خطبة الجمعة (118) 3 جمادى الأولى 1424هـ – 4 يوليو 2003م
مواضيع الخطبة:
الأمانة (4) – العراق بين نارين – حرب سلمية – حماية الدين
يا مسئولون يا حكومة يا كل القوى أنقذوا الشباب من براثن البطالة، اسمعوا صرخاتهم، فالفقر أخ
الكفر، ومعذور من شهر سيفه عند جوعه، وعند جوع زوجه وولده.
الذين تأكلهم البطالة سيصبرون إلى حد، وصبرهم صار ينفذ، وقبل نفاذ الصبر لابد من
حل.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أرسل رسله بأصدق القول، وأنفع الحديث، وأحسن الشرائع، وأدَّب عباده المؤمنين بأسمى الأدب، وأكرم الخصال، وزيَّنهم، بالأمانة، وبرَّأهم من الخيانة، وجعل لهم أخلاقاً من أخلاقه، وهدىً من نوره، وهو المتفضِّل بالنعم ابتداء، والمجازي بالقليل من شكر العبد خيراً كثيراً، وعطاء جزيلاً على أن الشكر بتوفيقه وهو نعمة من نعمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ينقطع ملكُه، ولا تنفذ خزائنه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله مبلِّغاً لكلماته، مؤدّباً لعباده، دالاً على جنّته، داعياً إلى رضاه، محذِّراً من سخطه، ذائداً عن نار أهل معصيته. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد أهل طاعتك ومودتك,السابقين إلى منازل كرامتك.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله التي من صانها صانته، ومن لم يُشِبْهَا نقّته، وإنَّه لَمِمَّا يربّي التقوى في النفس التفكرُ في عظمة الخلق، ودقة الصُّنع، وإحكام النظام، والتأمُّل في بدايات الأشياء مما خلق اللهُ سبحانه ونهاياتها، وما ينتظر الإنسان بعد فسحة الحياة، وما يصير إليه من انتهاء العمل، وانقضاء الأمل، وبقاء التبعات، وانقطاع الأسباب، واشتداد الحاجة إلى الرحمة.
ومَلَكَةُ التقوى لا تأتي النفسَ أساساً من خارجها، فأصولها مغروسةٌ خَلْقَةً فيها، ولكنَّ الشيطانَ والهوى وإضلالَ المضلِّين مُغوياتٌ تغالب النفس على هداها، وتعمل على سلبها تقواها، ومن هنا كان لابد من المجاهدة والتذكير والتبصير، والملاحقة لجيش الضلال في هجمته على النفس ومقاومته.
اللهم لا توفيق إلا من عندك، ولا حراسة إلا حراستُك، ولا حفظ إلا حفظك فوفّقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين لطاعتك، واحرسنا من كيد أعدائك، واحفظنا مما يُضلّ عن هداك يا أكرم الأكرمين، وصل وسلم على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فختام الحديث عن الأمانة محاولة من قاصر للاستضاءة من شمس قوله تبارك وتعالى:} إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ 72/ 73 الأحزاب.
1. إن السماوات والأرض والإنسان لتتسم بعظمة الخلق حتى أن خلقها أعظم من خلق الإنسان يقول تبارك وتعالى } لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ { 57/ غافر. وعن أمير المؤمنين عليه السلام:”إنها – أي الأمانة – عُرضت على السماوات المبنيَّة والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عزّ لامتنعن…..”.
السماوات والأرض والجبال يقف الإنسان بجسمه الضئيل، وقواه الصغيرة مذهولا أمام عظمتها، يقف واهنا، يرى نفسه الضئيل عندها، ولو وقف أحدنا أمام جبل من الجبال الرواسي العاليات لوجد من نفسه أنه لا يساوي شيئا من عظمة ذلك الجبل جسما ومادة، مع ذلك لم تكن السماوات والأرض والجبال بالقدر الطبيعي المؤهّل الذي يجعلها تتحمل الأمانة؛ تلك الأمانة التي كان من قدر الإنسان، ومن قامته الطبيعية، ومؤهلاته واستعداداته أن يتحملها.
الأمانة مقاسة إلى السماوات والأرض والجبال بعظمتهن المادية تكبرها، وهذه الأمانة لم تكبر الإنسان الذي أهله الله سبحانه وتعالى لها. إن في الإنسان الاستعداد الكافي لتحمّل الأمانة الإلهية الكبرى في الأرض، وإذا كان من خلل في تحمّل هذه المسؤولية فهو ليس من قصور في وزن الإنسان إنما من سوء تصرّف إرادي عنده.
2. أمانة الإنسان على نفسه بأن يأخذ بها إلى غايتها وطريق كمالها، ومن أمانته التي حمِّلها أن يضع الأشياء التي مكن منها في هذا الكون على طريق غاياتها,وقد سُخِّرت تلك الأشياء من أجل الإنسان نفسه وتكميله. هذه الأمانة خص بها الإنسان دون السماوات والأرض التي تؤدي دورها مسخّرة لا مختارة.
أمانة الإنسان أن يتحمل تحديد مصيره، ورسم مستقبله، أما السماوات والأرض فهي مسخرة، وموضوعة في مسارات وقوالب تكوينية لا تستطيع أن تحيد عنها، وأُعطي هذا الإنسان أن يلتزم الطريق إلى الله، وأن يحيد عنه.
وفارق الإنسان عن السماوات والأرض هو عقله وإرادته، وهو سر عظمة الإنسان, كما أن هذه الإرادة هي سر شقائه. فإن أحسن إعمال إرادته سعد، وإن أساء استعمال إرادته شقي وانتهي إلى الجحيم.
ولفارق العقل والإرادة كانت عظمة السماوات والأرض غير محتملة لهذه الأمانة، وكان الإنسان قادراً على حملها, فقد خلق متناسباً مع مسؤولية التغيير والتطوير لنفسه, ولما يقع تحت تصرفه من الكون على خط الله.
3. وهذا الإنسان المزود بما يناسب هذه الأمانة، المؤهل لأدائها فيه قابلية الظلم لنفسه بالانحدار عن الطريق، وأن يستبدل عن الحكمة السفه بأن يجور عن الجادة، وهو من ناحية فعلية في كثير من أفراده شديد الظلم، كثير الجهل لا يتصرف عن حكمة، ولا يصدر عن روية، وإن رُزق عقلاً، وَحمل علماً كما يحمل الحمار أسفاراً ومن ذلك ترى تخلّف الأكثر عن الوفاء بهذه الأمانة } إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً {
4. وإن ائتمان الله عز وجل الإنسانَ على صنع مصيره وتحديد نوع مستقبله عن قدرة وحكمة وهي أمانة تكليفية تشريفية فيها رفع لقدر هذا المخلوق، وإعلاء لشأنه إذا استقام. وليست هذه الأمانة التجاء من ضعف ومن حاجة في المؤتَمن.
الأمانة أمانتان: أمانة يجد صاحبها حاجة للاستعانة بالغير في حفظ ماله، وما يعتزّ به، فيلجأ إلى الغير كي يأتمنه على ما يحرص على حفظه مما يعجز هو عن صيانته، هذه أمانة منطلقها الحاجة، ومنطلقها إلجاء الضعف له إلى أن يأتمن على ما يعتزّ به يدا ثانية، مع علمه بأن ليس أحفظ لماله من يده لو كان مستطيعا حفظه. الأمانة الأخرى هي أمانة تكليفية تشريفية؛ فمع قدرتك وكمال عقلك، وتمام حسن تصرفك تعطي ولدا من أولادك مختارا لك أمانة تريد أن تظهر شأنه بين إخوانه، وتعلّمهم أن يلحقوا بمستواه في العقل والحكمة والأدب, وتريد أن تحدث تنافسا بينه وبينهم في الخير، هنا تأتمنه لا من حاجة فيك له, وإنما بقصد أن تشرفه وتكرمه، وهكذا يأتي إلقاء المسؤوليات أحياناً على عواتق البعض لا عن عجز من المؤتِمن وإنما لإظهار الشأن والموقع.
وائتمان الله عز وجل الإنسان على أن يشارك في تحديد مصيره ورسم مستقبله ليس له منطلق إلا هذا المنطلق أعني منطلق التشريف والتكريم وإظهار شأن الإنسان وهي نعمةٌ, على الإنسان أن يشكرها.
تجدون لكون أمانة الله الإنسان عن تشريف هذا التعبير في الآية الكريمة } إِنَّا عَرَضْنَا{ باستعمال ضمير العظمة في قوله تبارك وتعالى } إِنَّا{ وفي قوله تبارك وتعالى }عَرَضْنَا { فالتعبير يقرر أن الله عز وجل حين أسند هذه الأمانة للإنسان لم يُسندها عن ضعف، إنما أسندها عن عزّة، وغلبته وعظمة، فليست هذه الأمانة من منطلق الحاجة واللجأ إلى الغير.
