خطبة الجمعة (167) 9 شعبان 1425هـ – 24 سبتمبر 2004م
مواضيع الخطبة:
حضارة الطين وحضارة الإنسان(18) + وطنٌ بلا فقر
من المؤسف أن نقول في ضوء مجموعة المعطيات السابقة وغيرها أن ظاهرة الفقر في وطننا العزيز مقيمة لا عابرة، وهي في طريق الإزدياد لا الانحسار ما لم تتدارك الأمور
الخطبة الأولى
الحمد لله مالك التدبير، السميع البصير، اللطيف الخبير، وهو على كل شيء قدير. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويُجِنُّ الضمير، وتحتوي الدهور. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، فإن التقوى خير ما وقى وستر وأزان، وانتهى بصاحبه إلى سلامة وجنة ورضوان وسلام، فقد قال سبحانه {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} 26/الأعراف.
ألا فلنتق الله، ونتق يوما توعّد فيه العصاة من عباده، والمستكبرين على طاعته، والخارجين على شريعته، وقد أعد ذلك اليوم لعذاب شديد، لمن أدبر واستكبر حتى قال عنه عز من قال {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} 25،26/الفجر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وأعنا على أنفسنا حتى نستقيم على صراطك، ولا نجنح أبدا عن دينك، ولا تميل بنا الأهواء عن طاعتك، ولا توقعنا في رجس معصيتك يا رحيم يا كريم يا علي يا قدير.
أما الآن أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمع هذا العنوان: الحضارتان والقوة في تسلسل موضوع: حضارتان: حضارة الطين وحضارة الإنسان:-
الحضارتان والقوة:-
أي الحضارتين للقوة؟ وأيهما للضعف، وأي قوة وأي ضعف؟
ويُتناول هذا على أكثر من صعيد: الإنسان في داخله، الإنسان في أوضاعه المادية المصنوعة على يده، الإنسان في علاقاته بأخيه الإنسان.
وقبل ذلك نحاول أن نقف على نظرة الإسلام للإنسان في جانب قوّته وضعفه، والنظرة الأخرى له في هذا الجانب نفسه.
الإنسان في قوته وضعفه: السؤال هنا: الإنسان في حد ذاته خَلقَةً قوي أو ضعيف؟
للإنسان طاقات و مواهب وهدايات وإرادة وانجازات ضخمة في نفسه وعلى الأرض، وليس أدلّ على كفاءاته في نظر الإسلام من موقع الخلافة، ومسؤولية التكليف التي أُنيطت به، وهو المخلوق في أحسن تقويم يؤهله لأن يسبق بمستواه الكثير الكثير من الخلائق {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وهو ليس تقويم بدن بقدر ما هو تقويم ذات معنوية إنسانية.
ولكن برغم طاقاته ومواهبه وهداياته وإنجازاته فيه ضعف يحتاج معه إلى تربية صالحة، وحضارة كريمة، ومنهج قويم، يعالج فيه هذا الضعف، ويثير فيه عوامل القوة، وكوامن النهوض، وأسرار العظمة.
ولك هذه الآيات الكريمة عن ضعف الإنسان بعد التأكيد على قوّته: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 16/ ق.
والنفس إنما توسوس لتصرف عن الخير والنهوض بالمسؤولية، وما يدفع بمستوى الإنسان إلى الأمام على طريق الهدى والنور والصلاح والفلاح، ولتُوقع في الشر والسوء والخسران. وليس أقرب للمرء بعد الله من نفسه فإذا كانت النفس أمّارة بالسوء، موسوسة لصاحبها فهذا منبع ضعف للإنسان يقعد به إلى الأرض، يمنعه من النهوض، يأخذ بنظره عن الالتفات إلى صالحه. والمخبر بهذا من هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} 28/النساء.
الإنسان بشهواته، بجانبه الذي يشدّه إلى الأرض من دوافع ورغائب ومطامع وتطلعات مادية ضعيف أصلا على قوته، وبقطع النظر عن عطاءات تربيته، وآثار منهجه.
