خطبة الجمعة (188) 16 محرم 1426هـ – 25 فبراير 2005م
مواضيع الخطبة:
من كلمات النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام”أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَرَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ
ضُرَّهُ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ” + المعصوم والشورى + رسائل سيئة
هذه النفس الكريمة التي أُهّلت إلى أن تسابق ملائكة الله في طهرهم وقدسهم قد تنحطّ إلى أسفل درك على يد صاحبها؛ حيث يجرّدها في نظره من ارتباطها بالله سبحانه وتعالى، ومن مواهبه الكريمة فيها.
الخطبة الأولى
الحمدلله حمداً يليق بجماله وجلاله، وإنعامه وإحسانه حمداً لايعرف قدره إلا هو. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً.
أوصيكم عبادالله ونفسي الخطَّاءة بتقوى الله والاعتماد عليه، والفزع إليه، والعوذ به فإنّه الكافي ولاكافي غيره، والمعيذُ ولامعيذَ سواه.
ولنطلب عفو الله ومغفرته ما حيينا فإن العبد لاينفكُّ عن تقصير حال طاعته فضلاً عنه في معصيته، ولايبلغ لنعم المولى شكراً، ولايخرج من حقّه أبداً.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنَّك أنت التوّاب الرَّحيم. اللهم إنّا نعوذ بك من أن نَظلِم أو نُظلَم، أو نضِل أو يُضَلَ بنا، أو نجهل أو يُجهل علينا إنّك نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فمن كلمات النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام:
“أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَرَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ”(1).
ثلاث جمل:
الجملة الأولى: “أزرى بنفسه من استشعر الطمع”.
وأزرى بنفسه: حقرها. وقد يحقر المرء نفسه على مستوى النظرة، وقد يحقرها على مستوى النتيجة العملية لتعامله معها.
وإذ يحقر المرء نفسه على مستوى النظر ينتهي به ذلك إلى أن يضعها موضع الحقارة عملاً.
واستشعر الطمع: بمعنى استبطنه وتخلَّق به.
والطمع: عدم القناعة، وعدم الاكتفاء بما يغنى، وتعلّق بالدنيا يجعل صاحبه لايشبع منها ولايروى.
وحين ننظر إلى النفس في مكانتها عند الله عز وجل فهي مكانة رفيعة، وليس لها من ثمن إلا الجنة، وأكبر الجنة رضوان الله تبارك وتعالى، واستشعار ذلك الرضا الكريم.
وأن يزدري الإنسان نفسه، أن يضعها في غير موضعها، وأن ينظر إليها على غير وزنها، وأن يبيعها بغير ثمنها.
هذه النفس الكريمة التي أُهّلت إلى أن تسابق ملائكة الله في طهرهم وقدسهم قد تنحطّ إلى أسفل درك على يد صاحبها؛ حيث يجرّدها في نظره من ارتباطها بالله سبحانه وتعالى، ومن مواهبه الكريمة فيها.
فقد ينظر المرء إلى نفسه مجرّدة عن مواهب الله سبحانه وتعالى، وينظر إليها نظر الحيوان إلى نفسه، وحيث ينصرف إلى الدنيا وشهواتها، وتتركز همّته على الرغائب الرخيصة في هذه الحياة فهو يضع نفسه بذلك عمليّاً موضعا ساقطاً.
الطمع والتعلّق بالدنيا، وعدم الارتواء من شهواتها ورغائبها الرخيصة يُسقط النفس، وينتهي بها إلى وضع دنيء، ويقطع عليها طريق السموّ والكمال، فإنّه ليس من كمال في رغائب هذه الحياة، وليس من سموّ في شهواتها، فهناك ضرورات وحاجات جسدية وشهوات، بينما هناك غاية وهدف، وأين الغاية والهدف من لذائذ تتقضّى، وشهوات تنتهي، وقد تُعقب سقماً في البدن، وهي معقبة حتماً هبوطا في مستوى الروح.
الطمع، وهو شرهٌ في المادة، وفي الشهرة، وفي ما هو من هذه الدنيا، يصرف عن الله، ويصرف عن هم الآخرة، ويصرف عن كمالات النفس وبذلك تسقط النفس.
