الحديث القرآني (الليلة السادسة) – 27 رمضان 1446هـ

*نص الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم في المجلس القرآني الذي يقيمه بمجلسه خلال ليالي شهر رمضان المبارك – المحاضرة الخامسة (قم المقدسة / 27 رمضان 1446هـ): 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغويّ الرجيم


بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله رب العالمين
الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي العظيم وآله الطيبين الطاهرين


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قوله تبارك وتعالى:

إِذَا رَأَتۡهُم مِّن مَّكَانِۭ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَ زَفِيرًا﴿١٢﴾ وَ إِذَآ أُلۡقُواْ مِنۡهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوۡاۡ هُنَالِكَ ثُبُورًا﴿١٣﴾ لَّا تَدۡعُواْ ٱلۡيَوۡمَ ثُبُورًا وَٰحِدًا وَ ٱدۡعُواْ ثُبُورًا كَثِيرًا﴿١٤﴾ قُلۡ أَذَٰلِكَ خَيۡرٌ أَمۡ جَنَّةُ ٱلۡخُلۡدِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَ ۚ كَانَتۡ لَهُمۡ جَزَآءً وَ مَصِيرًا﴿١٥﴾ لَّهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَٰلِدِينَ ۚ كَانَ عَلَیٰ رَبِّكَ وَعۡدًا مَّسۡـُٔولاً﴿١٦﴾ وَ يَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَ مَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِی هَٰٓؤُلَآءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ﴿١٧﴾ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِی لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَ لَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَ ءَابَآءَهُمۡ حَتَّیٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَ كَانُواْ قَوۡمَاۢ بُورًا﴿١٨﴾

 

والحديث ـ والله أعلم ـ إلى أين يصل…
الزفير هو -وقد تقدم الكلام عنه أيضاً – نحن نأخذ النفس لنوصل الأوكسجين إلىالرئة ثم نخرج هذا النفس بعد ماذا؟ بعد التزود منه بما ينفع، نجتذب نفساً من الهواء الخارج، ونقذف به بعد أنّ نأخذ من الحاجة إلى الخارج، هذه العملية في أواخرها تسمى “زفير”

ومنهم من يقول: بأن تردد النفس عند الإنسان حتى تنتفخ أضلعه.

العملية نفسها طبعاً لا تسمع [ولكن] يسمع صوتها؛ يعني الإدخال والإخراج لا يسمع [هما] فعلين صامتين، ولكن هذا الإدخال والإخراج له صوت، هذا الصوت هو الزفير في حقيقته.

الزفير يأتي في حالاتٍ عاليةٍ جداً: حالات التعب الشديد .. حالات الغضب الشديد، وفي بعض الحالات، مثلاً عند طبيب القلب، يقول لك: خذ نفساً طويلاً، إخراجه [يكون] بنفخ تنفخ وتدفع بقوة، أيضاً يصدر صوت في هذه الحالة.

عندما نأتي الآية الكريمة التي تقول: 

﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍۢ بَعِيدٍۢ سَمِعُوا۟ لَهَا تَغَيُّظًۭا وَزَفِيرًۭا﴾


النار ترى؟ .. النار جماد وليس فيه حياة، فكيف تراهم؟ 

هنا مرة نحمل التعبير “رأتهم” على الحقيقة، ونحمل (رأى) على ما وضعت له هذه الكلمة، والرؤية التي هي إبصار الشيء .. التعرف على الشيء من خلال النظر الحسي .. من خلال الباصرة، هذا يحتاج إلى أنّ تكون النار ذات عين، وهناك رواية من رواية الأخوة السنة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال بأنّ النار ذات عين، واستشهد بالآية ().

فعلى كل حال ، محل من محملين عند المفسرين بأنّ الرؤية حقيقية ، صحيح [أنّ النار] جماد ولكن ليس ذلك على الله بعسير، أنّ  يعطيها ما يعطي ذوي الأرواح من القدرة على الرؤية والقدرة على إبداء الغضب وإعطاء رد الفعل .. فعل الزفير.

