خطبة الجمعة (162) 20 جمادى الأولى 1425هـ – 9 يوليو 2004م

مواضيع الخطبة:


حضارة الإسلام (14) + الزواج لماذا؟ +  صدَّام وأكثر من درس

الذين يكبرون تاريخ صدّام فإنما يكبرون الجريمة والقتل بغير ذنب، والولوغ في دم الأبرياء، والعبث بأغراض المسلمين، والسياسة الرعناء، وتمزيق صفوف الأمة، والمخالفة الصريحة لدين الله، والأخذ بالفكر العفلقي بدلاً من كتاب الله.

الخطبة الأولى

الحمد لله الخالق الذي كل موجود من خلقه، وليّ كلِّ ولي، وربّ كل مربوب، ومعبود كل معبود، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دالٌّ على صراطه، هاد بهداه، مبشّرٌ بجنته، منذر ومحذّر من ناره صلى الله عليه وآله.
عباد الله علينا بتقوى الله الذي إليه مرجِع العباد، وعنده القضاء الحق، والعدل الصدق، والثواب العظيم، والعقاب الأليم.
وتقوى الله عزّ وجل لا تكون إلا بالأخذ بالحق، والرجوع إليه، والنزول عند حكمه، ونبذ الباطل، والترفّع عليه، وعدم التدرُّع به.
والتقوى بعيدة عمّن استخفّ بحقوق العباد، وهان عليه انتشار الفساد، وأسكته حبُّ الدنيا ومصالحها عن أمرٍ بحق، ونهي عن باطل.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ما سلف منا من ذنب، واعصمنا في ما بقي لنا من عمر، وأعذنا من أن نستخف بحق، أو أن تقيم وزناً لباطل يا رحيم يا كريم.
أما بعد فإلى متابعة الحديث عن موضوع:
حضارتان: حضارة الطين، وحضارة الإنسان.
الإنسان موقعاً:-
‌أ- في التصوير القرآني: للإنسان موقع في التصوير القرآني، وللإنسان موقع في التصوير المادي الأرضي، فمع التصوير القرآني لموقع الإنسان:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خليفة….}(1) إذا كانت الآية الكريمة تعني في مضمونها جعل الإنسان خليفة في الأرض يعمل بمدد الله وبأمره وفي ضوء المنهج الذي هو من عنده سبحانه وتعالى إعمارا وإصلاحا وتطويراً لذاته، وللأرض، يكتشف، ويخترع، يصوغ ذاته على خط فطرتها، ويصوغ أوضاع الأرض على ضوء منهج الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا تكون الآية قد رفعت من شأن الإنسان ما لم ترفع شأن غيره.
وهذا يعني الاستعدادات الهائلة عند هذا الإنسان بما يؤهله لهذا الدور الخلافي الكبير؛ هذا الدور المتصرف في الأشياء، المتحمل مسؤولية تطويرها ووضعها على خطها العابد لله سبحانه وتعالى عبادة ترجع إلى عبادة الإنسان لبارئه. والإنسان بتحميله أمانة الإبداع، والتطوير، والارتقاء بالأوضاع الأرضية، وبالأوضاع الإنسانية، وتفعيل قدراته، وإمكاناته بما يعطيه موقعا متقدماً جداً يكون قد حِمّل مسؤولية تجعله في مقدمة مخلوقات كثيرة، ومفضّلا على كثير ممن خلق الله عز وجل تفضيلا.
هذا الخليفة عبد لله، يعمل بمدد الله، ويأتمر بأمر الله، وينتهي بنهي الله، وهو بدوره الخلافي لم يتجاوز موقع العبودية، ولكنه بهذا الموقع متقدم جدا من بين مخلوقات الله سبحانه وتعالى. لم يُحمّل مخلوق من المخلوقات هذا الدور معتمداً في عنصر من عناصره على ارادته. إسناد هذا الدور للإنسان، وجعل إرادته عنصراً من عناصر فاعلية هذا الدور، ووصول هذا الدور إلى أهدافه يعني إعطاءا لهذا المخلوق تشبّهاً بالله عزّ وجل في صفة الفاعلية الإرادية، وهذا التشبّه لم يرتفع إلى مستواه المتوفر في طبيعة الإنسان حتى الملك.
