الحديث الأسبوعي لـ آية الله قاسم – العقل والجهل – ٨ مايو ٢٠٢٤

أولى حلقات دروس سماحة آية الله قاسم في باب “العقل والجهل” في أصول الكافي، بحضور جمع من طلبة العلوم الدّينيَّة وذوي الاهتمام الفكريّ والثقافيّ، وذلك بمجلسه في مدينة قم المقدَّسَة – ليلة الخميس 8 مايو 2024 (الحلقة الأولى): 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين. 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) – سورة القلم (1/2). 

(إقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ* ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ) – سورة العلق (1/5). 

 

العقل والعلم من الله عزَّ وجلّ ويدلاّن عليه، ولمناسبة دلالتهما على الله وعظمته؛ فهما من أشرف ما أوتي الإنسان من نعمة بعد الحياة. 

كم على الأرض من خلقٍ كثير؟ من جمادٍ ونباتٍ وذوي حياة؟ ولكنّ الأرض لا تعمر بإرادة وبعلمٍ غير إرادة الإنسان وعقله وعلمه، ولا تقوم حضارة ولا تنمو ولا تستقيم إلا بما أوتي الإنسان من عطاء الله عزَّ وجلّ وفيضه من عقلٍ وعلم. 

ومن سخف الكلام والبعد الشديد عن الحقيقة والعناد الجاهليّ أنْ يُرمى الإسلام بأنّه لا يلجأ للعقل، بأنّه خرافات، بأنّه عقلٌ عاميّ. أنْ يُتهم الإسلام بأنّه عدوّ العلم، وأن العلم يأخذ بالإنسان عن الدين، عن الإسلام الحقّ. 

الآيات الكريمة الثلاث واضحةٌ في كوْن نعمة العلم نعمة من أكبر النعم، وأنّ حركة الإنسان مربوطة في تقدّمها بالعلم، وأنّ العلم لا يُفارق الدين، والدين لا يفارق العلم. 

 

أريد أن أقرأ بعض الأحاديث في كتاب “العقل والجهل” في الكافي -مع تجاوز السند-: 

عن الإمام أبي جعفر الباقر “عليه السلام”: (قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب).

(استنطقه) هنا فيما يظهر، يعني أعطاه قدرة النطق والفهم. 

والإقبال على أيّ شيء؟ على طاعة الله، أقبل ذليلاً خاضعاً لأمره ونهيه، فأقبل، استجاب بكلّ طواعية، وبكلّ قوّة، وذلك لإدراكه عظمة الله عزَّ وجلّ وحقانيته، وأنّ له لا لغيره حقّ الأمر والنهي، مدرك واعي فاهم مميّز، فأقبل. 

(ثم قال له أدبر فأدبر)

يعني تخلّى، لا تأخذ، لا تقف عند هذا الأمر المنهي عنه من الله، فرّ منه، أدبر عن كلّ منكر، عن كلّ سخيف، عن كلّ انحدارة، عن كلّ سفاهة، عما يُشينك، عمّا يُخزيك ويذلّك ويوقع بك الخسارة الكبرى. 

(أدبر فأدبر)

مستجيباً لله تبارك وتعالى، مدركاً أن الله لا يأمر إلا بما هو خير وما حقٌّ وما هو فلاح، ولا ينهى إلا عن ما هو باطل وفيه خسارة الإنسان وشقاوته. 

(ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك)

لا سماء، لا أرض، ولا جمال حسيّ، ولا أيّ شيءٍ آخر، أحب مما هو مخلوق من الله لله هو العقل لعظمته، لإدراكه لعظمة الله عزَّ وجلّ، ولكون ما يدلّ عليه هو الحقّ، أنّ ما يوصل إليه من رؤية لابد أن تكون حقّاً، كانت رؤية تتعلق بنفيٍ أو إثبات، الرؤية الإثباتية من العقل حقٌّ ليس فيها شيءٌ من باطل، الرؤية من العقل للنفي حقٌّ ليس فيها شيءٌ من الباطل. 

 

(ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك)

لأنه يدلّ على جلاله، على وجوده الحقّ الأصل، كونه أصل الوجود، ولا وجود إلا منه، يدلّ على جلاله وجماله وعظمته وقدسه. هل لأنه كذلك فقط؟ أو لأنّ هذه الرؤية تنقذ الإنسان العبد لله عزَّ وجلّ وتهدي الخلق الكثير لما وعد الله به عباده الصالحين من حياةٍ أبديةٍ سعيدةٍ لا يشوبها شقاء. 

الله يحبّ أن يُعرف، لماذا؟ لحاجته لمعرفة الخلق له؟ بالطبع لا.. 

الله يحبُّ أن يُعرف لأنّ في معرفته إنقاذ خلقه، والوصول بخلقه إلى أعلى كمالٍ يمكن أن يصل إليه الخلق بحسب طبيعة الخلق وإنْ كان الخلق وما أهله الله الخلق له من الكمال. 

 

(ولا أكملتك إلا فيمن أحبّ)

فالأكثر عقلاً، الأركز عقلاً، الأوعى عقلاً، الأصحّ عقلاً هو الأحبّ إلى الله، وليس الأكثر ركوعاً وسجوداً، ولا عمل طاعة. 

الطاعة معها عقل لها وزن، مع عقلٍ كبير دقيق محقق حاضر واعي، هذه الطاعة لها وزن. وزنٌ لا يزنه وزن الآخر من طاعةٍ مع سطحية، مع إدراكٍ خفيف، تتفاوت قيمة الطاعات بقيمة إدراك حقّ الله وفهم هذه الطاعة، وانكسار النفس انكساراً شديداً أمام عظمة الله عزّ وجلّ ومعرفة ما يناسب من الطاعة وما لا يناسب. 

 

(وإياك أثيب وإياك أعاقب)

اليد لا تشعر بالألم إلا في ظلّ الروح، عذاب نفسي، عذاب معنوي، هذا العذاب المعنوي طبعاً لا تدركه الحيوانات. العذاب المعنوي مسلّط على ذوي العقل. 

حتى العذاب الحسيّ، الطريق إلى إحساس الحسّ به؛ هو العقل، وهو الروح. العقل يحسُّ هنا هذا الحسّ، والحياة تعني العقل وتعني يقظة الروح، والعقل هنا الروح، وإذا كان لا يوجد روح ليس هناك إدراك لحواس الألم، أيّ ألم في الحواس لابد أن يكون قبله وجود عقل تشعر به هذه الحواس. 

للروح مددها، وللعقل مدده، ومن خلال مدد الروح -في الحقيقة- يشعر العقل بالألم إذا جاءه ما يؤلمه.

فأنا وأنت روحٌ وعقل، والجسد مظهر. وأنا وأنت فعلاً روحٌ وعقل، والأدوات منفذة. وأنا وأنت كرامةً روحٌ وعقل، وأنا وأنت متميزان عن مخلوقات الله في الأرض بالروح الإنسانية المتميزة عن الروح الحيوانية بالعقل. عندما تقول أنا لا أحد ينصرف إلى جسده، وهو ليس جسده وإنما هو روحه الإنسانية وليست الحيوانية، هو بما هو إنسانٌ، روحه الإنسانية وعقله. 

والهبوط والنزول في القدر للإنسان من خلال علوّ إنسانيته وتسافلها، من خلال غياب عقله وحضوره، من خلال تواؤم حياته، سلوكه، أهدافه، مع نور العقل وعدم تلاؤمه. 

 

(أما إنّي إياك آمر وإيّاك أنهى، وإيّاك أثيب وإياك أعاقب)

 

في حديثٍ آخر عن عليّ “عليه السلام”: (قال: هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم: إني قد اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج).

يعني لا حياء لا تصبح لآدم، ويا دين لا تصبح لآدم، انصرفا، فهو لا يريدكما. 

إذا ملكتَ عقلاً ملكتَ الدين والحياء. الحياء الذي يعني الترفع عن الوضاعة وعن كلّ سخافة، وعن كلّ سفه، وكلّ انحدارةٍ وانسحاق، وليس الحياء الذي يمنعك عن طلب الكمال. 

 

فإذن علينا أن نهتم بأمر العقل قبل كلّ شيء، لنكسب كلّ شيءٍ من الخير، لنكسب كلّ المواهب التي تتوقف على نعمة العقل. فحيث لا يكون لنا عقلٌ قادر على إدراك الحقيقة، يقودنا إلى ما ينبغي فعله، ويأخذ بنا بعيداً عما لا ينبغي فعله، نكون قد ضمنا تحقيق سلوك طريق الحقّ، طريق النجاة، طريق النجاح. هذا يعطي قيمةً للعلم، للتعلُّم، يفرض واجباً حتمياً على الإنسان المسلم أن يتعلّم، ولذلك كان العلم فريضةٌ على كلّ مسلم -ومن المسلم المسلمة، لأنه فرض على الإنسان بصفته إنساناً، والإنسانية مشتركة بين الذكور والإناث-. 

 

نقرأ لتركز في الذاكرة -إن شاء الله-: (يا جبرئيل وما الثلاث؟ قال العقل والدين والحياء، فقال آدم “عليه السلام” إنّي قد اخترتُ العقل). 

وليس اللحم والعيش فضلاً عن هذا الحياء والدين، ولا نجاة بلا دين، لكن الدين حاصل على العقل، ولا يحصل بلا عقل. 

الدين الذي يحصل بالعقل خرافات، الدين البعيد المنحرف عن طريق العقل، المعاكس ليقينيات العقل العام الكُلّي، هذا دينٌ لا يصح نسبته إلى الله تبارك وتعالى. هو عقل تخريبي لا إعماري. 

 

(فقالَ يا جبرئيل: إنّا اُمِرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال فشئنكما وعرج). 

-بعد ما يحتاج أوصيك بالدين والحياء- أنت يا آدم ضمنت الحياء والدين، وقد ضمنتكما لآدم “عليه السلام” حين اختار العقل. 

 

هذه مرسلة رفعها لأبي عبد الله “عليه السلام”، (قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل).

حيلة من أجل الدنيا، مهارة، حِلْق في التحايل للوصول إلى الأهداف الخسيسة السخيفة، الظلم، النهب، السلب، استعباد الآخرين وما إلى ذلك، أليس هذا عقلاً؟ 

(تلك النكراء)

يجب أن يُزهد فيها، يُبتعد عنها. فطنة في شرّ، في باطل، هذه لا قيمة لها، تنشر السوء والظلم والفحشاء والانقسام وما إلى ذلك. 

(العقل فيما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان)

وعبادة الرحمن منها نفع العباد، إصلاح شؤون العباد، إصلاح المجتمع، النهوض بمستوى النفوس والعقول، بالمستوى المادي الذي يساعد على إصلاح نفس الإنسان، على حفظ قيمة الإنسان، كلّ ذلك من العقل، لأنه يُرضي الله تبارك وتعالى، هذا عبادة لله عزَّ وجلّ. 

 

(تلك النكراء، تلك الشيطنة)، مهارات شيطانية، فهم شيطاني، وهي شبيهة بالعقل، يتراءى للساذج أنّها عقل، أنّها فهم عميق، أنّها حكمة، وهي لشبهها بالعقل، تتشبه بالعقل في نظر أصحاب الرأي السطحي والنفوس الغافلة، أما هي في حقيقتها بعيدة عن العقل كلّ البُعد. 

يقول “عليه السلام” (وهي شبيهةٌ بالعقل وليست بالعقل). 

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى