الحديث القرآني الأسبوعي “إضاءات قرآنية (١) – ٩ أبريل ٢٠٢٥

• كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المحاضرة الأسبوعية التي ابتدأها بعد شهر رمضان الكريم في محلّ إقامته بمدينة قم المقدسة، وذلك ليلة الخميس، واستكمل فيها الاضاءة على سورة الفرقان – ٩ أبريل ٢٠٢٥م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين
الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.
قوله تبارك وتعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَوَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) – الفرقان / الآية 20 من سورة الفرقان.
كان محلّ اعتراض على رسالة الرسول الخاتم “صلى الله عليه وآله وسلم” بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فهو خاضعٌ للحاجات البشرية، إنسان عادي لا تميُّز له، مرتبط ومنشدّ كلّ الانشداد لدنياه، خاضعٌ لضروراتها، محكومٌ لحاجاتها، فهو بهذا بعيدٌ كلّ البُعد عن عالم الغيب والارتباط به والارتفاع إلى مستوى التلقّي منه!
الرسول الذي يحمل رسالة الله إلى الناس، لابد أن يكون موجوداً غيبيّاً، مرتبطٌ بالغيب بكلّ وجوده، لا علاقة له بعالم المادة وضرورتها وتلوّثاتها ومنافساتها.
النفس البشرية وهي مرتبطة في حياتها بالمادة، وبمشاكل المادة وضرورات المادة وأمانيها ونظرتها المحدودة، كلّ ذلك يؤثّر على الروح التي تريد أن تتصل بالله سبحانه وتعالى، وتكون مؤهلة لمخاطبة الله، بأن يخاطبها الله ويُنزل عليها وحيه.
هذا كان اعتراض رئيسي عند الكافرين، وهذا الاعتراض اعتراضٌ صاحب تاريخ الرسالات والأنبياء والمرسلين “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.
الجواب هنا: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) فأنتَ لست بدعاً في الأنبياء والمرسلين بأن صرت تمشي في الأسواق وتأكل الطعام، أنت واحدٌ من الأنبياء الكُثر الذين كلّهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
هذا الجواب يصحّ لو كان الاعتراض يتركّز على انفرادية الرسول في كونه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فهو عام للأنبياء والمرسلين، فإذن اعتراض الكافرين بهذا الوجه هو اعتراض منسحب على كلّ الأنبياء والمرسلين، فالمصيبة هنا تكبر وتعظم أكثر، كان الاعتراض على خاتم الأنبياء وأنه شاذٌّ من بين الأنبياء والمرسلين في ارتباطه بهذه الظاهرة البشرية التي لا يستغني بشرٌ عنها، لكن لمّا كان هذا ديدن الأنبياء والمرسلين فكلّهم غير مؤهلين إلى أن يرتبطوا بعالم الغيب ويتلقوا الوحي من الله تبارك وتعالى.
الجواب الموجود هو جواب على الاعتراض في دائرة حياة الرسول وطريقة الرسول في الحياة “صلى الله عليه وآله وسلم”، إلا أنه يكون عندنا مشكلة أوسع إطاراً وأعمق في بُعدها بالنسبة للأنبياء والمرسلين جميعاً.
الآية الكريمة هنا تقتصر على جوابهم على الاعتراض بصورته، وخطابهم للرسول، كان الاعتراض محصوراً في شأن الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم”، وأن هذا الاعتراض ليس خاصاً بالرسول، إذا كانت مشكلتكم هي هذه وبالرسول بخصوصه، فالظاهرة التي تؤاخذونه عليها من حيث ادّعائه للرسالة هي ظاهرة عامة لجميع الرسل، فإذا كان الرسل الآخرين مقبولين فالرسول لابد أن يُقبل.
أما الجواب على الاعتراض على بشرية أيّ رسول، فيأتي جوابه في آياتٍ أخرى.
هذا ينقلنا للآية التي بعدها: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّاكَبِيرًا)
صعد الاعتراض، صعد الطلب. هذه الدعوة وهذا الطلب فيه استعلاء جنوني، جاء الجواب (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)
هذا الطلب فيه علوّ يدلّ على السقوط، وعلى العنجهية وعلى الغرور الذي قد تملّك صاحبه وخرج به عن طور التعقّل، أنت من؟ أنت من الذي تطلب أن ترى الملائكة؟ ماذا تفكيرك؟ ماذا رؤيتك؟ قدرة اتساع علمك؟ تقييمك للأمور؟ لقضية نزول الملائكة وماذا وراء نزول الملائكة ومناسبة نزول الملائكة أو لا يناسب، أنت إحاطة واحدة بهذه الأمور ليس عندك، ولذلك تقترح على الله العزيز العليم الخبير الذي يملكك ويملك الكون كلّه أن يُنزّل عليك ملائكة، وأنت العبد الذليل ومحدود الفهم ومقصور التصوّر، إلى آخره.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)
كأنهم لا يتوقعون لقاء الله، إما أنهم ينكرون الله عزَّ وجلّ أساساً، أو أنهم ينكرون الآخرة والبعث والنشر والجنة والنار.
لا يرجون لقاء الله لأن قلوبهم مشغولة بالدنيا، منكبّة عليها، مترجسة بالدنيا، مملوكة لمنافسات الدنيا، فاقدة للنظرة البعيدة حيث نظرتها أرضية محدودة طينية، ولذلك قلوبهم غير مهيئة للقاء الله، لفقه معرفة الله ولفقه الآخرة، وغير مستعدة لأن تعيش الرؤية الأخروية وتحتضر الرؤية الأخروية، هم مرتبطون بالمادة ليلاً نهاراً وهم يعبدونها، فهذا الذي اعترضوا به اعترضوا به وهم مغمورون به في كلّ وجودهم، يملكهم تماماً ويمنعهم عن رؤية الآخرة.
عدم رجاء الله لا لأن يوم الحساب لن يكون وإنما لأنّ القلوب مغلقة بدنياها وبعبادة دنياها وبتقديس دنياها.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا)
يريد أن يرى الله. تنزيل الملائكة مستوى، ورؤية الله مستوىً آخر.
الأول هو في حدّ ذاته وبالنظر إلى آثاره، وإلى إمكانية تحمّله بشرياً، واستعداد القلوب بأن تؤمن بالملاك الذي ينزل، بغض النظر عن هذا، فهو ليس من الممنوعات عقلاً، يعني العقل لا يُحيل أن يتنزّل ملك في حدّ ذاته، من غير النظر إلى مترتباته وإلى موانعه، يعني ليس على حدّ اجتماع النقيضين أو الضدين، إنما هو أمرٌ آخر يمكن أن يكون في حدّ ذاته، أما رؤية الله فأيّ رؤية يريدون؟
اليهود طلبوا رؤية الله جهرةً. الرؤية رؤيتان، رؤية قلبية ورؤية حسية بالبصر الحسيّ المعروف، أي رؤية الله؟
الرؤية الحسية ممتنعة، قاصرة، يريدون الله مجسماً، محدوداً، له طول، له عرض، له حجم، له لون، هذا ممكن، هذا شأن الممكنات ولا يليق بالله عزَّ وجلّ أن يكون له مكانٌ محدود، زمان محدود، أن يكون له جسمٌ، يصله النظر الحسي، هذا طبعاً مستحيلٌ كلّ الاستحالة، هذا تنزيل لله عزَّ وجلّ من درجة الكمال المطلق إلى حالةٍ من حالات النقص الذي يعاني منه كلّ الممكنات وهي المحدودية، والمحكومية للمكان والزمان، المحكومية للشروط وللمواصفات المعينة الضيقة وما إلى ذلك، فهذا مستحيلٌ كلّ الاستحالة، وهذا نقلٌ لله عزَّ وجلّ -وحاشاه- من درجة الكمال المطلق إلى الدرجة المحدودة الضيقة التي يمكن أن تكون ويمكن أن لا تكون.
