خطبة الجمعة (125) 23 جمادى الثاني 1424هـ – 22 أغسطس 2003م
مواضيع الخطبة:
الفراغ – مولد الصديقة الطاهرة – البلاد الإسلامية والغزو الجاهلي – لا حل بلا قيم
منازلة الأمة الإسلامية على هُويتها وكيانها ولقمة عيشها لن تخرج منها أمريكا في الأخير منتصرة.
وهذا ليس كلام شعر وإنما كلام يستمد صدقيته من عزّة الأمة وكبريائها ومبدئيتها ورجولة الرساليين فيها.
الخطبة الأولى
الحمد لله الخالق غير المخلوق، الرازق غير المرزوق، الحي الذي لا يموت، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الأشياء بعد عدمها ولم يسبقه عدم، وأعطى الأحياء الحياة ولم تسبقه حياة ولا حي، ودبّر الكائنات ولا معين له في التدبير، ولا من مدبّر غيره، ولا متصرف في الكائنات سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله يا من برأ ربُّنا ورزق ودبّر علينا بتقوى الله الذي لا مفرّ من قضائه وقدره إلا إليه، ولا تعويل إلى عليه، ولا مهرب من حكمه، ولا نجاة إلا بإذنه، ولا يأمن من خافه إلا برحمته. والله أعلم بمن اتقاه، ولا يخفى عليه من أطاعه أو عصاه، ولا تضيع عنده طاعة المطيعين، ولا ينسى علمه معصية العاصين، فكل الأشياء والأمور حاضرة بذاتها لديه، وكلها محفوظة عنده لا تغيب.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واجعل زادنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات للآخرة تقواك، وخير أيامنا يوم نلقاك، وبلغنا رضاك، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فالعمر رأس مال الحي، والفراغ يسلبه، وهذا حديث عن الفراغ:
الفراغ وقت من العمر واقعا ومسؤولية، وهو خارج العمر، ضائع منه استثمارا ونفعا وبناء ومكسبا. إنه رصيد من الزمن المتاح لنا نعبث به ونهدره ساعة نحن فيه، ولكن نواجه حسابه وحسرته بعد حين، إنه وقت يمرّ على المرء خاليا من الإنتاج للدنيا وللآخرة ليعقب أسفا وندامة تقطّع قلب صاحبه.
وإذا كان معنى الحياة في الحركة بما ينفع فالفراغ بما هو عدم لهذه الحركة موت، والفارغ ميّت بالمعنى الأعمق للحياة، وإن الأموات ممن أُخذ أو يؤخذ للمقابر قد انقطعت مسؤوليتهم، أما الأموات فراغا فيتحملون المسؤولية، وحتى لا نكون أمواتا مع تحمل المسؤولية علينا أن نعرف كيف نملأ فراغ الوقت بما يبني ويجدي، ونحن لا نعرف كيف نحيا، وكيف نتذوق الحياة ونشعر بلذتها حتى نعرف كيف نستثمر الوقت في بناء الذات والأوضاع الصحيحة للحياة، ومن دون هذا الاستثمار نكون فاقدين لسمة الأحياء وفن الحياة.
وعن الفراغ كذلك، إنه حالة موحشة ولذلك تفرُّ منها النفس بالعبث واللهو والنوم، وتحاول التخلص من سأمة الفراغ بهذا اللون من النشاط الفاشل، أوالنوم الزائد على الحاجة وهو فراغ وزيادة، إذ هو موت على موت، أما ما كان منه للصحة واستعادة الحيوية والنشاط المجدي مما يعطي وقت اليقظة معنى الحياة حيث يكون جدا أكثر في الخير وسعيا أثمر للنفع والإعمار فهو مقدمة لما هو حقيقة الحياة.
وإذا كان للإنسان من حياته ما عمل من خير، وما أتى من صالح العمل فإن صاحب المائة من العمر إنما له لو قضى من هذا العمر تسعين سنة نوما وفراغا عشر سنوات فحسب إذا كان قد أمضاها في العمل الصالح، والتسعون عمر ضائع إلا ما كان عونا على هذا العمل، وعلى المرء وزر ما ضيّع من فرض واجب باستسلامه للفراغ وخلوده للكسل.
