خطبة الجمعة (149) 19 صفر 1425هـ – 9 أبريل 2004م
مواضيع الخطبة:
“حضارة الذكر وحضارة النسيان” (2) – صار شرفاً –الأمن الخارجي والداخلي – العراق المقهور
إن صوت المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف قد انطلق من حساب كل ملابسات الساحة العراقية وجاء ليدين العبث الأمريكي ويطالب بالتهدئة من كل الأطراف، وما أدق هذه الموازنة وهذه المعادلة، والتهدئة مشروطة بأن تكف أمريكا عن عبثها.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أحسن كلَّ شيء خَلَقه، وأحكم تدبير كلِّ من خلقَ وما خلقَ، وتكفَّل بإمداد من برأ وما برأ وفَلَق، وأتقن تقدير معايش العباد ورزق.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله وابتغاء مرضاته التي في نيلها غنى عن طلب مرضاة الآخرين، وليس في مرضاة أحد بما لا يرضيه غنىً عنها. وليس لأحد طريق لكمال أو فوز غيرُ الطريق القاصدِ إليها. فلا تيمموا بوجوهكم لغير الله، ولا تتخذوا رضا أحد غايةً لا تنتهي إلى رضاه.
أيها المؤمنون والمؤمنات لا تُنسِنا الدنيا الآخرة، فالثانية للبقاء، والأولى عابرة، والآجال فيها مباغِتة مفاجئة. فكم من مخمور سرَّه أول ليله، واشتد عويله في آخره؟! وكم مِن مغرورٍ بقوته في صباحه فُجع به أحبتُه في مسائه؟! وكم مِن مَنْ أنساه أُنس لهوه آخرتَه كان الصباحَ جنازةً في طريق حفرته؟! وكم مِنْ مشغول برياشِ قصره، وأنس أهله فوجد نفسه بعد ساعةٍ في وحشة قبره؟! وكم من ضاحك مَغْرِباً، كان المندوب فجراً؟! وكم مِن متوعّدٍ غروراً باغته الأجل لحظته فآل مقبوراً؟!
ها هي الدنيا، والعاقل من عرفها، والعارف بها قليل، وإن أكثر النَّاس لا يعلمون.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارزقنا المعرفة وانفعنا بها، وأعذنا من أن ننسى الآخرة للدنيا، وأن نبيع ما هو خير بالذي هو أدنى يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فمع متابعة لموضوع:
حضارة الإسلام (1)
“حضارة الذكر وحضارة النسيان”
تقدم الكلام في تنويع الحقائق مما يمسّ حياة الإنسان ويؤثر عليها وأنها تتفاوت عظماً وصغراً، بُعداً وقرباً، دواماً وانقطاعاً، حضوراً وغياباً. ولابد من التنبيه إلى أنه لا تساوق بين كون الحقيقة حقيقة غيبية، وبين غيابها فاعلية، وكونها بعيدة على هذا المستوى فالله سبحانه أبعد الحقائق كنها ولا تدرك ذاته العقول على الإطلاق، وهو أنأى غيبٍ من تناول الأفكار والأوهام والأخيلة، إلَّا أنه أقرب إلى المرء من حبل الوريد، وهو يحول بين المرء وقلبه. ولا تأثير لشيء إلا بإذنه، ولا فعالية من غير فاعليته فهو أكثر الأشياء حضوراً وأصدقها فاعلية وتأثيرا، وناصية كل شيء بيده.
والآن مع بعض محاور الموضوع:-
حقائق في المقدمة:-
1. إذا كانت الحقائق تتفاوت وزناً وتأثيراً وفي عدد من الحيثيات الأخرى فهناك حقائق لابد أن تقع في مقدمة اهتمام الإنسان وعنايته وتذكّره، فبعد تفاوت الحقائق وزنا وتأثيرا وقربا وحضورا، لابد أن يأتي بعضها قبل بعض اهتماما وعناية وتذكرا وتركيزا.
