الحديث القرآني الرمضاني الثاني 1444هـ
الحديث القرآني الرمضاني الثاني لسماحة آية الله الشيخ عيسى احمد قاسم – 4 شهر رمضان 1444هـ / 26 مارس 2023 في قم المقدسة
بسم الله الرحمن الرحيم
أتبرّك مرّةً ثانية بقراءة الآية الأولى من سورة العنكبوت: (بسم الله الرحمن الرحيم، الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ).
سَبَقَ القَوْل بأنّ هذا الاستفهام استنكاري، فيه تسخيف للظنّ الذي يأخذ به الناس، وهو ظن أن يُتركوا لمجرد قولهم “آمنا بالله”، هذا عند الله خطأ، هذا عند الله ظنٌّ منحط، هذا عند الله عزَّ وجلّ محلُّ تقريعٍ وتوبيخ.
لماذا هذه الحملة الإلهية على هذا الظن؟
تشديد النكير على هذا الظن له أسبابه، لمنافاته لأصل التكليف، لأنّ التكليف نفسه اختبار، حيث لا تتم الاستجابة له إلا بكُلفة، أيّ العبادات سهل؟ الصلاة فيها صعوبة، الحج فيه صعوبة، الصوم فيه صعوبة، الخمس فيه صعوبة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه صعوبة، الجهاد في سبيل الله فيه صعوبة.
التكليف مأخوذ من الكُلفة، والكُلفة تعني ثقلاً، فإذا لم نرد كُلفةً يفرضها الإيمان، إذا أردنا إيماناً بلا كُلفة؛ معنى ذلك أنه لابد أن يُلغى التكليف كلّه.
إلغاء التكليف فيه إلغاءٌ أو تعطيلٌ لمنع الرحمة الإلهية المتعلّقة بتربية الإنسان، التكليف ليس لمصلحة الله عزَّ وجلّ، التكليف تفرضه ضرورة تربيتي وتربيتك وتربية كل إنسان. أصل التكليف للتربية، للأخذ بالإنسان على طريق الكمال حتى تنضج ذاته، وحتى تكتمل ذاته، حتى تصحّ إنسانيته وترقى، حتى يبلغ أوج ما يستطيع من الكمال، التكليف لهذا كلّه، وليس لشيءٍ آخر، والله عزَّ وجلّ قادرٌ على أن يوفر الطعام المأكول والشرب الجاهز وكلّ شيء، ولكنّه جعل السعي طريقاً لتحصيله، حتى لا يكون الإنسان جامداً هامداً لا قيمة لحياته، ثم أضاف إلى ذلك التكليف تنميةً لروحه، وتنضيجاً لروحه وتكميلاً لها.
مطالبتنا لله عزَّ وجلّ بأن لا يكون مع الإيمان تكليف يعني هي مطالبة بأن يُهمل تربيتنا على المستوى الفكري، وعلى المستوى النفسي، وعلى المستوى الإرادي، ونريد من الله عزَّ وجلّ أن لا يُهيّئنا للحياة الآخرة، حياةٌ أعدّت لأهل الكمال، وتحصيل الكمال ليس في الآخرة، تحصيل الكمال من مسؤولية الإنسان في الدنيا، عليه أن يأخذ بمنهج الله عزَّ وجلّ بكل ما يفرضه من أجل أن يتمّ له كماله، وحين يكتمل يستحقّ بذلك الجنّة، يناسب أن يكون مسكنه الجنة.
أيضاً منافٍ لاظهار العدل الإلهي، يعني إلغاء التكليف، إلغاء الجهاد، إلغاء المقاومة للشهوات ولأعداء الله، إلغاء كلّ أنواع المجاهدة والمقاومة للأشياء التي تضاد الإيمان، وتضاد الإسلام، هذا فيه تعطيلٌ وهو منافٍ لإظهار العدل الإلهي في الثواب والعقاب.
إذا ألغي التكليف يتساوى الناس كلّهم في استحقاق الجنّة، أو استحقاق النار، إمّا أن يدخلوا جميعاً الجنة أو يدخلوا النار.
نأخذ دخول الجنة، يعني معنى ذلك، مَن يُفسد الأرض وأهل الأرض، ويعيث في الأرض فساداً، ويعيش نفسية الاستكبار على الله عزَّ وجلّ، ويفرض نفسه طاغوتاً في الأرض؛ يدخل مع المؤمن التقي الورع إلى الجنة! وهذا تعطيل لإظهار العدل الإلهي بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، ووضع كلّ شيءٍ موضعه. وموضع البعض النار، وموضع البعض الآخر هو الجنة، وإذا تُرك الناس على هذا الحال معنى أن يدخل الجنة كلّ فاسدٍ مفسد مع كلّ صالحٍ مصلح، والجنةُ كما سبق هي دار المتّقين، هي دار الكاملين، دار ليس فيها لغو، ليس فيها أحقاد، ليس فيها حسد، ليس فيها اعتداء، دار لا تهنأ إلا بسكن مَن يستحقّها، إذا اختلط سكن الجنة بين من يستحق ومن لا يستحق، بين النفسيات الهابطة والنفسيات الرفيعة، بين أهل الفكر السليم وأهل الفكر السقيم، بين أهل إرادة الخير وإرادة الشر؛ لم تعد الجنّة جنّة.
واحد في مجلس عامر بالفقهاء، بالكبار، بالأتقياء، بالورعين، بالعلماء من مختلف الاختصاصات المتزنين، واحد فوضوي، واحد فاسد، واحد لا ينضبط، يُفسد المجلس كلّه، ويضيق به صدر الجميع، فما أدراك لو سكن الجنة هذا العدد الكبير من المفسدين، الذين هم أكثر من المتقين، هل تبقى الجنة جنةً؟ أو تتحوّل إلى نارٍ من نوعٍ يحرق القلوب والأنفس؟
التكليف فيه تمييزٌ بين الصادق الإيمان والكاذب الإيمان، بين الذوات الخبيثة والذوات الطيبة الطاهرة.
الذوات الطاهرة تطلع للعلن من خلال دورها البنّاء في الأرض، من خلال عملها الإصلاحي، من خلال عدلها، حكمتها، إلى آخره، والنفوس الخبيثة أيضاً تظهر على حقيقتها، فيأتي يوم القيامة ليدخل هؤلاء النار، وأولئك الجنة، والكل يعرف أنّ هذا عدلٌ من الله عزَّ وجلّ لأنّه أدخل أهل الجنّة الجنّة، وأدخل أهل النار النار.
في انتفاء سُنّة الابتلاء تنزيلٌ للإنسان بمنزل الحيوان الذي لا يعقل، مع فارق ما بين الإثنين -فرقٌ بين الحيوان وبين الإنسان، عقل وإرادة في قِبال اللاعقل القابل للتكليف، الحيوان ليس له من العقل ما يستقبل مسؤولية التكليف الذي كُلِّف به الإنسان، طبعاً المكلّف في الإنسان هو العقل، يعني من مسؤولية العقل أن يفي بأداء التكاليف الإلهية، الجوارح أدوات فقط، والثواب والعقاب ثوابٌ للعقل وعقابٌ للعقل، لأنّه هو المكلّف وهو القادر على تحمّل التكليف الذي لم تتحمله الجبال ولم تتحمله كلّ الحيوانات الضخمة، إنما تحمّله الإنسان لمائز عقله-.
حين يُلغى التكليف يعني أن يُنزَّل الإنسان منزلة الحيوان الذي لا عقل له ولا إرادة، فالتكليف فيه تكريم، وهو علامة مستوى خاص، مستوى متقدّم وإمكانيات لا تتوفر إلا في الإنسان، وهي غير متوفّرة لغيره من المخلوقات على الأرض إلا الجن.
فانتفاء سُنّة الابتلاء معناه مساواة، -نوعٌ من عدم العدل، ونوع من عدم التفريق من الله تبارك وتعالى بين من أعطاه نعمة ومن لم يُعطه النعمة، وحاشا الله عزَّ وجلّ أن يساوي بين قويٍّ وضعيف، بين واجدٍ وفاقد، الإنسان واجدٌ لجهاز التكليف، للقدرة على تحمّل التكليف، الحيوان غير قادر-.
منافٍ لفائدة أن يتعلّم الناس أن لا يعاقبوا على ما في القلوب، إذا ترك الله عزَّ وجلّ الإيمان واكتفى به مجرّداً عن العمل، يكفي أن تؤمن في داخل قلبك بلا أيّ عمل، وأن يحاسبك على ما في قلبك من دون أن يظهر ما في هذا القلب، يُحاسب على ما في القلب، ويجازي على ما في القلب، فمَن كان قلبه خبيثاً حاسبه على خبث قلبه، ومن كان قلبه طاهراً حسابه أيضاً موافق لطهارة القلب، الجزاء أيضاً يكون على خبث القلب أو طهارته، الإنسان كيف فعل، يعني للحاكم أن يحدس أن قلبك كذا فيزج به في السجن، يُعلّقه في المشنقة، فيعاقب الإنسان أخاه الإنسان على ما يظنّه أنّه شيءٌ يحمله قلبه، لأنّ هذه ستكون سيرة بشرية، كما أنّ الله عزَّ وجلّ -وله المثل الأعلى- يعاقب على ما في القلوب، فنحن أولى بذلك نعاقب على ما في القلوب، فإذا كان الله يعلم علماً حقيقياً، أما نحن فلا نملك غير الظن، فنعتمد على الظن والحدس الذي قد ندّعي أنه وصل بنا إلى حد اليقين، وأننا قاطعون بأن فلان في قلبه الآن أن يقتل، في قلبه الآن أن يحرق البلد، في قلبه الآن أن يفجر، فنعاقبه على ما نظنّه أو نحدسه على ما يحمله قلبه.
أيضاً لولا الابتلاء لما عرف الناس قدر الأنبياء والأوصياء “عليهم السلام”، ولم يتخذوا منهم قدوة.
لو كان رسول الله “صلّى الله عليه وآله” إيمانه بالغاً تماماً، إيمانه إيمان يقين في قلبه، ولكن لم نجد منه صلاةً ولا صوماً ولا جهاداً، ولا أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر، ولا صدقة ولا زكاة، ولا أي شيءٍ آخر، هل نستطيع أن نجزم أنّ قلبه مملوءٌ بالإيمان، طبعاً لا كاشف عن ذلك عندنا، فسنساوي بينه وبيننا، لا نشعر أن هناك فرقاً بينه وبيننا، مكنون ما في قلبه نحن لا نعلم به، ولا كاشف عنه في الخارج من عملٍ صالح واجتناب سيئة ومداومة على حسنة، إذا لم يكن هذا الشيء لم نعرف قدر رسول الله، ولم نعرف قدر أنبياء الله جميعاً وأوصيائهم “عليهم السلام”.
هذه أيضاً فائدة تضيع مع تعطيل التكليف والاكتفاء بالإيمان الداخلي القلبي.
الآية الكريمة: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)
فُسّرت -كما سبق- بأنّ الإيمان الداخلي لا يكفي، بل لابد من الابتلاء، وأنّ الظنّ بكفاية الإيمان القلبي من غير ابتلاء هو ظنٌّ خطأ، وظنٌّ يُوّبخ عليه ويُسخّف صاحب هذا الرأي.
هناك تفسير ثاني لمدخول الاستنكار، ماهو المستنكر؟ المستنكر -في هذا الرأي الثاني- بأنّ متعلّق الحسبان الخطأ، هو أنّه بمجرد قولنا “آمنّا بالله” فعلى الله تبارك وتعالى أن يرفع عنّا كلّ مصيبة، وكل ما يعكّر الحياة، ترتفع الأمراض والأسقام وكلّ شيء، ونكون في سعادة دنيوية خالصة جدّاً، هذا لابد أن يكون جزاءً لقولنا “آمنّا بالله”، هذا هو المظنون عند الظنّ الخاطئ.
المناسب لسياق الآية الكريمة هو التفسير الأول وليس التفسير الثاني، لأنّه قال (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
أيُّ الوجهين من المظنونَين الذين قال بهما المفسرّون هو الذي يناسب قوله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)؟ طبعاً هو الظن الذي يتطلّب أن يأتي شيءٌ يظهر معلوم الله تبارك وتعالى من صدق الصادق وكذب الكاذب، هو الابتلاء.
الابتلاء هو الذي يُظهر الصادق من الكاذب، فالقول بأنّ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)، المظنون ليس أن ترتفع الفتنة، أو ما يتمناه العباد أو ما يظنه العباد من الإيمان والإيمان القلبي، و يجب أن يترتب على هذا الإيمان القلبي وحده ومن دون عملٍ أن لا يكون مرض ولا خوف، ومعنى ذلك حتى أن يمتنع الموت، لأنّ خوف الموت أيضاً فيه كدرٌ كبير للحياة، وربما المرض أخوف ما يُخاف منه لأنّه سببٌ للموت، فهذا التفسير متروكٌ عند الكثير من الفقهاء ومن المفسرين، وإنما التفسير المعتمد عندهم هو الأوّل، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) بمعنى أنهم لا يُبتلون ولا يمتحنون ولا يجري في حقّهم اختبار الإيمان من الناحية العملية ليتبيّن صدقه من كذبه.
الرأي الثاني يقول يجب أن تكون لنا كرامة على الله عزَّ وجلّ بمجرد أن نقول آمنّا بالله، تحمينا هذه الكرامة من كل مصيبةٍ ومن كلّ كدرٍ وما إلى ذلك، هذا التفسير متروكٌ عند الكثيرين من المفسرين.
نمرُّ بطائفةٍ من الأحاديث المُتعلّقة بالآية في كتاب “البرهان في تفسير القرآن” (1)، أحاديث عديدة نقرأ منها:
“الرواية في البرهان عن محمد بن يعقوب/الكافي”: روي أنّ أمير المؤمنين “صلوات الله عليه” قال في خطبة، وذَكَرَ الخطبة -الكليني يعني- إلى أن قال: ولكنّ الله عزَّ وجلّ يختبر عبيده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم (2)، وإسكاناً للتذلُّل في أنفسهم، وليجعل ذلك أبواباً لفضله.
تقبل هذا الإيمان أو لا تقبل؟ الإيمان هو هذا.
ونحن تحت وطأة الأمراض والمخاوف والفقر وأنواع الشدائد، ونحن أنوفنا شامخةٌ على الله عزَّ وجلّ، نحن في هذا الحال مع الابتلاء -والابتلاء الذي لا أستطيع أن أدفعه يعني ذلّة، يعني لابد أعرف أن نفسي ذليلة وأنّي لا أملك الأمر وأني محتاجٌ إلى الله عزَّ وجلّ، هذه المصائب تعلّمنا الحاجة إلى الله عزَّ وجلّ، وأننا عبيدٌ ولسنا آلهة، وأننا غير مستقلين بوجودنا، وأنّ وجودنا ظلٌّ وانعكاسٌ بسيط من انعكاسات الرحمة والقدرة الإلهية، هذا ما تعلمنا إياه الشدائد-، ونحن مع هذا الدرس الحاضر عندنا ليلاً ونهاراً في أنفسنا وفي أحبائنا وفي الأباعد منّا، في أصدقائنا وأعدائنا، ونعيش حالة الاستكبار ونسيان منن الله عزَّ وجلّ، والاستعلاء على أوامره والمضادّة له في بعض المواقف، فكيف لو تُركنا تماماً؟ وعشنا هذه الحياة بلا أيّ مضايقة، وتحقق لنا كلّ ما نريد، وما نشتهي، ولم نشعر ببردٍ ولا حرٍّ ولا جوعٍ ولا سُقمٍ ولا خوفٍ ولا أيّ سببٍ يضايق وجودنا، ماذا سنكون؟ كلّنا آلهة، سنكون في شعورنا الداخلي، وأننا كأنّنا آلهة، فيقول “عليه السلام”: إخراجاً للتكبُّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلُّل في أنفسهم، وليجعل ذلك أبواباً لفضله.
ومن أكبر العبادات أن يشعر الإنسان بالذلّة بين يدي الله عزَّ وجلّ، وأن يعيش العزّة في قبال غير الله، والذلّة التي لا أشدّ منها ذلّة في قبال الله تبارك وتعالى، وما الصلاة والصوم وإلى آخر العبادات إلاّ من أجل أن تذلّ النفس لربها وخالقها عزَّ وجلّ، وكذلك هي المحن التي تذكّره بذلّته ومسكنته أمام قدرة الله عزَّ وجلّ وقوّة بطشه وأخذه.
“وليجعل ذلك أبواباً لفضله”.
هذه المحن مكافأة، بجزاءات حتّى عُرف من الحديث أنّ المريض الذي عانى من مرضه لسنوات يحمد الله عزَّ وجلّ يوم القيامة على منزلته لصبره على البلاء، ويتمنى أن لو طال به بلاؤه في الدنيا ليزداد ثواباً ويرتفع منزلة.
هذا كلّه في الابتلاء، والوقت انتهى، وغَفَرَ الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هامش:
(1): صفحة 109 من الجزء 6.
(2): وهذه حكمة من حكم الامتحان.