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}(2) أخذ إبليس على نفسه أن يلجم بني آدم، أن يقودهم إلى خطّ آخر غير الخط العابد لله سبحانه، إلى خط الانحراف منحدرا بهم عن صراط الاستقامة، حنقا وحسدا وحقدا لتكريم آدم المخلوق من طين عليه، وهو المخلوق من نار.والجن هو أقرب ما يمكن أن يقومه الإنسان أو يضارعه بين الأنواع بعد الملائكة، فتكويم الإنسان عليه تكريم له على سائر تلك الأنواع.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
الآية الكريمة تثبت تفضيل الإنسان على كثير ممن خلق الله عز وجل تفضيلا، وهناك نقاش في تفضيل الإنسان على الملائكة وعدم تفضيله عليهم بحسب استعداداته وقابلياته.
وتفضيل الإنسان على الملائكة في النتيجه إنما يكون لو استقام على الدرب، وكان العابد لله عز وجل، وتمشّت إرادته في ضوء إرادة الله شعوراً وسلوكاً، ولا يقول أحد على الإطلاق بأن الفاسق فضلا عن الكافر من الناس أفضل من الملك فإن مقر هذا الفاسق ما لم يرحم الله هو النار، والملك حظّه الجنة.
فإذا كان تفضيل لنوع الإنسان على الملك نتيجة فيتم ذلك عبر النموذج الإنساني الرفيع من مستوى الرسل والأنبياء والأولياء العظام.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً…}(3)
تسخير ما في السماوات والأرض للإنسان يعني موقعا متقدما أُعطي لهذا الإنسان من قبل الله سبحانه وتعالى. نحن مسخرون بدرجة ما للحشرات والديدان، فإن الحشرات والديدان تأكل على موائد الإنسان وجهوده، وهناك نبات يقوم بجهود الإنسان، وحيوان يُرعى برعاية الإنسان، لكن أن يُسخّر ما في السماوات وما في الأرض للإنسان فهذا ما انفرد به من فضل الله سبحانه وتعالى.
{اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(4)
وليكن من هذا التفكر أن يعرف الإنسان موقعه وقيمته عند الله سبحانه وتعالى لو استقام، وأن يعرف ما عليه من شكر الله سبحانه وتعالى، وما يتحمّلُهُ هذا المخلوق من مسؤولية ضخمة، وقد سُخّر له ما في السماوات والأرض من خلق الله.
من يتحمل أمانة مدرسة صغيرة غير من يتحمل أمانة إقليم، ومن يتحمل أمانة إقليم غير من يتحمل أمانة الأرض، قد حُمّلت أيها الإنسان أمانة ما في السماوات والأرض حيث سُخّر لك كل ذلك.
وهناك موقع كبير للإنسان على مستوى الاستعداد، وقد يخسره بالانحراف عن خط الله.وهناك موقع كبير فعلي يمكن أن يتمتع به حقّاً وليس له إلا مقياس واحد يجده في الآية الكريمة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }(5)
فمن لا تقوى له يخسر كل الكرامة الفطرية، ومن كان أكثر تقدّما في التقوى كان الأكرم، فالإنسان وهو مؤهل إلى أن يكون المخلوق الكريم فعلا عند الله يمكن أن يخسر كل أسباب الكرامة، ويخسر كل استعداداته وقابلياته لتنبوء هذا الموقع بل ينقلب في شأنه إلى أن يكون وقودا من وقود النار.
‌ب- في النظرة الماديّة:
1) الإنسان في أحد تصويريه في النظرة المادية سيد مطلق: حرٌّ في تصرفه، لا يعبد أحدا، ولا يخضع لأمر أو نهي. يتصرف في أشياء الكون بلا ضابطة، حكمه فوق كل حكم، رأيه فوق كل رأي، سيادته فوق كل سيادة.