الممكن لا يمكن أن يكون بنفسه وإنما هو دائماً من عطاء الواجب تبارك وتعالى.
نأتي للرؤية القلبية، هم يقولون بأن الرؤية القلبية تحتاج إلى طهارة، تحتاج إلى نظافة قلب. الرؤية القلبية لله تحتاج إلى قلب منشدّ إلى الغيب، إلى ذكر الله تبارك وتعالى، مليء بالتأمل، بالتفكر، بالتدقيق، قلب يطارد صاحبه فيه أي ذرّة وأي بداية للانحراف، ذرّة من البلادة، من العجرفة، من الاستكبار، من الاستعلاء، من الدونية، قلب من أرقى القلوب، شفاف، يعيش الدنيا من غير ان ينجذب إليها، ومن غير أن يأخذ قيمه وترتبط نظرته بطينية الأرض، وبهبوط مستوى الأرض بالنسبة لعالم الغيب، فهم يشهدون على أنفسهم بهذا بأن قلوبهم غير مهيئة لرؤية الله تبارك وتعالى، وأنّ هذه القلوب مقفلة عن رؤية الله، وهم يزيدون كلّ يوم وكلّ لحظة إقفالاً عن رؤية النور الإلهي، فكيف لهم أن يطلبوا رؤية الله بقلوبهم؟ فلا الرؤية الحسية ممكنة، ولا الرؤية القلبية ممكنة بحسب ما فعلوه من قلوبهم وبحسب ما قضوا عليه من نور الفطرة في داخلهم وبحسب ما انشدّوا إليه من تفاهات الدنيا وترهاتها.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِاسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)
*(لَوْلَا) تحضيض هنا، عرض فيه إصرار، تعلق شديد بطلب أن يُنزل عليهم الملائكة.
نفوسهم امتلأت استكباراً لا عن حقّ، استكباراً وليس كبرياء حقيقية موضوعية، واعتبروا أنفسهم كباراً وهم صغار، اعتبروا أنفسهم عظماء وهم حقراء، واعتبروا أنفسهم شيئاً وهم ليسوا بشيء، هم لا حياة لهم، لا فاعلية لهم، لا إرادة لهم من دون عطاء الله وفيضه، وإذا بهم يستكبرون ويواجهون الله بأننا نريد أن نراك.
أنت كافر، جلسة مع إنسان مؤمن محلّق في الإيمان، محلّق في العلم، له ذلك القلب النوراني، له ذلك الفهم الحادّ، له تلك النظرة البعيدة المدى، له تلك الروحية الواعية في العقل، كم يُستكثر على هذا الكافر الوسخ الذي داخله قذر، جهالة، غرور، نجاسات معنوية كبيرة، كم يستكثر عليه العقل أن يطلب جلسةً مع ذاك الإنسان المتقدّس فضلاً عن نبيٍّ كريم وإمام، أن يجالس ملكاً، وإذا به يطلب أن يرى الله، هذه عظيمة، مثل طفل غبي يطلب أن يدخل في محاججة مع أكبر عالم في اختصاصه، هو ابن خمس سنوات ولكن لديه غرور مع غبائه وهو يطلب أن يحاجج آينشتاين في الرياضيات، عقلاً هذا يُستسخف، أو يقال الله يرحمه طفل مجنون، أنت المحدود الذي ليس شيءٌ منك إلا وهو محكوم لله عزَّ وجلّ، اشترط عليك يا رب أن تُريني نفسك، تُريني نفسك إما بعيني أو بقلبي، بالعين ممتنع لأنه لا حدود له ولا يحويه مكان ولا يحيط به زمان، وليس من عقلٍ يصل إلى صفة من صفاته، فكلّ صفة من صفاته لا حدود لها.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِاسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)