ولكن المحمل الثاني هو أنّ هذا على التشبيه، والتعبير تعبير مجازي، ونحمل (الرؤية) على المعرفة، {إذا رأتهم} أيّ إذا عرفتهم، وكأنّ النار تترصد المجرمينوالكافرين، كما تنتظر وتراقب وتترصد وتتلفت ، يعني تصويرها كآدمي بإحساس وإدراك وشعور، فهي في مقامها تترصد وتتلفت وتراقب مجيء العدو .. مجيء المجرمين .. اقتراب المجرمين والكافرين.

﴿إذا رأتهم من مكان بعيد﴾

تراهم من بعيد وليس من مسافة قريبة، قال بعض المفسرين لروايات موجودة -والأكثر فيها سنية-: الرؤية على مسافة خمسمئة عام، وقد تكون من أعوام الآخرة، أو مائة عام أو أقل من ذلك، وليس ذلك مهماً ، الآية الكريمة تقول {من مكان بعيد}، بعضهم يقول في تفسيره بأنّه من بعيد يعني من أبعد نقطة تمكن الرؤية فيها.

 

﴿سمعوا لها تغيضاً وزفيرا﴾

 

إنذار شديد .. تهديد .. جو مرعب يملك القلوب ، لا تقاومه النفس .. هم يعرفون بأنّهم سائرون إلى النار، وإذا بالنار تنذرهم الإنذار الصارخ وتتوعدهم بالعذاب الأليم
{سمعوا لها تغيظاً وزفيرا} السمع أيضاً هنا، قد يكون هناك تغيض يعني بصوت واضح .. تغيض مُظهَر بالصوت أو بغير الصوت بحيث يسمعونه. 

السمع هنا أيضا يمكن أنّ يحمل على الحقيقة ويمكن أنّ يحمل على المجاز بمعنى يعرفون.

طبعاً من حق التعبير .. أساس أنّ نحمل أيّ تعبير على ما وضع له ، فنحمل (رأى)على الرؤية المعروفة سواءً في صورة صغيرة أو صورة كبيرة .. المهم نحملها على المعنى الحقيقي.

والمعنى الحقيقي هو أنّ “رؤيته الشيء” أيّ وصول بصره إليه، والتعرف عليه من خلال الرؤية البصرية.

 

 

{إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها}

أيضا سماعهم نحمله على الحقيقة فهو صوت صارخ .. مزعج .. مرعب، أيّ لا يترك للنفس مجالاً لأنّ تذوق شيئاً من الهدوء والطمأنينة. هذه هي البداية .. هذه هي البداية .. 

{سمعوا لها تغيضاً وزفيراً} التغيض سبق أنّه معنى الغيض الغضب؛ الغضب الشديد، هناك غضب وهناك غضب شديد، إذا قلنا غيظ فنعني به الغضب الشديد.

الغضب نفسه طبعاً لا يسمع، التغيض قالوا أنّه يسمع لأنّه التغيض هو الغضب الشديد المُظهَر المبين يعني يتضح. وهذا يحتاج إلى الصوت.

{سمعوا لها تغيضا وزفيرا} سمعوا لها زفير وكأنها مملوءه حقداً .. غضباً تريد أنّتُنفس عن هذا الغضب وعن هذا الثأر، مملوءه بالحاجة إلى إظهار ثأرها فهي تزفر الزفرات التي تَستَلِب القلوب.

عند الاحتضار الظاهر يأتي في بعض الحالات الزفير، الزفير المرتفع الصوت الذي يفجع.

{إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيضاً وزفيراً} هذه هي التحية .. تحية النار لمن يَردون على النار,

 

{وَ إِذَآ أُلۡقُواْ مِنۡهَا مَكَانًا ضَيِّقًا}

 

لا يُعطوَنَ فرصة أنّ يصلوا إلى النار، هم سائرون النار والنار تتوعدهم أو تتجه في اتجاههم ولكنهم لا يعطوا فرصة اللقاء الهادئ أو حتى في تلك الأجواء المرعبة وإنما يُلقى بهم إلقاءً في النار. إلقاء الشيء الذي وكأنه لا شيء .. إلقاء يشير إلى عدم القيمة وعدم الشأنية .. وإلى أنّه أحق بالرمي والقذف وكما تقدف الأشياء الرخيصة.

{وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقا}

 

{يَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ وَ تَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِيدٍ} فالآية تتكلم عن سعة النار .. تتكلم عن سعة النار وأنها مستعدة لاستقبال المزيد مهما بلغ، ولكن الآية تقول هنا {ألقوا منها مكانا ضيقا} ولا يتنافى أنّ تكون النار واسعة وأنّ تنخلق ظروف خاصة، كتدافع المجرمين أو كحالة دفع الملائكة قهراً للمجرمين إلى النار أنّيحصل هناك حالة ضيق وتزاحم وتصادم وما إلى ذلك.

هذا أحد معنيي الضيق وهناك معناً ثانيٍ سبق الإشارة إليه، وأنّ الواحد وهو في أعلى القصور وأجملها وأوسعها يأتيه همٌ وغمٌ وكدر فيضيق عليه المكان وكأنه في بئرٍ عميقٍ .. في بئرٍ عميق مظلم أو في سجن بعيد الغور في الأرض، هذا يحدث وهو الضيق المعنوي .. الضيق المعنوي، فالنار حال ما يصلها المجرم يجد فيها مكاناً ضيقاً ، لم يجد مكاناً ضيقا مثله لأن نفسيته تضيق .. تضطرب .. تَظَلَمُ الدنيا ..  تَظلمُ الأجواء في وجهه .. ينزل عليه الحزن والخوف وكل أذى،فهذا ضيق وأيّ ضيق.

 

{ألقوا منها مكاناً ضيقاً} في ذلك المكان {مقرنين}: 

مع ذلك الضيق والذي في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضيقِ الوتد في الحائط().

الوتد في الحائط والحائط صلب ويراد أنّ يثبت فيه مثلاً خشبة أو حديدة، هذهيُدفع بها دفعاً ويراد له أنّ يثبت الثبات المكين القوي بحيث لا يتزلزل، هذا يُطرق عليه الطرق الشديد ودخوله في الجدار يكون صعباً جداً .. صعباً جداً، يعني هذا لو كان صاحب شعور لأحس بالضيق الهائل وبالخناق وبالقسوة، مَثل مَن يدفع إلى النار .. الإنسان الذي في حال دفعه إلى النار من قبل ملائكة العذاب، مَثل هذا الوتد في الطرق عليه لإدخاله في الحائط. ومَثل الحديدة أيضاً التي تسمى بالزج عندهم، الزُج وهو حديدة في أسفل الرمح، أعلى الرمح فيه السهم وأسفل الرمح فيه الزُج، والزج حديدة يُدفع بها في أسفل الرمح لتثبت أيضا الثبات المكين القوي، فهي لو كانت هنا وهي تدفع إلى هذا المكان الضيق جداً .. فتحة ضيقةجداً تدفع فيها في هذه الحديدة، لو كانت ذات شعور لشعرت بأكبر ضيقٍ وأشد ضيق.

{مكانا ضيقا} يعني فيه معاناة مَن يقحم به في جدار .. يقحم به في مكان ضيقٍجداً ، فهنا الضيق ضيق بدني ، و ربما يكون الضيق ضيقاً بدنياً و[ربما] ضيقاًنفسياً يسلب النفس أيّ درجة من درجات الراحة والهدوء. 

{ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} مع هذا الضيق الشديد مقرنين بالأصفاد ..سلاسل .. الأغلال، بحيث يشعرون يتأكدون بأنّه لا مفر ولا مهرب، لا مفر ولا مهرب من هذا المصير الأسود القاتم الذي سعوا إليه بكل طاقاتهم .. بكل مواهبهم .. بكل أيام حياتهم .. بكل ما أوتوا من قدرة .. تفضل من الله عز وجل، قضوا دنياهم على طريق الوصول إلى هذا المأزق الخانق الأليم.

{مقرنين دعوا هنالك..} في ذلك اليوم الشديد العبوس الكئيب المخوف الرهيب، دعوا في ذلك الموقف الذي لا يَبقى شعورٌ لصاحبه بأيّ درجة من الاطمئنان وإنّضعفت. {دعوا هنالك} اجتمع الخوف ..الألم .. الحزن الحكم على النفسبالحقارة .. الندم الشديد على ما قضوه من حياتهم في هذه في الدنيا من أجل الوصول إلى هذا المصير.

{دعوا هنالك ثبورا}  في رواية تقول بأنّ أول من يُعلن .. يرفع الدعوة بالثبور .. ويرفع نداء الثبور – الثبور هو الهلاك- هو إبليس .. هو إبليس وجنوده، ويأتي تُلوَ ذلك هذا النداء .. هذه الدعوة : واثبوراه واهلاكاه من قبل الكفار وأعداء الله تبارك وتعالى.

{دعوا هنالك ثبورا} هناك يقولون واهلاكاه أو يا هلاكاه،

تدري لماذا؟ يستغيثون بالهلاك ، هذا في الدنيا يأتي عذاب يأتي ألم شديد .. يقول يا ربي خذني [إليك]، يعني مرض شديد .. آلام عنيفة جداً تجعل صاحبه نادي ..الموت الموت .. الموت الموت، يعني يتمنى الموت، يرى أنّ في الموت خلاصا، الموت ولا هذا العذاب، يطلب الخلاص ولا خلاص فيمّا يراه إلا أنّ يَهلك .. يعني لا طريق[إلّا هذا الطريق]، هو يائس من أيّ نجاة .. من أيّ حل .. من أيّ مخرج للنجاة من هذا العذاب الشديد الذي لا يُتحمل، فلذلك يطلبه مفراً من عذابه بأنّ يهلك.

{لا تدعوا اليوم ثبوراً واحدا وادعوا ثبوراً كثيرا}

واثبوراه .. يا ثبوراه، يعني يطلب الثبور لنفسه .. الهلاك لنفسه ويلتمس بذلك النجاة من حالة عذابه، يأتي الجواب من الله عز وجل .. من ملائكة الله تبارك وتعالى: {لا تدعوا اليوم ثبوراً واحدا وادعوا ثبوراً كثيرا} أنتم تتوسلون بالنجاة من عذابكم بالموت .. بالهلكة، ولكن لا نداء واحد ولا ألف نداء ينجيكم، القرار ليس بيد هذا العبد الضعيف المسكين المستكين، كل وسيلة حتى وسيلة الهلاك للنجاةمن هذا العذاب لا توجد، وسواء دعوتم بنداءٍ واحد أو تعددت دعواتكم بالثبور فإنها لا تجدي .. لا توصلكم إلى نجاه أبداً، يعني ايئسوا يأساً كاملاً من أيّنجاة ، ولا وسيلة على الإطلاق اليوم للنجاة.

{لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا} اليوم الشديد، ويأتي وجهٌ ثانيٍ، لماذا الثبورات الكثيرة .. دعوات الثبور الكثيرة؟

لأنّ العذاب دائم، ولا تنقطع ويلاته، ولا تنقطع ألامه فما من لحظة يأتي فيها أنّتتوقف الدعوة بالثبور والهلاك، كلُ المدة التي قد تطول ملايين السنين وقد تقصر على حسب حجم الذنوب .. على حسب حجم الذنب، والله لا يظلم تبارك وتعالىيعني البقاء في النار ليس واحداً بالنسبة لكل من دخلها، يتفاوت البقاء في النار .. هذا يسجن 100 سنة ذاك يسجن 1000 سنة .. مليون سنة .. مليونين سنة،فهذه المدة كلها ويلات و آلام ومصائب من شتى الأنواع وقد تنصب بكاملها في اللحظة الواحدة على المعذب .. ألوان العذاب المتعددة .. يعني ليس من الضرورةأنّ تأتي متوالية [أيّ] ألم بعد ألم، نوع من العذاب بعد نوع من العذاب، في السجون تأتي عذابات ؛ يعني ليست عذابات مجتمعة عشرة عذابات مثلا عند السجن أو 100 عذاب عند السجن لكن من الناحية الزمنية تأتي متدرجة، هذه عذابات الآخره لا نعرف [كيف تأتي؟]  تجتمع كلها في لحظة واحدة على هذا الإنسان الضعيف المسكين المستكين. فالأنواع متعددة والمدة غير محدودة يعني طويلة جداً وقد تكون خلوداً أبدياً.