2. وما هو ميزان تقدم حقيقة على غيرها من الحقائق في اهتمام الإنسان، في عنايته، في تذكره، في تعامله؟
الحقيقة التي يأتي تأثيرها غير مشروط على الإطلاق، ولا يقع في طريق تأثيرها أي شيء، وجدت الأشياء، أو انتفت الأشياء، وافقت الأشياء أولم توافق على هذا التأثير فهو قائم. تلك الحقيقة التي لها تأثير عليك تأثيرا مباشرا غير مشروط بوجود شيء، غير مشروط بموافقة شيء هي أولى الحقائق حضورا في قلبك، في وعيك، في سلوكك، في اهتمامك.
وكلما قربت الحقيقة وقلت الوسائط بينها وبين التأثير كلما لزم أن تنال منك اهتماما أكبر وعناية أكثر.
ودوام التأثير يختلف عن التأثير المنقطع، حقيقة تمتلك تأثيرا منقطعا عمره لحظة وينتهي، غير حقيقة يدوم تأثيرها في حياتك، في حاضرك، وفي مصيرك.
وإذا كانت الحقيقة لها انقطاع في التأثير عليك ولكن مدة تأثيرها تطول وتطول، تبقى كثيرا، تمتد امتدادا بعيدا، كالآخرة التي تأثيرها منقطع الأول ولكنه دائم الآخر؛ فهي حقيقة حسابها كبير والاهتمام بها بالغ.
الآخرة لا تبدأ الآن، تمر عليك ستون سنة، تمر عليك مئة سنة، وكنت عدما قبل هذه الحياة لكن الآخرة لما تبدأ لن تنقطع، فالآخرة بالقياس إلى الدنيا حقيقةٌ لابد أن تنال اهتمامك بدرجة أكبر، وأن تنال عنايتك بدرجة أكثر
أما الله تبارك وتعالى فهو الحقيقة الدائمة، الحقيقة الأبدية الأزلية، والله عز وجل هو الحقيقة التي لها تأثير على الكون كله بلا شرط وعلى الإطلاق، فلا اهتمام ولا تذكر ولا عناية أكثر من الاهتمام والعناية والتذكر لله سبحانه وتعالى، ولا رعاية لأي حقيقة من الحقائق في التعامل كما هي الرعاية لحق الله سبحانه وتعالى، والحساب لتأثير الله.
3. حقائق متميزة:-
نذكر هنا طبقا للميزان المتقدم: وجود الله ووحدانيته، النفس الإنسانية، الرسالة، الإمامة، الآخرة، الدنيا، الشيطان سنن التاريخ، القوانين الكونية. هذه أمثلة، وأهم هذه الحقائق هي الله سبحانه وتعالى.
حضارة الذكر:
1- حضارة الذكر ماذا تعني؟
إذا سمّينا حضارة من الحضارات بأنها حضارة الذكر فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن هناك حقائق معلومة وأن هناك حقائق مغروسة في النفس البشرية، هذه الحقائق المغروسة في النفس البشرية قد تذهب من وعي الإنسان، قد لا تمتلك الحضور الكافي في نفس الإنسان، وفي لحظة اتخاذه للقرار، الحقائق المغروسة في الفطرة كحقيقة التوحيد حقائق لا تنمحي، ولا تنسى بالمعنى الدقيق للنسيان بحيث لا يبقى لها واقع صورة في النفس، وإنما هذه الحقائق النسيان المتعلق بها يعني غفلة الشعور عن الحساب لها لحظة اتخاذ القرار.
أن تقوم مشاعر، أن تمر خطرات، أن تتخذ قرارات لا تقوم على حساب دقيق لهذه الحقائق، هذا معنى النسيان الذي يعتري نفس الإنسان وواعية الإنسان بالنسبة لهذه الحقائق المغروسة في فطرته، المعجونة بكينونته.
وهناك حقائق يأتي علم مكتسب بها ويمكن أن تتعرض لنسيان من هذا المستوى.
والمقصود من حضارة الذكر أنها حضارة تركز على حقائق كبرى ذات أهمية عالية وعلى حضورها والتعامل معها حسب الأهمية. ولا تهمل العمل أبداً على استحضار أي حقيقة في وعي الإنسان وذاكرته مما له تأثير عليه.
