الحديث القرآني (الليلة الثانية) – 6 رمضان 1446هـ 

*نص الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم في المجلس القرآني الذي يقيمه في مجلسه خلال ليالي شهر رمضان المبارك – المحاضرة الثانية (قم المقدسة / 6 رمضان 1446هـ): 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

 

الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي العظيم وآله الطيبين الطاهرين. 

 

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (*) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا). 

 

لا زال الحديث يحتاج إلى مرور ببعض النقاط في الآيتين الكريمتين. 

 

السورة كما عليه جمهور المفسرين مكيّة، بعضهم يقول: إلا ثلاث آيات نزلت في المدينة، ورأي آخر يقول المكي منها واحد، وهو شاذ جدّاً. 

 

كونها مكية لغرض أنّ قوله تعالى (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ) يعني إعلان عالمية الدولة الإسلامية والإسلام والدعوة لم يتأخر وإنما كان في مكّة نفسها. 

ينقل بعض المفسرين بأن هناك كتاب غير إسلاميين يقولون أن الإسلام كان في حدود مكة، ولكن بعد حصوله على أنصار بعد ذلك أصبح لديه طموح لتعلن عالميته، ويكذّب هذا أن تكون السورة مكية وأن يقول الله تبارك وتعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، ليس لأهل مكة فقط، طبعاً هناك آيات تتكلم عن قريش وما إلى ذلك، ولكن في نفس الوقت هناك آيات تشير إلى العالمية. 

 

(..عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، أيهما النذير؟ 

العبد هو النذير؟ أو الفرقان هو الذي يراد له أن يكون نذيرا؟ 

ما المعني في الآية؟ 

النذارة طبعاً من الإثنين، القرآن نذير، وحامله والعالم به والمُحمّل بالدعوة إليه، القائم بالدعوة ونشر القرآن وعلوم القرآن وسياسة القرآن ومنهج القرآن، طبعاً هو عبد الله رسول الله “صلى الله عليه وآله”. 

بحسب السياق، هناك من يقول أنّ المعني الفرقان، وهذا لا ينفي أن الرسول نذير، وكون الآية تعني الرسول لا يعني أن القرآن ليس نذيراً، واضح أن البداية هي من الفرقان، ولكن المباشر للنذارة والذي يتحرك ويخطط وينشر القرآن والدولة الإسلامية ويجاهد هو عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله. هذا وجه يرجح أن المعني هو رسول الله -بحسب السياق-. 

أيضاً، قرب ضمير (عَبْدِهِ) إلى (نَذِيرًا)، وبُعد كلمة (الْفُرْقَانَ) عن كلمة (نَذِيرًا)،فهي جاءت بعد (عَبْدِهِ)، طبعاً إذا جاءنا ما يتردّد أنه للقريب أو البعيد. إذا جاءنا معود في السياق، وهناك أمران متقدمان عليه، وتُردّد بين أن يعود إلى القريب أو البعيد من هذا المتردّد فيه، يُحمل على أنه يعني القريب. 

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، (عَبْدِهِ) أقرب للفرقان، فيُحمل المعني بالنذير هنا -وليس مطلقاً- هو عبد الله “صلى الله عليه وآله وسلم”، تلك العبودية التي لم ينلها أحد كما نالها رسول الله. 

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) 

هذا نوع من الخير الكثير العميم الأوسع، من كان ملكه السماوات والأرض ومن فيهن وما فيهن، أتوجد خيرات وبركات، وخير أعم، أكبر، أشرف، أسمى؟ لم يبق من الخير شيء إلا وهو لله تبارك وتعالى. 

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)، الفرقان علامة خير من الله عزَّ وجلّ، الفرقان كلّه خير، قائد الحياة، يعطينا أرقى حياة على مستوى العقل، الروح، القلب، المنهج العملي سياسياً، اجتماعياً، أسرياً، ثقافياً، إلى آخره. أكبر سعادة مضمونةفي الدنيا، وأكبر سعادة مضمونة في الآخرة، أكبر رقي يمكن أن يرقى إليه الإنسان هو الرقي في منهج الفرقان الكريم، وهو مبارك لكلّ معنى، هذه البركة شيءٌ من بركات الله. 

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ) ذكر بركات الله وخيره هنا مع الفرقان وترك لفظ الجلالة، “تبارك الله”، لكنه يريد أن يبرز معنى الخير وتدفق الخير وفيوضاته، سعة الخير، دوام الخير، لينعكس الذي لله على كتاب الله، هذا الذي لله عزَّ وجلّ لابد أن تحمله كتابه، قرآنه الكريم، لا يمكن أن يكون الله عزَّ وجلّ تبارك وتعالى كلّ الخير ثم يأتي كتابه فقيراً، فيه شرّ، فيه جهل، فيه تردّد، فيه غواية، كلّ ذلك منفيٌّ عن كتاب الله، لأنه الكتاب الذي تبارك، قرآن وفرقان من تبارك، فلابد أن يكون هذا الكتاب تبارك، لو لم نعرف بركات القرآن فعلينا أن نبني على بركات القرآن وعلى أنه أعظم قيادة على مستوى الكتاب وعلى مستوى النظرية، وأصح منهج لأنه كتاب الله تبارك وتعالى. 