{قل أذلك خيرٌ ..}

يا كفار الدنيا .. يا كفار وأنتم في الحياة الدينا .. ويا كفار وقد مُتم .. {أذلك خيرٌأم جنة الخلد التي وعد المتقون}

{خير} تقول هذه الرمانة خير من هذه الرمان، هذه أفعل التفضيل،

{خير} هنا .. تأتي بمعنى التفضيل .. يعني هذه الرمانة أفضل من تلك الرمانة، وتأتي [بمعنى] “هذا الفعل خير” و “هذا الفعل شر” تقابل كلمة خير بـ[كلمة] شر، ومرة تقابل كلمة خير بأكثر خيرية الذي هو أفعل التفضيل، خير هنا بأيّ معنى؟

{أذلك خيرٌ أم جنة الخلد} يعني هذا العذاب الموصوف فيه شيء من الخير؟!

طبعا ليس فيه شيء من الخير وهذا يعرفه الكافر والمؤمن، يعني العقل واضح عنده جداً والنفس واضح عندها جداً بأنّه لا يستوي عذاب دائم وعذاب يطلب من دونه الهلاك، لا يستوي هذا فضلاً عن أنّ يساوي في الخيرية الجنة. الجنة خيرٌمحض وهذا العذاب شر محض فهو مقابله هنا الآية الكريمة لمّا تقول {أذلك خيرٌأم جنة الخلد} أين تجدون الخير؟ في هذا العذاب الذي تعملون من أجله وتسعون على طريقه وتنفقون كل طاقاتكم وكل ما ملكتم في سبيل الوصول إليه؟

عذاب النار .. المكان الضيق الأغلال .. السلاسل .. ربط الأيدي بالأعناق .. وجود القيود، هذا خير؟!

لا أحد يقول بأنّ في هذا شيء من الخير، واضح إذا لماذا السؤال؟ وواضح جداًأنّ الخير هنا معروفٌ والشر معروفٌ ولا خلط؛ يعني لا أحد يخلط بين أنّ يكون الخير في الجنة أو أنّ يكون الخير في ما وصفته الآيات من العذاب .. لا أحد يخلط، فلماذا السؤال {أذلك خيرٌ أمّ جنة الخلد التي وعد المتقون}؟!

يا أغبياء -حاشا الحضور- يا بهائم .. يا سفلة .. يا مجانين .. كنتم تعملون طول حياتكم من أجل هذا المصير أ لأنّه خير أم الخير هو {الجنة التي وعد المتقون}؟كيف قضيتم عمراً طويلاً ووضعتم كل إمكانات حياتكم ؟ 

بئس الخيار، وضعتم كل ذلك سعياً وراء هذا المصير الأسود الكئيب المؤلم!!

أين العقول .. أين العقول وأين النباهة؟ أين الحرص على الذات؟ أين الحساب لسعادة الذات؟!

{أذلك خيرٌ} أنّا لمّا أختار الكفر -أعاذنا الله وإياكم من هذا- أختار المعصية ..أختار الصف الطاغوتي .. أختار الظلم للفقير لليتيم .. أختار نشر الفساد في الأرض، هذا اختيار لماذا؟ لذلك العذاب الأليم الذي تحدثت عنه الآية أهذا هو ما يسعى إليه العاقل؟!!

فهنا توبيخ .. تلويم .. تحسير يحدث في نفسهم الحسرة .. الندم .. الأسف الشديد يذكرهم بسقوط رأيهم إلى آخره، الغرض من {أذلك خيرٌ أم جنة الخلد التي وعد المتقون} إثارة هذه المعاني وهذا عذاب آخر، هذا لون من عذاب أهل النار.

{أذلك خيرٌ أمّ جنة الخلد التي وعد المتقون، كانت لهم جزاءً ومصيراً}

جزاء على ما عملوا من صالح العمل .. على ما جاؤوا به من طاعة لله .. على ما أخذوا به من الطاعة لله تبارك وتعالى والالتزام بعبادته والإلتزام بطريق الخير والصلاح والاعمار وإسعاد النفس وغير النفس من بني الانسان.

{لهم جزاءًا ومصيراً} وهذا مصيرهم يعني لا يوجد مصير وراء هذا المصير، جنةخلد .. هذه جنة عملوا لها، جنة خلد؛ يعني بقاء ودوام وهم دائمون في جنةدائمة، الخلدُ للطرفين للجنة ولِمَن فيها؛ لا يأتيهم موتٌ وأيضاً وهم باقون أحياء لا يأتي وقت يحرمون فيه هذه الجنة أو تنتهي فيه وتنقضي هذه الجنة، خلود ساكن وخلود السكن .. أعلى سكن .. وأجمل سكن .. وأشرف سكن .. وسكن لا غم فيه ولا هم ولا حزن وإلى آخره.

 

{لهم فيها ما يشاؤون خالدين}

خلود جنة الخلد {لهم فيها ما يشاؤون خالدين} يأتينا هنا إشكال في {لهم فيها ما يشاؤون}. الإنسان يشاء خيراً ويشاء شراً .. الإنسان كما يأتيه أن يختار السعادة يأتيه أنّ يختار الشقاء، وأنا في الجنة قد أتمنى أن يسلب رسول الله صلى الله عليه وآله موقعه في الجنة، لا يريحني، يحدث أو لا يحدث؟

يحدث كإنسان يحدث له. في الجنة قد أشاء أنّ يقدم الشيطان منزلةً على أشرف شخص عرفته في الحياة وأتقى شخص، تأتي أماني سخيفة على الإنسان يختار ما فيه شره ويقدمه على ما فيه خيره، فكيف يعطيهم الله عز وجل ..وعد من الله {لهم فيها ما يشاء خالدين}؟!

الجنة مَن فيها {رضي الله عنهم ورضوا عنه} ما يختاره الله عز وجل لا يرضون بغيرهم سواء لأنفسهم أو لغيرهم، أنا وإياك من [الصف] الابتدائي في صفٍواحد إلى أنّ انتهينا من [الصف] الابتدائي، ومشينا إلى آخره وإلى آخر العمر،لك مسلكك ولي مسلكي ولك مستواك لي مستواي، أرى فارقاً بيني وبينك كبيراً ..أنت إلك مستواك الرفيع وإنا لي مستواي المنخفض منذ دراستنا الابتدائية[وهكذا] إلى الأخير، اختار الله عز وجل أو حتى تراءى لي أنّي أكبر منك، قالت لي نفسي وخادعتني بأني أكثر منك تقوى وأكثر منك خيرية. وتأتي يوم القيامةوإذا أنت فوق وأنا في درجه دنيا إنّ لم أكن في النار ، لمّا أدخل الجنة رضي الله عني ورضيت عنه، يعني [هل] يصير عندي اعتراض على اختيار عز وجل؟!

لا ينتهي. هذا الاعتراض الذي في الدنيا لازمني طول حياتي وأني أنا أشرف وأنا وأنا .. هذا ينتهي، حينئذ عندي معرفة يقينية تامة ونفسية مطمئنة تامةلأنّ ما اختاره الله هو الشيء الصحيح، هذا [معنى] {رضوا عنه}. [أمّا] {رضي الله عنهم} الله عز وجل يرضى بمن يريد لإبليس أنّ يتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

طبعا لا، لا يرضى، فإذا محلولة هي، سندخل بنفوس أكبر من هذه النفوس، لا [يوجد] فيها غلط .. لا [يوجد] فيها آثار الذنوب، سندخل بعقول لا تغالط .. سندخل الجنة بعقول لا تغالط، لأنها عقول كبيرة وذكية وفاهمة واعية ونفوس طاهرةوقلوب نقية إلى آخره، فلا يأتينا أنّ نشتهي ما لا يريد الله أو أنّ نعترض على الله عز وجل في أيّ مِن خياراته .. مما يختار.