الإسلام لا يهرب بك عن مواجهة الحقائق، يوقفك تماما أمام الحقيقة الكبرى المطلقة الله سبحانه وتعالى، يوقفك أمام حقيقة دنياك، أمام حقيقة آخرتك، أمام حقيقة ذاتك، أمام حقيقة عدوك، أمام حقيقة صديقك، يوقفك أمام حقيقة وجودك، وأبعاد ذاتك، يوقفك أمام الحقائق الصغيرة، وأمام الحقائق الكبيرة ليجعلك علميا، ليجعلك واقعيا، ليجعلك على وعي تام بذاتك وبمحيطك وبكل علاقاتك.
الإسلام لا يستغفلك أبداً لحظة لينسيك واقعك أو لينسيك حاضرك أو مستقبلك.
فالإسلام نستطيع أن نطلق عليه بأنه حضارة الذكر، والحضارة التي تقوم على الإسلام هي حضارة الذكر.
2- صناعة رحمانية:
حضارة الذكر صناعة رحمانية في قبال حضارة النسيان وهي صناعة شيطانية.
حضارة الذكر صناعة رحمانية حيث أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل، أنزل الكتب، بث الآيات الكونية، آيات الأنفس، أقام دروس الحياة، جعل الأحوال متقلبة بقدرته، جعل الإنسان لا يستقر على خاطرة، جعله يتنقل في مشاعره من حزن إلى فرح، من غم وكرب إلى أنس، من يأس إلى أمل، بحيث يتبين له تماما أنه لا يملك ذاته.
كل ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى من كتب ورسل وآيات وما بث من دروس في هذه الحياة هو من أجل الإيقاظ، هو من أجل الذكر، هو من أجل كشف الحقائق التي يمكن أن تخدم مسيرة الإنسان، ويمكن أن يُخطط لمستقبله في ضوئها التخطيط الناجح.
3- لماذا الذكر؟
الرشد والحكمة، الأمن والسلامة، الرقي والتقدم والنجاح كل ذلك يعتمد على أن تنكشف لنا الحقائق، وأن نتعامل مع الحقائق بأوزانها ومقاديرها وأن نحسن التقدير للحقائق وأن يأتي هذا التقدير منا التقدير الدقيق لها في حال اتخاذ القرار، بناء المشاعر، بناء الأفكار، في إطار الحياة الفردية، وفي إطار الحياة الاجتماعية.
حين لا نقف مع الحقائق، نتعامل مع الخيال، نتعامل مع الوهم، وستتحول حياتنا حينئذ إلى وهم وخيال، وسنبني قصورا من الوهم والخيال، وكل قصور الوهم والخيال لا تؤدي خدمة للإنسان ولا تسمن من جوع.
نحن دائما نحتاج إلى أن نعي ذواتنا، إلى أن نعي واقعنا، إلى أن نعي حاضرنا، إلى أن نعي مستقبلنا، إلى أن نرى الكبير كبيرا، إلى أن نرى الصغير صغيرا، إلى أن نرى المنقطع منقطعا، إلى أن نرى الدائم دائماً. دائما نحتاج إلى التعرف على الحقائق بأوزانها وأحجامها من أجل أن يأتي قرارنا، ومن أجل أن يأتي تحركنا منسجما مع الواقع، وكل تحرك، وكل قرار لا ينسجم مع حقائق الواقع، ومع شواهد الواقع سيكون تحركا ضائعا وفي السراب.
4- نصوص عامة:
نصوص عامة تؤكد على أن الإسلام يقيم حضارة الذكر، هذا كتاب الله “ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ”(1) يذكرك بالله، يذكرك بنفسك، يذكرك بالحق، يذكرك بالباطل، يذكرك بالآخرة وحجمها، يذكرك بالدنيا وحجمها، يذكرك بصديقك، يذكرك بعدوك يذكرك بحقائق جمة كلها تحتاجها في حياتك.
وعن القرآن الكريم كذلك “وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ “(2)
عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ” فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ “(3) دور الرسول أن يذكرّك، أن يوقفك على دقائق ذاتك، على متطلبات ذاتك، على أبعاد ذاتك، على واقع المسيرة الاجتماعية، وما ينبغي أن تكون عليه المسيرة الاجتماعية، وما ينبغي لك أن تعطيه من اهتمام لدنياك، وما ينبغي أن تعطيه من اهتمام لآخرتك، ما ينبغي أن تكون عليه في تعاملك مع الله، وما ينبغي أن تكون عليه في تعاملك مع أعداء الله.
