كلمة آية الله قاسم في ذكرى استشهاد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر
*كلمة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في ذكرى استشهاد السيد محمد باقر الصدر، ألقاها عقب الدرس القرآني الذي كان سماحته يعقده في مجلس منزله بمدينة قم المقدسة – رمضان ١٤٤٤هـ / ٢٠٢٣:
في التاسع من أبريل استشهد الصدر “أعلى الله مقامه”، وافقت ذكراه في هذه السنة أنْ كان استشهاده قبل ثلاثة أيامٍ من استشهاد أمير المؤمنين “عليه أفضل الصلاة والسلام”، وقد التحق بإمامه العظيم مستشهداً.
قمّة في الإيمان، في العلم، في الرُشد والهداية، في النشاط والجديّة، في الصدق والإخلاص، في الثوريّة والفدائيّة، في عمق المعرفة وتنوعها وسعتها، والتنظير في المحيط الواسع للإسلام، في التواضع وسعة الصدر، في الاهتمام العالي بشؤون الأمّة، في التأثر الشديد لمتاعبها، في البصيرة العمليّة مما يتعلق بأوضاع الأمة، في الولاء العميق الجاد والواعي للإسلام.
مَثَل كبير في التضحية، مَثَل كبير في التنازل للحقّ، في ذوبانه في الإسلام، في القائد العظيم الإمام الخميني؛تواضعاً لله عزَّ وجلّ، مع ما يمتلك من رصيدٍ كبير على المستوى العربي وغير العربي، ومن شهرة واسعة جدّاً على مستوى حتى العالم، نسي كلّ هذا ووضع نفسه تحت أمر السيد الإمام “أعلى الله مقامهما جميعاً”.
إنّه وجودٌ إسلاميٌّ مشتعلٌ لاهب، لا يعدل الإسلام عنده شيءٌ آخر، ولا يصرفه عن نصرة الإسلام صارف، كان مستعدّاً كلّ الاستعداد أن يذهب إلى حرم أمير المؤمنين “عليه السلام” ليعلنها صرخة مدوية ضد البعث، وضد صدام حسين؛ ليثير الدنيا زوبعةً عن صدام، وليقتل هو في لحظته أو بعد لحظات.
وقد عرض هذا فيما يذكره السيد العظيم سيد كاظم الحائري، عرض هذا على السيد الإمام عبر رسولٍ له، إلا أنّ السيد الإمام أعرض عن أن يعطي جواباً، أو أنّه في تذكّري ربما أعطى جواباً أنّه لا يرغب في ذلك.
تعرفونه، هو ذلك الرجل العالم العامل الورع التقي المجاهد المقدام الغنيّ بالشعور بالعزّة بالله لا بنفسه ولا بقومه ولا بشهرته ولا بدنياه ولا بعلمه ولا أن كانت العطية تهوى إليه، أبداً، كانت عزّته فيما يُستقرأ منه ويُحدس حدساً شديداً أنّها عزّة بالله تبارك وتعالى، ولم يغرّه شيء، لا مستواه العلمي ولا أي شيءٍ آخر.
تعرفونه، هو ذلك الرجل العالم العامل الورع التقي المجاهد المقدام الغنيّ بالشعور بالعزّة بالله والحرية المستمدة من تعلقه العظيم بالعبودية للخالق العظيم الأعظم الكامل الأصل في كلّ وجودٍ وفي كلّ عطاءٍ وفي كلّ خير، الكامل المطلق ربنا سبحانه وتعالى الذي سجدت له السموات والأرض وما فيهما من شيء. عزّته بالله العظيم تبارك وتعالى.
تعرفون الشهيد الصدر، وتعرفون كلّ ذلك عنه.
ومثله لا تنساه الأمّة ولا يجوز لها أن تنساه، ومن خسارتها الكبرى أن تنساه، ومن بلاهتها أن تنساه، ومن نباهتها أن تذكره على الدوام.
لا تنساه الأمّة ولا تنسى حاجتها المستمرة للإقتداء به، والاهتمام بإنجازاته.
وبالاهتمام بأمثال هؤلاء العظماء تحيا الأمة، صدِّقني أنّه إذا مات ذِكرُ هؤلاء العظماء ماتت الأمّة، تبقى أجساداً، وتبقى الحياة منها حياةَ أكلٍ وشربٍ ولبسٍ ولذّاتٍ دنيوية تافهة، أمّا هي في الذات الشريفة من وجودها، في ذاتها الإنسانيّة، في مستواها المُحلِّق العظيم، فيما هي أهلٌ له من سعة الآخرة من القرب من الله عزَّ وجلّ، فتكون قد ماتت.
العظيم في القرية بعظمةٍ نسبيّة -فضلاً عن العظيم في الأمّة- محلُّ حاجةٍ كبيرة. الصالح في البيت الواحد ، الرجل الصالح، المرأة الصالحة، في الحيّ، في البيت، هو سراجٌ إذا انطفأ صار الظلام، إذا مات فليبق منه ذكرُ أعماله، ذكرُ مواقفه النبيلة، ذكرُ طاعاته لله عزَّ وجلّ، بما أحببناه ، بما كنّا نشتاق إليه في حياته، ولا زلنا نشتاق له في مماته،فلنذكر هذا. وبِمَ عَظُم وأيُّ طريقٍ اتخذها لكي يكون عظيما، ولنذكره عملاً في تربيتنا لأنفسنا وأولادنا.
في ذكرهم حياة وفي نسيانهم ممات.
والحاجة إلى مثل الشهيد الصدر ليست علميةً وقياديةً فكريّة فسحب -مع أهمية ذلك أنْ يُتخذ قدوة في قيادته الفكرية وفي مستواه العلمي وفي قدرته التنظيرية وفي سعة دائرة العلوم التي تطرّق إليها-، إذ مع كونه محل حاجة الأمّة الملحة في ذلك فإنّ حاجة الأمة إلى قيادته الحركية والسياسية أشدُّ إلحاحاً بما له من مقوّمات كفوءة عالية متميزة في هذا المجال الذي تقلّ فيه الكفاءات من وزنه، فإنّ الكفاءات العلميّة والقياديّة الفكرية أكثر من الكفاءات في ميادين القيادة العملية الحركية والسياسية.
وكلّما قلّت الكفاءات في مجالٍ معيّن كلّما ازدادت وعَلَت قيمة.
ولقد اتضحّ من سيرته العملية الجهادية “رحمه الله” أنّ مصلحة الإسلام عنده قبل ذاته وذويه، قبل سمعته وشهرته وعلميته ومرجعيته وصحّته وحياته، وأنّ إصلاح الأمّة وأمنها قبل راحته وأمانه ووجوده في هذه الحياة، هذا ما علّمتنا إياه سيرته “رحمه الله وأجزل ثوابه”.
هذا هو الشهيد محمد باقر الصدر الذي تحتاج الأمّة إلى الكثير من أمثاله في معركتها الضارية، الطويلة مدىً؛ ضدكل أقطاب الطاغوتية في الأرض، وهو الذي شَهِدَ العالم صراعه الشرس مع طاغوتٍ من أعتى الطواغيت وأشدّها فتكاً وبلا أيّ ضابطةٍ دينية أو أخلاقية لأي حرٍّ يُنادي بكلمة الحقّ، وينتصر للدين والعدل والحريّة وكرامة الإنسان -أعني بذلك الطاغوت صدّام حسين-.
أيُّها الجيل الصاعد، خذوا على أنفسكم أن تُسخِّروا حياتكم ما استطعتم للاقتراب من حياة هؤلاء العظماء، لتحيوا الحياة الكريمة التي عرفوها وذاقوا طعمها فضحّوا بكلّ شيءٍ لعظيم لذّاتها، وتَرْقَوْا كثيراً -أيها الجيل الصاعد- وتحيا وترقى كثيراً بكم الأمّة، وَلْتَتَسَابَقُوا ما أمكنكم على هذا الطريق عسى أن تبلغوا غايةً يرضاها الله، وتحيا وترقى وتهتدي وتنتصر وتعزُّ بها الأمّة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.