{لهم فيها ما يشاؤون خالدين} وهي منزل كبيرة .. يعني أنّ الله عز وجل يزكيك حتى أنّه يعطيك ما تشاء لأنّه على علم سبحانه وتعالى لا ريب فيه بأنك لن تختار إلّا ما اختاره. إذا هذا الواحد اختياراته كلها من اختيارات الله [إلى أين] تذهب به، في أيّ منزلة تضعه؟ 

وهذا لما يشعر بهذا الشعور كم سعادته؟ وكم من قيمة يرى لنفسه بفضل الله تبارك وتعالى؟

{لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعداً مسؤولا}

ليس وعدٌ هكذا، هذا وعد من الله عز وجل الذي لا يخلف وعده .. مسؤول مِن مَن؟يسأله عباده عن وعده لهم وعدهم بأنّ يكون لهم في الجنة ما يشاؤون .. أنّيدخلهم الجنة وأنّ يعطيَهم ما يشاؤون، يستجيب لهم فيما يشاؤون. مَن يسأله؟العباد الموعودون بهذا الوعد العظيم الجميل الجليل هم الذين يسألون ربنا وعدتنا فأنجز لنا

ما وعدتنا .. أنجز لنا ما وعدتنا ..والله منجزٌ وعده ، يعني أعطاهم حق السؤال عن الوفاء، ولا وفاء مثل وفاء الله تبارك وتعالى.

{ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل}

المعبود يمكن أنّ يكون صنم ويمكن أن يكون أن إنسانا ويمكن أن يكون جرما من أجرام و يمكن أن يكون ملكا جناً

{ويوم يحشره ما يعبدون} فـ “ما” تشير لغير العاقل، “ما” موضوعة لغير العاقل،قد يقال أنّها تشير إلى الأصنام، لكن السياق لا يسمح بهذا الشيء، لأنّ الآية تقول {يوم يحشرهم ما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل} {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك}

[ولكن] يمكن أنّ تحمل حتى على الصنم وأنّ الأصنام تُسأل، الأصنام يُنطقها الله عز وجل، تقول بطبيعتها بإمكانها بعدمها الذاتي بمحدوديتها سبحانك أنت منزه عن أن يتخذ من دونك ولي أو أن يتخذ أولياء.

والولاية -دعني أقف هنا- لها خطان .. خطٌ صاعد وخط نازل. خطٌ من موقع الافتقار والحاجة ومن موقع العدم.. الصغار الهوان المحدودية، هذا خط وهذا الخط الصاعد، يطلب نجاة يطلب غناء .. يطلب علماً .. يطلب اطمئنانا .. يطلب أيّخير لا يجده في أيّ مكان وفي وأيّ وسيلة في الله ولاء الطاعة الاستجداء .. يستجدي .. يسترفد .. ينشد بأمله .. يعلق رجاءه بالله .. بعطاء الله .. بفيوضات الله .. بمواهب الله تبارك [وتعالى] .. بقدره الله تبارك وتعالى. هذا ولاء من النازل إلىالصاعد .. من النازل إلى العلي العظيم ، لا يقف عند نقطة .. هذا الصعود صعود الرجاء وصعود الآمال و[إلى آخره]، لا تقف عند نقطة تلبي شعورها أو يقضي حاجتها .. قادر على تحقيقها، غير موجود في الطريق شيء أبدا حتى يصل الأمل إلى الله ويتعلق به الرجاء ويخضع له ويقر بعظمته وبفقر الذات، فهذا خط ولاء صاعدٍ.

خط الولاء النازل هو مِن مَن لا حدود لعلوه، يبدأ مِن مَن لا حدود لعلوه وعظمته وكبريائه وقدرته ورحمته ورفته ورأفته وحكمته، يبدأ هناك يتنزل على الجماد .. على النبات .. على الأحياء من نبات وحيوان .. على هذا الإنسان .. على الجن .. على الملك .. على كل شيء في هذا الكون، هذا خط ولاء نازل، هذا خط سيادة .. سيطرة .. عطاء إغناء هداية .. شفاء إلى آخره.

هنا {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء}

لو فرضناهم هؤلاء ملائكة -ومن الصنم إلى المَلَك- لو عبد كما أن الصنم لا يملك شيئاً الملك أيضا في ذاته لا يملك شيئاً، ولذلك لا عبادة إلا بإذن الله تبارك وتعالىليكون المعبود هو وَحده 

{قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ} 

الملائكة  بأدب العبودية أول ما تبدأ بأنّها تنزه الله عز وجل وتجله وتشهد بعدم نقصه وبعدم محدوديته {سبحانك} شيء عظيم هذا أن نتخذ أولياء {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} الأولياء من أصحاب الخط الصاعد في الولاء أو من الخط النازل في الولاء؟

الأولياء المعنيون هنا هم الأولياء أيّ مَن يطيع .. من يَعبد ..عابدين، أيّ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ عابدين لنا، يعني ليس من شأننا لسنا في منزلة هذا الشيء،نحن عبيد، {ما كان ينبغي} يعني ليس مما يليق [ليس] مما يتناسب بشأننا،نحن عدم، إذا كان شيء هناك فهو من عطائك، لا يوجد أحدٌ غيرك أهلٌ لأنّ يَتخذ أولياء بمعنى عبيد.

{قالوا سبحانك ما كان لنا ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء}

إذا [كان هناك] استعانة فالاستعانة بك، أولياء نتخذهم لطاعتنا لأن ينفعون لايملكون [شيء من نفعنا]. لو اتخذت مليون شخص، لو أمكنني بالوسائل الظالمةالكثيرة القادرة أن أطوع رقاب مليون شخص لي، هذا التطويع من أجل يأتوننيبخير .. أن يأتيني عن طريقهم خيرٌ، العالم كله لا يقدر أن يعطيك لقمة عيش.تقول [هم] يعطون .. غنيٌ يعطي فقيراً، لا ، ليس من عنده وليس بإرادته المحضةلو لم يريد الله أن يعطيك لما أعطاك، هذا الغني لا يقدر يعطيك، لا يقدر أن يملك الإرادة التي تعطيك .. ربك يسلب إرادته .. هذه اللقمة التي عنده هي لقمةٌمحتاج إلى الله عز وجل فيها، هذه اللقمة من عند ربك تبارك وتعالى وتيسيره،ولذلك الشكر لا يتوجه للغني نقول الله يغنيك، زادك الله من فضله، يكون شكرٌ لا يؤدي للكفر، فلذلك أحياناً تقول الشكر لله وحده، يعني الشكر الأصل [لله وحده]،وذاك شكرٌ ثاني .. شكرٌ تبعي، أما الشكر أصلا لا يستحقه أحدٌ غير الله تبارك وتعالى.

هنا الملائكة يقولوا كيف نَعبد غيرك؟ إذا عبادة غيرك ليس من أجل أكل .. شرب ما إلى ذلك .. من أجل قصور .. من أجل حدائق، بل يكون من أجل من أجل شعور بالذات بمكانة الذات، حتى هذا لا يقدرون أن يعطوني إياه .. حتى هذا إذا يريد الله عز وجل يشعرني بالحقارة 5 ملاين .. 20 مليون .. بليون يصفقون لي في الخارج، وأنا أشعر بالحقارة ولا يرفعون شعوري بالحقارة والدونية والحاجة وما إلى ذلك، كيف نتخذ أولياء؟!! إذا أولياء يعني مَن يطيعوننا .. بمعنى مَن يطيعنا .. من يعبدنا.

{قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم}

هذا اتخاذهم أولياء لنا كمعبودين .. يتخذونا كمعبودين .. هذا جاء مِن أين؟ مِن طلبنا نحن؟

لا ليس من طلبنا، نعرف قدرنا ولكن مَتعتهم وآبائهم، أعطيتهم خيرات امتحاناً،وأعطيت آبائهم خيرات امتحاناً .. أعطيتهم قوة .. أعطيتهم مالاً إلى آخره،

{حتى نسوا الذكر}

الدنيا تنسي الذكر، ذكر الله .. تذهب بالعقل .. تعمي البصيرة، التعلق بالدنيا،دنيا وتعلقٌ بها معناها لا بصيرة .. لا عقل .. لا شعور بقيمة الذات، هنا هذا الغرور.

{حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بورا}

الأرض البوار التي لا نبت فيها ولا ثمر فيها، هذه صارت ذوات فارغة الخير .. ذوات لا قيمة لها .. ذوات مفرغة من العقل ومن الإدراك الصحيح.

{ولكن متعتهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا} ولذلك تركوا عبادة الخالق وصاروا إلى عبادة المخلوق واستغنوا عن الغني بالفقير، وعن القوي بالضعيف.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد و آله الطيبين الطاهرين

وغفر الله لنا إنّ شاء الله

زر الذهاب إلى الأعلى