الحديث الأسبوعي لـ آية الله قاسم – العقل و الجهل – ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤

*نص محاضرة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الجلسة الأسبوعية التي يعقدها في مقرّ إقامته في قم المقدسة كل ليلة خميس تحت عنوان {جنود العقل والجهل “٩” باب مجالسة العلماء وصحبتهم} – 25 ديسمبر 2024 / 23 جمادى الثاني 1446هـ: 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين. 

 

عن أبي عبد الله “عليه السلام”، قال، قال   رسول الله “صلى الله عليه وآله”: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: تذاكر العلم بين عبادي مما تحيا عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري. 

 

الغاية هي الله، أكبر غاية هي الوصول إلى معرفة الله للزوم طاعته، من عرف الله لزم طاعته، من لم يعرفه أصلاً أو وصفاً فإنّه لا يطيعه. الطريق إلى معرفة الله هي العلم، لا طريق لمعرفة الله بعد الفطرة، والفطرة علمٌ إلا العلم الاكتسابي. علم فطري، وعلم اكتسابي. العلم الفطري يطل بنا على الله عزَّ وجلّ، ولمعرفةٍ أدق، أكبر، أكثر تفصيلاً، نحتاج إلى العلم الاكتسابي عن طريق المنهج الصحيح الذي ينتهي إلى قضايا بديهية فطرية تختزنها كينونة الإنسان. 

 

(تذاكر العلم بين عبادي مما تحيا عليه القلوب الميتة)

هناك قلوب لا تحتاج فيما تتعلمه إلى معلم، كقلوب المعصومين “عليهم السلام”، أُلهمت العلم إلهاماً. سائر الخلق، ومهما كان لهم من علم، هو في زيادة علمه يحتاج إلى تذاكر، يحتاج إلى احتكاك فكري مع الآخرين، إلى أن يسمع من الآخرين، ما عند الآخرين، ربما كان عند الآخرين أزيد مما عنده. 

والقلوب تموت بلا علم، وحتى الفطرة -العلم الفطري- يذبل، يضعف، ربما يُخسر حضوره إذا لم يكن تذاكر، تدارس، دراسة، الرجوع إلى كتاب، إلى عالم. 

فإذن الطريق الوحيد لإحياء القلوب تعتمد على التذاكر، يوم أن تقف عملية التعليم -ومع الأسف الشديد، عملية التعليم، التذاكر في الحق، الندوات التي تعطي وعياً، تعطي فهماً إسلامياً، هذه تُحارب من حكومات تحمل إسم الإسلام وهي كثيرة-، لماذا؟ أولئك يعرفون أن القلوب تموت بلا علم، ولا علم بلا تذاكر بين الناس. 

 

(تذاكر العلم بين عبادي مما تحيا عليه القلوب الميتة)

والقلوب الميتة مطلب من مطالب السياسة الظالمة في أيّ مكان، هناك تضادّ بين الحكم الظالم والقلب الحيّ والقلوب الحيّة، ففي كلّ مكانٍ فيه حكم ظالم تجد هناك حرباً على حياة القلوب، وعلى وعي القلوب وصحوتها. 

متى تتم حياة القلوب؟ تتم إذا انتهى هذا الحوار، هذا التذاكر، حوار طبعاً ليس على مستوى الجدل، وإنما من أجل طلب الوصول إلى الحقيقة وكشف الغموض وتبيّن الطريق والحصول إلى البرهان وعلى ما يورث الاطمئنان إنْ لم يكن اليقين في القلب، تحيا عليه القلوب الميتة بهذا الشرط: “إذا هم انتهوا فيه إلى أمري”. 

 

أي تذاكر يوصل إلى معرفة الله، وإلى توحيد الله، وإلى التعلُّق بمنهج الله، ففي ذلك حياة القلوب. 

هناك تذاكر بين العباد في أمور أخرى، في أمور في مستوى العقل، في أمور تسيء إلى القلب، تسد منافذ النور عن العقل والقلب، ليست معنية في هذا المجال، المعني هو تذاكر يؤدي إلى معرفة الله، إلى إجلال الله، إلى تقديم الله عزَّ وجلّ على من سواه. 

 

سمعتُ أبا جعفرٍ “عليه السلام” يقول: رحم الله عبداً أحيى العلم، قال: قلتُ وما إحياؤه؟، قال: أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع. رحم الله هذا العبد لأنّ ثوابه لا يُدرك. 

