الحديث القرآني الرمضاني الخامس 1444هـ
الحديث القرآني الرمضاني الخامس لسماحة آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم – 11 شهر رمضان 1444هـ / 02 ابريل 2023 في قم المقدسة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
الآية الكريمة “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، سبق القول بأن هنا مقدرا في تفسير الكثيرين من المفسرين وهو “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ” إيصا ذا حُسن بمعنى أنه إيصاء حسن وهناك رأي آخر وهو ألا نقدر هذا التقدير وإنما “وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا”، وحسنا مصدر والصفة منه حسن والإيصاء لحُسنه الشديد وبقوة حُسنه ورفعة حُسنه يعبر عنه بالمصدر وكأنه الحُسن نفسه وهذا الشيء الموصوف بالحسن لأنه حسن تُرفع درجته إلى أن يعتبر تجسيدا للحٌسن أو بمعنى الحُسن نفسه. تقول قال أمير المؤمنين عليه السلام العادل والإمام الحسين عليه السلام العادل وجاء الرجل الصدق صادق ولكن صادق نُزِلت منزلة الصدق لجلال هذا الصدق وكمال هذا الصدق ولعظمة هذا الصدق أخذ قيمة المصدر نفسه وهو الصدق ولرفعة ذلك العدل أخذ قيمة العدل نفسه فعبر عنهم بالعدل، جاء الرجل الصدق وقال علي العدل وقال علي الحق هذا هو تفسير اخر.
بالنسبة للوالدين سبق الكلام عنهما عن جزائهما عند الله عز وجل ووجوب جزاء تربيتهما عنده عز وجل حيث وصى بالبر بهما وخفض الجناح لهما والعناية الشديدة بهما وجعل كما في الحديث “الجنة تحت اقدام الأمهات”، هذا كله والوالدين قد يكونان عدوين لله بمعنى معاديان ومناهضان لدين الله وفي خصومة ينصبان نفسيهما خصمين شديدين عندين في قبال دين الله لكن الوصية ببرهما والعناية بهما تبقى على ما هي عليه، وهذا ماذا يعطيك؟
فلو كنت أنا المعني بالعداوة وأنا المعادى فهل سأبقي من حق لعدوي؟ وهو تجاوز كل الحدود ونسى كل ما فيه من صفة كبيرة أو صغيرة من حُسن فالغي شخصيته نهائيا إلغاء نهائيا وهذه عادتنا كبشر وحين لا نكون منضبطين على خط الله تبارك وتعالى والأخذ بمنهجه حين نغاظ وحين يُعتدى علينا وحين نظلم فلا نبقي للطرف الآخر أي قيمة ونسقطه إسقاطا تاما ولكن الاسلام ليس هكذا، والآية الكريمة تعلمنا أن ليس شأن المؤمن هكذا وإنما عليه أن ينصف حتى عدوه وإذا كان في العدو حسنة فلتبقى له هذه الحسنة في نظرنا. نعم يؤاخذ بما ظلم ويؤاخذ بما فسق وغير ذلك ولكن إذا كان فاسقا ولكن عنده صفة من صفات النبل كالكرم فلا أقول عنه بأنه بخيل وهذه مقاومة شديدة من هؤلاء الناس وهؤلاء الآباء المنحرفين والامهات المنحرفات لدين الله ولله تبارك وتعالى لكن الله عز وجل يقول عليكم أيها الابناء الذين يريدوا آباؤكم وامهاتكم ان تنفصلوا عن الله وأن تنسوه وأن تستكبروا عليه وأن تحاربوه فعليكم مع ذلك أن تلتزموا بطاعتهما فيما ليس فيه معصية الله عز وجل.
الله عز وجل يبقي لكل ذي حق حقه فحق الوالدين أن يبرا من ولدهما الذي تعبا عليه وشقي في حياتهما الشقاء المادي من أجله عليه فهذا الحق يحفظ عند عز وجل يبقى كحق يجب على الولد أن يدينه ثم أن حق الله عليه لا ينسى ولأن حق الله أكبر وكل حق لغير الله إنما هو من إيجاب الله ومن فرض الله تبارك وتعالى ولا حق لشيء لم يقرره الله عز وجل ولأن الله أصل كل عطاء وأصل لكل الناس وأصل كل شيء في الكون فالطاعة الاولى له ولذلك لا يُشرك به تبارك وتعالى فجمع بين الحقين ولكل ذي حق حقه.
“إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، المخاطبون هم الأولاد والآباء والأمهات لأن لله عز وجل مرجعكم ولماذا يقول الله عز وجل إليَّ مرجعكم؟ وإليَّ هنا بمعنى الحصر وإليَّ مرجعكم لا إلى أحد سواي ويقول ترجعون إليَّ وهذا تعبير في الرجوع إليه سبحانه وتعالى لكن “إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ” أقوى من ناحية الحصر وإلا مرجع إلا لله فلا الولد راجع في النهاية في حسابه وفي جزائه وفي اخرته وفي ناره وفي جنته حيث أنه لا مرجع له في ذلك كله إلا الله وكذلك هو سبحانه وحده مرجع الأب ومرجع الأم لذلك يجب أن يتجه حساب هؤلاء كل واحد منهم إلى الله عز وجل بمعنى أن محاسبتهم ترجع تتجه إلى الله ولا يراعون أولا وبالذات إلا الله ولا يكترثون يكترثون في شيء لا يأتب موافقا لمرضاة الله تبارك وتعالى.
“إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ”، فاحسبوا حسابكم وأنت علاقتك بأمك وتعلقك بأمك وحبك لأمك وإلى أبيك والأم تريد أن تكفر والأب يريد أن يكفر وأن يحارب الله عز وجل فليتذكروا كل واحدا في أي موقف من هذه المواقف منْ مالكه ومن هو المرجع الذي سيرجع إليه ويملك حسابه ويملك عقابه ويملك جنته ويملكه ويملك ناره؟ فالله أولا في كل موقف وفي كل في كل خاطرة وفي كل قلب وفي كل استهداف وفي كل نية.
“إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ”، إحسبوا حسابكم “فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، أنت الولد لا تطغى على أبيك لأني أوصيتك بطاعته واحسب هذا الحساب وخذ بهذا الأمر لأنه إليَّ مرجعك والأم والأب مطلوبان منهما ذلك بألا يشقا عن طريق الله لأن إليه تبارك مرجع العباد كلهم. فلا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى وأن كان الآمر على خلافه إرادته وإن كان حتى لو كان أقرب الأقرباء فهذا الذي يأمرني بطاعة تخالف طاعة الله فليكن أبا ولتكن أما ولتكن عشيرة وليكن حزبا وليكن أي شيء آخر فلأن الله هو مرجع العباد ولأني خلق من عند الله. ولأن رزقي وتدبيري وكل شيء في حياتي وكل نفس من أنفاسي بيد الله عز وجل فسمح لي الجميع من حزب أو من أم أو من أب من عشيرة أو من قوم أو لم يسمحوا فلا هم لي في أحد من بعد أخذي بطريق الله تبارك وتعالى.
“إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، وإذا علمت يا رب “بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، وهذا تعبير بالسبب عن المسبب فماذا بعد علم الله بجرمي ليس إلا العقاب وماذا بعد علم الله بحُسني ليس إلا الجزاء الحسن “فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، فصاحب الجنة يدخل الجنة وصاحب النار بدخل النار ويدخل النار من علمت أنه من أهلها وأدخل الجنة لمن علمت أنه من أهلها والمستعرين بلظاها وهذا معنى “بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ”، لأن العلم سبب الجزاء والجزاء بالحسنى العلم بأن العلم حسن والجزاء بما هو سوء سببه العلم بأن صاحب هذا الجزاء قد ارتكب السوء.
“وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ”، هناك فرق بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين الصالحين؟ ألست إذا آمنت إيمانا صدقا وعملت الصالحات كنت صالحا؟ فكيف أُدخل بعد ذلك في الصالحين؟ هذا الترتب أو هذا الجزاء أن يدخلنا في الصالحين “وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ”، هذا جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات بمعنى ذلك أن الدخول في الصالحين مرتبة أعلى من الإيمان والعمل الصالح ومرتبة فوقية تفوق مرتبة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فكيف يفسر هذا؟ من آمن الايمان الحق وعمل الصالحات كفرت عنه سيئاته ونجا من النار ودخل الجنة لكن يبقى شيء آخر أنه يلحق بالصالحين.
الدخول في الصالحين منزلة تمناها “وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا”، النبي سليمان على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام عنه في القرآن الكريم “وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ”، سليمان النبي عليه السلام آمن إيمانا حقيقيا ومن أصحاب الإيمان الحقيقي وعمل الصالحات ومن المقدمين في العمل الصالح بما هو نبي ورسول مع ذلك يتمنى على الله عز وجل ويطلب منه ويتضرع إليه بأن يدخله في الصالحين، “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”، هو من عبادي الخالصيّ العبودية وهذا يعني الطبقة الأولى والأرفع في الناس وهم الانبياء والصديقون والصالحات.
حتى نستقرب قيمة هذه المنزلة وسبق القول إني لو كنت في الجنة واشعر بأني اخس من الكلب وأني أشعر بأني ساقط القيمة وأن اشعر بحقارة نفسي هل استلذ وهل اهنأ؟ لا. وسبق التمثيل لو كان يعيش في أحسن قصر ويشعر بدونيةِ نفسه ويشعر برفعةِ القصر فهذا عليه أن يأسف وأن يخجل وأن يحزن لا أن يفرح. وهذا يزيد حسرة وفي القصر كلب ويرى أن الكلب أقل ضررا منه على الناس واقل فسادا وهو في القصر والكلب في القصر والقطة في القصر فيحكم على نفسه بمعنى أنه التفت لنفسه ولحقارته وشعر بذاته الحقيرة الصغيرة فهو يحزن في هذا الحال ولا يفرح فهذا الكلب الذي يأويه وهذه القطة التي ادخلها وهي يرى نفسه أنه أدنى منهما قيمة فهذا فعليه أن يحزن وعليه أن يخجل وعليه أن يحتقر ذاته ولا يسر بهذا وهذا لو استيقظ وأما في حالة السبات وحالة العمى والصمم فيعيش سعيدا ويشعر بكل الفخر ويشعر بكل الارتياح وهو على تلك النفسية المريضة السقيمة الحقيرة بلا إشكال وفي الجنة كذلك.
“وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ”، ماذا قال المفسرون الآية تَعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بإدخالهم في الصالحين والمفسرون يذكرون وجوها لما يعنيه إدخالهم في الصالحين ومن هذه الوجوه أن كل درجة من الإيمان تؤسس لدرجة أعلى منه وكل عمل صالح من العبد فيه إصلاح لذاته وهذا ليس كلام بالدقة، ولكن المعنى في هذا فأنت تصلي صلاة جيدة وهذه الصلاة الجيدة هي باب ومفتاح وطريق إلى أن يرتفع مستوى ذاتك وترتفع جودة صلاتك وأنت على صلاة جيدة لكن هناك درجات أكثر جودة للصلاة والصلاة الجيدة خطوة في اتجاه صلاة أكثر جودة والصلاة الأخرى الأكثر جودة هي خطوة في طريق أن تكتسب قدرة على صلاة أكثر جودة وهكذا.
عمل الصالحات إذا اجتمع كله هذا يهيئك لدخول في درجة أعلى من الصلاح وتكون أنت على درجة من الصلاح ويتواجد في صلاتك وتعطي أثرها في صلاتك وفي صومك وفي حجك وفي خمسك وفي خطابك مع الناس وفي أدبك وفي اخلاقك وفي رحمتك وغير ذلك لكن هذه الدرجة لا تقف عند هذا الحد وهذي الدرجة من الصلاح تعني تهيئة للصف الثاني والصف الثاني تهيئة للصف الثالث والثالث للصف الرابع والرابع للخامس والخامس للسادس وهكذا وكأنك تترقى مثل ترقيك في العلم فتترقى ذاتك في كمالها كترقيك في العلم من صف إلى صف ومن مرحلة إلى مرحلة فإدخالهم في الصالحين حين نكون على درجة من الصلاح من هذا المعنى أننا ندخل في درجة أعلى من سابقتها في الصلاح وهذا وجه من تفاسيرها وهذا من تفسير الأمثل لسماحة آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظله.
والتفسير الثاني في تفسير الميزان أن إدخالهم في الصالحين هو إدخالهم في المنعمين في الجنة وأكبر المنعمين هم من هم الانبياء والمرسلون والأوصياء.
والتفسير الثالث هو دخولهم في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه وأعلى درجة من الرسوخ في الصلاح والكمال فيه هي للأنبياء عليهم السلام والأوصياء من بعدهم وهذي الدرجة هي التي تمناها سليمان عليه السلام من الله عز وجل فقال سليمان عليه وعلى نبينا وآله السلام “وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ”، بمعني أنه يريد رحمة أكبر ويريد أكبر موقع وهو يريد أن يثبت على طريق النبوة وأداء حق النبوة والرسالة وأن يخرج عن هذه الدنيا راضيا عن الله عز وجل بالكامل والله راض عنه. والله العالم.
هناك من يرى أن “وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ” يُحتمل أن الكلام فيه تقدير وهناك كذلك مع الآية الكريمة بمعني لمَّا يطلب الدخول في الصالحين أو “وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ”، يأتي تفسير لندخلنهم مدخل الصالحين أو في كلام النبي سليمان عليه السلام وأدخلني مدخل الصالحين بمعني في مدخلِ الصالحين ويلتفت إلى أن العبد وأن هذه النقلة من العمل الصالح والايمان الصدق والعمل الصادق إلى الدخول في الصالحين حتى تشعر الذات في جنتها الأخروية بقيمة عالية لذاتها وبطهارتها ونقائها ورضا الله عنها وهذا فوق نعمة الخلد وكل لذائذ الجنة والأشياء التي يشهد الانسان في كل حياته مثل تلك اللذات لذة، قيمة الشعور بسعادة الذات وبصحة الذات وسلامة الذات شيء ثاني.
وكما سبق لو قال الناس عني بحسن ظن وجهل بحالي أني على خير وكنت أعلم من نفسي بأنها على سوء وفيها قذارة وفيها ملكات سيئة منحدرة فهل اهنئ أو أحزن أو الناس يظنون فيَّ خيرا ذلك الخير وأن نعيش ان حالة السوء والناس يحسبونني غنيا في ذاتي وكبيرا في ذاتي وأنا في الحقيقة حقير وساقط فهذا لا يسر الانسان، بل يحزنه فتتحول كل نعم الجنة إلى لا شيء في نظر ذات تسكن الجنة ولكنها تعرف أنها ليست من أهلها وإنما في حقارتها لأن الجو ليس جوي وحتى لمَّا أسكن بيت أكبر من مستواي وأكبر بيتي المعتاد فلا أدري أين أجد نفسي في البيت، فالنفس والجمال فلا يغنى الانسان بجمال كشعوره بجمال ذاته.
والحمد لله رب العالمين.