 

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..)، هذا من صدقية (تَبَارَكَ)، وشاهد على أن بركاته الله لا تُحدّ، لأنه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وهذه (الَّذِي) الثانية، من وجوه الصلة بينهما أن الثانية بدل من الأولى، يعني المنعي بـ(الذي) الأولى هو المعني بالثانية. الموقعان يحملان مشار إليه واحد، هناك الله وهنا الله تبارك وتعالى. (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ)، هذا الذي نزّل الفرقان هو (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). 

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) 

الولد لماذا يُتخذ؟ يُتخذ إما للاستئناس به، الأب ينتظر الولد ليأنس به، يُطلب ليجد الأب امتداداً في وجوده، ليرى امتداداً ولو مجازياً في ولده، وكأنه باقٍ في الحياة بعد موته بولده، هذا الخلف تراه نفسه، ولذلك عدم الولد يحتاج للصبر، والصبر عليه فيه أجرٌ عظيم، النفس مجبولة على طلب الولد وحب الولد والأنس به وما إلى ذلك. 

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) 

أي ملك هذا؟ ملك عين كلّ شيء؟ سيطرة على الدواة؟ 

هذه الملكية تعني السيطرة والسلطان على كلّ شيءٍ في الكون من مجرّته إلى ذرّته، وعلى كلّ أنواع الموجودات في السماوات والأرض. ملكية أعيان، رقاب. 

هذه الملكية ماذا تعني؟ 

لا تقوم هذه العين وتلك العين وملايين ومليارات الأشياء، لا يقوم لها وجودٌ إلا به، إلا بعطاءه. لحظة أن ينقطع مدده لا شيء لهذا الوجود كلّه. ملكية على هذا المستوى. 

أيضاً ملكية تصرّف وتدبير، كما أن كلّ المِلك له، فكذلك كلّ المُلك له. هناك مِلك وهو السيطرة على الأعيان، وهناك مُلك وهو التصرّف في الأعيان، والمَلك مأخوذ من التصرّف في الأعيان، والملك الحق هو الله تبارك وتعالى، ومالكية غيره مجرد اعتبار، وتواضع بين الناس، يعني تواضعوا واتفقوا أن يملكون هذا اعتباراً. 

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) 

الله لا يحتاج إلى مؤنس، هو مؤنس كل مستوحش، ولا أنس إلا من عنده، وحتى لو لم تحس بالمؤنسية من الله، إذا كانت الزوجة تؤنسني، الولد يؤنسني، الصديق الصادق يؤنسني، الجار الوفي يؤنسني، فكل هذه من إيناس الله عزَّ وجلّ، لأنها من عطاء الله تبارك وتعالى. 

والجار لا يخلق الأنس لك من نفسه، الذي يخلق الأنس هو الله تبارك وتعالى.استئناسك بزوجك، لولا هذه المحبة والمودة الذي أوجدها الله بينك وبين زوجك لا يكون هناك أنساً. فكلّ أنسٍ يجده المخلوق هو أصلاً من عند الله عزَّ وجلّ، أما إذا ارتبط قلبه بالله وذكره فذلك أنسٌ لا يماثله أنسٌ آخر. 

 

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) 

غنيٌّ.. يحتاج إلى معونة؟ أيضاً الولد يُتخذ للمعونة، للمشورة، للمساعدة، للاشتراك في حمل ثقل العائلة، ما إلى ذلك، والله سبحانه وتعالى غنيٌّ، وكلّ غنىً هو منه، وكلّ شيءٍ فقير إليه وهو الغني عن كلّ شيء، والمُغني لمن يشاء. 

فالحاجة للولد منفية تماماً، والولد ولدان، ولدٌ يتحدّر من أبيه ويمثل جزءً من أبيه من خلال النطفة، وولدٌ مُتخذ، أن يصطفي الله من عباده واحداً، رسولاً كبيراً فيجعله ولداً له، ولد جعلي، يعني مُختار ومصطفى ومنتقى، هذا أيضاً ليعين الله وليمثل امتداداً له، حاشا الله تبارك وتعالى. 

النصّ يناقش دعاة الولد الذين يدّعون أن لله ولداً، أو أن لله شريكاً في هذا القول. الولد منفية الحاجة إليه تماماً، الله يتخذ عيسى ولداً لماذا؟ عزير لماذا؟ يتخذ الملائكة بناتاً لماذا؟ للأنس؟ للحاجة؟ للوحشة؟ يستوحش الله وهو الكامل؟ يطلب المعونة؟ يطلب الامتداد؟ وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يأتي عليه فقدٌ أصلاً جلَّ وعلا، فإذن إذا انتفت العلّة انتفى المعلول، ينتفي ادّعاء الولد.

(وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) 

هو له السماوات والأرض، الشريك من أين؟ من السماوات والأرض؟ مملوكة، وهل المملوك يكون شريكاً للمالك في ملكه؟ مملوك ووجوده بيد الله، استمرار حياته بيد الله، فهمه بيد الله، جوارحه بيد الله، كل شيء له من عند الله، هذا يكون شريك لمالكه فيما يملك؟ هذه الحصة في الكون؟ واضح جداً فساد دعوى الشريك. 

 

(…وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)

يعني لا ربوبية لأحد ما دام الله عزَّ وجلّ قد خلق كلّ شيءٍ له وجود، كلّ شيءٍ له وجود هو مخلوق لله، ومعنى مخلوق يعني مملوك، كما هو مملوك تكويناً لأنه مخلوق ومرزوق، هو مملوك تدبيراً، مملوك تصرّفاً، يتصرّف فيه مالكه مطلق التصرّف، فإذن ينتفي الإله الثاني وينتفي الولد، وينتفي الشريك، كلّ ذلك منتفون لأنّ الله خلق كلّ شيء. 

 

هناك خلق وهناك تقدير. ويقولون أنّ مرحلة التقدير تختلف عن مرحلة الخلق. مرحلة الخلق تتأخر، تفاحة الآن توجد، الآن تم تولدها، تم اكتمالها، هذه خُلقت بأن أُخرجت من العدم إلى الوجود، في هذه اللحظة التي نشعر بأن الواحد والعشرين، وجود الله من الأبد بلا أول، الأول بلا أولية، يعني ليس هناك شيء يقال له أنه أول بالنسبة إلى الله، وهو الأول بمعنى أنه لا بداية له، ولا أولية محددة له قبل مليارات سنة أو عشرة مليارات وما إلى ذلك، ليس موجود هذا الشيء، أبدي سرمدي تبارك وتعالى. 

تقدير التفاحة قديم، بعض الروايات تقول خمسة آلاف سنة وما إلى ذلك، المهم أن الله تبارك وتقديره للمخلوقات سابقٌ على خلقها، يعني لون التفاحة، كم ذرة تفاحة، حجم التفاحة، رائحة التفاحة، فائدة التفاحة، إلى آخر مواصفات وخصائص التفاحة، هذا كلّه مقدّر ومعلوم عند الله قبل خلقها. في حين الخلق كيف؟ طبعاً هذه التقديرات كلّها معها في الخلق، هذه التقديرات كلّها توجد، تخرج للوجود، الرائحة تأتي، اللون يأتي، كلّها تجتمع مع مجموع خلق التفاحة، كلّه داخلٌ في خلق التفاحة، فأنت وأنا وخصائصنا الإنسانية البشرية الخلقية، هذه مقدّرة عند الله قبل أن نوجد، يأتي ولد من فلان وفلانة ومن فلانة وفلان بهذه المواصفات. 

مصيره ما هو؟ أيضاً معلوم عند الله تبارك وتعالى. دوره ماذا؟ سعيد؟ شقي؟ كلّه معلوم عند الله عزَّ وجلّ. 

 

(…وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)

 

وهنا أقرأ من كتاب “في ظلال القرآن” -ليس من قوله وإنما قول عالم من العلماء الأحياء- 

كلام قليل للسيد قطب، بعدها يأتي كلام كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه “الإنسان لا يقوم وحده”: (بقية الكلام هو اقتباس كتاب “في ظلال القرآن”)

 

*

وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لمما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا).

 

يقول [أ. كريسي موريسون] رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان: “الإنسان لا يقوم وحده”. 

 

“ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغا هذه الدقة الفائقة. لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام،لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات. 

 

“ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره! 

 

“إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور -ومعظهما سام- فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء -أي المحيط- الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل، والنباتات. وأخيرا الإنسان نفسه..”. 

 

ويقول في فصل آخر: 

 

” لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان – كالنار مثلا – تتوافر له “. 

 

ويقول في فصل ثالث: 

 

“ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان – مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره – من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات. 

 

“والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا. كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة. ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق! 

 

“وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.

 

” وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائما مجدية. 

 

“ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها ? ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولماذا لم تتطور ذبابة تسي تسي حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود ? يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة!

 

” إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب. وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم. ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم! 

 

“ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان أي حيوان – بل كذلك أي نبات – يمكن أن يبقى في الوجود . . . الخ”. 

 

وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا).. 

 

ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئا من هذا كله.

 

-انتهى الاقتباس- 

 

والحمدُ لله ربِّ العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى