كلمة آية الله قاسم في مؤتمر “مدرسة نصر الله” الدولي – ٩ نوفمبر ٢٠٢٤
*نص كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم التي عرضت في مؤتمر “مدرسة نصر الله” الدولي بحضور مفكرين من 13 دولة وبكلمة لعدد من المسؤولين العسكريين والوطنيين في أربعين استشهاد قائد المقاومة الشهيد السيد حسن نصر الله – السبت 9 نوفمبر 2024م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على حبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم أيُّها الحفل الكريم، الحفلُ التكريمي للسيد الشهيد السعيد أمين حزب الله البطل العظيم السيد حسن نصر الله “أعلى الله مقامه ورفع درجته في جنات الخلد”.
تُشكرون كثيراً، ولكم ثوابكم عند الله أن تشاركوا الأمة في احتفاءها بهذا الرجل العظيم، وأنتم في مقدمة من يُترقب منه الاحتفاء بهذه الشخصية الكريمة العظيمة، وبذكر مآثرها ودروسها النافعة للأمة كلّها في حاضرها وفي مستقبلها.
المنطلق الإسلام، وكلُّ اعتزاز، وكلُّ افتخار، وكلُّ ولاءٍ صادق وعميق للإسلام أوّلاً، ومن بعد لرجالات الإسلام المبدئيين، ولا شك في أن سيدنا الكريم هو من أولئك الرجال العظام المبدئيين الذين تمثّل شخصياتهم شيئاً من شخصية الإسلام، وعظمتهم شيئاً من عظمة الإسلام، وفيوضاتهم شيئاً من فيوضات الإسلام، والإسلام خطابٌ للإنسانية يأخذ بها للغاية تنادي بها فطرتها، الإسلام نداءٌ للإنسانية يؤدّي إلى الطريق الذي يؤدّي إلى الغاية الإسلامية العظيمة التي تفوق كلّ الغايات، وليس من طريقٍ غير الإسلام يؤدّي إلى هذه الغاية، والقيادة التي يختارها الإسلام دائماً للإنسان، فرداً ومجتمعاً، صغيراً أو كبيراً، وعلى مستوى كلّ الأرض، هي القيادة التي تنسجم مع خطّ الرقيّ وسعادة الحياة والآخرة، والفلاح الحقيقي في أعلى درجاته.
كلّنا طلاّب سعادة، وكلّنا طلاّب نجاح، وقد نهتدي الطريق وقد لا نهتدي الطريق، ومن أراد الطريق الذي لا يُخطئ للفلاح والنجاح فليس له إلا طريق الإسلام.
القيادة الإسلامية، قيادة عليمة خبيرة أمينة، تعرف الله وتُجلِّه، وتخضع لعظمته، وتحترم الإنسان والغاية التي خُلق من أجلها، والنهج الموصل لها. قيادة متفوّقة في أبعاد الكمال، تملك أن تُعطي دفعاً لحركة المقاومة والسموّ والصعود، صامدةٌ شديدة الصبر والمضيّ على طريق التحديات.
القيادة المختارة إسلامياً لا تحبس همومها العالية المرتبطة بصالح الإسلام وأمّته والإنسانية الكريمة حدودٌ جغرافية، ولا طبقية، أو وطنية، أو حزبية، أو عنصرية، وهمومها لا تهبط ولا تسخف ولا تتردّى. قيادةٌ لا يمسّها يأس، لا يدنو منها ضلال، لا يأتي عليها يأس ولا غرور، ولا تجنح عن الصراط القويم والطريق الموصل.
والقائد الإسلامي الحقّ مثالٌ عالٍ في الكمال، والكمالُ هو الذي يمثّل محور السياسة عند هذه القيادة، وسيرتها.
وعن قائدنا العظيم، الشهيد السعيد، السيد حسن نصر الله، فإنّه قد لازم الإسلام في أبعاد حياته طوال حياته التكليفية، وأعطى حياته للإسلام، وعادى القريب، وصادق الغريب، وناصر الضعيف، وحارب القوي، كلُّ ذلك على خطّ الإسلام ومن أجل الإسلام وفي إطار رضى الإسلام.