وهو ضعف يقابله التخفيف في التكليف، ومراعاة التعثرات على الطريق. فالتكليف للإنسان جاء ملتفتا إلى ضعفه، غير مثقل عليه، محرج له، مسبب له الفشل في تحمله. كما أنه لم يهمل حاجات تربيته، وما به تقويم عوجه فيسبب له التسيُّب، وزيادة الضعف والاهتراء على ضعفه.
والآية الكريمة الأخرى:{الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 66/الأنفال.
مع ما في الإنسان من ضعف خلقة لشهواته، وضغط ما كان ماديا من دوافعه وغرائزه يأتي عليه ضعف زائد بإهمال نفسه، وتسيبه، وعدم أخذه بالجد في تربيته، وهو ضعف متنام مع الأيام ما دام لا يجاهد النفس، ولا يقاوم الضعف، ولا يبني جانب الإرادة الصالحة في ذاته.
وقد يقوى بإيمان، وجهاد، وعمل صالح، ومقاومة لروح الانحطاط والتسيّب، ثم يتراخى ويلين ويقل استمساكه بالمنهج القويم فيطرأ عليه ضعف بعد القوة، ووهن بعد الشدة، ويفقد من درجة تحمُّله، وقدرته على النهوض بأعباء المسؤولية، وثقل التكليف ما يفقد.
فلقد كان المؤمنون في أوج إيمانهم، وسمو روحيتهم، وصلابة استمساكهم بمنهج الله الحق، وما يعطيهم ذلك من صبر وصمود وثقة كبيرة وإصرار صاعد، العشرون منهم يغلبون مائتين، والمئة يغلبون ألفا من الكافرين، فالواحد من أهل الإيمان في درجة عالية منه يفوق قوة صلابة، وصمود، وشجاعة نفسية، وإقدام، وروح تضحية وفداء عشرة ممن كفروا، وهو في درجة أخرى دون تلك لا يفوق إلا اثنين حتى يغلبهم.
فالإنسان يفقد من قدرته على مواجهة التحديات على مستوى نفسه وعزيمته ومقاومته الداخلية، ويصيب الضعف إرادته وصموده بقدر ما ينفصل عن خط الإيمان، أو يفترُ في جهاده الشعوري والعملي على هذا الخط.
والإنسان قبل التربية الصالحة أو الطالحة فيه – كما تقدم – ما يهزمه من شهواته ودوافعه المادية، وميوله وغرائزه الأرضية. والتربية السيئة، والحضارة المادية المنحطة تزيد ضعفه ضعفاً، وتسبب له التميع والاهتراء في حين أن التربية القويمة وحضارة الإيمان النابه تخرجه من الضعف إلى القوة، ومن الظلمات إلى النور، وتحميه من الانهيار أمام تحدي المثيرات المادية، وضغط الدوافع والغرائز الطينية، وهي الأمر الذي يقف الانهيار أمامه وراء سقوط الإنسان وتقهقره.
والآن دور هذا السؤال: حضارة الإنسان وحضارة الطين أيهما للقوة وأيهما للضعف؟ ثم أي قوة وأي ضعف؟
قوة الإنسان وضعفه… قوة الأوضاع المادية من صنعه وضعفها… قوة العلاقات البينية في إطاره وعدمها.
الإنسان بين القوة والضعف:
الإنسان قويا في حضارة الإنسان؛ حضارة الإيمان والإسلام أم في حضارة الطين؟
والحضارة الأولى حضارة عقل وقلب ووعي وهدى وروح وصلاح واستقامة وزكاة. والحضارة الثانية حضارة دوافع من دوافع المادة، وغرائز ملتصقة بالطين، وشهوات حيوانية، وهموم أرضية، وتطلعات منقطعة، وآمال قريبة، ورؤى محدودة، وأمنيات حشرَّية، وطباع غابيَّة قد تُسخِّر لها القوة العاتية والعتاد الفتاك، وأسبابا كثيرة من أسباب البطش التي يشارك في تحضيرها الفكر، وتتفنن في إبداعها العبقريات، وتسوق إلى توفيرها إرادة الاستئثار الكاسح.