لكن نقول هذا السيد المطلق في التصوير المادي ولادته من غير إذنه، موته من غير إذنه، تقدير حجمه، تقدير عقله، تقدير نفسيته، صورته، مستوى استعداداته ليس بإذنه. يأتي قويّاً ويأتي ضعيفاً، يأتي ذكيا ويأتي غبيّاً، يأتي على أحجام، ويأتي على أوزان من حيث العقل، من حيث النفسية، من حيث كل الصفات، وليس هو في شيء من ذلك قد استُأذن، أو كان له دخل وقرار في تقرير مصيره.
المكروب يصرعه، البراكين تنسفه وتحرقه، الزلازل تطمره، الريح تهلكه، المطر يغرقه، الرمال تدفنه، الهموم تقتله، اليأس يستولي عليه، لا يملك قوانين تفكيره، ولا يملك شيئا من قوانين حياته، إذا طوّر إنما يطوّر على أساس من قوانين وضعها الله سبحانه وتعالى ومكّنه من معرفتها، ومن الاستفادة منها.
نعم، إنه لا يملك أسباب حياته، محكوم في خلقه، وموته، ومرضه، وصحته، وفي كل القوانين التي تعتمد عليها حياته، إذاً كيف يكون هو السيد المطلق؟! إذا كان هذا وزنه من ناحية تكوينية فكيف يكون هو السيد المطلق من ناحية تشريعية؟ وكيف يحكم أن لا قوة فوق قوته، وأن لا ملك فوق ملكه، وأن لا سيادة فوق سيادته، وهو المحكوم في كل شأن من شأنه؟!
هذه النظرة واهمة كاذبة مستخفة للإنسان، توقفه في الغرور، وتدمّر حياته بهذا الغرور. نظرة مهلكة، غير علمية، وغير موضوعية، نظرة خيالية، نظرة فرضً بلا واقع.
2) في التصوير الثاني هذا الإنسان عليه أن يعبد الشجر والحجر، والشمس والقمر، والصنم والبقر. نظرة مذلة مهينة ساحقة مخزية دونية. ذاك هو التصور القرآني لموقع الإنسان، وهذا هو التصوير المادي بشقيه للإنسان وكلا التصويرين الماديين للإنسان تصوير يسحقه ويهلكه ويدمّره.
النظرة الأولى التي تعطي للإنسان السيادة المطلقة تتركز في نفوس الأصحاء الأقوياء، أمّا المريض المنهك الضعيف لا يسعه أن يشعر بهذا الشعور. هذا الشعور إنَّما يمكن أن يستغفل إنسانا في لحظة الفتوة والقوة والحيوية والنشاط والغنى، أما إذا جاءه المرض أذلّه، وإذا جاءه الفقر أذله، وإذا جاءه الخوف أذلّه، وعلّمه أنه عبد، وأنه صغير، وأن لا يملك من أمر نفسه شيئا، وإذا جاءه الهم أدّبه.
في حالات القوة المادية المنتفشة يمكن أن تترعرع هذه النظرة الوهمية، وحيث تترعرع هذه النظرة عند نفر من الناس يسحقون الخلق، ويستعبدونهم ويحولونهم إلى أدوات رخيصة للاستغلال، على أن هؤلاء المستكبرين الطغاة الذين يتربى طغيانهم واستكبارهم في ظل هذه النظرة المادية يخرجون عن خط الإنسانية، ويلقون مصير الشقاء الدائم. وهم يستثيرون الناس من بعد ذلك على أنفسهم ليجدوا حياتهم مطوّقة بالخوف بحيث تنفذ كل احتياطاتهم الأمنية ولا توفّر لهم الأمن.