وهذا الواجب قد تكون دائرته هي الدائرة الشخصية، وقد تكون دائرته هي دائرة المجتمع الواسع.
وليس من إنسان يملك إرادة ويملك أن يفكّر ويتحرك نوع حركة إلا وهو مسؤول عن استثمار الوقت وكسب العمر وأقل ما يورثه التضييع الحسرة الندم.
ولابد أن نعرف أنه كلما عمَّ الفراغ ولم تكن مشاركة في الإنتاج، وسادت البطالة كلّما عظم الَكلُّ على الآخرين، وأرهق ذلك الوضع العام للأمة وأضعفها، فالأمة التي قوامها عشرة ملايين مثلا إنما تعيش بجهد مليون واحد لو كان هو كُلّ العاملين.
ولعمل المرء المسهم في إنتاج الثروة الحلال شرف كبير، وضرورته بالغة إلا أن ملأ الفراغ بالنافع لا يتجسد في ذلك وحده، ولا يسد نشاط اليد مسد نشاط الفكر، ولا يغنيان معا عن نشاط الروح، ولكل دوره وموقعه في حركة الحياة وبناء الإنسان، على أن الإنتاجية المادية أصلها الفكر في الأكثر.
ولنأتي الآن لبعض النصوص في الموضوع مارين بها بسرعة:-
من نشاط إلى نشاط:-
هكذا يريدنا الإسلام، وليس من نشاط إلى فراغ، أو من فراغ إلى فراغ.
“فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ” 7/8 الشرح. من فريضة إلى نافلة، من نشاط دنيوي إلى نشاط أخروي، من نشاط عبادي بالمعنى الخاص إلى نشاط عبادي بالمعنى العام، فمادامت الحياة حركة هي الحركة فالسكون موت، والإسلام إنما جاء ليبعث الحياة ويدفع بالحركة، ويجعل الحركة حركة خير وإعمار.
وعن الصحيفة السجادية:”وأذقني طعم الفراغ لما تحب بسعة من سعتك” الإمام عليه السلام يطلب فراغا من دنيا ليشتغل بعمل هو أكثر تشبّعا بسمة الآخرة، أعمال الإمام عليه السلام للدنيا هي للآخرة، ولكن هناك عمل هدفه القريب إصلاح الحياة المادية وإن كان لهدف أخروي، وهناك عمل خالص للآخرة. فالإمام عليه السلام يطلب أن يجد من العمل الأولي فراغا ليشتغل بالعمل الثاني، لتعيش الروح أكبر لحظات نشاطها وحيويتها وتوجهها إلى الله سبحانه وتعالى.
أنت قد تشتغل بالنجارة وعينك ناظرة لله سبحانه، وهذه يقظة روح ولكن قد تسهر ليلا كاملا تتهجّد فيه لله، وهنا الروح أكثر حيوية ونشاطا.
“وأذقني طعم الفراغ لما تحب بسعة من سعتك، والاجتهاد في ما يزلف لديك وعندك”.
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام:”ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل” هذه الساعة هي ساعة لا يشتغل المرء فيها شاغل من دنيا، وهمّ من هموم الحياة الأولى، هذه الساعة يريدها الإمام عليه السلام لا للفراغ وإنما لعمل أكبر وأسمى.
مبغوض عند الله:-
“إن الله ليبغض العبد النوَّام – كثير النوم، والنوم المبغوض هو نوم لغير حاجة، ولغير استجمام، يقع مقدمة للصحة والحيوية والنشاط، وإنما للهروب من الفراغ فقط – إن الله ليبغض العبد الفارغ” هذا عن الكاظم عليه السلام.
“إن الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة” عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الرسول صلى الله عليه وآله يعطي للدنيا اهتمامها، وللآخرة اهتمامها وإن كان الهدف يتركز على الآخرة لا على الدنيا حتى فيما هو من النشاط الدنيوي، ولكن لابد من حمل همّ للدنيا بمقدار ما تستحق، وما تستحقه الدنيا من همّ هو أن تصلُحَ من أجل صلاح الآخرة.
فلابد من عمل من أحد العملين؛ إما عمل للدنيا وإما عمل للآخرة، ولا يشرف عمل للدنيا ولا يكون به سمو ولا نجاة إلا بأن يقع مقدمة لخير الآخرة.
من مفاسد الفراغ:-
من الفراغ تكون الصبوة، والصبوة: الميل إلى اللهو. الفراغ أمٌّ للمشاكل. قد يوقع في اللهو، وقد يوقع في العقد النفسية، وقد يوقع في امتهان الفساد والإفساد في الأرض، وقد يتحول بالإنسان كلِهّ إلى شر.
“اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة” هناك حديث أو أكثر يتحدث عن خِزانات ثلاث لكل امرئ يوم القيامة يقف على كل واحدة منها؛ خِزانة الحسنات تسرُّه، وخزانة السيئات تسوءه وتفجعه، وخزانة الفراغ تسبب له الحسرة.
فراغ الساعة كان يمكن لو ملأه خيرا أن يرتقي به درجات في الجنة، وأن يقطع به مسافات يتجاوز بها كثيرا من خلق الله من أهل رضوان الله، هذه الساعة التي مضت فارغة يقف عندها صاحبها ليس بموقف شعوري محايد وبارد إنما يقف عندها يعيش الحسرة والندم أنْ كيف فرّط.
“فإن قدّرت لنا فراغا من شغل فاجعله فراغ سلامة لا تدركنا فيه تبعة، ولا تلحقنا فيه سأمة” وهذا يشير إلى أثرين سيئين قد يترتبان على الفراغ، فكثيرا ما يوقع الفراغ في التبعة حين يحوّل صاحبه إلى حركة شرّ في الأرض تنطلق بطيش وتسبب الفساد.
وقد يوقع الفراغ في السأمة والملل بما يجعله يعيش الضيق والخناق في الحياة، ولا يجد لها معنى، ومن لم يجد لحياته معنى قربت حالته إلى الانتحار، وقربت حالته من الجنون، وكان ذلك سبب سقوط ذريع في كيانه وشخصيته.
كيف نربح العمر:-
“اللهم صل على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غدا عنه”. اللهم لا تجعلني حمار طاحونة للدنيا، واجعلني عبدا ساجدا لوجهك الكريم.
حين يمضي أحدنا حياته كلّها يبني، يزرع، يلد، يأكل، يشرب، يحصد للدنيا فقط فإن حياته من الدونية ما هي بمستوى الحشرات.
الكلمة عن زين العابدين عليه السلام، وهي تقول أنا مضطر إلى أن أطلب لقمة العيش لي ولعيالي، ومن الحسن لي أن أملك لقمة العيش التي تسد حاجة جاري والضعيف من أمتي، أنا محتاج إلى المأوى، إلى ما يكسو الظهر، إلى ما يدرأ غائلة الحر والبرد، ولكن أن تتحول حياتي كلها إلى ما يلامس هذا السطح فقط فهي حياة وضيعة، حياة ترابية حقيرة. نعم لو قد فقد شغلت كل حياتي بطلب اللقمة والكسوة لكانت حياتي غير راقية، ربي ارزقني عقلا، وارزقني وسطا وارزقني حكومة لا تضطرني إلى ذلك.
“اللهم صل على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غدا عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له” نحن لم نخلق لنأكل، ولنشرب، خلقنا لتكتمل هنا على الأرض إنسانيتنا، وتخرج من مستوى القابلية إلى الفعل، وهذا يحتاج دائما إلى دور جهادي دؤوب.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واملأ أوقاتنا وأوقات أخواننا المؤمنين والمؤمنات بذكرك والعمل الصالح، واجعلنا من خير من استثمر حياته في مرضاتك، وأمضى الأيام والليالي في طاعتك، ولم يبتلِ بالسأمة، ولم يكن من أهل الكسل، أو ممن يُمضي حياته فراغا، واجعلنا ممن لا يلقى فراغه غدا حسرة وندامة، وتشهد عليه الأوقات بالتضييع، والحفظة بالتسويف.
اللهم اغفر لنا، ولجميع أهل الإيمان والإسلام، ومن كان له حق خاص علينا منهم، ولوالدينا، وأرحامنا وأزواجنا وقراباتنا وعشائرنا وجيراننا يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.)
الخطبة الثانية
الحمد الله ذي الملك والملكوت، والعزّة والجبروت، القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، لا يعدله شيء، ولا يُضاده شيء، ولا يقوم له شيء، ذلَّ له كل شيء، وهو على كل شيء قدير. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم جميعا أفضالا وبركات كثيرة.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله وأن لا نتخذ معه إلهاً، ولا نشرك به أحدا، وأن تكون حياتنا كلها قائمة على تقواه، فما قوَّم الحياة شيء كما تقوّمها التقوى، وما ارتفع شأن أحد كما يرتفع يرتفع الشأن بمراقبة الله، فمن راقب الجليل سبحانه طهر داخله وفعاله، ومن عشق الجميل تبارك وتعالى وأشفق من غضبه سمت ذاته وخصاله.
وبتقوى الله تنجو النفس من الخسار والعذاب، وبالتفريط في جنب الله يتم السقوط ويستحق العقاب. ألا إنّ في كل معصية مفسدة، وفي كل طاعة مصلحة، والروح تُظلِمُها المعاصي، وتتنور بالطاعات، فمن أدمن المعصية إنما سلب روحه نورها، ومن أقام على الطاعة فإنما زكى روحه وزاد في إشراقها.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ممن رحم نفسه وأفلح بأن زكاها، ولم يظلم نفسه ولم يخب بأن دساها.
اللهم صل وسلم على البشير النذير، والسراج المنير النبي الأمي والرسول الخاتم محمد بن عبد الله أبي القاسم، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وصل وسلم على الهادية المهدية فاطمة بنت نبيك المرضية. وصل وسلم على الإمامين الزكيين والحسنين الطاهرين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين. وصل وسلم على أئمة المسلمين، وهدى المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري عبادك الصالحين.
اللهم صل وسلم على إمام الزمان، ودليل القرآن، وقائد السلام، وباعث الإسلام والإيمان، وناشر الأمان، المنتظر والمؤتمن، القائم محمد بن الحسن.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا قريبا، وأظهر به دينك، وأحيي به شريعتك، وأعز به أوليائك، وأذل به أعدائك يا قوي يا عزيز، يا من هو على كل شيء قدير.
الموالي له المعادي لأعدائه، المناصر لقضيته، الممهد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الأخيار والمجاهدين الغيارى في سبيلك وفقهم لخير العمل، وبلغ بهم الأمل، ورد بهم كيد الأعداء عن دينك، والظلم والاضطهاد لمستضعفي عبادك يا الله يا قوي يا شديد.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الله فهذه مواقع نقف عندها بالحديث:-
مولد الصديقة الطاهرة:-
فلتهنأ الأمة ونساؤها أن فيها فاطمة عليها السلام رمز كبير نموذجي للإنسانية، وقدوة عالمية على المدى الزمني الطويل، وعلى المساحة المكانية كلها في الأرض.
بيت فاطمة (ع) طينا وآجرا تحقره العيون، حُجيرة متواضعة لا تجد فيها من أثاث الدنيا ما يلفت نظرك، الفقيرقد لا يطمع فيها، وهو إيمانا وهدى، ونورا وعلما، ورفعة وسموا، ودورا رشيدا خالدا، وصناعة رجال قادة هداة، ونساء عالياتِ قدرٍ خالدات، يكبره العظماء، وتنشدُّ إليه النفوس الطموحة، ولا تجوزه القلوب الواعية، وتستضيء به الأرواح المشعة، وتِخرُّ ابتهارا عنده أفئدة الصالحين، ويرتد البصر عنه خاسئا وهو حسير.
فليتعلم المؤمن والمؤمنة من بيت علي وفاطمة عليها السلام قناعة الدنيا والتواضع فيها، وطموح المعنى، وطلب الآخرة وسمو الذات، والرقي بها. والموضوع يحتاج إلى بسط.
البلاد الإسلامية والغزو الجاهلي:-
ما كان غزوا لنهب النفط، لهدم القيم، لحيونة الإنسان، لمحاربة المسجد والقرآن، فهو غزو جاهلي… لقد حارب الإسلام وفتح بلاداً ولكنه هَدَى، وعَدَل، وأنعش الحياة، فأين ذاك من هذا؟ وأين فتح الإسلام الثُّريَّا، وأين الغزو الأمريكي الثرى؟!
إذا عادت أمريكا الشعب العراقي ومقدساته ومشاعره لا صدَّاما وحزبه، ولم تقبل الاعتراف بالهزيمة مبكرا فإنها ستضطر لذلك ولو بعد صراع مرير.
ومنازلة الأمة الإسلامية على هُويتها وكيانها ولقمة عيشها لن تخرج منها أمريكا في الأخير منتصرة. وهذا ليس كلام شعر وإنما كلام يستمد صدقيته من عزّة الأمة وكبريائها ومبدئيتها ورجولة الرساليين فيها.
وغزو العراق لا يمكن أن يكون حسنة في تاريخ أمريكا إلا بأن يكون هدفه الصادق هو تخليص هذا البلد من حكم الطاغية وحزبه لا استعباد الشعب المسلم الأبي ومصادرة انتمائه، و إلا فلن يكون حسنة ولا شرفا ولا غُنْمَا.
وإن هذا الصراع يضع الحكومات في البلاد الإسلامية أمام خيار صعب وهي لا بد أن تنحاز إلى خندق الشعوب، أوخندق الغزاة حين يكون الصراع ضد مقدسات الأمة و إمكاناتها وقدراتها.
وخندق الشعوب كما يعادي الإرهاب من الخارج والداخل، يرفض أن توأد الصحوة، ويحارب كل ما هو إسلامي.
لقاء الجمعيات الست بمسؤولين:-
التواصل بين الجمعيات الست وغيرها من جهة والحكومة من جهة أخرى لقاءاً جاداً، – أي على مستوى اللقاء الجاد – وحواراً مثمراً، وتفاهماً لطلب حلول المشاكل في أجواء ودية، ومناخات هادئة في سلامة من القصد، وحسن من النية، وحرص على مصلحة الوطن، وحفظ لحقوق المواطنين، واحترام لمقدراتهم ومقدّراتهم ومقدساتهم، وللاقتراب باستمرار من حالة العدل المفقود، والتوازن المطلوب، والقضاء على الفوارق المصطنعة في مجال معاملة المواطنين يمثل الأسلوب الأنجح في نظرنا للخروج من حالة الأزمة والاحتقان في جهات كثيرة إلى فضاء المصالح المشتركة، والأجواء الآمنة، ومسارات التقدم على مستوى الروح والبدن.
وأنا أؤكد في كل مرة ضرورة الجانب الروحي وأهميته.
وقيمة الحوارات واللقاءات لا تبرز ولا تصدق إلا بالاستجابة العملية للحلول الأكثر فاعلية في تحقيق العدل والمساواة ورفع مستوى المواطن معيشة وخُلُقا وإنسانية ودينا وكرامة وقدرة.
وأخشى ما يخشى على اللقاءات والحوارات أن تتوقف لفقد معناها حين تفرغ من العطاء العملي، ولا تسهم في التخلص من مأساة الواقع والنواقص على الأرض. ولا يفرَّط بفرص الحوار أبداً ما دامت توقعات إثماره للنفع مفتوحة وجدية ونحن ندعو إلى هذا الحوار بقوة وإخلاص على كل المستويات.
لا حل بلا قيم:-
مشكلات الأرض يحلها المنهج العليم، والجهاز الصالح المؤمن به، والتربية على القيم.
والمنهج العليم الدقيق الأمين هو منهج الله – والجهاز الصالح المؤمن به لا يكون إلا من إعداده – والتربية على القيم لا تكون إلا من صنعه وفي ضوء ركائزه.
كثيراً ما نتحدث عن حكم الشعب أو الفرد، وحكم الشعب بلا قيم لا ينقذ، وحكم الفرد بلا قيم لا ينقذ. حكم الفرد الاستبدادي كارثة، والحديث عن حكم الشعب الذي هو مهوى أفئدة الناس الآن، وحكم الشعب بلا قيم لا ينقذ إذ أن شعبا بلا قيم هو مجموعة حيوانات عدوانية مفترسة كاسرة متغالبة وسافلة ساقطة، فلا تفكروا في ديموقراطية تنقذكم ولا غيرها حيث يِخرُّ سقف القيم أو يهبط كثيرا. إن الديموقراطية نفسها لا تحل المشكلة وإنما يحلّها ما قد تعتمده من منهج إلهي صحيح وهي طريق فحسب للتمكين لهذا المنهج ولحكومة من صنعه، أما لو انصبَّ خيار على منهج جاهلي فستركّز الديموقراطية الجاهلية. والمجتمع الجاهلي لا يختار غير منهج جاهلي، وإذا كان الشعب المؤمن الواعي لا يختار إلا حكومة مؤمنة عادلة فإن الشعب الفاسق لا يختار إلا حكومة من جنسه، والشعب المؤمن إذا أمكن استغفاله كان جسرا لحكومة تكفر بالعدالة وتحارب القيم.
وعدد من طغاة العالم ومجرمي الحروب إنما أوصلتهم إلى مواقعهم الخطيرة الديموقراطية، وتبوأوا هذا الموقع على متن قطار رسمي اسمه الديموقراطية. ما الذي أوصل بوش إلى موقعه؟ هي الديموقراطية.
ولون من الديموقراطية كاذب، وكثير من الديموقراطيات كاذبة، والديموقراطية الصادقة مستعدة أن توصل في بعض الظروف الشيوعية للحكم في البلاد الإسلامية، وتوصل الانتهازي الذي يملك فنَّ المراوغة إلى الموقع المتقدم في البلاد التي تؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
الديموقراطية بلا وعي وبلا تماسك وبلا إيمان وبلا فهم موضوعي كارثة، الديموقراطية تحتاج لأنُ توصلَ إلى ما به الحل هو المنهج الصحيح، والحكومة الصحيحة، إلى الموقع المؤثر؛ إلى آليات… إلى وضعيَّة خاصة من الوعي واليقظة ولإيمان والرشد والتوحد.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واكفنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات سوء النظر، وسوء الحال، وسوء المآل، وارحمنا يوم النقلة من هذه الدار، ويوم نبعث، وعند الحساب، واجعل منقلبنا إلى رضوانك والجنة، واغفر لنا ولهم جميعاً ولمن كان له حق خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وجيراننا يا أرحم من استرحم وأكرم من سئل وأجود من أعطى.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ذلك حين يُستغْفَل النَّاس مثلاً وتكون الامكانات المالية والدعائية أكبر بكثير في يد المراوغين منها في يد المخلصين.
ملحوظة: إن أي فئة تطالب بالديموقراطية لتحسين موقعها السياسي، ووضعية الحقوق الثابتة لها عليها أن تصنع ما استطاعت شارعاً يقف معها في الحملات الانتخابية ويؤمن بطرحها، وأن تحمى جماهيرها من تأثيرات الطروحات الأيديولوجية الأخرى، وتربيها التربية المبدئية التى تؤمن بها. أما المناداة بالديموقراطية وترك الشارع يتصنع بصناعة الآخرين ليقف مواقفهم فهي لون من الانتحار.