حَرِص كلّ الحرص أن تمتلئ كلّ مواقع الحياة الاجتماعية في لبنان وغير لبنان بالعقول الواعية، والنفوس المحكومة للعقيدة، والأيدي النظيفة، والذمم الأمينة، والأنظار الحكيمة، ومن يقدّم مصلحة دينه على دنياه، ومصلحة مجتمعه وأمّته على جشع النفس والطمع في الدنيا ورغائب النفس ورغائب الأهل ورغائب كلّ الآخرين.
إذا تفاوتت القيادات فإنّ هذا القائد العظيم لا يرضى إلا بالقيادة الأعلى، ولا يُعطي الولاء الأكبر إلا للقيادة الأعلى ومن تبعها، ولقد حارب رئاسة من يُخاف عليه أن يغلبه هوى الرئاسة، وشهوة الشهرة، أو قد يصرعه فرط ظنّه لحسن رأيه، الشخص الذي قد -مع كفاءته في جوانب كثيرة- إلا أنه إذا فرط ظنّه بحسن رأيه، وباعتداده المبالغ فيه بدقّة نظره، هذا الشخص رغم كفاءاته المتعدّدة، وإنْ كان مؤمناً وله فطنة، إلا أنّ الرئاسة في استقامتها وفي جدواها يُخاف عليها، ويمكن أن تذهب كلّ كفاءاته وكلّ مواهبه على غير الطريق لغلبة ظنّه بحُسن رأيه واعتداده العظيم بشخصيته.
مطلوبٌ فيه مع علوّ قدره، وعظمة كفاءاته، أن يكون المتواضع، والذي يُقدِّر إلى الآخرين كفاءاتهم، ويقدِّر للآخرين قدرهم، ويرى فيهم ما هم عليه من قدرةٍ على العطاء، وقدرةٍ على تقديم الرأي الصائب، وينظر فيهم ما لهم من ميزات في بعض الجوانب قد تفوق ما هو عليه من ميزات.
وسيدنا الكريم هو من النمط الذي ذكرته، هو نموذجٌ على خطّ هذا النمط، أنّه على كفاءاته الكبرى ومواهبه العظيمة، وصفاته المتميزة، إلا أنه لا يبخس أيّ شخصيةٍ أخرى قدرها وعطاءها وصواب رأيها.
لم يتخذ الشهيد السعيد موقعه القيادي الكبير، وثقة الناس فيه معبراً للجمع لدنياه ودنيا ذويه، ومركباً لمصالحه الدنيوية ومصالح أهله والمقرّبين، كان قادراً على جمع دنياً عريضة، وميراثٍ كبيرٍ يبقى من بعده لأكثر من جيل، يتغذون عليه ويتصرّفون فيه ببذخ، إلا أنّه لم يفعل، لم يوظّف شيئاً من إمكاناته لدنياه ولا دنيا غيره من غير المستحقين، وإنما كانت كلّ جهوده تنطلق أولاً لرضا الله، وكلّ امتناعاته تبدئ أولاً من مراعاة غضب الله عزَّ وجلّ، وما يندفع إليه من حركةٍ صعبة مبدأها هو نظره لتعظيم الله، ومنطلقه الأول هو طاعة المولى الحقّ، وطاعة المولى الحقّ عنده أولاً وأخيرا.
لم يُسجّل عليه الرقباء من بعيدٍ وقريبٍ من الناس ما يُدخل عليهم ريبةً في كفاءة قيادته الرشيدة، وصدقه، ووفاءه، وإخلاصه وأمانته ورساليته، هذا مع امتداد الطريق الجهادي الذي عاشه، وخشونة هذا الطريق، وضخامة تحدياته، وما فيه من مغريات تصرع عشّاق لذّات هذه الحياة.