 

إذا كان طبيب حادق يُحيي بدناً يكاد أن يموت، فهذا العالم يُحيي قلوباً قد ماتت، وحياة القلوب أكثر بركة، وهي سرُّ النجاح عند الإنسان، وسرّ سعادته في الدنيا والآخرة، ولا تنحفظ له إنسانية ولا كرامة ولا يتقدّم التقدّم المرضيّ عند الله عزَّ وجلّ إلا بقلبٍ حيّ، فهذا إنسان مرحوم، وإذا كان الطبيب سيبقي على مريضه الذي شارف الموت بعملية ناجحة إلى سنة أو عشر أو خمسين سنة، فإنّ هذا سيعطي الحياة لهذا القلب، وإن مات صاحب هذا القلب فإنّ حياة قلبه التي كانت ستبقى معطاءةً له من بعد موته من خلال انتشار علمه ومن خلال اقتداء المقتدين به، وهذا الإنسان الذي حيي قلبه المعنوي لأيامٍ أو لسنة أو لسنتين ربما هدى جيلاً كاملاً وأكثر من جيل بهذه الأيام اليسيرة، وهذا الجيل الذي اهتدى بهديه يبقى هذا المحيي له شريكاً له في العمل الصالح كما تقدّم في بعض الأحاديث. 

فحياة البدن عزيزة، وشأنٌ كبير عند الإنسان، ومحلّ اعتزاز، وكم تشكر الطبيب الذي شفيت على يده، وإن كنت تعرف أن الشفاء الأصل أصلاً إنما هو من فيض الله تبارك وتعالى، لكنك تبقى منشدّاً لهذا الطبيب محترماً له وذاكراً جميله، لكن هذا الإحسان الذي يشدّك إلى طبيب البدن ليس مثل إحسان من عوفي قلبك على يده، وصحّ قلبك بعد سقمه على يده، وخرج قلبي من سباتٍ طويل إلى حياةٍ يقظة، ومن ظلمةٍ يائسة وعابسة إلى نورٍ مضيء. 

لا يُنسى أي مدرّس من المدرّسين في تربيتي وتربيتك ونحن صغار، فرق بين مدرّس لم يلامس قلبك بشيء مما يعطي هداية، وبين مدرّس تذكر أن له جميلاً كبيراً عليك حين دلّك على الله عزَّ وجلّ، بما تجد من آثار وبركات القلب الذاكر لله تبارك وتعالى. 

 

(رحم الله عبداً أحيى العلم، قال: قلتُ وما إحياؤه؟، قال: أن يذاكر به أهل الدين وأهل الورع)

مذاكرته ليس مرّة واحدة، يعني لزوم هذا النوع من الناس في التباحث، في التفاكر، في التذاكر، إلى آخره. 

من الذي يستفيد من مذاكرتك وتستفيد من مذاكرته؟ فاسق؟ فاجر؟ ظالم غاشم؟ جاهل أبله؟ طبعاً عالم من أهل الدين، وأهل الورع، أهل الدين وأهل الورع هم المهيؤون إلى أن يخرجوا بالدروس المثمرة الغنية بالخير والهداية والصلاح، أما القلوب الجامدة فإن وجبت موعظتهم وتذكيرهم إلا أنهم ليسوا الصف الذي نؤمر بدوام مذاكرته والأنس إلى حديثه والاهتمام به الاهتمام البالغ. 

 

قال رسول الله “صلى الله عليه وآله”: تذاكروا، وتلاقوا، وتحدّثوا، فإن الحديث جلاءٌ للقلوب، إنّ القلوب لتلين كما يلين السيف جلاؤها الحديث.

 

تعتبر أمر، موعظة، نصيحة، وهو أمرٌ لأنه لا دين بلا هذا الطريق. 

لا تكفي أدوات التواصل الاجتماعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، “وتلاقوا”، خاصة في الجلسات الخاصة التي تتيح الفرصة للحوار الهادئ، وانكشاف الواحد على الآخر، ومحاولة إصلاح عيوبي في جلستي معك، أو عيوبك في جلستك مع الآخر. 

 

(تذاكروا، وتلاقوا، وتحدّثوا)

تأتي موضوعات في هذه الاجتماعات الصغيرة التذاكرية ما كانت تمر ببالك وأنت تشتغل بالتفكير الساعة والساعتين وحدك، أحياناً هذه المجالس تعطيك جديداً من الإشكالات، وتعطيك جديداً من الحلول، وتضم إلى عقلك عدداً من العقول، وتضم إلى هذه العقول عقلك، وفي هذه العقول عقول متميّز ومتميّزٌ عنه، متميّزٌ في جنبة وآخر متميّز في جنبة أخرى، وكلّ ذلك يساعد على تنمية المعرفة وزيادة الفهم والتبصُّر الأكثر. 

 

(تذاكروا، وتلاقوا، وتحدّثوا)

إسلامنا يريدنا أن نجتمع، أن نتذاكر، أن نسعى وراء فهم الحقيقة، أن نطلب العلم في الصين، وسياساتٌ ظالمة في الأرض اليوم أن نجهل، أن نستغبي، أن نكون ساذجين. أعزُّ ما عليها وأصعب ما عليها وأخوف ما تخاف أن يرتفع الستار بيننا وبين فهم الإسلام، وإنّ الدنيا كل الدنيا لتعرف حتى ظالموها وطغاتها، والطغاة أشد معرفةً بهذا، لتعرف أن وصول الإسلام إلى قلب يمنع من استعباده وخضوعه للباطل، ويمنع أن يردّه رادّ عن طريق الله عزَّ وجلّ وهو يعرف الله. 