هم لا يعترفون بأنه ربّهم، نعم يعترفون بأن الأصنام ربّهم، بأن بقرة ربهم، بأن كوكباً ربهم، بأن بشراً ربهم، أربابهم الأبقار، أربابهم الأصنام وإلى آخره. نعم يرون بأن الله عزَّ وجلّ ربّ الأرباب، ولكن ليس ربّهم، يعني ليس هو الذي يدبّرهم، نعم هو الذي خلقهم، ولكن تدبيرهم ليس بيده، تدبيرهم بيد الأصنام والملائكة أو الكواكب أو الحيوانات، إلى آخره، فهم لا يعترفون بربوبية الله وإن اعترفوا بخالقيته وأنه ربّ الأرباب، ولكن ليس لهم علاقة من ناحية حاجة التدبير والعطاء والأخذ والإماتة والحياة وما إلى ذلك، هذا كلّه بيد أصنامهم وغيرها، فهم ربما قالوها استهزاءً (أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا) أو على حدّ ما أنت ترى ربكّ فهو يصير ربّنا، على تقدير رؤيتك فهو ربّنا كما هو ربّك، دعنا نراه، فليُرينا نفسه.
(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)
هذه نظرة نابعة من نفس جهلت كلّ الجهل، جهلت شأنها وشأن الله عزَّ وجلّ، وضيّعت عقلها وخسرت فطرتها، فاستكبرت هذا الاستكبار كلّه وصارت تنطق عن غير وعيٍّ ولا تدبّر.
(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا)
العتوّ التجاوز الشديد في الظلم، يعني هناك تجاوز في الظلم بشكل كبير، وهناك تجاوز شديد أشد ما يكون، تجاوز بصورة ما يكون أشدّ حدٍّ في التجاوز. هؤلاء عتوا عتوّاً كبيراً، يعني تجاوزا من يفوقهم في البشر، الملائكة، تجاوزا كلّ الحدود وذهبوا للمطلق.
الآن أدخل في نقطة هذا الاعتراض الواسع الإطار، وهو قضية أنّ الرسول لا يكون إلا ملكا، هل هذا يصحّ أو لا يصحّ؟
هذه نقطة أقف عندها بعض الشيء.
آيات من سورة الفرقان وعدد من الآيات.
هذه مجموعة من الآيات التي تتحدث عن طلب رؤية الملائكة وأن ينزل ملك أو ملائكة مع الرسل البشر، إما يكون الرسول ملكاً أو ينزل مع الرسول البشري رسول ملك هو الذي يباشر الدعوة.
طلب الرؤية للملائكة من الكفار.
(لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) – الآية 7 من الفرقان
النذير هو الملك، ويأتي في أقوالهم بأنه هو الذي يباشر الدعوة والتبليغ لأنه هو الذي يُصدّق بأنه من عند الله حيث أن البشر غير مؤهل في ذاته نهائياً لأن يكون رسولاً، وإذا تنزلنا فيكون معه ملك الذي يباشر الدعوة والتبليغ، لأنه هو الذي يمكن أن يصدق بأنه رسول من الله ويكون شاهد لهذا البشر الرسول المدّعي للرسالة.
فرعون عن النبي موسى “عليه السلام”: (فَلَوْلَآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱالْمَلَٰٓائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) – الآية 53 من الزخرف.
حتى يكونوا شهوداً على أنه مرسلٌ من الله تبارك وتعالى، وعند الملائكة هم عديل للأسورة، الأسورة تغني عن الملائكة، يمكن أن تحل الملائكة محل الأسورة.
الأسورة جانب الغنى والثروة، جانب الترف المادي، هذا دليل نبوة. هل ترى هذا الاقتراح الغبي؟ أين المادة وإشغالها القلب عن الله وسحرها للقلب بحيث يفرغ من أجلها ويكون كلّ انشداده لها وحيث يكبرها ويعبدها، هذا المال يكون دليل نبوة ورسالة.
(فَلَوْلَآ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱالْمَلَٰٓائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)
زفّة مع موسى عليه السلام ليشهدوا له بأنّه رسولٌ من الله.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِاسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) – الآية 22 من الفرقان
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) – الآية 24 من سورة المؤمنون.
المطلوب ملائكة، ولو كان الله يريد أن يرسل رسولاً فهو لا يرسل أحداً غير مؤهل، والبشر كلهم غير مؤهلين أن يكون منهم رسول.
(وَقَالُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ) – الآية 8 من الأنعام.
(لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) – الآية 7 من الحجر.
لو كنت صادقاً في رسالتك لكان الله عزَّ وجلّ يُصحبك بالملك الذي يشهد لك. هذا هو الاعتراض عام على كلّ الرسالات وعلى كلّ المرسلين، قضية أساسية أن البشر غير صالحٍ لأن يكون منهم رسول، ولو تنزّلنا وتسامحنا، هذا الرسول يحتاج إلى ملك ينزل معه.
ماذا يجيب القرآن الكريم؟
(..وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ) – الآية 8 من الأنعام.
يعني يُهلكون، لا يتأخر إهلاكهم، إذا أنزل ملك ويكذبونه يُقضى عليهم حالاً. هذه سنة الله.
لا دين بلا حجّة، لا دين بلا برهان قاطع يُحتجّ به على صحّته، ولا دين مع قهر.
(وَقَالُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ ٱلْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ)
الآية تقول بأن نزول الملائكة يعني الهلاك، معناه بأن أهل الأرض إذا لم يقرّوا ويذعنوا يكون الهلاك.
لا نتوقع أساساً أن تتنزل ملائكة تنزّلها وتنزيلها يوّلد قناعة قهرية في قلوب الناس، في نفوس الناس، في عقول الناس، لا يستطيع الإنسان أن يتخلّص منها أبداً، يعني تحكمني وتفقدني إرادتي، دين بلا إرادة لا يوجد.
هذه صورة من صور التنزيل، إما أن يكون حجة، فاعليته أنه يمثل حجة عقلية، يعني العقل لا يُلغى أمامها وإنما يدركها، والنفس لا تفقد إرادتها في الاختيار، تبقى قادرة على الاختيار، مع وجود هذا الملك إلا أن النفس تبقى قادرة أن تسلم لدعواه أو لا تسلم، إذا كانت مقهورة وفقدت إرادتها مثل الحركة اللاإرادية، (إسقاطي من فوق القصر حركة قهرية، سقوطي حركة قهرية لا تنسب لي، لو كانت محلّ فخر فلا فخر فيها، ولو كانت محلّ تقريع وتوبيخ فأيضاً لا أتحمل هذا الذنب، فأنا لستُ الفاعل).
ملك ينزل إلى الأرض ويدع الناس في لحظة واحدة قلوبهم أن لا تختار، وإنما آمين، هذا ليس ديناً طبيعياً، الدين لا يمكن أن يكون جبرياً، الدين فيه جزاء بثوابٍ أو عقاب، والمجبور على شيء لا يكون محلاً لثوابٍ ولا عقاب.
(وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) الآية 9 من الأنعام.
لو أنزلنا ملك في حقيقته، لا ندعه في ظاهره ملك، لا نتركه ملكاً بحسب ظاهره، في هيئته المنظورة، أنت بشر لا يمكن أن يتحمّل ولا تطيق قابليته رؤية الملك، ستقول رسول الله ينزل عليه الملك، قالوا ينزل عليه الملك في صورة “دحية الكلبي”، النفس البشرية لها طاقتها على كلّ حال.
لو خرجت الآن أمامنا حيّة -ثعبان- أرفع من جبل، أرفع من الهملايا، لها سبعين ألف رأس، نسقط أو لا نسقط؟
الملك صورته علمها عند الله، وله أجنحة، فهنا تقول الآية مراعاةً لهذا الجانب (لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا) وذلك لعدم قدرة البشر لمعاينة الملك.
هذا وجه.
الصورة الجمالية قد يُصعق أماما الشخص، يقولون بأن الحور العين لو أطلت الواحدة منهن على هذا العالم لا أحد يمكنه معاينتها. نحن نتحمل درجة من الشيء المخيف، من الشيء الجميل، حتى السكر عندما يزيد عليك تهلك، هناك أنواع من الأدوية التي تستطيع تحملها، القدرة البشرية محدودة في جميع جوانبها. النور أنت ترى الشمس، ركّز عينك في الشمس، نور ولكنه ليس نهاية النور، ظلمة تتحملها وظلمة لا تتحملها، مرارة تتحملها ومرارة لا تتحملها، حلاوة تتحملها وحلاوة لا تتحملها، فهنا عدم تحمّل البشر لرؤية الملك.
(وَلَوْ جَعَلْنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)
الكافر يقيس النبي به، يقول ما هو الفرق بيني وبينه، هو بشر، فلو كانت الرسالة مفتوحة للبشر فأنا بشر، طبيعة بشرية واحدة، فهذا بشر فصار أهلاً عند الله بأن ينزّل عليه الوحي والملك يبلغه وحي الله، وهو كافر جاحد وسخ إلى آخره، يقول أنا بشر كذلك، هذا لبس أو لا؟ هذا اختلاط، اشتباه الحق بالباطل، وعدم تميّز الحق عن الباطل، هذا لبس.
(وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)، ملك ساحر، هذا شيء متوهم يأتيه، تأتي الشبهات، والملك إذا لم يكن قهرياً فربما يكون هذا شيطان، وإلى آخره.
(مَا نُنَزِّلُ ٱالْمَلَٰٓائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذًا مُّنظَرِينَ) – الآية 8 من الحجر.
(قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا) – الآية 95 من الإسراء.
لو كان الملائكة عندهم مجتمع في الأرض، ويعيشون في الأرض في صورة مجتمع يحتاج إلى رسول، من يرسل لهم؟ يأتي لهم ببشر؟ أو يأتي لهم بملك؟ يقول (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا).
البشر عندما يأتيهم ملك، ضواغط جنس ليس عنده، ضاغط الأكل ليس عنده، عطش ليس عنده، لا يخاف، كل ما يرتبط من مادة لا يمثل له شيئاً، يأتي ويقول لي صوم شهر رمضان، كيف يمكنه أن يشعر بك؟
شاب ابن عشرين سنة وشاب في الجنس، محترق جنسياً، اندفاعه الجنسي كبير، ويأتي الملك ويقول له لا تتزوج، ماذا سيقول له؟ أنت مجنون. ماذا سيقول له الملك؟ كيف أقتدي بواحد لا يعيش حاجاتي، ولا يعيش احساساتي، ولا خوفي ولا آمالي. أنا أريد قصر وأموال وذاك ليس عنده شيء ولا حاجة له فيه.
فلابد أن يكون الرسول إلى البشر بشر وليس ملك، وهو الذي يمكن أن يكون قدوة لي، يقول لي صوم وهو قبلي صايم، أنا أصوم شهر وهو يصوم ثلاثة أشهر، أنا أصلي الصلاة الواجبة وهو يصلي صلاة الليل لا يتركها، إلى آخره، إلى آخر خواص النبي “صلى الله عليه وآله وسلّم”.
الملائكة أيضاً لو عاشت على الأرض، تأتيها برسول يذهب للمرحاض، ويأكل ويشرب وينكح وما إلى ذلك، هذا كلّه ليس في مستوى الملائكة، هذا وضعه غير وضعها، فينزلون لمجتمع الملائكة ملكاً، وينزل إلى مجتمع البشر بشر.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.