عيون الرقباء متوجّهة إليه من كلّ صوب، ومتابعة تحركاته، حركاته، سكناته، أقواله، لمحات وجهه الكريم، إشارات، كانت متواصلة من القريب ومن البعيد، من الإنسان العادي، ومن الإنسان المتخصص، ومن الأخلاقي الكبير، إلى آخره، لكن كلّ هذه الرقابة، وكلّ هذه المتابعة لم تسجّل مؤاخذة ملحوظة على السيد الكريم العظيم -وإذا كانت لها ملحوظة صغيرة فإنها تدخل في عدم عصمة الإنسان، إلا من نصّ عليه النصّ بالعصمة، فأولئك مبرّؤون عن كلّ هفوة وكلّ غفلة، ومن عدا ذلك قد يتعرّض للغفلة والسهو وما إلى ذلك-.
جُرِّب بطلنا العظيم الصلب، وجُرِّب إيمانه وأمانته، وصبره وشجاعته، وثباته واستقامته وقناعته في الشدّة والرخاء، في التعامل مع الصديق والعدوّ، مع القريب والبعيد، وفي مختلف الظروف، فما وجده الناس إلاّ الرجل الصالح والشجاع المقدام، والقيادة المؤمنة الحكيمة، والمُخطِّط البارع، والمقارع العنيد للطغاة المفسدين.
ظُنَّ فيه وظنّك صادق، إلا أنّه لو قلّ من حوله، وتفرّقت الصفوف عنه، لكان قدوته في مثل هذا الظرف النبي والإمام علي “عليهم السلام”، ومن بعدهم مسلم بن عقيل، حيث مضى لأداء مهمّته إلى آخر قطرة دم بعد الخذلان الكبير وانسحاب الجماهير الغفيرة التي كانت تتبعه.
لم يكن يستمدّ سيدنا الكريم عزمه، شجاعته، إقدامه، ثقته بالنصر، من الأتباع، إنما كان استمداده لكلّ ذلك من صلته بالله، ثقته بالله، إيمانه العميق، انشداده الكبير لله تعالى.
لقد كرّر زمرة المؤمنين الصالحين الوعاة الأمناء الأكفاء من شورى حزب الله، كرّروا اختياره أميناً عاماً لهذا الحزب الرسالي المجيد، وكان الدافع وراء ذلك أنّ تجربة قيادته القديرة الأمينة الرسالية الناجحة في أبعادها المتعددة، كانت مغريةً بالنسبة لهم للإصرار على التمسُّك بهذه القيادة المثال، ولو كان قد أمدّ الله في عمره الشريف أكثر مما كان ما ظُنّ أن يُستبدل عن قيادته للقناعة الموضوعية التامّة لأهليته ونموذجية مستوى هذه القيادة، وإنْ كان حزب الله غنيّاً بالقيادات الكفوءة.
رزق الله شهيدنا الغالي رفيع الدرجات في جنّة الخُلد في جوار محمدٍ وآله الأطهار “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين”.
يبقى شيء واحد، هو أنّ الاحتفالات والاحتفاءات والتكريم الجادّ لسماحة السيد الشهيد السعيد نصر الله “أعلى الله مقامه”، إنما هو لنتعلّم وتتعلّم الأمة كلّ الأمة بأن تعمل بجدٍّ واجتهاد على تخريج قياداتٍ على هذا الخط، من هذا النوع، من هذا المستوى، وكلّ مستوى كبيرٍ عظيمٍ متنامٍ، قيادات تستجمع كلّ ما أمكن من صفات المعصومين “عليهم السلام”.
نفعلُ ذلك، نحتفي، ونُكرِّم، ونذوب حبّاً، ونوالي هذه القيادات، لنقول للأمة أنْ عليها أن لا توالي قيادةً تسلك غير هذا الخط، وتعيش الولاء لغير الله عزَّ وجلّ، أن لا نوالي أيّ قيادة تنسى ولاءها الأوّل العظيم الأساسي وهو الولاء لله، ولكلّ عبدٍ كان أقرب لله، أنفع للخلق، أقدر على حمل الأمانة -أمانة القيادة الإسلامية-، وأداء وظائفها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.