أما الشعور الثاني فهو ساحق – كما تقدم – ماحق، يهيئ الإنسان إلى أن يُستعبد ويُسترخص ويُستهان به. والحمد لله أن هدانا للإيمان.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا، وجيراننا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم ما عرّفتنا من الحق فحمّلناه، وأقدرنا على الوفاء بأمانته، وسهل علينا مؤنته، وما قصرنا عنه فبلّغناه، وارزقنا هدايته، ويسر لنا طرق الوصول إليه، وارفع حجبنا عن بصيرته، يا هادي من استهداه، وناصر من استنصره، وغوث من استغاثه، يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

الخطبة الثانية

الحمد لله المحمود في كل آن، وقبل وبعد الزمان والمكان، المعظَّم في كل جَنان، المشكور على ما يكون وما كان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المغلوبة لهواها بتقوى الله، والإقبال على ما فيه رضاه، والإقلاع عمَّا فيه غضبه؛ فإنه لو انكشف الغطاء، وانجلى عن البصيرة عماها ما ادّخرت نفس شيئاً تجده توصُّلاً لرضوان الله، وتخلُّصاً من سخطه.
وما تهاونُ النفوس في الدنيا بهذا الأمر(6) إلا لدرجة أو أخرى من العمى والرَّين والضلال الذي يبدأ من المعصية، ويشتدُّ كلما كثرت وعظمت وتراكمت آثارها الظَّلامية مع الأيام.
اللهم إنَّا نعوذ بك من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وقبائح دواخلنا، وأن ننسى ذكرك، ونزهد في طاعتِك، وتهونَ علينا معصيتُك، ونستحقَّ الطرد من رحمتك.
اللهم صل وسلم، وزد وبارك على محمد بن عبد الله رسول الله وآله، وجميع أنبيائك ورسلك وملائكتك، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من مكر الظالمين.
اللهم صل وسلم على المصطفى محمد الهادي الأمين، ورحمتك للعالمين، وعلى عليّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة بنت رسولك الهادية المهدية، وعلى الحسنين الزكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين.
وعلى بقية الأئمة الأبرار الصالحين الأخيار علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر الهداة الأطهار.
اللهم عجل ولي الأمر المنتظر، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وأيده تأييدا كبيرا.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين من المؤمنين والمؤمنات، وسائر المؤمنين والمؤمنات وفّقهم لمراضيك، وبلغهم ما ترضاه من غايات وأهداف برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فهذه بعض وقفات:-
أولاً: الزواج لماذا؟
أيها الشاب والشابة المسلمان اسألا النفس لماذا الزواج. ولأضع بين يديكما هذه الإجابة المقتضبة.
أغراض الزواج:
1. غرٌض جسدي قريب:
هذا الغرض تدفع إليه الغريزة. ويشارك فيه الإنسان الحيوان. ولا يدخله تخطيط العقل وهندسته، وتأملاته.
2. الغرض النفسي الاجتماعي الجنسي(7)، ولا خيار للإنسان في إيجاده والتعلق به.
3. حبّ الامتداد والكثرة وهو غريزي، والتوجه إليه متأخر عن الغرضين السابقين. فإنما يفكر أحدنا في الولد بعد أن ينال من الغرض الأول والغرض الثاني، وأول ما تتجه النفس إليه هما الغرضان الأولان، ولا يأتي انشداد النفس إلى الولد فيما يغلب في الظاهر إلا في طول الغرضين السابقين.

4. التحصُّن الحلال من الوقوع في المحرَّم، والتخلص من ضغط الشهوة الذي قد يجر إلى الانحراف، طلبا للاستقامة، والتفرغ إلى الدور الخلافي النافع، وهذا الغرض عقلي ديني؛ منشؤه العقل والدين، وليس منطلقه من منشأ الغريزة والدوافع الفطرية الماديَّة.
التفكير في التحصّن، استغناء بالحلال عن الحرام، وتخلصاً من ضغط الشهوة من أجل التفرغ إلى دور إيجابي كبير على طريق خلافة الله سبحانه وتعالى إنما يشير إليه العقل، وينصح به الدين؛ فمن لم يكن على عقل، ومن لم يكن على دين لم يخطر هذا الغرض في نفسه، وقد يغفل المتدين العاقل عن هذا الغرض وينشغل بالأغراض الغريزية التي لا دور للعقل في تحديدها.
5. إيجاد النموذج الرسالي الرائع على مستوى الأسرة لخلق المجتمع الإيماني القوي الكريم. هذا غرض رسالي، غرض من يكون له حس رسالي، وحس بالمسؤولية الاجتماعية، وحس بأهمية حاضر الأمة ومستقبلها، وحس الإنسان الذي يخطط للحاضر، ويخطط للمستقبل، ويشعر أن عليه مسؤولية تصحيح المجتمع والرقي به.
وهذا الغرض يحتاج إلى مستوى نابه من مستويات العقل والحس الاجتماعي والإيمان.
6. إعداد جيل رسالي عابد وخليفة صالح. في الغرض السابق يحاول الرجل وتحاول المرأة أن توجد نموذجا أسريا كريما قدوة في المجتمع، وأن تتكثر هذه النماذج من أجل تصحيح وضعية المجتمع ومستقبله. وفي السادس يلتفت إلى الجيل المولود، ويشتهي هذا الأب والأم أن يتحملا مسؤولية إعداد جيل رسالي لمستقبل الأمة، وأن يزرعا ويسقيا وينبتا حتى يظهر الثمر الجني وهو جيل له عقلية واعية، له إيمان كبير، له إرادة صحيحة، له فاعلية إيجابية حيّة من أجل النهوض بالمسؤولية الدينية، ومن أجل التقدم بمستوى الأمة المؤمنة.
والآية الكريمة تقول {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.
وأصحاب هذا الدعاء هم أناس يتطلعون إلى جيل مستقبلي مؤمن قادر كفوء، متحمل للأمانة الإلهية الثقيلة، ويعرفون أن عليهم دوراً كبيراً في صياغة هذا الجيل بعد أن يأتي بمواهب كريمة من الله سبحانه وتعالى تساعدهم على إعداده الإعداد اللائق.
الأهداف الثلاثة الأخيرة تقوم على الوعي والرشد والرؤية الكونية الصحيحة، والرسالية الحيَّة. والزواج من منطلقها زواج ناضج راق ومسؤول، والزواج من المنطلقات الثلاثة الأولى زواج بدائي بسيط، لا يتجاوز حد السذاجة. ويمكن أن يكون الزواج ابتداء بدافع الجنس الخالص إلا أنه يأخذ في الرقي بعد ذلك ويمكن أن يبقى عنده مستواه الأول.
وما نريده لشبابنا وشاباتنا هو وعي الأهداف الإنسانية والرسالية للزواج في وقت مبكر حتى تنبني الأسرة في تركيبها الثنائي من صناعة هذه الأهداف، ويكون احتضان الأولاد وتربيتهم في ضوء إيحاءاتها من الأول.
ثانياً: صدَّام وأكثر من درس:-
أكثر من درس يقدّمه الوضع الحادث المعروف لصدام:
1) درس في التوحيد: مشهد صدّام وما آل إليه… حركاته سكناته، تقييده بالسلاسل، التصرف فيه من شرطيين ما كانا يجرآن أن يمدّا ببصرهما إليه…. صدّام الذي يخاف الولد أن يذكره بسوء أمام والده، ويخاف الوالد أن يذكره بسوء أمام ولده وهو على هذا الوضع يقول بلسان بالغ القوة في التعبير لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا معبود بالحق إلا الله. وأنَّ كل الألوهيات زائفة، ولا ألوهية بالحق إلا لله سبحانه وتعالى، ويقيم على الناس الحجة بأن لا يعبدوا إلا الله، ولا تتعلق آمالهم إلا بالله. وهاهم الذين كانت تعتمد آمالهم على صدّام يشهدون ذله وسقوطه، وكم من ربّ موهوم يموت، ويبقى أتباعه لا تحتضنهم إلا ربوبية الله كما كانت.
2) درس في الدنيا: تقول الدنيا لي ولكم بواسطة مشهد صدام أنها تبيع أهلها رخاصاً، أنها تغر، وتمر، وتضر. ولا ربح إلا لأهل الآخرة. يمكن أن تكون غنيا، يمكن أن تكون قويا، يمكن أن تكون صاحب موقع، ولتكن أكثر من صدام، ولكن دنياك تغرّ وتمرّ وتضرّ، وهاقد ذهبت كل لذات صدام وبقيت تبعاته.
