الحديث القرآني الأسبوعي “إضاءات قرآنية (٢) – ۱٦ أبريل ٢٠٢٥

*نص محاضرة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الجلسة الأسبوعية التي يعقدها في مقرّ إقامته في قم المقدسة كل ليلة خميس تحت عنوان {إضاءات قرآنية} – 16 أبريل 2025 / 17 شوال 1446هـ:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين
الصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
قوله تبارك وتعالى (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ۗ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا، وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) – الفرقان (21، 22، 23).
متى لُقيا الملائكة؟
الكافرون يشترطون للتصديق برسالة الرسل أن يأتي معهم ملك، وقبل ذلك، والأصح والمطلوب أصلاً، هو أن يكون الرسول ملكاً كما سبق، وإذا لم يكن الرسول ملكاً فلا أقلّ من أن يأتي مع الرسول ليشهد له.
الملائكة -كما سبق- لا يمنع العقل من تنزيلهم، وإنما هناك موانع أخرى تمنع من نزولهم، لكن يوماً ما، أو يوماً معيناً، لابد أن تنزل فيه الملائكة، وهو موعد نزول الملائكة، ما هذا اليوم؟ متى هو؟ متى يرى الكافرون الملائكة؟
تقول الآية الكريمة وهي الثامنة من سورة الحجر (مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذًا مُّنظَرِينَ).
ما هو يوم الحقّ؟
موعد التنزيل بالحقّ، بعضهم يقول هو يومٌ يحكم الله عزَّ وجلّ فيه باستئصال أمّة حيّة قائمة على الأرض في أنشط أيّامها، وفي أقوى قوّتها، وفي أشدّ غطرستها، تُفسد وتفسد وتفسد ولا يرجى فيها صلاح، وقد لا يأتي منها نسلٌ طيّبٌ أبداً، هذه أمّة مهيئة للاستئصال، مهيئة للقضاء الحاسم الكلّي عليها، وتؤخذ مفاجأةً.
فالتنزيل بالحقّ، من خلفياته أن تستحقّ الأمة الاستئصال فيأتي يوم استئصالها، هنا تتنزل الملائكة أو قُل إنّ تنزّل الملائكة يعني أنّ الاستئصال آتٍ. تنزّل الملائكة مسألة غيبية.
وقضاء الله في الأحوال العادية كلّها ألاّ تتنزل ملائكة، وحين يأتي اقتراح الكفّار بأن ينزّل الله الملائكة وهو على خلاف سنّة الله عزَّ وجلّ في أمر تنزيلهم، وحين يستجيب الله لهذا الطلب فمعنى استجابته والتردّد لحظة في الاستجابة لتنزيل الملائكة بالخضوع والطاعة والتسليم لما اشترطوه له، تنزيلهم معناه القضاء الحتم على هذه الأمّة.
طبعاً، الله عزَّ وجلّ أوجد العباد ليبقوا عمرهم، وأمر بكثرة النسل لإعمار الأرض، وليس في كلّ يومٍ هو يستأصل أمة، لأن هذا على خلاف ما أراده للإنسان في عمره الطبيعي، قطع الطريق أمام أن يستكمل الإنسان عمره هذا استثناء تقتضيه مصلحة التربية الإلهية للإنسانية، وحتى لا يحكم الكفر ولا يتغطرس الإنسان ولا تسلك الإنسانية كلّها مسلك الاستكبار والطاغوتية.
(مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذًا مُّنظَرِينَ).
يعني هي لحظة حسم، هي لحظة موت ليس فيها انتظار أو تأجيل. كبير، صغير، بريء، ما إلى ذلك، وقد يوجد بعض الأشخاص المستثنين لكن الله يعوضهم عمّا نقص من عمرهم، فالله عزَّ وجلّ لا يظلم أحداً من عباده.
هذا رأي، أو هذا وجه.
الرأي الثاني: إذا جاءت ساعة الأجل المكتوب فحينئذٍ، عمري ستين سنة، فلان مئة سنة، ما إلى ذلك، يأتي اليوم المقدّر للانتقال من هذه الحياة الدنيا في موتي، سواء كان ذاك البعيد كافراً، أو كان هذا الميّت مؤمناً، سوف يلقى الملائكة في لحظة احتضاره ومشارفته على الموت، سيلقى الملائكة من أوّل يومٍ يموت.