القرآن الكريم يقدم لك خارطة الطريق بكل وضوح، وهو يكشف لك عن حقائق الذات، عن أبعاد الفطرة، عن ما تحدثك به نفسك في الداخل. هناك صوت مطمور، تطمره الجاهلية فيك، هناك نور في داخلك، تطفئه الجاهلية، والقرآن يجلي لك عن هذا النور، ويرفع كل الحواجز أمام الصوت الفطري، أمام صوت الخلقة من صنع الله سبحانه وتعالى في داخل ذاتك ليحبب لك الله، ويبغض لك الشيطان.
هذا هو واقع الرسالة الإسلامية والحضارة من صياغتها قرآن مذّكر ورسولٌ مذّكر؛ لا يتعاملان مع الإنسان بالوهم والخيال ولا ينسيانه حقائق الواقع ولا يستغفلانه أو يلهيانه عن ربه ونفسه وعن كل الحقائق المؤثرة في حاضره ومستقبله.
ولو فتحنا أعيننا لوجدنا حضارة الجاهلية تتجه الاتجاه المعاكس في كل ذلك، تقوم على أن تنسينا، على أن تستغفلنا، على أن تلهينا عن قيمة ذواتنا، عن ضرورة العلاقة بالله سبحانه وتعالى، عن ما ينفع، عن ما يضر.
5- نصوص خاصة:
هذه النصوص تركز على مذكورات معينة، على حقائق كبرى مهمة ينبغي أن يكون لها الحضور الدائم في نفس الإنسان وفي وعيه تركز على التذكير على حقائق معينة لها أولويتها وانعكاسها الهائل على منهج الإنسان وحياته ونوع هدفه.
أ- الله سبحانه وتعالى:-
آيات كثر، وحديث كثير كثير جداً كل ذلك يركز على ذكر الله سبحانه وتعالى، حياة لا تقوم على ذكر الله حياة موات. الحياة الراقية، الحياة السعيدة، الحياة التقدمية، الحياة الواقعية تنطلق من قلب يمتلك وعيا، يمتلك حضورا للحقائق، ينكشف له الواقع. القلب الموات، القلب الأعمى، القلب الناسي، القلب اللاهي الساهي لا يمكن أن ينشئ حياة راقية، ولا يمكن أن ينشئ حياة واعية، ولا يمكن أن تكون الحياة المنطلقة من محتوى هذا القلب حياة تمتلك انسجاما مع خط الكون وخط الواقع والحقائق الكبرى التي تمتلك ناصية هذا الكون وأولها الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الفاعلية لكل حقيقة أخرى.
أذكر أمثلة فقط:
” الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ…” 191/ آل عمران. هؤلاء هم النفر النموذجيون، هذا هو النموذج الإنساني الراقي الذي يتحدث عنه القرآن ” الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ…” ذكر الله يستغرق حياتهم، لا يغيب لحظة عن وعيهم وعن قلبهم.
“وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ” 41/ آل عمران.
“وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ” 124/ طه.
“قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ” 14،15/ الأعلى.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة.
اللهم الهمنا ذكرك وشكرك، ونوّر قلوبنا بمعرفتك، وبصائرنا بعلم دينك والحكمة من عندك، وأحسن خواتمنا بمنك وفضلك وإحسانك يا عظيم المن والتفضل والإحسان يا رحمن يا رحيم.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، وأحلل غضبك بالقوم الظالمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
“قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)”
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أخرج النَّاس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ثم علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. وعلمُ كل ذي علم محدود، وعلم ربنا لا يحدُّ، وعلم العالمين مرفود، وعلم ربّنا لا برفد.
أشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أنزل عليه آياتِه، وأيَّده بمعجزاته، وشرَّفه بكراماته. صلَّى الله عليه وآله صلاة كثيرة نامية متتابعة.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، وصون النفس عن هلكتها بمعصيته، وبطلب حفظها ونجحها بطاعته.
وأمر الاستقامة على الصراط والأخذ بطاعة الله، ونبذ معصيته يقوم على التبصّر والتّصبر، فمن أبصر طريق الله، وطريق الشيطان وما ينتهي به كلَّ منهما إليه أعانه ذلك على الاستقامة، والنأي بالنفس عن الانحراف الذي يدعو إليه الشيطان، ويستدرج به العبد إلى النَّار.
ومن تصبّر صبر، ومن صبر استقام وظفر، والنفس بلا مجاهدةٍ مُدلَّلَةٌ غويَّة، لا ترضى بحق، ولا تتحمل كُلفة، ولو صُبِّرت على الحقِّ لاستمرأته، وعلى الكلفة لتحمَّلتها.
وبالترويض على الاستقامة تستوحش النفس من المعاصي التي كانت تعشقها، وتُسرُّ بالطاعات التي كانت تفرُّ منها، وتتحمل قادرة التكاليف التي كانت تبهضها.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ووفّقنا لمجاهدة النفس، ومكابرة الهوى، ومعاندة الشيطان، وعدم الاستسلام للشهوات الداعية لما حرَّمت، الموقعة في ما حذَّرت.
اللهم صلّ وسلم على خاتم رسلك، ووليك، وصفيّك، وحبيبك محمد بن عبد الله الصادق الأمين وعلى آله الطاهرين. وصل وسلّم على عليٍّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وصل وسلّم على فاطمة بنت رسول الله الصديقة الطاهرة المعصومة. وصلّ وسلّم على الإمامين الرشيدين، والوليين الهاديين، والسبطين الزكيين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الشهيد الحسين.
وصلّ وسلم على أئمة المسلمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأتقياء المعصومين.
اللهم صلّ وسلم على وليك القائم، وعبدك المنتظر، وخليفة رسولك العدل، والقاضي بكتابك الحق محمد بن الحسن المقتدى والمؤتمن.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وكن له دليلا وعينا، وناصراً وعونا، وافتح له فتحاً يسيراً، وانصره نصراً عزيزا، واحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، واجعله في درعك الحصينة التي لا تُخترق يا قوي يا عزيز يا شديد.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصالحين، والمجاهدين الغيارى وفقهم لمراضيك، سدد خطاهم، بلّغهم مناهم من الخير، انصر بهم دينك والمستضعفين من عبادك ياكريم.
والآن أيها الملأ الكريم مع المحاور التالية:-
أولاً: صار شرفاً:-
1. صار شرفاً – وضمانة أمن – وشهادة براءة – وسبباً تاماً للاطمئنان أن تعلن أمريكا أن بلداً من البلدان العربية والإسلامية حليف استراتيجي لها.
كأنّه يكفي لأن تطمئن بلد، لأن تفتخر، لأن ينطلق لسانها شجاعا أن تعلن أمريكا بأن هذا البلد حليف استراتيجي لها.
2. نسأل: أهو تحالف أو دخول في الخدمة؟ وتسليم للثروات والأرض وتنفيذ للمخطط الأمريكي؟
حين يعلن أن باكستان مثلاً حليف استراتيجي لأمريكا، ماذا يعني هذا؟ أيعني التحالف الحقيقي وأن هناك حليفين ندّين يقفان على صعيد واحد؟ أو أن هناك دخولا من البلد الإسلامي أو العربي تحت الخدمة الأمريكية؟
نسأل: هذا الأمن الذي يحصل بالتحالف الاستراتيجي، للشعوب – للاستقلالية – للثروة – للهوية والانتماء – لأصالة الثقافة – لحاضر الأمة ومستقبلها أو هو أمن للكرسي ولا غير؟
3. عجيب أمر البلاد الإسلامية والعربية ما تخشاه على نفسها من أخواتها من الدول الإسلامية والعربية ولو في المستقبل البعيد ولو على مستوى الاحتمال تعطيه لأمريكا في صفقات استسلامية براحة ضمير، ونفس رضية.