الحضارتان وصناعة الإنسان:
الإسلام حضارة الإنسان يصنعه قويا صابرا صامدا مقاوما متحملا يختار السمو على الانحطاط، وأن تصعد روحه لا أن تهبط، ويكبر اهتمامه لا يصغر، ويسمق هدفه لا يلصق، ويقاوم لا يتراجع.
ولنقرأ هذه الآيات الكريمة في هذا الموضوع:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ…}93/ البقرة.
وفي آية أخرى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 63/ البقرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} 8/ المائدة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ…} 135/ النساء.
{… وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 40-41/ الحج.
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } 146/ آل عمران.
الآيات المتقدمة طائفتان؛ الأولى تدفع المؤمنين إلى موقف القوة والشخصية المقاومة المتحمّلة القادرة، والدور المجاهد الصامد، وموقع الإنسان المثل القدوة الناهض بأعباء الرسالة الإلهية، المجسد لقيمها وتعاليمها وأهدافها. فهي على طريق صناعة الإنسان القوي والشخصية القادرة، وكفاءة ذات الإنسان العالية. هذه الآيات تدفع وتحضِّر وتطالب الإنسان بأن يكون الإنسان القوي القادر الصامد المتحمل.
والطائفة الثانية المتمثّلة في الآيتين الأخيرتين تتحدث عن إنسان من إنتاج خط الإيمان وحضارة القرآن، فهذا الإنسان مستعل على ظروفه، ثابت عند مبدئيته، محتفظ بخطه وأخلاقيته وتوازنه، غير منهار أمام شدة ولا رخاء، ولا نصر مادي ولاهزيمة، قوي في كل الأحوال و التقلبات، تتحدث عن إنسان نصر الحق فنصره الله، وعن ربّيين توجههم إلى الله، وصياغتهم من وحي دينه.
هذا الإنسان لا يغيره النصر، ولا يَهِنُ عند الشدة والخسارة المادية الفادحة ولا يلين ولا يستكين. يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف وهو في قمة النصر الساحق كما هو في الحال الآخر، ويثبت في المعركة في موقعه من جبهة الحق لا تزلزله الأحداث والأهوال والشدائد، ولا يدخله وهن منها.
ويبقى الكلام عن الإنسان من صناعة حضارة الطين في ضعفه وقوته.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، إنك غفور رحيم.
ربنا اعف عنا، وتب علينا إنك أنت التواب الكريم، ربنا هب لنا من لدنك رحمة تخرجنا من كل سوء، وتدخلنا في كل خير يا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان قبل كل شيء ثم خلق كل شيء، ويبقى ويفنى كل شيء، وليس مثله شيء، وهو فوق كل شيء، وليس في السماوات العلى، ولا في الأرضيين السفلى ولا فوقهن ولا تحتهن ولا بينهن إله يعبد غيره، ويطلب منه الخير، ويستدفع الضر. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله الذي لا تنفع عبداً رحمة من أحد إلا رحمته، ولا يضره سخط إلا سخطه، ولا ينقذه إلا عفوه، ولا يملك غيره أمره. وليحذر العبد يوم وعيد الله الذي قال عنه عز من قائل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 1/2 الحج.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وآمنا يوم الفزع الأكبر ويوم الزلزال العظيم، واجعلنا من أهل رحمتك وكرامتك في الدنيا والآخرة . اللهم صل على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وصل وسلم على علي أميرالمؤمنين وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة، وعلى الحسنين الزكيين الوليين وعلى الأئمة الأطهارعليٍ بن الحسين زين العابدين، ومحمدٍ بن علي الباقر، وجعفرٍ بن محمدٍ الصادق، وموسى بن جعفرٍ الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن عليٍ الجواد، وعلي بن محمدٍ الهادي، والحسن بن عليٍ العسكري ومحمد القائم المهدي.
اللهم عجل فرج وليك القائم المنتظر وحفه بملائكتك المقربين، وانصره النصر المبين، وأعز به المؤمنين، وأنقذ به المستضعفين يا علي يا عظيم، يا عزيز يا حكيم.
عبدك الموالي له الممهد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى، وفقهم لمراضيك وأيدهم بتأييدك، وسدد خطاهم وانصرهم على من ناوأهم يا قوي يا شديد، يا قدير يا عزيز.