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (*) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)
(…وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِى غَمَرَٰتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُ ۖ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ..) – الأنعام 93
في حالة الاستئصال يلقى الكافرون الملائكة، لكن أي رؤية؟
الرؤية التي كانوا يتمنونها -رؤية البشرى والخروج على بنتيجة لطلبهم تُفرحهم-؟!
لا. هناك ارتباط وتلازم بين يوم رؤية الملائكة ويوم العذاب.
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) بسبب إجرامهم، وأكبر جرمٍ هو الشرك والكفر بالله عزَّ وجلّ.
(وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا)، يقولون كانت عادة العرب أنهم إذا كان بين الإثنين أو أكثر تخاصم وثارات وانتقامات وتوّعدات، فحين يلقى أحدهم الآخر خاصةً في الأشهر الحرم أو في الحرم المكي، حين يلقاه وهو خائفٌ منه بأن يأخذ ثأره وينفّذ فيه الإعدام، يقول “حجراً محجورا”، هذا الخائف يقول ذلك، الحجر يعني المنع، حرامٌ محرّم عليك أن تُخيفني، ألا تؤمنني، خاصةً إذا كان هناك عهد عام وهو في الأشهر الحرم أو في البيت الحرام، فهنا تأتي هذه الكلام فتكفّ الطرف الآخر عن نيل ما يريده من الانتقام منه.
هذه كلمة يقولها المجرمون للملائكة، أو يقولها المجرمون مخاطبين بها الله عزَّ وجلّ، أو يقولها الملائكة للمجرمين -على خلافٍ في الآراء-.
إما أن يقول المجرمون لله عزَّ وجلّ: ربنا امنع عنّا الملائكة من أن تنال منّا شيئاً، قول الملائكة لهم “حجراً محجورا”، يقول لهم لا توسّل، لا رجاء، وإنما هو العذاب الأليم والعقوبة المقرّرة حتماً.
“حجراً محجوراً” من المجرمين إلى الملائكة، يقولون: ارحمونا، حرام عليكم أن تؤذونا، نحن اليوم مملوكون ضعاف مستسلمون، إلى آخره، إلا أن الجواب المقرّر هنا هو لا رحمة بمجرمٍ يستحق العقوبة حتماً يوم القيامة. هنا انتهت التوبة والأعذار، والسبل إلى النجاة إما توبة مقبولة، أو استشفاع أو شفاعة من شفيع أحد الطرق، وتأتي مغفرة الله ورحمته، هذا الطريق طريق التوبة طريق منقطع تماماً يوم يرى المجرمون الملائكة، وهو يوم الممات.
(وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)
مساجد تُبنى، قناطر تُقام، جسور تُقام، حسنات في ظاهرها، صدقات، كفالة أيتام، إحسان، إكرام ضيف، إلى آخر الأعمال الحسنة، حين تكون النيّة ورائها نيّةً ليست لله، وإنّما النيّة وراء هذا الإحسان إساءة، ووراء هذا المظهر الحسن كيدٌ باطل، كيدٌ ومكرٌ ضارّ. وراء هذه الابتسامة مكرٌ خبيث، وراء هذه الكلمة الناصحة خيانة، إلى آخره. أيّ عملٍ من أعمال الخير. مشروع لإيواء الأيتام، إقامة أيّ مظهرٍ من مظاهر العدل والاستقامة، ورائه نفسيّة كافرة، نفسيّة منافقة، نيّة سوداء، إضرارٌ بالناس، خطاب جميل ومغري ومطمئن، إلى آخره، ورائه نيّة فتك، كلّ هذه الأعمال التي يأتي بها أصحابها برجاء النفع، هذه كلّها لا قيمة لها يوم يلقى المجرمون الملائكة، تُنسف نسفاً، تذهب هباءً منثورا.
الهباء هو ذرّات الغبار الدقيق جدّاً تُرى مع الشعاع، تدخل إلى الغرفة مع شعاع الشمس إذا كانت في الجدار كوّة كما يقولون، شقوق الأبواب الخشبية التي يدخل منها الشعاع، هذا الشعاع يدخل معه ذرّات الغبار غير المرئية التي لا تُرى في ذاتها مستقلةً ولا تُمسك، هذه تنتشر وتذهب هباءً بلا أي جدوى لمحاولة مسكها وما إلى ذلك، يعني هو شيءٌ ضياع، لا قيمة له، شيءٌ لا يحمل أيّ جدوى للرائي ومشاهده.