4. نسأل هذه التحالفات ضد من؟ أهي ضد إسرائيل أم ضد القضايا الوطنية والقومية والإسلامية وضد بلدان الجوار العربي والإسلامي؟
5. ألا ترون أننا نحقق الرضى الذي يعنيه قوله تعالى:”لن يرضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم” من خلال الاستجابات المتتابعة للرغبة الأمريكية؟
6. ثم ألا ترون أننا نحقّق إيماناً غير ما تشير إليه الآية الكريمة “فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً”( النساء) وذلك بتحكيم أمريكا في قضايانا بلا أن نجد حرجاً مما قضت به مع تسليمنا تسليماً؟
7. ما كانت أمريكا لتستطيع أن تستعبد المسلمين بشرط؛ ذلك أن لو كانوا مسلمين حقاً.
ويوم أن يكون المسلمون مسلمين حقّاً فلن تستطيع أمريكا ولن تستطيع الدنيا كلّها أن تستبعد المسلمين لحظة
المحور الثاني: الأمن الخارجي والداخلي:-
1. وحديثي عن الأمن الخارجي والداخلي على مستوى القضية الكلية وليس على مستوى القضية مربوطة ببلد معيّن.
2. ونعني بالأمن الخارجي: انتفاء التهديد من الخارج، وأسباب السيطرة التي يفرضها الأجنبي، والتدمير الذي يواجه به وطن الآخرين، وأن لا يكون الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي والديني وغير ذلك من أوضاع أي بلد فريسة اليد الخارجية العابثة.
3. والأمن بمعناه الواسع منتف دائماً في ظل أي سيطرة خارجية.
4. وإن تدهور الأمن الداخلي ليفتح الطريق واسعاً لسيطرة الخارج. فالشعب الذي لا يجد أمنه الداخلي يمكن أن يبحث عن أمنه من الخارج وهذا أمر بالغ الخطورة ولا ينبغي أن يكون أبداً.
والحكومة التي لا تستطيع أن توجد لنفسها أمنا داخليا من خلال الانسجام مع شعبها لابد أن تبحث عن الأمن من الخارج، وهذا أمر خطورته بالغ جدا أيضاً.
5. الأمن في مجمله ليس حاجة الشعوب فقط وليس حاجة الحكومات فقط. الأمن في مجمله حاجة كل من الشعوب والحكومات، وبمقدار ما يهم الحكومة من أمر الأمن يهم الشعب، وبمقدار ما يهم الشعب من أمر الأمن يهم الحكومة(4).
6. في البلد الواحد يعني تهديد أمن الآخر تهديد أمن الذات. فالشعب الذي يهدد أمن حكومته لابد أن يقبل أن ذاته مهددة، والحكومة التي تهدد أمن شعبها لابد أن تقبل فكرة أن أمنها مهدد. ولا يمكن أن يسلم أمن طرف في بلد واحد من دون أمن الطرف الآخر.
فلغة التهديد ولغة الوعيد لغة ساقطة جدا وتعني خسارة كبرى في إطار الأمن.
7. لا أمن بلا ثقة متبادلة، والثقة قد يكون من طريقها التفاهم، لكن لا يمكن أن تنبني من غير مواقف فيها عدل واحترام ونزاهة من الطرفين.
8. ولغة التهديد من هذا الطرف أو ذاك قد تُكره الطرف الآخر مؤقتاً ولكنها تجر إلى الكيد والتحفز لإنهاك الآخر.
فالأحسن للجميع أن يتخلى عن لغة التهديد وأن يلجأ إلى لغة الحوار، ولغة الحوار لا تمتلك قيمة ذاتية، إنما ماله القيمة الذاتية في البين هو أن توصل لغة القرار إلى حلول عادلة.
ثالثاً: العراق المقهور:-
1. الشعب العراقي من قهرٍ إلى قهر. كان في قهر صدام والآن في قهر أمريكا.
وغريب من بعض الإذاعات العربية أو غيرها أن تتولى دور الوكالة عن أمريكا وتسجل منّاً على العراقيين بتذكيرهم بأن أمريكا قد خلّصتهم من صدام.
أولاً: أمريكا لم تخلص العراق من صدام، صدام بحزبه، بأعضاء حكومته، بذاته، بإمكاناته العسكرية، بإمكاناته المالية لازال موجودا، ولا زال يمثل ورقة بيد أمريكا.