5. ثُم أنه حاشا لله عزّ وجل وهو العدل الحكيم المحسن الرؤوف الرحيم أن يحمِّل الإنسان مستغفلاً جهله وعدم الدقة في تقديره، أمانة لا تزنها طبيعته ولا تتحملها استعداداته, وتضعف عنها مؤهلاته. الأمانة التي حملها الإنسان هل هي أمانة بوزنه أو أمانة فوق وزنه؟ هذه الأمانة عند وزن الإنسان ولكن بشرط. مرة يحمّل الله عز وجل الإنسان هذه الأمانة من غير أن يقدم له خريطة حياته ومسارها الصحيح، ومرة يحمله هذه الأمانة من منطلق مواهب الله والاستعدادات التي أعطاها الإنسان وغرسها في طبيعته مضافا إلى ذلك أن يتنزل من الله عز وجل منهج يرسم مسار الحياة للإنسان، والإنسان قادر على تحمل هذه الأمانة ليس من خلال استعداداته ومواهبه الموهوبة له من الله فحسب وإنما بشرط أن يلتزم المنهج الإلهي، فإذا التزم المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسل، وتنزلت به الكتب تم موضوع تحمل هذه الأمانة من استعدادات في الداخل وإنارات كافية من الخارج، ونقرأ هنا }لا يكلف الله نفساً إلا وسعها{، وإذا رجعنا إلى الآيتين السابقتين وجدنا أنهما مذيَّلتان بقوله تبارك وتعالى } وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا { فهل يكلف الرحيم عبداً ضعيفا مستغفلا لجهله, وعدم دقة تقديره ما لا يتحمله؟!
إن الآية الكريمة وهي تقول} وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ تؤكد على أن هذه الأمانة لا تكبر وزن الإنسان إذا التزم الشرط، وفي مقدوره أن يلتزم الشرط وهو اتباع منهج الله عز وجل الذي يحدد له مساره ويبلغ بمصيره إلى أحسن مصير, وبعاقبته إلى أشرف عاقبة.
فالإنسان وإن كان من قابليته السفهُ والظلم، إلا أن في استعداده أن يكون الرشيد الحكيم العادل السالك للصراط. وكثرة سفهه وظلمه الواقعُ فيها فعلاً إنما هي بسوء اختياره. فما حمِّل أمانة صنع مصيره وتحديد نوع مستقبله في حال لا يملك إلا أن يكون جهولاً ظلوماً. إنه حمّل هذه الأمانة وهو قادر على تحمّلها وأن يختار أن يكون الحكيم الرشيد العادل، وفي مقدوره أن يكون كذلك، وليس عليه أن يكون كذلك إلا بأن يستجيب لمنهج الله، ويتوافق في حياته مع دينه.
6. والإنسان وقد أُهِّل فطرة لحمل الأمانة الكبرى منقسم في العاقبة في موقفه من هذه الأمانة إلى ثلاث فئات تضم كل منها رجالاً ونساءً، و المجتمع في الإسلام ليس منقسما في التقييم الإنساني إلى رجال ونساء، وإنما هو منقسم من حيث إنسانيته، وكمال هذه الإنسانية وسقوطها إلى هذه الفئات الثلاث التي تضم كل منها رجالا ونساء على حد سواء.
الفئات الثلاث: فئة منافقين ومنافقات، وفئة مشركين ومشركات، وفئة مؤمنين ومؤمنات. والقسمان الأولان عاقبتهما العذاب، أما المؤمنون والمؤمنات وإن كانوا على استقامة إلا أنهم يحتاجون إلى توبة من الله لا تُبقي لهم خطأ ولا زللاً وقد وعد سبحانه بالتوبة عليهم لأنه غفور رحيم؛ لا يخسر رحمته إلا من خسر نفسه بسوء إرادته من منافق ومنافقة، ومشرك ومشركة.
اللهم صلِّ وسلّم على محمد وآل محمد، ووفقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين لأداء الأمانة، ولا تجعلنا ممن أخلف وعدك، ونقض عهدك، واتخذ من دونك أرباباً، وعن أهل ولايتك أولياء. اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ومن كان له حق خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا وأزواجنا وجيراننا يا تواب يا غفار، يا كريم يا رحيم.
بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا مجد كمجده، ولا عظمة كعظمته، ولا حمد كحمده، محمود ربنا على كل حال، مشكور على كل تقدير. إذا أعطى أعطى متفضلا متكرما، وإن يمنع لا يمنع شحا وتبرما. يجزي كثيرا، ويثيب جزيلا، ويعاقب عدلا ويعفو جميلا، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله وأن لا نقول إلا صدقا، ولا تشهد إلا حقا، ولا نعمل إلا صالحا، ولا نرد علما، ولا نعتمد شكا، ولا نسكت على منكر نملك رده، ولا نتخاذل عن معروف يمكن إقامته، فإن التقوى ملازمة الحق، ومفارقة الباطل، والصبر على الطاعة، وعن المعصية، وإقامة للقسط، وسعي للخير، وإصلاح في الناس، وإخلاص في العبودية للملك الحق المبين.
عباد الله أيام الحياة محدودة، وأنفاسها معدودة، وبعد الحياة نقاش وحساب، ومواقف وعقبات، ومداحض ومنزلقات، وثواب وعقاب، وخلود سعادة أوشقاء، وإقامة في جنة أو جحيم، والنقلة محتومة، والرحيل لا ريب فيه، واليوم مجهول، والموعد مفتوح على كل لحظة، والسفر قد يحسبه المرء بعيدا وهو على رأس خطوة أو شهقة أو طرفة عين. ولحظة أخيرة قبل معاينة الموت قد تكون معبر صاحبها إلى الجنة لو عبّأها خيرا، أو النار لو عبأها شرا، فلا يهن في نظرك شأن لحظة واحدة من لحظات الحياة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، ولا تسلمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين لأنفسنا، ولا تكلنا إلى هوانا، ولا إلى الشيطان الرجيم طرفة عين أبدا ياكريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك نبي الرحمة، الرسول الخاتم البشير النذير، والسراج المنير، القائل للحق، الناطق بالصدق، المبلغ للوحي محمد الهادي الأمين وعلى آله الطاهرين.
اللهم صل وسلم على أمير المؤمنين علي إمام المتقين. اللهم صل وسلم على أمتك الزاهدة، الصابرة العابدة، فاطمة الزهراء المجاهدة.
اللهم صل وسلم على الإمامين الزكيين، والسبطين الكريمين، الطاهرين المعصومين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين.
اللهم صل وسلم على عباد الله الصالحين، والأئمة الهداة الميامين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موس الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الخلفاء الراشدين.
اللهم صل وسلم على إمام الأمة، المتحلي بالعصمة، شريك القرآن، القائد للجنان، القائم المنتظر، الإمام الثاني عشر.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وأظهره على أعدائه، واقهر به مناوئيه، وأعز به أولياءه. اللهم املأ به الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت بأعدائك ظلما وجورا.
اللهم الموالي له، المعد لنصرته، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء من أهل الصلاح العاملين في سبيلك، والمجاهدين الغيارى المدافعين عن حرمة دينك وأوليائك انصرهم وادرأ عنهم واجعلنا منهم يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الله فالحديث من وحي ساحة الأحداث:
أولا: العراق بين نارين:
في إبان الحرب واشتعالها أو قبيل ذلك كان هذا التعبير جاريا، والأمر لا زال كذلك فالعراق لا زال بين نارين؛ نار مشتعلة تلتهم الأجساد والأراح والقيم فعلا وهي على بداية الطريق، ولو استمر بها المقام في العراق لم تبق إسلاماً ولا قرآنا ولا صلة برسول، ونار أخرى ما طال بقاؤها تحت الرماد، وإنما بدأت تظهر من جديد وهي تهدد بخطر أذاق العراق الأمرين، وهي نار البعث الذي لم يمت، حزب البعث حزب بالتأكيد يصل إلى رقم هائل لا أضبطه وقد تَّربت عناصره عشرات السنين، وغُذي بفكر هذا الحزب تغذية يومية مركّزة فأين ذهب؟ لا زال على الأرض، ولا زال خطره قائماً والآن يقاوم لا من أجل العراق إنما من أجل إذلال العراق من جديد، ومن أجل أن تكون بيده الكعكة.
فالعراق بين نار الأمريكان والإنجليز من جهة، ونار البعث من جهة أخرى. ولقد كان غزو العراق عند مجلس الأمن عدواناً، لكنه وبعد اقتضاء المصالح أصبح التحكم في مصير العراق بحكم مجلس الأمن وبحكم كل الطغاة في الأرض مشروعا، وسينال هذا التحكم والسيطرة ألوانا من الدعم كلما اقتضت المصالح.
ولكن المشروع وما هو صحيح على الورق يقدّر له لو طال مكثه في الواقع أن يواجه زلزالا على الأرض. فالعراق المسلم لن يموت، والعراق المسلم لن يستكين، والعراق المسلم سيبقى على الطريق طريق الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وسيثبت للدنيا كلها أنه غير قابل للذوبان وعيش الذِّلة.
وإسقاط الأنظمة واستسلامها شيء وسقوط الأمة وسقوطها شيء آخر، سقوط الأنظمة أمر سهل، ولكنّ سقوط الأمة لن يكون سهلا أبدا، وهذه الأمة وجدت لتبقى، وجدت لتقود المسيرة العالمية إلى الخاتمة الحسنة، وجدت لتقيم عدل الله في الأرض، ليشهد الوضع الاجتماعي، والوضع السياسي، والوضع الاقتصادي، والوضع الثقافي والوضع الإنساني بكل أبعاده بأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فهي أمة لن تقبر. أمة لابد أن تنهض وقد بدأت نهضتها، وهذه الزوبعة لن ترتد بالأمة عن خط المقاومة وعن خط النهضة والصمود.
والأمريكان والانجليز لن يسعهم أن يبقوا طويلا في شوارع العراق وأزقته وساحاته وجامعاته ومساجده ومآذنه بلا أمن، ولن يتأتى الأمن للأمريكان في العراق، فكلما طال مقامهم كلما ستكون انتفاضة، وكلما ستتسع الانتفاضة، وكلما سيشهدون لا مقاومة لا تقاوم خاصة وهم لا يستطيعون أن يسحقوا شعب العراق في ظل شعارهم شعار التحرير, وإن كانا سيكذبون ويكذبون والعالم يستجيب لكذبهم ولكن للكذب نهاية، فإذا أفرطوا في استعمال القوة سقط هذا الشعار واضحا، واستثار كل شعوب الأرض, وكانت مواجهة مع أمريكا بدل أن تكون المواجهة مع العراق.
ولكن من مشكلات العراق:
1) الخوف من عودة الحكم البعثي الجهنمي الذي أذاق الشعب الأمرَّين. وهذا يفرض نفسه على المعارضة، ويفرض نفسه على المقاومة، فخوفا من أن تكون هذه المقاومة في صالح البعث، وتكون تمهيدا لظهوره من جديد لا يسع العراقيين أن يدخلوا في مقاومة شاملة، وعلى صعيد عام مع الأمريكان.(1)
2) ورقة الطائفية التي سيجرب المحتلون اللعب بها كثيرا.
3) تنضاف إلى الطائفية المصالح العشائرية، وأطماع رؤساء العشائر.
4) أضف إلى ذلك جيش العملاء العسكريين والثقافيين.
5) تأثير الوسط العربي الرسمي. فهناك تأثير سيء سلبي وأكثر من سلبي وإنما هو إيجابي في مصلحة الأمريكان، سلبي بالنسبة للعراقيين وهذا الأثر السيئ آت من الوسط العربي الرسمي الذي آمن بالاستسلام والتبعية لأمريكا.
ثانيا: حرب سلمية:
ما يجري إعداده في فلسطين وفي المنطقة كلها إنما هو حرب سلمية إذا صح التعبير. المطلوب أن تتوقف حرب البندقية وحرب الدم والأشلاء، وأن تسكت بعض الوقت آلة الدمار الإسرائيلي، إذا رأت إسرائيل أن تتوقف هذه الآلة ولو للحظات. ولكن كل ذلك إنما هو من أجل حرب السلم. وهي حرب على القيم والحضارة الإسلامية من أجل إعادة الصياغة للأمة صياغة تتفق مع الهوية الغربية…. حرب في أجواء من السلم الظاهري، وتدار من طرف واحد هو الطرف الأمريكي الإسرائيلي.
وآليات الصياغة الجديدة كثيرة جدا تملأ كل زاوية في حياة المسلمين اليوم قبل الغد، بل وكانت تعمل منذ الأمس البعيد: فكر جديد… سلوك جديد… عادات جديدة… إباحية جنسية… أزياء… حفلات ماجنة… تجديد خطاب بالمعنى الذي يريده الغرب، بالمعنى الذي يريده الغزاة، لا بالمعنى الإيجابي… تكيف بالوضع الجديد… إنتاج إسلام جديد من أجل المعايشة.. إنتاج أخلاقية جديدة… سلوكية جديدة.. الانفتاح على العالم الآخر… الحرية الفردية..(2) ملايين من المفردات، ملايين من المعلبات مطروحة على الساحة تخلق توجها جديدا وانحرافا عن خط الإسلام على مستوى الفكر.. الشعور.. الواقع العملي…
ويدخل في ما يساعد هذه الصياغة كل منابع الضخ, ووسائل النشر: الصحافة… التلفاز… الإذاعات… الفن… حتى ما يسمى بعلم كذبا…وهذه كلها منها ما هو عالمي وما هو محلي. مختلف القنوات والمشاريع والخطى تضخ من أجل أن نصاغ خَلقْاً آخر لا صلة له بإسلام ولا قرآن ولا رسول.
عليك أن تقرأ مقررات مؤتمر الثقافة العربية في القاهرة تجد أنفاسا وملامح وصرخات من هذا الاتجاه.
والكل مدعو للتطبيع مع إسرائيل، وهذا التطبيع يحتاج إلى هذه الصياغة وإعادة تكوين وتأهيل أبتداء من الطفل المسلم إلى الشيخ العجوز، ومن السينما إلى الجامع، ومن الطالب إلى إمام الجماعة والجمعة كلنا نخضع الآن لصياغة جديدة تؤهلنا للتعامل المنفتح مع إسرائيل، مع فسقها، مع فجورها، مع هيمنتها والله أرحم الراحمين.
ثالثا: حماية الدين:-
الحديث عن جنبة من جنبات الحماية الدينية فقط:
أسأل: متى يتحول الدين إلى عصبية عمياء؟ ومبرر للقتل والفتك من غير حق؟ ومبرر إلى استئصال المسلمين لبعضهم البعض؟ متى يتحول الدين إلى ورقة سياسية رابحة يلعب بها الساسة الدنيويون ويوظفونها لأغراضهم؟ متى يتحول إلى مخدر شعبي يهرب بك عن معاناة الحياة لتموت ويسمن الآخرون؟ ومتى يتحول الدين إلى شيء مكذوب متغير دائماً بلا ثابت مستعد لأن يُضفي الشرعية على كل تبذل وانحدار وانحراف وانفلات سلوكي, ويطمئن قلب الماجن والفاسق بأن فسقه ومجونه لم يخرجه عن الدين قيد شعرة, وعن رضى الرب العظيم؟
كل ذلك عندما تتميع المرجعية الفكرية والفقهية للدين, وتتسيب وتتدنى مستوياتها علما وخلقا وفضيلة نفسية وروحية، وتكون التنظيرات الدينية والفتاوى من حق الصحفي والتاجر وحتى الممثل والرقاص، ومن كان له أي اختصاص أو لم يكن له أي اختصاص.
أعرفت بعد هذا شرط العصمة في المرجعية الدينية الأصل؟ ولماذا شرط الفقاهة والعدالة في المرجعية الثانوية في إصرار مدرسة أهل البيت عليهم السلام؟ لأنه لا بقاء للإسلام من غير هذه المرجعية في صورتها الأصلية أو في صورتها الثانوية على الأقل.
أو عرفت أيضا لماذا يُهوَّنُ كثيرا من ضرورة الرجوع إلى الفقهاء والعلماء من الناحية الدينية في مسائل الحياة المختلفة؟ ذلك من أجل تحقيق جوّ يستطيع فيه الغزاة أن ينهوا هوية هذه الأمة، ويستبدلونها خلقا منسوخا جديداً مشوها.
نداء:
يا مسئولون يا حكومة يا كل القوى أنقذوا الشباب من براثن البطالة، اسمعوا صرخاتهم، فالفقر أخ الكفر، ومعذور من شهر سيفه عند جوعه، وعند جوع زوجه وولده.
الذين تأكلهم البطالة سيصبرون إلى حد، وصبرهم صار ينفذ، وقبل نفاذ الصبر لابد من حل.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وآتنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة يا غفور يا رحيم، يا تواب يا كريم.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – فيفتحوا بذلك باب العودة السهلة للبعثين فيشقوا بهم من جديد.
2 – والمعنى هنا الحرية الحيوانية لا الإنسانية الكريمة.