3) درس في الكبرياء الكاذبة، والدعاوى العريضة الواهمة؛ سأسحق، سأمحق.. سأزلزل.. هذا ما يقوله الطغاة الكبار، والطغاة الصغار، ويقوله ابن العم لابن عمّه، ويقوله القريب لقريبه، والجار لجاره، ويقوله من تمتّع بقوة عضلية بدرجة أكبر من صاحبه. ولكن ما أنت أيها الإنسان؟ ماذا تملك من الأمر؟ هكذا يقول لنا مشهد صدّام.
4) هذا المصير كان شبحاً مخيفاً دائماً للرجل بظلمه وبغيه وبطشه يجعله يمعن في الاحتياط بالقتل والتنكيل حتى للمقرّبين منه ولكن قدر الله جار. ومن المقدور لا ينجي الحذر، ولا عاصم اليوم من أمر الله، ولكل أجل كتاب. وهاجس هذا المصير وراء كثير من بطش الطغاة وعبثهم بأرواح الناس.
5) درس في السياسة للحاكمين في الاعتماد على الأجنبي كما اعتمد صدّام. والدرس أن الأجنبي صاحب مصلحة، والأجنبي سيد مستكبر، غاشم، مادي، يرمي بعبيده في المزبلة حين يستغني عنهم.
وأخيراً الموت لا مفر منه لبر ولا فاجر، والنصر والهزيمة الماديان يأتيان ويذهبان، ولكن العبرة بحسنِ أو سوء المنقلب، فلنطلب حسن المنقلب.
وأما الذين يكبرون تاريخ صدّام فإنما يكبرون الجريمة والقتل بغير ذنب، والولوغ في دم الأبرياء، والعبث بأعراض المسلمين، والسياسة الرعناء، وتمزيق صفوف الأمة، والمخالفة الصريحة لدين الله، والأخذ بالفكر العفلقي بدلاً من كتاب الله.
والعطاء المالي للاستعانة به على الظلم(8) وتسخير الأقلام، وشراء الذمم، وحتى لبناء المساجد، ومواجهة إسرائيل بالقدر المدروس للالتفاف على الأمة وتخدير مشاعرها، وإبقاء الحكم الظالم لا يعني إنسانية ولا كرامة ولا ديناً، وإلا فإن أمريكا قد أعطت الإسلاميين من الأفغان في محاربة الاتحاد السوفيتي ما أعطت، وقد أغدقت عليهم المال والسلاح ليحاربوا الشيوعية لكن من أي منطلق؟ من منطلق أن يحل مستكبر محل المستكبر الآخر.
والأمثلة للبذل الديني الكاذب كثيرة لا تُحصى في الأرض شرقها وغربها على أيدي حكام وتجار مغرضين، وحتى على أيدي أناس عاديين يبحثون عن المواقع.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.
اللهم أعذنا من هوان الدنيا والآخرة، ومن خزي الدنيا والآخرة، وارزقنا كرامة الدَّراين، والنجح في الممر العابر، والمقر المقيم يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 30/ البقرة.
2 – 62/ الإسراء.
3 – 20/ لقمان.
4 – 12/ الجاثية.
5 – 13/ الحجر.
6 – بأمر طلب رضوان الله، والفرار من سخطه.
7 – كل جنس من الجنسين منشد اجتماعياً إلى الجنس الآخر، وهناك جوعة نفسية قد تنضاف إلى الجوعة الجسدية تتعلق بالاجتماع بالجنس الآخر، وهذا هو المعني بالغرض النفسي الاجتماعي الجنسي.
8 – عدد من الناس أغراهم عطاء صدام، واستهواهم واستعبدهم وربما دخلهم منه بواسطته أن صدام المخلص، وأن صدام البطل، وأن صدام رجل الأمة.

زر الذهاب إلى الأعلى