أما بعد أيها الملأ الكريم فمع موضوع: وطنٌ بلا فقر:
ماذا نعني بالفقر؟
أن يبيت الرجل وعياله بلا مأكل؟ أن يعروا عن الملبس؟ أن يتشردوا بلا مأوى؟ هذه صورة قاتمة من الفقر ولكن ليست هي الفقر الذي يتحدث عنه الإسلام الذي ننتمي إليه، وليست هي صورة الفقر الوحيدة التي توقع الإنسان في الحرج، وتقلق حياته، وتذله وعياله. الفقر هو حالة معيشية دون حد الكفاية، ويدخل في الكفاية كل ما تفرضه الحياة الاجتماعية التي ينتمي الفرد إليها من حاجات، ويدخل في الكفاية الخادم والسيارة والمنزل وأكثر من سيارة وأكثر من منزل ما اقتضى حال الشخص ذلك، وأن يكون المنزل مناسباً وليس مطلق المنزل، ويتوسع إطار الكفاية بتوسع الحاجات المستجدة في الوسط الاجتماعي الذي ينتسب إليه الشخص، وبنمو الوضع الاقتصادي وما يرافقه من تقدم في مستوى المعيشة.
الإسلام والفقر:
1. النظرة الجذرية للفقر:
للإسلام نظرة جذرية للفقر نترتقب منه أن تتمشى تشريعاته معها خاصة أن الاسلام لا يفارق تشريعه نظرته، ولا يؤسس قاعدةً وينفصل عنها تشريعه.
“كاد الفقر أن يكون كفراً” عن الرسول (ص) وفي حديث آخر عنه “لولا رحمة ربي على فقراء أمتي كاد الفقر يكون كفرا” الفقر في نفسه يكاد يكون كفرا، وبالنسبة لأبناء هذه الأمة المرحومة لولا رحمة الله يكاد يكون كفرا.
“أربعة قواصم للظهر….- من هذه الأربع- فقير لا يجد صاحبه مداوياً “عن أمير المؤمنين(ع) .
والفقراء شركاء الأغنياء إذ أن نظرة الإسلام إلى المال هي أن المال مال الله، وإلى الخلق أنهم عيال الله، وإذا كان المال لله والعيال عيال الله، فلكل عيال الله وليس لطبقة خاصة من عياله. ونحن نفهم من كلمة أمير المؤمنين عليه السلام أنه ما حرم فقير إلا بما شح به غني أو استأثر به غني ٌّ أو بما تمتع به غنيٌ من مال حرام أو من مال محبوس عن مستحقيه. والاستئثار قد يكون في حبس للمال، وقد يكون في توزيع غير عادل للثروة في المستوى الطبيعي منها وما بعد مرحلة الإنتاج ، والموقف العملي للإسلام من مشكلة الفقر أن الثروة الطبيعة لا تحتكرها أيدي أفراد قليلين.
والإسلام يحارب الفساد المالي، حتى تذهب كلمة أمير المؤمنين عليه السلام إلى استرداد المال الذي منحه عثمان لغير أهله ولو تزوّج به النساء وهناك مبدأ ( من أين لك هذا؟) في مواجهة الفساد المالي.
وفي الإسلام ضمان اجتماعيٌ في هيئة زكاة وخمس وما إلى ذلك.
وفيه تكافل اجتماعي، وفيه سياسة تفتيت الثروة التي قد تعظم وتكبر في أيدي الأفراد، وقطع الطريق على تعملقها بيد أي شخص من الأشخاص.
الفقر شاهد صدق:
شاهد صدق على أي نظام, وأي حكومة,وأي مجتمع؛ وأنه هناك حالة من الخلل الخطير.. إذا وجد فقر كان ذلك شهادة على حالة من الخلل الخطير الذي لا يمكن أن يستره الإعلام الممالئ المحابي,إلا أن تكون هناك حالات طارئة كحرب طويلة المدى أو كارثة طبيعة قاسية قاصمة.
ولنا أن نقسم ظاهرة الفقر من أكثر من حيثية بالصورة التالية، وهذا على وجه المثال لا الحصر :
1- ظاهرة مقيمة،وظاهرة عابرة.
2- ظاهرة في طريق الانحسار، وظاهرة تزداد تركزاً وانتشاراً.
3- ظاهرة تفرضها ظروف خارج الاختيار، وظاهرة نابعة من سوء الاختيار كسوء توزيع الثروة، وسوء الإدارة، والتبذير للمال العام في جانب، وحبسه في جانب آخر أهم.
4- ظاهرة يُخطَّط لتثبيتها وتوسيعها، أو تُواجَه بالإهمال والتقصير،وإذا كانت حتى ظاهرة الفقر الاضطراري والتي تفرضها ظروف قاهرة تنذر بحالة الانفجار والفوضى فهي إذا كانت اختيارية كانت أشد فيما تنذر به، مما يحتِم على الجميع أن يتلافى أخطارها وذيولها المدمرة وانفجاراتها الخطيرة الكاسحة.
الفقر عندنا :
الفقر عندنا ظاهرته من أي نوع ؟ مقيمة أم عابرة؟ منحسرة أم متركزة؟ اختيارية أم اضطرارية؟.
هذه معلومات يطرحها “مركز البحرين لحقوق الإنسان” اعتماداً على مصادر فيما يقول رسمية وغير رسمية تقول :
1- في عام 1975م كانت هناك 1984 أسرة تأخذ مساعدة وزارة العمل. وفي عام 2003 ارتفع العدد إلى 10768 أسرة .
وهناك 17560 أسرة تحصل على المساعدة من الصناديق الخيرية. فينتج هذا كله أن حوالي عشرين ألف أسرة في 2003م واقعة في الحاجة.. من مجتمع صغير. فالظاهرة فاحشة واسعة على كل تقدير وهي مقيمة، وتمثل خطراً كبيراً وتحدياً سافراً.
2- المتعطلون عن العمل في سنة 2003 بين 16,000 – 20,000 حسب دراسة ماكنزي. ومنظمة العمل العربية اعتبرت البحرين الأسوأ عربياً في مستوى البطالة عند الشباب والنسبة هي 65% وهذا على عهدة الناقل!.
– 24% من البحرينين أجورهم أقل أو تساوي 150 ديناراً .
– 34 ألف مواطن بحريني أجور واحدهم أقل من 200 دينار.
– وفي القطاع الخاص يوجد من يتقاضى اثني عشر ألف دينار شهرياً، وفي القطاع العام – أقول- لو نظرنا إلى بعض الرواتب في درجاتها العليا مضافاً إليه ما من هنا وهناك من عطايا ومنح وامتيازات واختلاسات فالمبلغ لا يقل عن ذلك.
ودخل كبار التجار يتجاوز مثل هذا الرقم بلا ريب.
وهذا الكلام يؤكد وجود طبقية فاحشة.
– العمالة الأجنبية تصل إلى 187 ألف بنسبة 60% من المجموع، ومنهم 45 ألف من المسيبين لمتنفذين ومسئولين.
– 90% من أراضي الدولة ملك خاص وتوزيع الأرض فيما أدعيه وفي ما كان على الأقل ترفضه مقاييس العدالة.
– معدل ما يملكه الفرد من أثرياء البلد وهم 5200 شخص 4.2ملايين دولار وهو ما يفوق المعدل العالمي الذي هو 3.8 ملايين دولار.
ومن المؤسف أن نقول: صدقاً في ضوء مجموعة المعطيات السابقة وغيرها أن ظاهرة الفقر في وطننا العزيز مقيمة لا عابرة، وهي في طريق الإزدياد لا الانحسار ما لم تتدارك الأمور، وهي اختيارية لا اضطرارية ، لأن الاضطرارية ناتجة عن كوارث طبيعية وحروب طويلة مثلاً، وأنه لحد الآن لا تخطيط لاستئصالها، وأنه قد مر زمن وهي تواجه بدرجة من التقصير والإهمال على أقل تقدير، في قبال أن يكون هناك تخطيط من البعض لهذه الظاهرة.
وبغض النظر عن كل المعلومات المتقدمة فإن ظاهرة الفقر محل توافق رسمي وعلى كل المستويات وشعبي كذلك وهي تمثل واقعاً صارخاً لا يحتاج إلى مزيد من الشهادات والتوثيق.
هل الحكومة مسؤلة ؟
تضع الحكومة يدها على الثروة في مصادرها الأولى ، وتدير عملية التصرف فيها وتشغيلها وتوزيعها فتملك بذلك القلب النابض لحركة الاقتصاد ومساراته، وهي تتحكم في الناتج بعد العمل وفي حركة وتحديد الأجور وحجم العمالة المحلية والأجنبية وتطوير الخبرات وسد حاجات سوق العمل بالكفاءات الوطنية. وليس بعد ذلك أي وجه لعدم تحميلها مسئولية أي فشل أو خلل أو ظلم يتسبب في مشكلة الفقر.
وطن بلا فقر..
هل هذا ممكن ؟ أهو خيال أو واقع يحول دون تحقيقة عدم الجدية الكافية على أقل التقدير؟
– توزيع الثروة قبل عنصر العمل وبعد عنصر العمل باليد.
– معادلة القوى الوطنية والأجنبية باليد .
– تحديد أجور عادلة باليد.
– رفع الكفاءة ومستوى الخبرات باليد.
– اصدار تشريعات عادلة تغطي كل المساحة الاقتصادية باليد.
– معالجة الفساد الإداري باليد.
– الحد من الطبقية الفاحشة باليد.
– الوقوف في وجه السرقات والتلاعب بالمال العام باليد.
– الضمان الإجتماعي المجزي للعاطلين لضيق سوق العمل بالعمالة الأجنبية ولغير القادرين على العمل باليد.
– مخارج عديدة للتخلص من مشكلة الفقر الضاغطة ميسورة لمن يملك القرار والخبراء والمال إذا توفرت الإرادة الجدية للحل.
وكأن التصريحات تطل علينا بعزم جديد وبروح جادة نرجو أن تتجسد على أرض الواقع لننهي هذه القضية المخزية .
وعليه فإن قضية ” وطن بلا فقر” يكون هذا الوطن العزيز مصداقاً لها ليست فوق أن تنال والشرط هو العدل والجد في الأمر والصدق الكامل في خدمة الشعب وسماع صوت المحرومين، وجودة التخطيط وتطوير الكفاءات، وتقديم المواطن على غيره، وتحمل مسؤلية المتعطل المعذور، وحفظ أمانة المال العام، وإحكام الرقابة، وحسن الإدارة، ودقة المحاسبة، وإسترجاع الأموال المسرَّبة، والعقوبة الرادعة إلى ما هنالك من خطوات أخرى جادة.
وهذا الكلام مشاركة في مواجهة طويلة المدى للمشكلة السيئة، ودفع كل القوى الخيرة على طريق التخلص من المأزق الخانق الذي يتهدد حاضر الوطن ومستقبله، وإستنهاض الحكومة لأن تقوم بواجبها.
ونحن نحتاج إلى وعي شامل لمشاكلنا وتركيز لهذا الوعي وجهر بالكلمة التي يفرضها حتى تكون المشكلة مطروحة على ألسن الكثير، فلا تجد أرضية للبقاء والترعرع في الظلام، والكلام لا يقال دائماً للإثارة والإستفزاز واستحداث الفواصل أو توسيعها. فإنما نريد حل مشاكلنا الوطنية لا تأزيمها والتخلص منها رحمة بالوطن لا تعميقها، وليست المسألة مسألة صراع بين شعب وحكومة، وتحشيد على هذا الطرف لصالح ذلك الطرف.
وبشأن موضوع آخر: أنبه أن ما قد ينسب إليَّ من تحريم الإنشقاق على جمعية الوفاق قول لا أصل له، أما رأيي الموضوعي في المسألة فإني لا أجد من نفسي مانعاً من بيانه على مسمع الجميع، إذا اقتضى الأمر ذلك. هذا الإنشقاق صالح أو غير صالح، نافع أو غير نافع، هذا أمر آخر، أما ما نسب من تحريم ذلك لا أصل له.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا، وكل مؤمن ومؤمنة كان له إحسان خاص لنا.
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم ارحمنا برحمة تعالج كل ضعف فينا، وكل سوء في الدنيا والآخرة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }