الحديث الأسبوعي لـ آية الله قاسم – شرح دعاء أبي حمزة الثمالي – ١٧ أبريل ٢٠٢٤
• كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المحاضرة الأسبوعية التي ابتدأها بعد شهر رمضان الكريم في محلّ إقامته بمدينة قم المقدسة، وذلك ليلة الخميس، واستكمل فيها شرح دعاء أبي حمزة الثمالي– ١٧ أبريل ٢٠٢٤م
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
الدعاء يوغل في التذلُّل والتواضع لله تبارك وتعالى، وفي بيان قصور النفس وتقصيرها، ويتضع بالنفس كما هي في ذاتها بغض النظر عن رحمة الله وعطاءاته، ويطوف بكلّ ما يستطيع أن يحصيه من ذنبٍ وإنْ لم يعدّ في العرف العام وعلى مستوى المحرّمات الشرعية المنصوصة محرّماً.
يتّجه بكلّه إلى الآخرة، إلى الخاتمة، إلى المصير، لكن يأتي فيه الآن، في هذا المقطع، وليس للمرّة الأولى، الاهتمام بالدنيا، الاهتمام ببناء مجتمعٍ مؤمنٍ متماسك شديد القوّة، مجتمع وكأنه في ملايينه شخصٌ واحد، ولماذا هذا؟
باختصار، لا إسلام قويّاً، ولا قدرة على حماية الإسلام ولا انتشار للإسلام إلا بمثل هذه الأمّة المتماسكة المتلاحمة التي تعيش هموماً مشتركة، أهدافاً مشتركة، يشعر بعضها بألم البعض، يفرح البعض بفرح البعض، ويحزن لحزن البعض.
البداية مع أقرب حلقة للإنسان في القربى (اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي وَلِوالِدَيَّ وَارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً، اِجْزِهما بِالاِحسانِاِحْساناً وَبِالسَّيِّئاتِ غُفْراناً)
هناك إحسانٌ كبيرٌ من الوالدين للولد، وقد يأتي لَمَمٌ من سيئاتٍ في معاملة الأب للولد، يقول (اِجْزِهما بِالاِحسانِاِحْساناً)، أنا لا أستطيع أن أجزيهما، مرّة يتكلم عن الإحسان العام للوالدين في صورة الإتيان بأيّ حسنة، والامتثال لأي واجب، والأخذ بأيّ مستحب، ومرّة يتكلّم عن سيئات وعن حسنات في حدود المعاملة الشخصية للأبوين للولد، والأمران محلّ دعاء، وعلى الثاني تكون (اِجْزِهما بِالاِحسانِ اِحْساناً) يعني لي، فقد أحسنا لي إحساناً كبيراً كثيراً، طوال حياتي وإحساناهما يتدفّق عليّ، كم تعبا وكم أرهقا وكم اهتمّا وكم اغتمّا وكم فرحا وكل ذلك من أجلي.
(اِجْزِهما بِالاِحسانِ اِحْساناً)
أنا لا أستطيع أن أجزيهما بالإحسان الذي يستحقانه، إحسانك يفوق إحسانهما، إحسانك هو الذي يرضيهما، يفرحهما، يقرّ عينيهما، إحساني لا يسعدان به السعادة المطلوبة، أما إحسانك فبه كلّ سعادة.
(اِجْزِهما بِالاِحسانِ اِحْساناً)
ما عندي جزاء لهما أكبر من هذا الجزاء، جزاء الطلب منك أن تُحسن لهما.
(وَبِالسَّيِّئاتِ غُفْراناً)
إذا مسّني في تربيتهما لي أيّ تقصير، أو أيّ قصور، غفلا أحياناً عن رعايتي، أتعبهما ما يبذلانه وما يتحملانه فقلّ يوماً ما أمر العناية بي منهما، هذه لو أعددناها سيئات فاغفرها لهما، لا أريد أن يلحقهما أيُّ أذىً بسبب تقصيرٍ حدث منهما أو قصور.
ثم يأتي (اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ الاَحياءِ مِنْهُمْ وَالاَمواِت)
لأنّ مجتمعنا الإيماني ليس مجتمع أحياء فقط، المجتمع الإيماني يعمّه الأحياء والأموات، والحيّ لا ينسى الميت، وكذلك فيما يبدو أن الميّت لا ينسى الحيّ.
الحب بين المؤمنين لا ينقطع بالموت، الرأفة، العناية، الخدمة، المنفعة، هذا السبيل لا توقّف له بين المؤمنين في حياةٍ أو موت.
الأحياء معروفٌ شأنهم في الإسلام، صوم، صلاة، زكاة، صدقات، إحسان كبير لثواب الميت، زيارة قبور، إلى آخره من أعمال لا تنقطع من برّ الأحياء المؤمنين للأموات المؤمنين، بِرٌّ دائم لا يقتصر على الأبوين والأرحام والأقارب وإنّما كلّما دعوت لنفسك بخير حَسُنَ منك أن تدعو للمؤمنين جميعاً بالخير أحياءً كانوا أو أمواتا.
(اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ الاَحياءِ مِنْهُمْ وَالاَمواِت، وَتابِعْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ بِالْخَيْراتِ)
هذا من جانب تعامل المؤمنين الأحياء مع المؤمنين الأموات، وهل نسي الأموات الأحياء؟ أو هل ينسى الأموات الأحياء ويذهبون عن بالهم إذا كانوا من أهل الجنة؟ هم في جنّتهم فرحون، هم في الجنة لا يعطّل صفو حياتهم شيء، حتى جنة البرزخ، هذه الجنة بخيراتها، بطيّباتها، لأفراحها، لأنسها وسرورها، لكراماتها، هل تلهيهم عن ذكر الأحياء والبرّ بهم؟
عندما نقرأ الآيات الكريمة الثلاث (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه) (*).
فرحٌ لم يعرفوه في الدنيا، لا في اجتماع أسبابه، ولا في قدر قدره، ومنزلته ومستواه وديمومته، ليس موجوداً مثله في الدنيا.
تضيف الآية (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون)
الذين فارقوا من المجاهدين وكأنّ خبر المجاهدين الأحياء يصلهم، يصل المجاهدين الذين استشهدوا في سبيل الله وهم في جنّته، هؤلاء يستبشرون باستقامة هؤلاء على الطريق، طريق الشهادة، والمُضيّ دائماً في طريق طاعة الله عزَّ وجلّ، لأنّ السعادة في هذا، فهم يستبشرون بنجاح وسعادة المجاهدين الصابرين الثابتين من المؤمنين الأحياء على طريق الجهاد والكفاح في سبيل الله عزَّ وجلّ، والمُضيّ قُدُماً في طاعته.
(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه) هذا قسمٌ يخصّهم، (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ) هذا الاستبشار ما مصدره؟ (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) هم مطمئنون الآن للمؤمنين الأحياء المستقيمين على طريق الجهاد والطاعة لله تبارك وتعالى، مطمئنين لمصيرهم، المستشهدون هم في جنتهم مطمئنون ولا خوف عندهم على من سيلحقهم وبعدُ لم يلحقهم.
(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)
هؤلاء المجاهدون الذين لا ينفكّون عن التعب ليلاً ونهاراً على طريق الجهاد في سبيل الله، هؤلاء أجرهم محفوظ ولم تذهب لحظة من لحظات طاعتهم وجهادهم ضياعاً، وبلا ثمنٍ ضخمٍ عظيم.
هذه تمثّل ضمانة بشرى للمؤمنين المستشهدين في سبيل الله عزَّ وجلّ، وهم في جنتهم جنة البرزخ الأعلى، لأنّ المفروض أنهم يستبشرون أنّهم يستبشرون بأناس بعدهم الذين سيموتون، القيامة الكبرى لم تقم، وجنة القيامة الكبرى لم تحدث بعد.
في الحديث زيارة المؤمنين الأموات إلى بيوتهم والتعرف على أحوال أهل هذه البيوت، يعني أن الصلة، هناك مجتمع مؤمن، طبعاً هم في حياة البرزخ حلقات تتحادث، تأنس مع بعضها البعض، تجتمع اجتماعات فرح وإيمان وتقرّب إلى الله عزَّ وجلّ، فذلك المجتمع يعيش همّ هذا المجتمع، هذا المجتمع الحي يعيش هم المجتمع الميّت ويفرح لأخبار الخير لمن مات على الإيمان.
(اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَشاهِدِنا وَغائِبِنا)
لم يكتفي بالأحياء، الدعاء مجاملة؟ دعاؤك لله عزَّ وجلّ بأن يرحم المؤمنين، هذا الدعاء لا يأتي منك أمامي، على الأقل لا يقتصر منك على أن يكون منك أمامي، ولا يقتصر منّي إذا شاء الله بأن يكون أمامك، دعاء هو لإحساسٍ عميقٍ داخلي بالأخوّة، ووجود محبّة صادقة تملأ النفس، وإعجاب كبير بإيمانك.
(اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَشاهِدِنا وَغائِبِنا)
سافر؟ سافرت عنه؟ انقطعت صلتي به لسنين طويلة؟ لا أنساه ولا ينساني.
(اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَشاهِدِنا وَغائِبِنا، ذَكَرِنا وَاُنْثانا)
مجتمع واحد لا ذكوري ولا أنوثي وإنما هو مجتمع ذكوري وأنوثي متكامل، إخوة وأخوات، أختك من أبيك وأمّك هي أختك لا بما هي أنثى إنّما بما هي إنسان، ومن صُلبٍ واحد، وبوجود الإتحاد الفكري والإتحاد الشعوري، والاتحاد الهدفي، كلّ ذلك يجعلك تنظر إلى أختك كما تنظر إلى أخيك، وتعيش حبّ أختك الطاهر كما تعيش حبّ أخيك الطاهر.
(ذَكَرِنا وَاُنْثانا)
مرّةٌ أختٌ في الإسلام ومن أبٍ وأمٍّ واحد، ومرّة أخرى أختٌ في الإسلام والإيمان، ولا رابطة أكبر من رابطة الإيمان، لأنّه لو كان الأخ كافراً والأخت مؤمنة، أو العكس، فإنّ هناك عاطفة لكن ليس هناك تقدير ولا تقديمٍ بشيءٍ يُحبّانه على ما يحبُّ الله تضحّي بهما من أجل الأخ المؤمن الذي لا يشترك معك في صلبٍ ولا رحم، يقتل أخاه ويقتل أخته ويقتل أباه، لماذا؟ لنجاة الإمام المعصوم، ولنجاة الفقيه الكبير المرجع، ولنجاة مؤمن عادي يريد أخوه أن يعتدي عليه.
(ذَكَرِنا وَاُنْثانا، صَغيرِنا وَكَبيرِنا)
والصغير محلّ اهتمام مثل الكبير.
(صَغيرِنا وَكَبيرِنا، حُرِّنا وَمَمْلُوكِنا)
بمناسبة الذنب قد يكون التقابل بين الصغير في الشأن الاجتماعي والكبير في الشأن الاجتماعي، لا فرق في العناية النفسية والعملية من المؤمن للمؤمن بأن يكون رئيس جمهورية أو بين أن يكون كنّاساً في الشارع، لا فرق، الحبُّ هو الحبّ، والبغض هو البغض، وذلك بقدر طاعة المحبوب ومعصية المبغوض.
(حُرِّنا وَمَمْلُوكِنا)
قيمة واحدة من الناحية الإنسانية ومن الناحية الإيمانية، ومملوكٌ يفضل سيّده بآلاف المرّات بفارق الطاعة والمعصية.
(كَذَبَ الْعادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلالاً بَعيداً، وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبيناً)
العاذلون هم المساوون بين الله عزَّ وجلّ وبين غيره، المتنزّلونبجلال الله وكمال الله إلى حدّ النقص البشري، هذا يعدل هذا بهذا، أو المرتفعون بالبشر المحدود القاصر الناقص الفاقد، العدم في نفسه، بمستوى الخالق العظيم.
أمر المخلوق كأمر الخالق؟ تقدير المخلوق تقدير الخالق؟ قدرة المخلوق قدرة الخالق؟ في التصرّف العملي، في التعامل يعدُّ الله كالبشر والبشر كالله عزّ وجلّ، بل قد يرتفع بقدر البشر ويحط بقدر الله عزَّ وجلّ حتى تكون كلّ الطاعة للبشر في قبال الله عزَّ وجلّ، هؤلاء ضلّوا.
خالق ومخلوق، غني ذاتاً وفقير ذاتاً، عالم ذاتاً وجاهل ذاتاً، عدمٌ في نفسه ووجودٌ في ذاته بذاته، هذا جنون، هذا ضلال من الضلال العميق، من التيه الشديد جدّاً، لا يوجد عقل.
(كَذَبَ الْعادِلُونَ بِاللهِ)
هذه المساواة، كذبٌ على الحقيقة ليس فوقه كذب.
(وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبيناً)
سحب يده من يد القويّ، من دعمه كلّه، من عنايته، من رحمته، من رعايته، ووضع يده في يد الهالكين، الفاقدين، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّا.
بعد أن نبّه على أنّ دعائه لا يخصّ نفسه وإنما على دعائه أن يعمّ النفس والمؤمنين، جاء متفرّغاً إلى ناحية النفس، وهذا التفرّغ ليس أنانيةً وإنّما هذا الذي يطلبه لنفسه هو الذي يجعله يخلص للمؤمنين، يحمل همّ المؤمنين، يعمل مضحياً من أجل المؤمنين، هذا الذي يجعله ينسى مصلحته من أجل مصلحة المؤمنين، وليس هذا من همٍّ بالنفس ينفصل عن الهمّ بالمجتمع، إنّما هو همٌّ ينصبُّ في مصلحة الهمّ بالمجتمع.
(اللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد)
مفتاح الإجابة يبدأ بها.
(َاخْتِمْ لي بِخَيْر)
هذا دعاء للنفس.
يبين بنظره عن كلّ الخيرات في الدنيا، ويركّز النظر والهمّ، ويكون التعلُّق النفسي القويّ الشديد بالخاتمة، (َاخْتِمْ لي بِخَيْر)، لحظة الوداع ومفارقة هذه الدنيا والالتحام بالحياة الآخرة، هذه اللحظة هي أهمّ لحظة في سعادة الإنسان وشقائه، هذه اللحظة إن كانت النقلة فيها نقلةً إلى رحمة الله فقد فاز الإنسان وحصل على الفوز، وإن كانت نقلة إلى غضب الله كانت دمار، كانت الشر المديم، كانت الشقاء المقيم، كانت النار التي لا تنقطع.
(َاخْتِمْ لي بِخَيْر، وَاكْفِني ما اَهَمَّني مِنْ اَمْرِ دُنْيايَ وَآخِرَتي)
صحيح أن الخاتمة أهم، والآخرة أهم، لكن الإنسان يسعى للسعادة في الدنيا والآخرة.
(وَاكْفِني ما اَهَمَّني مِنْ اَمْرِ دُنْيايَ وَآخِرَتي وَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لا يَرْحَمُني)
في الأرض كثيرون ممن لا يرحمون، وممن هواهم في أذى الآخرين، والتشفّي من الآخرين، والتلذذ حتى بقتل الأطفال الأبرياء وهتك الحرمات، وما إلى ذلك، هؤلاء لا تهنأ بتسلطهم على الإنسان حياة، والحياة تتحوّل إلى موت، أو لذائذ الدنيا تتحول إلى غصص وكربات في ظلّ حياةٍ يتسلط فيها على المرء مثلُ هؤلاء الجناة الساقطين غلاظ القلوب سيئي الأخلاق ممن خسروا إنسانيتهم.
(وَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لا يَرْحَمُني)
جار واحد وإن كان جاراً حتى ضعيفاً، إذا كان لا يرحم، على الأقل يتتبع أسرارك ونقاط ضعفك وينشرها في الناس، هذا فضلاً عن حاكم ومتسلط شديد القوى.
(َاجْعَلْ عَلَيَّ مِنْكَ واقِيَةً باقِيَةً)
إذا في أحد لا يرحم، إذا في مشاكل، إذا كان يتهددنيفقرٌ، إذا كان يتهددني هلاك، أيُّ ضررٍ وإنْ لم تتحمله نفسي، أنا أحتاج شيء آخر، إجعل عليّ واقية باقية، لا أستطيع أن أدفع عن نفسي أقلّ شيء حتى شرّ بعوضة، لا أستطيع أن أدفع همومي الداخلية، وساوسي الداخلية، هواجسي المضرّة الداخلية، ولا أذى الخارج، وأذى الخارج ما أكثر مصادره، وما أشدّه على نفس الإنسان لو أحاط به هذا الأذى من أصنافٍ مختلفة، ومن ألوان مختلفة، وجهات متعددة، وما إلى ذلك، فأحتاج إلى واقية، هذه الواقية لا أجدها عند الأغنياء، ولا أجدها حتى لو كنت غنياً أو عالماً، لو كنت ذا صيتٍ كبير عظيم ذا قوّة هائلة، هذا كلّه لا يمثّل واقيةً بلا إذنك، بلا تسهيلك، بلا إرادتك، فالواقية الأصل الكافية والحامية والدافعة والمانعة هي الواقية الباقية من عندك.
(وَلا تَسْلُبْني صالِحَ ما اَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ)
والنعمة نعمتان، نعمة مادية ونعمة معنوية، فأخفظ لي هذه النعمتين، ونعم الدنيا المادية كبيرة هائلة مغرية تشدُّ النفس إليها شدّاً عظيماً ولكن في نفس الوقت -طبعاً لها قيمتها- لا تساوي شيئاً من نعم المعنى التي تغنى بها نفسُ من وفّقه الله عزَّ وجلّ للإيمان ومنحه من هدايته ما يصلحه كلّه.
(وَارْزُقْني مِنْ فَضْلِكَ رِزْقاً واسِعاً حَلالاً طَيِّباً)
كأنّ الختام بخير، والكفاية ممّا همّني من أمر الدنيا والآخرة، استحقاقي لهذا استحقاقاً بفضل الله وليس استحقاقاً ذاتياً، بحسب ما أخذ الله على نفسه من وعد وبحسب رحمته وكرمه.
هذا كلّه لا يحصل والرزق حراماً، لكونه من كسبٍ حرام، أو لكونه محرّماً في نفسه كالخنزير والكلب وما إلى ذلك، وأيضاً ضيق الرزق يتهدد النفس وينحرف بها -سبب كبير لانحراف النفس ولضعفها عن المقاومة- ولذلك يكون سبب فقدٍ للصلاح، والنفس السيئة المسيئة لله عزَّ وجلّ لا تكون أهلاً لنعمه العظام، فيطلب الداعي أن يرزقه رزقاً واسعاً حلالاً طيّباً من فضله لا باستحقاق العبد الذاتي.
وصلّى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
———-
هامش:
(*): الآيات من سورة آل عمران (169، 170، 171).