وهو من جهة أخرى يُرخص النفس أمام الشهوات، فيكون صاحب النفس مستعدّاً إلى أن يبيع نفسه بأبخس الأثمان، وأن يسقط عن عليائه أمام الشهوات، فلا ينفعه علم، ولا موقع، ولا أي شيء، ولا يعصمه أمام شهوة تستتبيح منه شرفه، وتستلب منه عقله، وتأتي على دينه. هكذا يفعل الطمع بالإنسان، واللب المسحور للمال يفقد قدرته على التفكير، ويفقد أخذ المبادرة بخطو صاحبه، فصاحبه يسلك مسلكاً لايستطيع العقل أن يقاومه لأنه قد تبع النفس وشرهها، وسقط أمام قوة طمعها.
الطمع في الدنيا في أشيائها، في زينتها، في شهواتها، رغائبها له منشأ، هذا المنشأ قد يكون النظرة الكونية الخطأ التي تقدّر المادة، وتنسى الله تبارك وتعالى، وتفصل هذا الكون العريض عن القدرة الإلهية المتعالية، والحكمة الإلهية المطلقة.
هذه النظرة الكونية تجعل همّ الإنسان هو هذه الدنيا، وشهواتها ورغائبها، وقد تكون للإنسان نظرة كونية صائبة، وينظر للكون منسوبا إلى بارئه سبحانه وتعالى إلا أنه وفي مقام العمل يتساهل في بناء سلوكه في خطِّ هذا النظر فتنشأ عنده مشاعر ساقطة، ويقوم في النفس حبُّ الأرض، وتتألّه الأرض وأشياؤها في نفس هذا الإنسان حتى تستحكم هذه النظرة التي لاتقوم على عقل، فيجتمع الطمع في أشياء هذه الحياة مع نظرة كونية صائبة دفينة يكون معها الحضور لنظرة أرضية تمتلك الفاعلية في النفس.
وبالغفلة عن الآخرة يطول الأمل الكاذب، ويتغذى الطمع؛ فمالم نستحضر الآخرة وثوابها وعقابها وألمها وعذابها وخيرها تكبر الدنيا في عيوننا، ونكون أبناء دنيا أكثر من كوننا أبناء آخرة، وكلما عظمت الدنيا في نفس صاحبها امتلكت موقع العبادة من نفسه فيكون الانسان الطامع.
الجملة الثانية “…. ورضي بالذُّل من كشف عن ضرّه …”.
نحن نعرف أن الإسلام يرفض الذّل للمؤمن، والمؤمن يكون عزيزا في الناس، متواضعا معهم، ذليلا في نفسه بين يدي ربّه تبارك وتعالى. المؤمن متهم لنفسه بالتقصير، غير مزكّ لها، عامل دائما على الارتفاع بمستواها، حريص على أن لاتخسر سموّها.
وهناك ذلٌّ يتراءى للناس، وذلّ له واقعية في نفس صاحبه، ذلّ يتمثّل في سقوط النفس، وذلّ يتمثل في نظرة الناس للنفس، وكأن الذل الذي تعنيه الكلمة هو الثاني؛ فالمرء يضع نفسه موضع الذّل ويجعل الناس تنظر إليه ذليلاً إذا كشف عن ضرّه؛ فالناس إنما يحترمون الأقوياء، ولا يحترمون الضعفاء، والكشف عن الضّر يعني الضعف، والضعيف غير محترم عند الناس.
فالنظر العادي يستضعف الذات لضرها ومصاعبها، ويسقطها لضعف بدن أو فقر أو مرض، وإن كانت من أسمى الذوات معنى.
فأنت لاتفعل بنفسك خيرا حيث تكشف عن ضرك للناس، والصبر على الضر، والسكوت عليه خير لشرفك وأسلم لشخصيتك.
الجملة الثالثة “…. وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه…”.
وإن النفس لتهون بانكشاف سوءاتها وأسرارها، وسخف القول يسقط صاحبه، ويذلّه ويجرى عليه، واللسان المترسّل المتأمّر تكثر أخطاؤه وسقطاته، ولايُبقي من عورات النفس شيئا.
والنفس التي لاترجع إلى دين وعقل وحكمة لاتملك أن تتأمل وتتريث وتكثر سوءاتها، وتقبح دفائنها، وتشتد عوراتها ولا تملك من أمر لسان صاحبها شيئا.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارزقنا نفسا قانعة بما رزقتها، راضية بما قضيت لها، واثقة برحمتك، مطمئنة إليك، وعافنا بعافية الدنيا والآخرة، وارزقنا خيرهما ياكريم يارحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}
الخطبة الثانية
الحمدلله حمداً كثيراً كما هو أهله. إنّه أقرب من دُعي، وأسرع من أجاب، وأكرم من عفا، وأوسع من أعطى، وأسمع من سُئل، رحمن الدنيا ورحيمهما.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
ألا فلنتق الله عباد الله فهي طريق الرشاد، وسبيل السداد. تثمر الربح، وتحقق النجح، وتسمو بالنفس، وتقيم عوج الأوضاع في الحياة.
فمن اتقى الله أطاعه، وطاعة الله خير بلا شرٍّ، وصواب بلا خطأ، ونجاح بلا سقوط، وفلاح لايشوبه فشل.
اللهم اهدنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين هدى المتَّقين، واسلك بنا سبيل الصالحين الآمنين، واجعلنا من فوج الفائزين المفلحين، واغفر لنا جميعاً، وتب علينا إنّك أنت التوَّاب الرَّحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المنتظر القائم المهدي.
اللهم عجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفه بملائتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم انصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأحبَّة في الله فإلى الموضوعات التالية:-
أولاً: المعصوم والشورى:
أ. ما قبل الحكم:-
1. هل للشورى قيمة في اعطاء المعصوم شرعية الحكم؟ والسؤال: الشورى للشرعية أو التفعيل؟
هل الشورى لكسب المعصوم شرعية الحكم، أو لكسب حكم المعصوم الشرعية؟ أو أنها لتفعيل الحكم؟ بمعنى أن يحصل التعهّدُ من الناس بدعم المعصوم لتفعيل حكومته على الأرض.
الآية الكريمة تقول:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(2).
وهي ولاية قبل البيعة لأن هذه البيعة إنما أُخذ فيها النبي بما هو نبيٌّ، والمؤمنون بماهم مؤمنون. والنبي بما هو نبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم بما هم مؤمنون، وليس مأخوذ في الموضوع البيعة.
وهذه الولاية ولاية مقدمة على ولاية النفس للنفس {… أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، ومن أظهر معاني هذه الولاية الطاعة، فطاعة النبي صلى الله عليه وآله ثابتة على المؤمنين من جهته بما هو نبي، ومن جهتهم بما هم مؤمنون.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ(3) وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(4).
الإيمان متوقف على تحكيم الرسول صلى الله عليه وآله في كل الخلافات وفي كل النزاعات وفي كل القضايا. وهذه ولاية واضحة جداً وغير متوقفة في الآية على البيعة.
2. دور البيعة:
إذاً؛ ما دور البيعة؟
قد يقال بأن البيعة سبب من أسباب ثبوت الولاية، أو متمم سبب.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }(5).
هذه الآية نفسها دليل ولاية ثابتة بلا بيعة لأن بيعة الرسول نُزِّلت منزلة بيعة الله، فالمؤمن الذي يبايع الرسول إنما يبايع الله، وولاية الله غير متوقفة على البيعة. ولاية الله التشريعية، وولاية الله في الحكم ثابتة بلا بيعة، فيجب على المؤمنين مبايعة الله لولايته الثابتة سلفاً. وبيعة الرسول صلى الله عليه وآله نزلت منزلة بيعة الله عز وجل، بل هي بيعة لله أصلاً وللرسول “ص” تبعاً.
هذه البيعة الواجبة على المؤمنين للرسول بما أنها بمنزلة بيعة الله الواجبة عليهم هل هي بيعة مأمور بها على نحو القضية الكلية كما يقولون أو على نحو القضية الجزئية؟ بمعنى أنه هل جاء الأمر للمؤمنين بأن يبايعوا الشخص الذي يحمل مواصفات تنطبق على الرسول، فيكون الرسول أحد الذين يدخلون تحت المأمور بمبايعته؟ أو أن الأمر متّجه إلى المؤمنين بمبايعة الرسول مباشرة؟ الأمر هنا متجه إلى مبايعة الرسول مباشرة مبايعة هي بمنزلة بيعة الله عز وجل الواجبة. ولاتجب البيعة إلا لمن كانت له الولاية سلفا إما بأن يكون متوفّرا على وصف المأمور بمبايعته أو كان هو المخصوص بوجوب البيعة، والرسول صلى الله عليه وآله هنا مخصوص بوجوب البيعة. فولاية شخصه الكريم صلى الله عليه وآله ثابتة قبل البيعة.
فينتج بعد هذا أن ولاية المعصوم غير متوقفة على البيعة أصلاً.
ما تقدم هو المعصوم قبل الحكم والشورى، والآن يجري الكلام عن المعصوم ما بعد الحكم والشورى.
ب. ما بعد الحكم:-
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ }(6).
والآية الكريمة الثانية:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(7).
الآية الثانية واضحة وأن الإيمان متوقف على تحكيم الأمة الرسول صلى الله عليه وآله في الأمور، وإذا كان هذا ثابتا قبل البيعة فثبوته بعد البيعة أوضح.
وليس لرأيهم هنا دخالة، هو تحكيم وليس فرض رأي، إنه تحكيم بالتسليم للرسول بحق نفاذ أمره في شؤونهم، وليس الأمر أنهم يفرضون رأيهم على الرسول صلى الله عليه وآله وأن يلزموه بما يذهب إليه منهم الرأي.
الآية الأولى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ }(8) هذه المشاورة إنما هي في الأمور الموضوعية المتصلة بالشأن العام للأمة.
هذه المشاورة من الرسول صلى الله عليه وآله للأمة، نسأل: هل هي لتنضيج الرأي عند الرسول صلى الله عليه وآله؟ لفجاجة في رأى الرسول؟ أو لتطييب الخواطر مثلا؟
هنا أمور يمكن أن تكون وراء هذه المشاورة: تنضيج الرأي، وهذا غير صحيح في المقام، لأن رأي المعصوم عليه السلام لايتنضّج برأي غيره.
خلفية أخرى: تطييب الخواطر ورفع المعنويات لمن يستشيرهم الرسول صلى الله عليه وآله.
خلفية ثالثة: لتربية البصيرة العملية عند المؤمنين.
حين يدخل الرسول صلى الله عليه وآله معهم في تقليب الرأي، وبحث الموضوع تتنضّج بصيرتهم، وتتفتح بصيرتهم، ويمتلكون القدرة على الرؤية الصحيحة للأمور.
أن تكون الخلفية توليد حافز الجد عند المؤمنين من ضعفاء الإيمان، لأنهم بإبداء الرأي يشعرون بأن القرار لهم نصيب منه. أما كامل الإيمان فلا يحتاج إلى مزيد بعد كلمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أن تكون الخلفية إعطاء درس للحاكم غير المعصوم.
هذا عدد من الخلفيات التي يمكن أن تكون وراء الأمر بمشاورة المؤمنين من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
والمشورة إنما تكون ملزمة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو كانت الخلفية هي تنضيج الرأي بينما هي خلفية ساقطة بلحاظ العصمة.
والخلفيات الأخرى كلّها حِكَمٌ للمشورة لاتستوجب من الرسول صلى الله عليه وآله متابعة الرأي الآخر.
وهذه المشورة لها فروض:
– قد يلتقي الرأيان؛ رأي الرسول صلى الله عليه وآله ورأي المؤمنين فلا بحث.
– وقد يختلف رأي الرسول صلى الله عليه وآله عن رأي الآخر هنا ماذا تقول الآية؟ فإذا عزموا هم فتوكّل على الله؟ فإذا عزمتم مشتركين فتوكل على الله؟ أو تقول {… فَإِذَا عَزَمْتَ – يعني أنت – فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ }(9) بعد كل التشاور ماذا تقول الآية؟ لاتقول فإذا عزمتم مشتركين، ولاتقول فإذا عزموا فتوكل على الله، إنما تقول فإذا عزمت أي أنت فتوكل على الله. فالقرار بعد المشورة إنما هو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا اختلف رأي الآخرين مع رأي الرسول صلى الله عليه وآله في الموضوع فهذا الاختلاف له حالات:
هذا الاختلاف قد يكون مع حالة ضاغطة من الرأي الآخر تهدد المعصوم والكيان الإسلامي عندما لايأخذ به، وهذا وجدناه في مسألة التحكيم التي أصر عليها الرأي الآخر في موقعة صفين، بحيث اقتضت الحالة من الإمام عليه السلام أن يتسجيب، لكن استجابته كانت من باب ارتكاب أخف الضررين، لأنه إما أن يُقضى على الإمام والإسلام، وإما أن يخسر الإمام عليه السلام المعركة، وخسارة المعركة هي أخف الضررين في ذلك الموقف.
