّ، ولاينفع عند نقمته نافع، ولامؤثِّر على مشيئته، ولا رادَّ لإرادته، ولامُعطِّل لقدره. خالق غير مخلوق، قاهر غير مقهور، رازق غير مرزوق، لاملك إلا ملكُهُ، ولاتدبير إلا تدبيرُه، ولا أمر إلا أمره، ولاحول ولاقوة إلا به.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله اتقوا الله، وخافوا عدله، واخشوا سطوته، واطلبوا رحمته، ولاتتعرّضوا لسخطه، وتوسَّلوا إلى رضوانه بطاعته، وفرُّوا من عقابه بتجنُّب معصيته؛ فلادافع ولامانع من أمر الله، ولاشفاعة لأحدٍ عنده إلا بإذنه. ألا وإنّي أوصي نفسي المقصِّرة وإيَّاكم بتقواه قبل حلول غضبه، واستحقاق أليم عذابه، والطرد من رحمته.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وذدنا عن موارد الهلكة، وجنِّبنا مواطن السوء، وأنقذنا من ورطة المعصية، ووفّقنا لدوام وإخلاص الطاعة ياكريم يارحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك، وأنجح سعيهم، وتقبّل منهم ياكريم.
أما بعد أيها الأطايب من المؤمنين والمؤمنات الأعزّاء فإلى هذه الكلمات، وهذه العناوين:
1. ذكرى وفاة الصادق عليه السلام.
2. حدثٌ مُزلزِل.
3. المُفتون الجُدُد.
ذكرى وفاة الصادق عليه السلام:
إنَّها ذكرى وفاة الإمام السادس من أئمة الهدى الذين اختارهم الله سبحانه حَفَظَة مأمونين على الوحي الذي تنزّل على رسول الله صلّى الله عليه وآله لايفارقهم ولايفارقونه، وهداة وقادةً ومربِّين ومعلّمين وأدلاء على طريقة النجاة لهذه البشرية ماكان لها امتداد على الأرض، لايمكن لها أن تحيد عنه فتهتديَ وتُحقِّق النجاح. هذا هو إيماننا.
ولقد كان الصادق عليه السلام بعيد النظر، ثاقب الرؤية، صاحب خطة واضحة بعيدة المدى، وماكان ناسياً هموم الأمَّة، ولامُتفرِّجاً على معاناتها، ولامفصولاً عن حاضرها، ولاغائباً عن وعي ساحتها السياسية وملابساتها وأهمّيتها، ولاانهزاميّاً ولاسلبيّاً، ولافاقداً للنَّظرة المعمَّقة وهو يُعطي جُهداً ضخماً مضاعفاً لترسيخ الحركة الإيمانية الصادقة، والعلمية النابهة، والولائية الواعية المخلصة، ليضع الأمة على الطريق المُبصِر، ويحفظ لها أصالتها.
وكان في ذلك تأسيسٌ ضروريٌ – وقد اضطربت الموازين الفكرية وكثُر الدخيل وخِيْف على الرؤية الإسلامية عند المسلمين أن تغيم بدرجة قاضية – لأن تبقى الحركة الثقافية والسياسية والاجتماعية في الأمة في المسار الصحيح، وحتّى لايبقى الإسلام في كل هذه الأبعاد شعاراً فارغاً من مضمونه الحقيقي يُرفع من أجل أغراض دنيئة لاتمتُّ له بصلة، وحتى تبقى الانتفاضات على مختلف الأصعدة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها منشدَّة إلى قاعدة الفكر الإسلامي، والمرجعية الشرعية ولاتكثر الانفلاتات عن هذا الخط بصورة سافرة أو مخادعة.
إنّنا وبوحي من السيرة الواعية الهادية المعصومة للإمام الصادق عليه السلام مسؤولون عن تركيز وعي إسلامي رشيد مؤصَّل، وتقديم رؤية إيمانية واضحة، وتجلية كافية للمفاهيم الإسلامية، وتثبيت القيمة العالية للأحكام الشرعية في النفوس، وتأكيد الانشداد إلى المرجعية التي تُمثِّل الامتداد الطبيعي لخطِّ الإمامة إبقاءً للجيل الحاضر والأجيال القادمة على الخطِّ الإلهي الصحيح، وحتى لاتنفصل حركة الأمة عن قاعدتها الإسلامية، ومرجعيّتها الشرعية في مختلف المجالات.
وإنّه ليجب أن يكون واضحاً أن انتماءنا للإسلام والإمام عليه السلام لايصحُّ أن يوضع من ناحية عملية في إطار الانتماء الفقهي على مستوى مسائل الصلاة والصوم والحج وماماثلها فحسب في حالة من التخلّي في المساحة العامة عن خط الإمامة والقيادة المترشّحة عن هذا الخطّ وهي قيادة الفقهاء العدول الأمناء من ذوي الخبرة والكفاءة. لايصحّ أن تتنزّل القيادة في وعينا إلى القامات القصيرة بعد الإمام المعصوم عليه السلام، وإذا اضطُررنا إلى قيادة بديلة فلابد أن تكون مُتمثّلة في القامة الأقرب إلى المعصوم عليه السلام والتي تتمثّل في الفقيه العادل من ذوي الخبرة والكفاءة.
وعند حدوث تلك التجزئة في حياتنا مختارين سنكون إسلاميين وإماميين صوماً وصلاة وحجّاً مثلاً ولكننا شيء آخر في المساحة العامة من الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي مفارقة واضحة سخيفة في حياة الفرد والجماعة.
حدث مُزلزِل:
1. الواقعة غير الأخلاقية المنسوبة إلى جهاز رسمي هذه الأيام حدث مُزلزِل، وصاعقة مُدمِّرة… مُزلزِل للضّمير، وصاعقة على الأمن والاستقرار.
2. وإنه يعني بالضبط نسفاً للدين، وهدراً للقيم، ودوساً لكرامة الإنسان، واستخفافاً بالحُرمات، وإلغاءً لأي حياة دستورية وقانونية، وتمرُّداً على الحياء، وخياراً خطيراً وأسلوباً من أساليب العصابات الإجرامية المروِّعة للمجتمعات، وتدشيناً لمرحلة من أشدّ مراحل الانزلاق إلى هاوية الانحطاط الخلقي، ولغةَ تهديد خطيرة وسخيفة ومتسافلة لحرية الكلمة المطالبة بالحق، والمتظلّمة من الحرمان.
إنه حدث لايجوز لحكومة ولاشعب تجاوزه، وتساهل الحكومة فيه لو حدث فيه رضىً به، وإقرار له، وإعلان لحالة من أصعب حالات التدهور الأمني والخلقي والقيمي والدِّيني، وفتحٌ لباب لو دخلت فيه الأطراف المختلفة لكانت الفُوضى بنفسها والبعيدةُ عن ضوابط المجتمع الإنساني في أدنى صوره.
والحادثة المُخزية التي شغل ذكرها المجتمع كان معها حسب المتبادل اختطاف وضرب، وحتى لو اقتصرت على التعرية والتحرّش فهي أمر مُخْزٍ مقزّز مرعب ساقط.
وسيُقال بأن المسألة تحتاج إلى تحقيق، ولايصحُّ البناء على الدعاوى فحسب. ولا أحد يعترض على مثل هذا القول، ولكنَّ التحقيق المطلوب هو تحقيق محايد ونزيه وشفّاف وهذا لايتم إلا بأن يكون مُشترَكاً أو من جهة ثالثة محايدة تماماً.
على الحكومة أن تسد باب هذا المنزلق الخطير والشرّ المدمّر بملاحقة المسألة ملاحقةً جدّيّة وتوقيع العقوبة الصارمة في حقِّ الفَعَلَة وأصحاب القرار بهذا المنكر القبيح أيّاً كانوا.
ومن جهة أخرى ذات صلة وفيما يرتبط بقضية العاطلين فإنها ستبقى سبب إثارة مستمرّة وقلاقل متصلة وإرباكٍ للساحة مالم تتجه الإرادة الجدية لمعالجتها.
والعلاج كما يتطلّب خططاً على المستوى المتوسط والبعيد يتطلب كذلك حلولاً عاجلة سريعة تُخفف من ضغط الظاهرة، وتحدّ من تفاقمها عن طريق الضمان ضدَّ التعطّل وتوظيف أكبر عدد ممكن من العاطلين فوراً والدخول في حوار وتفكير جادٍّ وهادئ مشترك بين طرف العمال ممثلين في لجنة مختارة، والطرف الرسمي، والعمل الفوري على معالجة قضية تدنّي الأجور، وتوقيف مظاهر الاحتجاج والفعل وردِّ الفعل الداخلين في دائرة التوتّر.