بمَ يُمنّ على الشعب العراقي أن تطرد أيها المستعبد للشعب العراقي مستعبدا كان قبلك وتحل محله؟ ما الفرق بين أن يقهر الشعب العراقي من صدام وبين أن يقهر من أمريكا؟ وبين أن يُتنكّر لرموزه، وأن يحارب في دينه ويحارب في أمنه من صدام أو من أمريكا؟
2. يستغرب جداً حرص أمريكا على حرمة الدم المسلم، حرص أمريكا على القصاص العادل لدم المرحوم السيد مجيد الخوئي. أفعلا أن أمريكا حريصة على دم هذا الإنسان المسلم؟! حريصة على أن تحقق القصاص العادل لصالحه؟
يا أمريكا أهو كذلك؟ أو هو استثمار ماكر، وتوقيت مطلوب لتمرير مخطط مرسوم لابد أن يهشم من يقف في طريقه؟! مطلوب أن يقسم الشعب العراقي إلى أكراد وعرب، إلى سنة وشيعة، إلى سنة وسنة، إلى شيعة وشيعة، ومطلوب لأمريكا وعلى طريقة بوش تسجيل الضربة الاستباقية في العراق حتى لا يبقى مقاوم للخطة الاستعمارية الإذلالية الاستفزازية.
3. المعارضة المسلحة في العراق تنتشر وعندما تعمّ هل يبقى معنى لشعار التحرير الذي ترفعه أمريكا؟ أمريكا تحرر كل العراقيين المحاربين لها؟! وبالتأكيد حينما تستمر المعركة القائمة فإنها لن تقف عند حدودها الآنية وستمتد لتشمل العراق بكامله مواجهة بمواجهة، مواجهة من الشعب العراقي لأمريكا، ومواجهة من أمريكا للشعب العراقي، أمريكا المحررة، أمريكا المنقذة، أمريكا المشفقة على الشعب العراقي.
وهل سيصمد جيش الحلفاء؟ لا لن يصمد لأنها حرب بين شعب وجيش غازي، وليست حربا بين جيش وجيش، والخسائر في صفوف الجنود الأمريكيين ترتفع، وأمريكا لا تتحمل خسائر بشرية كبيرة، والانتحار ظاهرة متفشية في صفوف الأمريكيين في العراق حتى بلغت أعلى معدلاتها، والمنقول إعلاميا وربما على لسان الأمريكيين أنفسهم هو أن المستوى وصل إلى حادثتي انتحار في كل شهر.
4. إنه جيش مهيء للانهيار: اختلاف مصالح في جيش الحلفاء، وهذا سبب من أسباب الانهيار، وانحطاط الأهداف ومنها العدوانية السافرة لجيش الحلفاء، عدم المبدئيه، والجندي الذي لا يرى وجوده إلا في الدنيا من الصعب عليه أن يجد فرصة للفرار من التضحية بحياته فيثبت.
5. وإن العراقيين إن شاء الله لأذكى كثيرا من أن يعيدوا خطأة “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأسود” اليوم مقتدى الصدر، وغدا أكبر المراجع، والعراقيون والمؤمنون في العراق أذكى بكثير إن شاء الله من أن يقعوا في هذه الخطأة الفادحة.
6. وإن صوت المرجعية الرشيدة في النجف الأشرف قد انطلق من حساب كل ملابسات الساحة العراقية وجاء ليدين العبث الأمريكي ويطالب بالتهدئة من كل الأطراف، وما أدق هذه الموازنة وهذه المعادلة، والتهدئة مشروطة بأن تكف أمريكا عن عبثها.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
ربنا أعذنا من غضبك، ” رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ “.
اللهم لا تجعل الكافرين على المسلمين سبيلاً.
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ “
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 1/ص
2 – 51/ القلم
3 – 21/ الغاشية
4 – هذا إذا كان الأمن المنشود أمنا لمصلحة الوطن والأمة وقيمها واستقلاليتها، وكانت الحكومة والشعب يشغل اهتمامهما حاضر الوطن والأمة ومستقبلهما، وعنينا بالأمن معناه العام الشامل للنواحي الدينية والإنسانية والمصالح الاقتصادية.
أما الأمن الخاص فمصيره مشترك داخل البلد الواحد مطلقاً.