هنا الحالة الضاغطة قد فرضت على الإمام عليه السلام أن يستجيب للرأي الآخر وليس بما هو نتيجة للشورى، على أن المعصوم عليه السلام لم يكن بصدد الاستشارة في الموقف لأن الرأي كان عنده جازماً.
هناك حالة أخرى تقتضي إعطاء درس عملي مؤدّب. ونجد مثالاً لهذا في الخروج لأحد لمواجهة جيش المشركين؛ حيث كان رأي النبي صلى الله عليه وآله البقاء في المدينة، وكان الرأي الآخر يضغط في اتجاه أن يخرج النبي صلى الله عليه وآله والمؤمنون لمواجهة قريش في أحد.
استجابة الرسول هنا ليس لأنه يلزم عليه أن يستجيب للشورى وإنما لتلقين النفر الذين أعطوا هذا الرأي درسا مؤدبا على طول التاريخ.
هناك حلة ثالثة حالة الخلو من المقتضيات الأخرى، وأن ليس في البين إلا مسألة الشورى. و إذا كان الموضوع هو موضوع الشورى فقط فالآية تحسم المسألة وتقول {..فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ }(10) وليس إذا عزمتم مشتركين أو إذا عزموا.
المتصور أن هناك أمرين:
أمر بالتشاور، وأمر باتباع نتيجة التشاور، الأمر في الآية إنما هو بالمشاورة، وليس الأمر باتباع نتيجة المشاورة. وقلنا أنه يلزم هذا الاتباع لو لم تكن حكمة للمشاورة إلا تنضيج رأي المشاور، على أن هذه الحكمة منتفية قطعاً في حق المعصوم عليه السلام.
ثانياً: رسائل سيئة:
1) هناك رسائل تصل إلى عدد من النَّاس بالهاتف المرافق تتعلق بأكثر من واحد ممن لهم إسهام أو حضور في الساحة السياسية. وهي رسائل مسيئة مهمتها التجريح الكاذب المفتري، المخالف لعلم مرسلها فضلاً عمن تعنيه وتستهدفه.
2) وكل تعليقنا على هذه الرسائل هو بأن نسأل الله عز وجل أن يصبّر البايعين دينهم بهذه الرسائل على كلمة حقٍّ قيلت، أو موقف حوار اتخذ فاستفزتهم تلك الكلمة أو ذلك الموقف.
والله أولى بأن يخاف ويحذر. وتوكّلنا على الله وهو نعم المولى ونعم النصير.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا أصدقائنا ومعارفنا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا إحسانا خاصا منهم.
اللهم اجعلنا ممن لايبتغي عن دينك متحوّلا، ولايرضى عن شريعتك بدلا، ولايسمع لأعدائك قولا شططا، ولا يطأ كما يطأون منزلقا. اللهم جنبنا شر الدارين، ولقنا خيرهما ياكريم يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ص469.
2 – 6/ الأحزاب.
3 – وأظهر ما تكون الطاعة في الأوامر الإجرائية. أما أخذ الحكم المبلّغ من قبل النبي فهو معتمد كل الاعتماد على التصديق بنبوته. وعلى الأقل فإن الطاعة هنا مطلقة للحكم الإلهي وللحكم الولائي. وينتج من ذلك أن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله في الأمور الولائية ثابته قبل البيعة، والبيعة لعّهد بالالتزام بالطاعة وهو أمر اختياري تكويناً واجب شرعاً.
4 – 64 – 65/ النساء.
5 – 10/ الفتح.
6 – 159/ آل عمران.
7 – 65/ النساء.
8 – 159/ آل عمران.
9 – 159/ آل عمران.
10 – 159/ آل عمران.