هذه الأعمال فلتكن أكواماً في الدنيا، فلتكن ركاماً كبيراً، فلتكن دُفعت من أجلها المليارات، ولتكن أغرت الكثير من الناس، إلا أنّ هذه الأعمال كلّها باطلة، وكلّها جوفاء، وكلّها خسار. فاحذر احذر.
هذا موضع درس ينبغي أن يلتفت إليه المؤمن كلّ الالتفات، وهو ألاّ يقدم على خيرٍ وهو ينوي منه شرّاً.
أتعلّم الصلاة مدةً طويلة لأجيدها تمام الاتقان، وأتوّفر على أداء كلّ آدابها، وأريد أن آتي بها بأحسن صورة لأغري بها سعياً للشرّ، لأغري بها من يثق بها سعياً للشرّ، للوصول إلى مناصب أضرّ بها، إلى آخره.
قد يفتح ميتماً ويشكره الناس، ويكبرون من شأنه، وينال الاحترام الكبير، لكنه ينوي شرّاً.
يفتح باب تعليم لفتيات، لفتيان، وهو ينوي شرّاً، وهو يكيد بمن يدخل في هذا المشروع.
تأتينا الآية الكريمة: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا).
ثمانون سنة وهو يكدّ فيها ويكدح ويبذل ويصرف أمواله ويعطي من جهده الكثير، وحصيلة كلّ ذلك هو أن يجمع ما يتحوّل إلى هباءٍ منثور متفرّق شارد لا تُمسك منه أيّ درجةٍ من خيرك.
(..وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِى غَمَرَٰتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَٰتِهِۦتَسْتَكْبِرُونَ)
أيدي الرحمة واللطف أو أيدي العذاب؟ باسطو أيديهم بالعذاب.
(أَخْرِجُوٓاْ أَنفُسَكُم) أنتم في مأزق خانق في أشدّ حالةٍ شهدتموها منذ خُلقتم، أمام أكبر خطر لا تتصوّرون قدره، أنقذوا أنفسكم، هذا الذي سعيتم له، هذا المستقبل الذي بنيتموه لأنفسكم، أخرجوا أنفسكم فإنه يستحقّ كلّ محاولةٍ للخروج منه لهوله وشدّة عذابه وما يسبّبه من رعبٍ وفزعٍ وزلزالٍ في نفس هذا الإنسان وقلبه.
(أَخْرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ)، يوم اللقاء بالملائكة هو يوم الجزاء بعذاب الهون، مُذل، عذاب الذل، العذاب الذي يُشعر بالدونية، ويُشعر بالخزي والمسكنة، ويُحدث -كما سبق- زلزالاً في كيان الإنسان كلّه. وهو ليس عذاب لحظة، هذه بداية العذاب، هذه هي بشارة ملايين السنين، مليارات السنين، الله العالم متى ينقضي عذاب هذا المجرم أو ذاك، وقد يكون خالداً في النار إلى أبد الآبدين. وإنْ كان في بعض الآيات ما يُفهم منه بأنّ الخلود الأبدي الذي لا حدّ له ولا منتهى، ولا تأتي ساعة زمنية تتوقف فيها، لا خاتمة له، هو خلود الجنّة، أمّا خلود النار إلا ما شاء الله، مليارات السنين ممكنة، خمسة أيام سجن صعبة، سجن خالي من العذاب، مليارات السنين من نار الآخرة تجتمع فيها كلّ ألوان العذاب، فكِّر ما تفكّر في ألوان العذاب فلن تصل إلى كلّ ألوان العذاب التي يلقاها المجرم يوم الآخرة، هل تسوى الستين سنة الخاصة بالدنيا؟ مئتين سنة بقصورها، بألذّ مأكولها ومشروبها، بأعظم شهرتها، بما فيها من أبّهة وتقدير، مخدوعين أو غير مخدوعين، وتصفيق جماهير مليارية، هذا ستين، ثمانين سنة، هل تسوى بشيءٍ من ذلك العذاب؟
دائماً علينا أن نراجع أنفسنا ونوازن بين ما هو مقطوعٌ به من شأن الآخرة ونعيمها وعذابها، أو ما هو محتملٌ على الأقلّ في نفسي، أقارن بينه محتملاً، أقولها محتملاً متنازلاً عن اليقين، وبين يقينٍ وصلني من الغيب بأني ساعٍ خمسمئة سنة، أو عمر نوحٍ، وفي رفاهية وأمن وأمان وصحة وعافية وما إلى ذلك، ماذا يقول العقل؟ فلنراجع، أيهما أقدّم؟
(..وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِى غَمَرَٰتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوٓاْ أَنفُسَكُم)
مو زرزور أمامي، مو بطل آدمي أمامي، ملك. هل يستطيع أحد أن ينطق أمام هذا الملك إذا كان ملكاً من ملائكة العذاب؟ معذّب في سجن ترتعد منه النفوس، هذا أعدّه الله لعذابه، يعني العذاب الذي قرّره.
في بعض الأحاديث، طريقها عاميّ، تتكلم عن يوم القيامة، الأنبياء يجثون، يقول نفسي نفسي، نفسي يا ربّ. عيسى بن مريم عليه السلام، الحديث هكذا، لا مريم، نفسي نفسي. وأنبياء آخرون.
هذا بالنسبة لحجم العذاب، لون العذاب، قسوة العذاب، شدّة العذاب، هذا ليس مستغرباً إذا تُرك هذا النبي لنفسه البشرية، لكن أنبياء الله محلّ كرامة وإكرامه، وهم ملاذ عبادٍ كثيرين في الشفاعة لهم، لكن هذا يصوّر لك شدّة الهول، وأنّه مع حجم الطاعة العظيم علينا أن نخاف، لأنّنا لا ننال رحمة الله باستحقاق، إنّما لسعة رحمته وبكرمٍ منه وشفقةٍ بعباده. ليس عندي شيء، يحاسبني ليس عندي شيء، يحاسب النبي ليس عنده شيء، لأن كلّ ما عند النبي هو من عند الله، بتصبير الله، بتوفيق الله، وإلى آخره.
بعضهم يقول بأنّ تنزّل الملائكة ليس عند معاينة الموت واحتضار النفس ووصول الأجل. حياة البرزخ وهي تبتدأ من بعد لحظة الموت وتنتهي يوم القيامة. هذا اليوم هو يوم رؤية الملائكة (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا).
وحياة البرزخ إن لم يكن الجميع، فهناك قسمٌ من المؤمنين يعيش فيها -ومنهم الشهداء- حياةً طيّبة، يعيش لوناً طيّباً من الحياة، ليس أكلاً وشرباً، مادة الأكل والشرب وسيلة حياة ومظهر من مظاهر الحياة الأقلّ شأناً، وإلا فالحياة الأكبر شأناً هي حياة الروح، حياة المشاعر، الإحساس بالهدف، بالقيمة، الرضا عن الذات، إلى آخره.
ومرَّ أنّه في حياة البرزخ أن المؤمنون يجتمعون في حلقات، وكأنه في وادي الغري أيضاً، ويتحادثون حديث أُنس، مودّة، أحاديث مفرحة. وهناك مجرمون يعانون ويُعرضون على النار، ربما مساءً أو صباحاً. حياة البرزخ فيها ملائكة عذاب. (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا). نداء واستغاثة وترجّي ولكن ليس معه إلا العذاب.
في قضية الاستئصال، توجد هذه الآية، يعني أنّ يوم اللقاء هو يوم الاستئصال: (وَقَالُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ).
بعد نزول الملك لا انتظار إذا جاء العذاب.
هناك يومٌ ينتهي فيه البناء الكونيّ القائم بكلّ عظمته ومتانته وقوّته، هذه بعض الآيات الكريمة في الموضوع حول ذلك اليوم:
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا) – *الفرقان
ما ذلك اليوم؟ أيّ يومٍ هو؟
يوم تقول عنه الآيات الكريمة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، المعنى اللغوي بمعنى لُفّت وطوي نورها، طبعاً لحظة واحدة بلا شمس لا نعيش.
(وإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ)، تساقطت وتناثرت.
البناء الكوني الآن، الكون كله الآن عقد منتظم، حبّاته متماسكة، موزونة المقادير والأبعاد. نظام محكم لا يبلغ العقل عظمة دقّته ونظامه وإحكامه، وهو قائم بقوانين، أي قانون يختلّ من هذه القوانين ينهدم هذا الكون.
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) – *التكوير
تتساقط وتتناثر، هل هناك حياة بعد ذلك؟
(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ)
هناك آية كريمة تتكلم عن كون الجبال سراباً، هذا المفسّر يقول، السراب الماء ما هو؟ هو مظهر، لون يشبه الماء، وجود يشبه الماء، لكن هو ليس بماء، هو صورة كاذبة عن الماء. الجبال سراب وهي تمشي، الذي يراها يراها جبالاً بينما هي سراب.
هنا الآية الكريمة تتكلم عن سير الجبال، والجبال تُنسف.
تأتي البحار (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)، يعني أوقدت، هذا الماء يتحوّل إلى نار، المحيطات كلّها تكون ناراً.
(وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ)
السماء تنشق وتنفطر.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)
في هذا الزلزال الكوني العظيم، الذي ينتقض فيه الكون ببنيته المادية، الجنة أزلفت يعني قٌرِّبت، والنار سُعّرت.
(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) – *الانفطار
حتى القبور تشارك وتلقي بأجساد موتاها، الأرض تُخرج ما فيها من معادن وغير معادن، والقبور لها دور في إلقاء الرميم الموجود فيها.
(إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ، وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ، وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ، وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ، وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ) *الانشقاق
(وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا) سمعت لربها سماع استجابة، انقياد، طاعة للإرادة الإلهية.
(وَحُقَّتۡ)، حقّ لها هذا الانقياد والتسليم والاستجابة القهرية، لأنها لله، هي محكومة في وجودها لقدرة الله، ولعلم الله تبارك وتعالى، فحقّ لها أن تستجيب، هي لا تملك شيء، تستجيب رغماً عليها، ولو كانت تعقل فإنّ الخلائق الأخرى مطيعة والعاصي من بين الخلائق هو هذا الإنسان صاحب العقل، وهو النعمة التي ينبغي لها أن تضبط حركة الإنسان وتجعله يشعر بالذلة والاستكانة أمام الله عزَّ وجلّ، إلا أنه هو المستكبر من بين الخلائق الأخرى. كذلك الجني العاصي عنده عقل، وأبليس عنده عقل، هؤلاء أصحاب العقول.
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) – *طه
يفتتها تفتيت، الزلزال هذا كلّه، الكون يتحوّل إلى غبار، ليس هناك كواكب، لا بحار، لا جبال.
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) أرض ملساء.
(لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)، لا انخفاض ولا ارتفاع.
هذا الوضع، تفتت الكون كلّه، انهدم، ما هو الباقي منه؟ ما هي الحالة؟
الحالة -حبيبي-: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا) *الفرقان
الغمام هو السحاب الأبيض، الباء للمعيّة بوجود غمام، أو تتشقق بالغمام بمعنى يكون هناك غمام وشقوق. والظاهر أنّهم يحملون السحاب -في كتب التفسير- على هذا الغبار الذي يُحدثه تفتيت الكون، من أرضه، جباله، محيطاته، مائه، وما إلى ذلك.
(إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا، وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا، وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا، يَوۡمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا) *الزلزلة
(ٱلۡقَارِعَةُ مَا ٱلۡقَارِعَة) *القارعة
تهويل، تعظيم، تخويف.
(ٱلۡقَارِعَةُ مَا ٱلۡقَارِعَةُ، وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ، يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ)
كان مجتمع متماسك، يحارب، يتصل ببعضه البعض، فراش مبثوث هائم على وجهه لا يدري إلى أين، في حيرة من أمره. البشر هكذا، نعود كلّنا فرادى، ليس هناك ترابط اجتماعي في ذلك اليوم، لا يوجد تعاون اجتماعي وما إلى ذلك، كلّ فردٍ وعمله حائر لا يدري إلى أين يتجّه، مصاب، مدهوش، في حالة دهشة عظيمة تملك عليه كلّ شعوره، وتأخذ عليه كلّ كيانه، وتملأه رعباً وفزعاً وهلعاً، وتجعله يبحث عن وجهة، لا يدري إلى أين يتّجه، كالفراش المبثوث.
(وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَة)
هي فوق أن تدري عنها، أن تحيط بهولها.
فهذا هو ذلك اليوم، اليوم الذي ليس فيه ظرف من ظروف الحياة المادية موجود، لا يوجد فيه شرط من شروط الحياة البدنية موجود، والله عزَّ وجلّ لا يغلبه شيء وهو مسبب الأسباب، ويعيش الإنسان ذلك الهول، هو موجود ويعيش ذلك الهول وذلك الفزع وذلك الرعب.
إذا الظالم المجرم يريد أن يرى الملائكة فليجهز نفسه لذلك اليوم فإنه سيرى الملائكة. سوف يراها تنزل وتصعد، يعني يتصل عالم السماء بالأرض، ينزلون رحمةً للمؤمنين وعذاباً على الكافرين.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.