 

(تذاكروا، وتلاقوا، وتحدّثوا)

المجالس ليست للصمت، وليست للحديث العبثي، وليست لاستمرار الفكاهات، وإنما تحدثوا الحديث الذي يبني عقولكم وقلوبكم وحياتكم وحياة الأجيال من بعدكم، يبنيها في كلّ الأبعاد والجوانب، يتعدّى ذلك إلى بناء آخرة لا موت فيها ولا شقاء ولا من شيءٍ يُتمنى للقلوب النيّرة إلا ويحصل عليه صاحب هذا القلب. 

 

لماذا هذا الذي تأمر به يا رسول الله؟ 

-فإنّ الحديث جلاءٌ للقلوب-

يومياً وربما في كثير من ساعات اليوم، في كل ساعةٍ من ساعات كثيرة من اليوم يتلوث القلب، تتلوث قلوبنا، هنا غيبة، هنا نميمة، هناك نظرة محرمة، هناك تصرف غير لائق، إلى آخره، وكلّ هذا يُجمّع أوساخ وقذارات على القلب، يرين على القلب، يطبع على القلب، كيف يرين الصدأ على السيف؟ شيئاً فشيئاً يبقى السيف معطلاً. المرآة تتركها مدة وتتعرض للغبار بعد ذلك تفقد شفافيتها وتتخلف عنها فاعليتها، فاعلية المساعدة على رؤية الوجه. 

 

(فإنّ الحديث جلاءٌ للقلوب)

الحديث صار محلّ حاجة لأن القلوب دائماً معرضة للتلوث، في العلاقة البيتية، في العلاقة مع الجار، في العلاقة مع الشيء الخبيث، موافاتك لوجهٍ من خلق الله، مرّة وجه يجتذبك، ومرّة وجه تعرض عنه، ربما أنت تزهوا على أساس أنك بصورة معتدلة، صورة مقبولة، وهذا مبتلى بهذا البلاء، افرض عمليات طبية وما إلى ذلك، هذا له رينه على القلب، لم تذكر نعمة الله، لم تحمد الله على كفايتك على هذا البلاء، ودعوت الله أن يمن على هذا المريض بالشفاء، إنما حينما رأيته ابتسمت فرحاً لعدم تعرضي لهذا الشيء وأعرضت عن الشخص. كثير من الأحداث التي لا نشعر بها، الحركات وما إلى ذلك، إمالة وجه عن إنسان مؤمن تُشعر بعدم الاكتراث، لها مردودها طبعاً على القلب، وكثير من الأعمال التي لا نلتفت لها، لها مردود على القلب، وهذا كله بتراكمه يسدّ منافذ النور على القلب. 

هدايات الله لا تحلّ في قلوب الطغاة، في قلوب من قلبه لم يترك فيه مجالٌ إلا وامتلأ بقبيح، فهنا لابد من هذا التذاكر الذي يساعد على إزالة بعض هذا الرين ولو بشكل تدريجي حتى يزول. 

 

(فإنّ الحديث جلاءٌ للقلوب، إنّ القلوب لتلين كما يلين السيف)

أول ما يخرجونه من المصنع يشع أبيض، وحاد، وما إلى ذلك، ويتعرض لتلوثات وما إلى ذلك يكلّ ويفقد بريقه، ويعرض عنه الإنسان، فيصبح حديدة كالّة صدئة لا تنشد لها. 

 

 

(إنّ القلوب لتلين كما يلين السيف جلاؤها الحديث)

طبعاً ليس حديث الدردشة والفرفشة والخربشة، إنما الحديث الصائب المهتدي الذي يستقي كلمته من منهج الله، من قرآن الله عزَّ وجلّ، من سنّة رسوله “صلى الله عليه وآله وسلم” وأهل بيته “على الجميع أفضل الصلاة والسلام”. 

 

سمعتُ أبا جعفر “عليه السلام” يقول: تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة. 

 

يُعلّمك ما لم تكن تعلم، يعطيك علماً بعد جهل، رؤيةً مصيبة بعد رؤية خاطئة، يُصحح طريقة تفكيرك، يمدّك بهدىً مع أكثر الحاجة إليه. 

والدراسة ما منزلتها؟ عرفنا أن التذاكر دراسة. الحديث يُكمل “والدراسة صلاة حسنة. الصلاة السيئة التي ليس فيها حضور، وفيها رياء وعجب وزهو وما إلى ذلك، هذه صلاة غير حسنة، هل هذه الدراسة التي تعطينا العلم هو بمنزلة أي صلاةٍ أو بمنزلة صلاةٍ من نوعٍ خاص؟ طبعاً هو بمنزلة صلاةٍ من نوعٍ خاص راقٍ شفّاف صافٍ مقرّب لله عزَّ وجلّ. 

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين. 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

زر الذهاب إلى الأعلى