وإنّه لايمكن لنا أن نساعد على تبادل التصعيد أو نرضى به، وأن تتجه الساحة إلى ماقد يخرج عن كل الحسابات والتوقّعات، وأن تسقط الساحة في نار فتنة كبرى مشتعلة تُلقِّن كل الأطراف دروساً قاسية مرعبة.
نحن مع العدل والإنصاف، وسماع صوت الجائع والمحروم، وصِدق الوعد، وجدّية الحلّ من جانب الحكومة، واحترام كرامة الإنسان وأمنه وشرفه وحرّيته الإنسانية الرفيعة الشيء الذي يجب أن تلتزم به الحكومة فعلاً، ونحن كذلك مع أساليب التعقُّل عند شبابنا المحترمين، وعدم السماح لغلبة العاطفة، ولأيِّ مبادرة من هنا أو هناك أن تحكم الساحة، ولأي نداء أن يستقطبها استقطاباً انفعاليّاً غير مدروس ولاخاضعٍ لحسابات المصلحة السياسية وأحكام الشريعة.
كلكم مسلمون، وكلكم مؤمنون، وكلكم تتبعون الإمام الصادق عليه السلام الذي رسم لكم طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى من ترجعون في حوادثكم.
الُمفتون الجُدد:
صارت تملأ الساحة فتاوى كثيرة متسيّبة ومتطاولة ومنفلتة في موضوع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وغيرهما وفي مسائل السياحة من النوع القذر وفي السياسة، وأمور دينية كثيرة من مفتين جُدد لافقاهة لهم، ولافقه ولادراية ولاعدالة.
وهي حالة سيئة من حالات الاختلال في الضوابط والموازين واحترام العلم وأصوله وأخلاقيته لو استمرّت وأخذت مكانها في النفوس، وقبولها عند الجيل لأضلّت الأمة كثيراً، وفتكت بالدِّين، وساد الهرج والمرج، وكان في ذلك أكبر التعدّي على العلم والحقيقة.
وإنِّي لأحذر الممارسين للعمل الإسلامي في كل ساحاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها والمنتسبين إلى هذا العمل تحذيراً دينيّاً من الانزلاق في هذا المنحدر الخطير الذي يعني التقوّل على الله ورسوله(9)، والجرأة على دينه وشريعته، ويوقع المؤمنين في الجهل والتغرير والزيف، ويلغي وصف الإسلامي عمن يمارسه إلغاءً واضحاً جليّاً. إذا كان هذا الوصف بالتقيّد الإسلامي ومتابعته.
أنا لاأكون إسلاميّاً بحق، ولاأستحق هذا الوصف على الإطلاق، وإن كنتُ أعمل في ميدان العمل الإسلامي إذا كنتُ أُفتي وأنا لست أهلاً للفتوى.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا والآخرة، وشقاء الدنيا والآخرة، وذلّ الدنيا والآخرة، وارزقنا رأفتك ورحمتك وعفوك وتحنّنك والكرامة عندك ياأكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: حقُّ التظاهر إنكاراً لمنكر، أو تأييداً لمعروف، أو مطالبة بحق مهدور لاجدال فيه ولامراء، ويلزم أن يكون ضمن الضوابط الشرعية، وحسب مقتضيات المصلحة، والحسابات الموضوعية الدقيقة، ولايأتي استجابة انفعالية فحسب، ولايكون بأمر أي آمر. وكلّما وجد طريق قانوني مشروع للتعبير الكافي ستغني به عن الطريق غير القانوني(10).
1 – ميزان الحكمة ج4 ص426.
2 – ميزان الحكمة ج4 ص426.
3 – ميزان الحكمة ج4 ص427.
4 – ميزان الحكمة ج4 ص427.
5 – ميزان الحكمة ج4 ص427.
6 – ميزان الحكمة ج4 ص427.
7 – ميزان الحكمة ج4 ص427.
8 – ميزان الحكمة ج4 ص 428.
9 – الفتوى من غير أهلها فيها تقوّل عل الله ورسوله.
10 – هذه الملاحظة أُلقيت بعد انتهاء الصلاة من صلاة الجمعة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى