الحديث القرآني الأسبوعي “إضاءات قرآنية (٣) – ٧ مايو ٢٠٢٥

*نص محاضرة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الجلسة الأسبوعية التي يعقدها في مقرّ إقامته في قم المقدسة كل ليلة خميس تحت عنوان {إضاءات قرآنية} – 7 مايو 2025 / 9 ذو القعدة 1446هـ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم صلِ على محمد وآل محمد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تبارك وتعالى: (وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا * أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا * وَيَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلۡغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا * ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ وَكَانَ يَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا * وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا * يَٰوَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا * لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا) إلى آخر الآيات الكريمة –الفرقان 23/24/25/26/27/28/29.
تقدّم الكلام في قوله تبارك وتعالى: (وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا)
ملخصاً، البناء الشامخ الرائع ذو المظهر الطاهر النظيف، والنفع الخاص أو العام، والذي تظهر منه الرحمة للناس، ويظهر منه العدل والإصلاح، والعناية بالدين، والعناية بالإنسان، إذا لم تكن وراءه نية مخلصة لله عزَّ وجل، إذا كانت وراءه نية سَقِمَة، إذا كان من منطلق الذات، حب الذات، الاعجاب بالذات، من منطلق الخداع والغشّللناس واستعبادهم، والاستيلاء على ما في أيدي الضعفاء والفقراء، والسيطرة والفرعونية، والظهور الشيطاني، فهذا يأتيه صاحبه يوم قبره أو يوم حشره هباءً منثورا لا قيمة له. إنّه عملٌ للشرّ، ولا يؤدي إلا إلى شرّ فاعله، وإلى عذابه وهوانه، وسقوط قيمته يوم لا قيمة إلا للعمل الصالح، للنفس التي جاءت بعملٍ صالحٍ خالصٍ لوجه الله تبارك وتعالى.
أتعلّمُ العلم وأحصل على شيءٍ منه بعد تعبٍ شديد، وليكُن المتعلِّم فقيهاً كبيراً عظيماً، وهو الفقيه في الأمة، أعلمُ فقيهٍ في الأمة، وليتحرّك الإنسان حركةً سياسية، وباِسم الدين، ولا يُعرف منه في الخارج إلا أنّه ساعٍ من أجل الدين، ومضحٍّ من أجل الدين، ويقاسي الكثير على هذا الطريق، ويحصل على العذابات والآلام الشديدة، وكلّ ذلك فيما يحسبه الناس أنّه لله، ويَصِلُ بصاحبه إلى أعظم أجرٍ وأكبر منزلة، إلا أنّ الحصيلة أنّه يؤدي إلى انحطاط، هذا السعي المجيد في ظاهره، الكريم المقدس، فيما يتراءى للآخرين، وإذا به ينحط بصاحبه إلى قعر النار.
وتأتي بعض القصص وأمور تُذكر بالنسبة للأعمال المجيدة حتى على أيدي الدينيين، وتُقدِّم صاحبها على مستوى بلايين الناس،وتتعلّق بها الأماني، وربما جاءت لحظة الموت والرجل مستور. وفي لحظة الموت تظهر فضائح نفسه بكلمةٍ لا تنمُّ إلا عن كفر وعن نيّةٍسوداء، وعن نفسٍ لئيمة، وفاسدة بما امتلئت من حسدٍ ومن حقدٍلفقهاء آخرين، لقادةٍ آخرين، مصلحين آخرين، إلى آخره. عمله يلقاه يوم قبره، يوم حضور موته أو يوم نشره هباءً منثورا.
فليحذر الساعون لله عزّ وجلّ الذين يريدون السعي لله من النفس الأمّارة بالسوء، ولا فرق بين فقيهٍ أكبر فقيه، وبين ملك أشطن ملك في المآل إلى تجميع عملٍ صالحٍ في ظاهره يؤول إلى كونه هباءًمنثورا يوم الموت أو يوم الحشر، يلقاه عذاباً في برزخه ويلقاه عذاباً في يوم نشره ويوم ناره، فلنحذر كثيراً.
(وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا)
والعمل الطالح الظاهر كونه طالحاً، لا يحتاج إلى اكتشاف، وهذا يعلمه الناس أنّ مآله الشر، ولكن الكلام عن العمل الصالح في ظاهره، الفاسد في باطنه، لفساد النية التي من خلفه.
(وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا * أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِيَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا)
من هم أصحاب الجنة؟ هم المتقون.
الآية الكريمة تتكلم أنّ أصحاب الجنة هم المتقون. فأصحاب الجنة وهم المتقون يومئذٍ، يوم نلقى الله عزّ وجلّ، في لحظة موت، أو في يوم برزخ، أو يوم نشور، أو في يوم يدخل العاصون نار الله الحارقة:
أصحاب الجنة في ذلك اليوم خيرٌ مستقرّاً وأحسن مقيلا. خير مستقرّاً في القياس إلى من؟ ولأي ظرف؟
طبعاً لا مقارنة من بين المستقر في الدنيا الذي يراه الكافر مستقراًخيراً، ويرونه مقيلاً أحسن مقيل، وبين ما لأصحاب الجنة يومئذٍ من خير مستقرٍّ وأحسن مقيل.
هذا إذا قُلنا بأنّ المتمتعين في الدنيا من كفارها ومفسديها،بزخارفها، بشهواتها ولذاتها، بمواقعها المغرية الشيطانية، إذا قلنا هؤلاء يروْن أنّ مستقرّهم في الحياة الدنيا خير مستقر، وأنمقيلهم مكان الراحة. مقيل: مكان الراحة والأنس، ومنه سعة المقيل في النهار، سعة استراحة واستجمام وأنس، حيث يكون مع الأهل، مع الزوجات، إلى آخره.
ساعة المقيل، إذا كانوا يرون في أنس هذه الدنيا، وفي متعتها ولذتها المغرية القاتلة -مغرية من جهة وقاتلة من جهة أخرى-، إذا كانوا يرون في ذلك خير مستقر وأحسن مقيل، فالآية تخطّئهم وتقول بأنّ خير مستقر وأحسن مقيل على نحو الحقيقة والصدق والحقانية، وما لأصحاب الجنة يوم يكون قبرٌ أو يكون برزخٌ وحشرٌونشرٌ وجنةُ نعيم. هناك خير مستقر وأحسن مقيلا.
هناك روايات تُرجع هذا الكلام إلى يوم البرزخ، وأنّ أحسن مقيل هو في البرزخ، حيث يأتي ملكان للعبد المؤمن الرابح في حياته الربح الحقيقي، الذي هو ربحٌ عند الله تبارك وتعالى، فيفتحان له باباً يؤدّي بنظره إلى شيء من الجنة، فيقولان له نَمْ نوم الشاب الناعم، نَمْ قرير العين، فيقضي برزخه في هذا النوم القرير، النوم الذي تقرّ به العين ويأنس، ونومٌ لا يخلو من سعادة أو هو نومٌ مليء بالسعادة -هذا مضمون الرواية-.
والتفسير الآخر أنّ هذا يوم الجنة، أنّ اليوم المعني هو يوم الجنة، وهناك يكون مقيلاً، وبعض الروايات تقول بأنّه -يعني الذهاب إلى الجنة، والذهاب إلى النار، كأنّه الانتهاء من الحساب- يكون مع ساعة مقيل.
طبعاً مقيل في الجنة، لأنّ الجنة ليس فيها نومٌ حتى النوم المريح السعيد، هذا يعتبر لحظة حرمان من نعمة أكبر، هو يوم لا تتخلّله لحظة شقاء ولا لحظة تعطُّل في السعادة ولا لحظة غيابٍ من اللذات التي تتناسب مع الإنسان الكريم الذي انصرفت نفسه إلى الله تبارك وتعالى.
(أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا)
(خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا) مستقرُ السعادة الدائمة التي لا خاطرة ولو يسيرة من خوف تمرُّ بإنسان ذلك اليوم وذلك المستقر بأنه سيحرم مستقرّه، وأن تكون لهذا المستقر نهاية، هو مستقرٌّ أبدي لا يترقب له زوال، ولا تغيُّر في سعادته العارمة الشاملة التي لم يشهد الإنسان في حياته مثلها من سعادة.
(خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا) يستقرُّ فيه البدن من حيث عدم شكواه من أيّ نقص، حيث لا شكوى للبدن من أيّ تعب، من أيّ جهد، من فقْد أيّ نعمة. و(خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا) لأنّ الروح وصلت إلى أكبر أمانيها، وإلى أغلى غاية كانت تسعى إليها، وإن لم تدرك في الدنيا قيمتها، غاية رأتها فوق ما كانت تتصوّر، وفوق ما كانت تتمنى، وفوق ما كانت تضحّي من أجله، فذلك اليوم خير مستقرّ، يعني كلّه نهار، كلّه شعور كامل، كلّه إدراك كامل، شعور أحيا شعور، شعور بالكرامة لا يغيب، شعور بحبّ الله، بعشق الله عزَّ وجلّ، شعورٌ بالتعلّق بالله، وهو هناءة فوق كلّ هناءة، وجزاء فوق كلّ جزاء.
(أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا)
الطريق طويل وإنْ كان لا يساوي شيئاً من الطول بالقياس إلى طول ذلك اليوم، إلى أبديّة ذلك اليوم، فَلْيَطُل عمر الطاعة في الدنيا، وليكُن مدى العمر والعمر ممتدٌّ إلى ألف سنة إلا خمسين عاماً (950 سنة)-حياة الدعوة لنوح “عليه السلام” وهو أطول- ، فليكُن العمر ألفي سنة وأكثر من ألفي سنة من سنوات الدنيا، وكلّه بُذِل في طاعة الله عزّ وجلّ، لكن ماذا يساوي هذا الجهد وهذا العناء الذي كان يراه عناءً؟ وإلا فكبار الإنسان من أنبياء وأوصياء “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”، الطاعة عندهم ليست تعب، وإنما إذا تعب الجسد عندهم فلا يلتفتون إلى هذا التعب، ولا يكون لهم شعورٌ بهذا التعب وهم مغمورون في لذة الروح، إنّهم قضوا الحياة في راحة رغم تعبهم الدنيوي، ويذهبون إلى جنّةٍ كلّها سعادةٌ وارتياحٌ وكلّها رُقيّ، رُقيّ حياة بدنية، ورُقيّ حياة روح، ولذّةٌ بدنية تستحوذ علىشعور الإنسان لولا أنها تصغر أمام لذة الروح يومذاك.
(أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ يَوۡمَئِذٍ خَيۡرٞ مُّسۡتَقَرّٗا وَأَحۡسَنُ مَقِيلٗا)
مقيل الدنيا قد يكون فيه ثرثرة، فيه لحظة تنغّص، في ألذ ساعات هذه الساعة -ساعة المقيل وأنسها وعرسها وألوان هناءتها- قد يأتي نبأ مفزع، قد يأتي ألم موجع، قد يأتي خوفٌ غير محسوب، أمّا المقيل الصافي سعادةً وهناءةً وفرحاً فهو مقيل يوم الآخرة.
(وَيَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلۡغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا)
مرّ ذلك اليوم وهول ذلك اليوم، والتغيّر الكوني الهائل الذي لا يذر من البُنية الكونية القائمة شيئاً، ويفقد الإنسان ذلك اليوم كلّالأسباب التي كانت محلّ تعلّقه في الدنيا، هنا نركن إلى أشياء الدنيا، نستعين بها، نطلب اللذة منها، نطلب الأمن منها، نطلب الشهرة منها إلى آخره، هنا ملجأنا هي أسباب الحياة الدنيوية، ملذات الحياة الدنيوية وأشياء الحياة الدنيوية.
هناك الدنيا يومذاك، يوم النشور، تنتهي الدنيا بكل مقوّماتها، فلا الجبال الراسيات، ولا الأرض الثابتة، ولا البحار، أي شيء هنا من الأسباب يكون له وجودٌ يوم يقوم الحساب.
الملائكة تتنزل تنزُّل رحمة على المؤمنين يومذاك، وتنزُّل نقمةٍ وإرعابٍعلى المجرمين الكافرين والظالمين والمفسدين.
ذاك يومٌ لا تملك نفسٌ أنْ تثبت عنده، وقد مرّ في حديثٍ سابق أنّهناك روايات تجعل الأنبياء الكبار العظام جاثين، من مثل إبراهيم وغيره، ويطلبون النجاة لأنفسهم، وربما هذا لإظهار وهن الذات البشرية، وفقر الذات البشرية في حدّ كونها ذاتاً بشرية، برغم الأمن الموهوب، والسعادة المُفاضة، والكرامة الممنوحة، والمقام الرفيع، الذي هو من الله عز وجل وبفضله لأنبياءه ورسله، وأوصياء انبياءه ورسله، ويظهرُ لهم في ذلك اليوم بإزاء ذلك الذي ذُكِر -إذا صحّت الروايات- يظهر لهم ذلك اليوم، المقام الرفيع الذي يتمتعون به وإكرام الله لهم الإكرام الذي لا يلحقه لاحق.
(ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ وَكَانَ يَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا)
وهل هناك ملكٌ في دنياً أو في آخره لغير الله عزّ وجلّ؟ طبعا لا. لا ملك في دنياً ولا ملك في الآخرة إلا لله وحده تبارك وتعالى. لا تنسى، ملك الدنيا ملك اعتباري، وما من شيءٍ في يد الإنسان في هذه الدنيا، وما من يدٍ له، ولا جارحة ولا جانحة، إلا بفيضٍ من الله عزّ وجلّ، وهي بيده وليست بيدي، كلّ ما في الأرض والسماء هو لله عزّ وجلّ، خاطرة من خواطري لا أملكها. خوف فرح غرور إلى آخره،هذا الآن موجود وهو ليس في يدي. الله يعطيني إياها في هذه اللحظة، ملك حقيقي في الدنيا ليس موجود، فكما أن الإنسان لا ملك له يوم القيامة على نحو الحقيقة فكذلك في الدنيا، لكن ما هو الجديد يوم القيامة؟
(ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ) ينكشف للنفوس كلّ النفوس، بلا أيّغمامة ولا أيّ ضبابية، ولا أيّ غموض في أنّ كل الأيدي خالية،وأنّه لا مُلك حقّ إلا الله عز وجل، على مستوى مُلك الأشياء في ذاتها، مُلك الأشياء ذاتاً، لا ذات تملك نفسها ذاتاً، ذاتي لا تملك ذاتي، كما أنّ ذاتي لم تملك ذاتي حدوثاً، وكما أنّ ذاتي لم تعطي لذاتي ذاتي حدوثاً، فهي كذلك في حال بقاء الذات، لا أملك ذاتي بقاءً كما لم أملكها حدوثاً.
هذا ينكشف تماماً بلا أيّ خاطرة من شك وريب ووهم، ينتهي كلّذلك عند كلّ الخلائق وتبرز الحقيقة الحقّ لكل نفسٍ وأنّه لا مُلك إلا لله. ما في ذات تملكني غير الله عز وجل، تصرف الذوات كذلك، وأنّه ما في أحد يملك التصرف في أي ذات، لا في هذه الورقة وهي ذات،ولا في أيّ نفسٍ، ولا في اتخاذ أي قرار، وما إلى ذلك. الكل ممنوح.
فيظهر المُلك الحقّ في قيام الذوات بمن تقوم به وهو الله وحده، وفي توقف أي تصرّف في أيّ ذات، في أي شيءٍ على إذن الله، وأنّالتصرّف له لا لمن سواه على الإطلاق.
إذا عرفنا هذه الملكية، وأنّ هذه الملكية الحقيقة ستنكشف، علينا أن نتأدّب في كل حياتنا، ولا نتصرّف في أيّ شيءٍ من الكون تصرّف المالك، لا في غيري، ولا في داري، ولا في ولدي، ولا في نفسي،فضلاً عن شأن أمة، وعن شأن الإنسانية كلّها. تعدّي، ظلم، هذا التصرّف تعدّي وظلم. أيّ تصرّف في ذاتي لا يرضى عنه الله عزّوجلّ هو عدوان وفيه إنكار لله بدرجة معينة.
(ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ) تبقى الرحمة، والمالك العظيم الذي لا تقوم لقدرته قدرة، ولا يتحدّث عظيمٌ ممن يرون أنفسهم عظماء عن شيءٍ أمام عظمته تبارك وتعالى، ولكنه واسع الرحمة، (ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقّ) وهو الذي لا يُيَأس من رحمته الواسعة، يعطيك أمل، فَقَدِّر هذا الأمل، ولا تقطع أسباب رحمة الله عزّ وجلّ عنك على الإطلاق.
(ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ) والرحمن يعطي كلّ ضعيف، كلّ محتاج،إلا أنْ يسدّ الباب وكل باب على نفسه، ويستكبر على رحمة الله،ويسدّ كلّ نافذة من نوافذ رحمة الله عزّ وجلّ عن أنْ يصل إليه رحمة إنقاذ ونجاة.
(ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡحَقُّ لِلرَّحۡمَٰنِۚ وَكَانَ يَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا)
تلك الرحمة الواسعة التي يثبّتها الله هنا في وقتٍ لابد أن نعرف أنّه أشدّ الأوقات حاجةً إلى الرحمة، -هكذا يكون الإنسان في ذلك الوقت-، هذه الرحمة الواسعة التي أعدّها لذلك الموقف الضيّق الخانق المُهْلِك.. (َكَانَ يَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا)، أين رحمة الله؟ هذا الكافر سدّ كلّ أبواب رحمة الله على نفسه.
طبعاً أنا وأنتم لا نبقى ذاكرين دائماً عظمة الله، وقدرة الله، ومثل هذه الساعات.
يخرجون من عند النبي (ص) وهم شديدي الإيمان، يقولون لا نبقى،تأخذنا الدنيا، تنسينا مشاكلها وملاهيها وضغوطاتها وخوفها ورجاءها، لو نبقى على ما نسمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وما يصل إلى القلوب المفتوحة من حديث رسول الله من هدىً وتقوىً وخوف من الله عزّ وجلّ، طبعاً لا يمكن أنْ نتحرك في اتجاه أيّ مظلمة، أيّ وساخة، أيّ قذارة، لا شكّ. والله رؤوفٌ رحيم.
ذلك اليوم -يا أخوتي- (وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا)
سبابة الندم يعضّها الإنسان، ذلك اليوم ليس سبابة، ولا يد واحدة،اليدين يعضّهم. تعبير عن أشدّ الألم الذي يعانيه، عن ألم المذّلة، ألم النار، غضب الله عزّ وجلّ، ألم حكمه على نفسه بالحقارة، ألم النِعَم التي ضيّعها ووهبها الله إليه ليعظُم، ليسمو، ليسعد السعادة الأبدية، وهو وضعها واستهلكها كلّها في أن يصل إلى قعر النار. هذه الآلام تجعله يعضّ يديه.
العضّ حقيقي أو غير حقيقي هو تعبير عن أنّه بلغ مبلغاً ليس مثله من مبلغٍ في درجة الندم والشعور بالخسران والتفاهة والذلّة والحقارة والسقوط.
وفي رواية تقول يعضّ يديه إلى المرفقين، فما يصل إليهما حتى تنبتان من جديد ليعضّهما ثانيةً وثالثة، وهكذا.
إذا كان هناك فنون في العذاب في الدنيا عند الظالمين، ففنون العذاب عند الله عزّ وجلّ تتفه أمامها كلّ فنون المخلوقين في إيصالالأذى.
(وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِسَبِيلٗا)
زوجي وسوس لي، زوجتي وسوست لي، صديقي وسوس لي، جاري وسوس لي.
يريد أن يأتي قم أو يذهب للنجف للدراسة، بِنِيّة أن يفهم دينه ويقومبوظيفة دينية تخدم الدين. الأب الشفيق المُحبّ يعرف مستوى ولدهفي درجة التوجيهي، هناك منحة لأمريكا، وعلى ظروف تكون آمنةمن الناحية الأخلاقية، ظروف موفرة، هناك بيئة إسلامية تعتني، ومرّة لا، البعث من البحرين إلى بيت أمريكي.
أحمد الإسكافي، الرجل السنابسي “ذكره الله بألف خيرٍ وأجزل ثوابه وأعلى الله مقامه”، أخذ خيرة في آخر ليلة وسافر، أين بعثوه؟ لندن كما أظن، في بيت إنجليزي، رجل وزوجته ومعهم فتاة، دعواها أنّها عشقت فيه روح الصالحين أو ما إلى ذلك، نورانيته، على كلّ حال فرَّ بنفسه فراراً.
الذي سيوضع في بيت إنجليزي هل هو بهذا الإيمان أو لا؟ الله العالم. يذهب إلى هناك ليتحوّل إلى عدو من أعداء الله، يبيع أهله ووطنه ودينه وكلّ كرامة أمّته ويتآمر عليها، فيقول (وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُعَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا، يَٰوَيۡلَتَىٰ لَيۡتَنِي لَمۡ أَتَّخِذۡ فُلَانًا خَلِيلٗا).
فَلْنُحضِّر بصيرتنا وفطرتنا وكلّ وعينا، ونحترم مصلحتنا حين نختار الخليل والصاحب والرفيق، ونختار نوع الارتباط.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.