كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني الدُّعائي السادس – ليلة 28 رمضان 1445هـ
نص حديث سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم على هامش انعقاد المجلس القرآني الدُّعائي في منزل سماحته بمدينة قم المقدسة “شرح دعاء أبي حمزة الثمالي” – (الجلسة السادس) الاحد 7 أبريل 2024 / 27 رمضان 1445هـ:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على حبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم لا تفقدنا الهدى من عندك، والبصيرة من فضلك، والتُقى من تكرّمك، اللهم الزمنا العمل الصالح ما أبقيتنا في هذه الحياة الدنيا برحمتك يا أرحم الراحمين.
(اللَّهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ، وَأَعِذْنا مِنْ سَخَطِكَ، وَأَجِرْنا مِنْ عَذابِكَ، وَارْزُقْنا مِنْ مَواهِبِكَ، وَأَنْعِمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلِكَ، وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ، صَلَواتُكَ وَرَحْمَتُكَ وَمَغْفِرَتُكَ وَرِضْوانُكَ عَلَيْهِ وَعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وَارْزُقْنا عَمَلاً بِطاعَتِكَ، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ.)
(اللَّهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ)
هذا هو المنقذ الأعظم، ذكر الله يلازمه العلم، ذكر الله يلازمه ذكرُ الرحمة وذكر العقوبة، الثواب والعقوبة، ذكر القدرة اللامحدودة، ذكر الله ذكرٌ للجلال والجمال والكمال.
ذكرُ الله يذكّرنا العبودية له، يذكّرنا مننه وإكرامه وحراسته وحفظه، ذكرُ الله يعطيك القوّة لأنّك تذكره وتلجأ إليه، واللجأ إلى القوّة والقويّ قوّة، والاستنارة بالعالِم تجعلك على هدىً دائم، وارتباطك بالغني لا يُخيفك بذلك الفقر، ارتباطك بالغني يؤمنك من الشعور بالفقر إلا إليه، فإذا عرفت أنّه كريمٌ استغنيت ولم تخف.
ذكرُ الله وأنّه أقوى قوي وأقدر قادر ولا خالق غيره ولا مالك سواه، يملأ نفسك بالحرية وتعيش نفسك الحرية المطلقة إلا بالنسبة لله عزَّ وجلّ. ذكرُ الله يؤمننا من الخوف، ويؤمننا من خوف الموت، ويُنقذنا من ضغط أسوأ الأحوال في الدنيا، ويُنقذك من وحشة الغربة من وحشة الغربة، ويذكرك دائماً بأنّك مهما بلغت من مجدٍ ومن شرفٍ ومن علمٍ أنّك الصغير المحتاج إلى الله، ومن لم يشعر بصغاره أمام الله وبفقره أمام الله قتله غروره.
ذكرُ الله حقّاً وصدقاً منقذٌ من كلّ ضعف، مُعطٍ للقوّة والصلابة والعزم وروح النشاط والأمل الكبير والثقة الدائمة.
ذكرُ الله يشعرك الغنى وأنت في أشدّ حالات الفقر، وبالأمن وأنت في أشدّ حالات الخوف، وبالأنس وأنت في أشدّ حالات الغربة والوحشة والانفرادية.
(اللَّهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ)
إذا اشتغل كلّ وقتي بذكر الله كنتُ في كل الوقت سعيداً، وفي كلّ الوقت قويّاً، وفي كلّ الوقت مجابهاً الباطل، وفي كلّ الوقت آمن ومؤمِّل ولا يمسّني بؤسٌ ولا أياس.
(وَأَعِذْنا مِنْ سَخَطِكَ)
هناك ترابط بين الاشتغال بذكر الله والوقاية من سخط الله، متى يسخط الله عزَّ وجلّ علينا؟ حينما نهرب منه، حينما نولّي بأدبارنا أو بوجوهنا عن رحمته، حينما ننساه، أما ونحن نذكره فنحن طيبون، ونحن مستقيمون، ونحن شرفاء، ونحن نافعون، فمن أين يأتينا غضب الله حينئذ؟
لسنا محلّ السُخط مازلنا محلاً لذكر الله، لأنّ من كان ذاكراً لله كان الشريف العظيم الكبير المتسامي.
فهناك ترابط شديد بين الاشتغال بذكر الله وبين الأمن سخط الله عزَّ وجلّ، لا موضوع لسخط الله وأنت تذكر الله، لأنّك وأنت تذكر الله تأخذ كلّ صفاتك من الله، وتستقي خواطرك من الارتباط بالله، وتستنير في سلوكك بأحكام الله، فلا سخط لله عليك والحال هذه.
(اللَّهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ، وَأَعِذْنا مِنْ سَخَطِكَ، وَأَجِرْنا مِنْ عَذابِكَ)
أيضاً مرتبط موضوع الإبعاد عن العذاب بذكر الله، أنت على طريق الرحمة، أنت على طريق الثواب، أنت على طريق الكرامة، فلا وجه للعذاب ولا لاحتمال العذاب.
(وَارْزُقْنا مِنْ مَواهِبِكَ)
بلا رزق الله للعبد من مواهبه لا شيء عنده، لا ذكر ولا غير ذكر، لا نعمة من نعم المادة ولا نعمة من نعم المعنى.
(وَأَنْعِمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلِكَ)
نتطلّع يميناً وشمالاً ونبحر بقلوبنا كلّ الدنيا وكلّ المواقع، ونتوجّه بالنفس إلى كلّ مواقع القوّة، الغنى، إلا أنّنا لا نجدُ ذا فضلٍ يتفضّل علينا غير الله تبارك وتعالى.
(وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ)
في صفّ ذكر الله، عدم سخط الله، أن يجيرنا الله من العذاب، يأتي طلب حجّ بيتك، والرزق منبسطٌ على ما هو خيرٌ من المادة، وما هو خيرٌ من المعنى، وليس أكبر من خير الطاعة لله عزَّ وجلّ وما يُحيي القلوب، والحجُّ مدرسة حياة القلوب وطهر النفوس وقوّة الأرواح، قوّة النفس في داخلها، والنفس في خارجها، وقوّة الفرد وقوّة الأمّة، هدىً للفرد وهدىً للأمة. حياة بلا صلاة بلا حجٍّ، بلا ذلك الاجتماع العالمي القدسي الكبير في أجواء بيت الله الحرام، الكعبة المطهرة، في الجو العبادي التوحيدي الخالص لوجه الله تبارك وتعالى، حياةٌ من نوع تلك الحياة، حياةُ قفر، حياةٌ شحيحة، حياةٌ جافّة، حياةٌ تتقطّع فيها الصلات، تشتدُّ فيها العداوات، تتحوّل إلى حربٍ يوميّة طاحنة على مستوى داخل النفس، مستوى داخل الفريق الواحد، القوم، الأمّة، الإنسانية، تتحوّلُ حياة الأرض إلى عداواتٍ متراكمة وجاهلياتٍ متراكمة، حتى تتحوّل هذه الحياة إلى ظُلَمٍ شديدة.
(وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ)
فيه عطاءات هائل لا يتوقّف على موسمه، ولا ينقضي بانقضاء موسمه، والحجّ عبادةٌ دائمة طول السنة بالنسبة للقلوب والأفئدة التي تهوى الحقّ وتهوى توحيد الله عزَّ وجلّ، ولا تعلُّق لها بشيءٍ كما هو تعلّقها بالله والمكانات التي حبّبها الله عزَّ وجلّ لعباده.
(وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ)
ويلحق الحجّ زيارة النبيّ الأعظم “صلى الله عليه وآله” وأهل بيته الكرام، لأنهم أنوار هدى ومصادر عطاء، وأعلام تُقى، وأدلّة على طريق الله، وزادُ روحٍ لا ينقطع، وشمسٌ لا يأتي عليها غياب.
(وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ، صَلَواتُكَ وَرَحْمَتُكَ وَمَغْفِرَتُكَ وَرِضْوانُكَ عَلَيْهِ وَعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيب)
أنا أدعو، أنت تدعو، ولو كان الله بعيداً في نفوسنا ما دعوناه، لو كانت بيننا وبينه مسافات ومسافات تحتاج إلى زمنٍ طويلٍ يُقطع، إنّه قريبٌ سميع عليم.
أقربُ إلينا من قلوبنا، أقرب إلى القلب من نفسه، هذا عطائه لا يتعطّل، عطاؤه لا يحتاج إلى انتظارٍ طويل.
(إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيب)
وهو ليس قريباً عاجزا وإنما هو قريبٌ قادر، لا يمنعه من الإجابة فقرٌ ولا بخلٌ ولا قسوةٌ ولا شيءٌ من نقص.
(وَارْزُقْنا عَمَلاً بِطاعَتِكَ)
وهذا هو ربح الحياة، وهذه هي قيمة الحياة، أيُّ لحظةٍ تمرّ من العمر بلا طاعةٍ لله، على الأقلّ إنها ضياع، على الأقلّ إنّها خسارة، على الأقلّ إنها عمى.
لحظة البصيرة ولحظة القوّة ولحظة الربح والفوز والنجاة لابد أن تكون لحظة من لحظات الطاعة، أما لحظة المعصية فهي خسارة وانحدارٌ وانسحاق، ولحظة الفراغ الذي يخلوا من طاعة الله، من ذكر الله، من الجهاد في سبيل الله، هي على الأقلّ إنْ لم تُكسِب وزراً -وهي مكسبةٌ وزراً- فإنّها صندوقٍ خالٍ يوم القيامة يُمثّل حسرةً لناظره ممن هو صاحبه.
(وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ)
في ملل هي لا تسمى ملل، ولكن بحكم الملل، شرائع الدنيا، شرائع أهل الأرض، شرائع المقننين، أيّ من شرائع الأرض هي ليست ملة، الملة هي الشريعة المنسوبة إلى رسول كإبراهيم “عليه السلام”، ومحمد بن عبد الله “صلَّى الله عليه وآله”، الملة هي شريعة دينية متنزلة من السماء على رسول كرسول الله “صلَّى الله عليه وآله”، وهذا هو الطريق الوحيد للأحكام الصحيحة، للمنهج اللاحب، لطريق النجاة، لطريق الفوز، كلّ الناس على عمى، كل مصادر النور في الأرض على عمىً ذاتي إلا أن يأخذوا بهدى الله، بأحكام شرائعه، بتعاليمه المتنزلة على أنبيائه ورسله.
(وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ)
الحساب كلّ الحساب في لحظة الوفاة، لمنتهى الطريق، للحظة المصيرية، للعبور من عتبة الدنيا إلى عتبة الآخرة، كيف أصِل؟
أصِلُ بقلبٍ محتفظٍ بنوره؟ بنفسٍ مهتدية بهدى الله؟ بروحٍ منشدّةٍ إلى جمال الله وكماله وجلاله؟ أو أصِل إلى تلك النقلة وقد فقدتُ كلّ شيءٍ من هدى، الذي وهبني الله إياه بالفطرة ثم بالاكتساب، بسوء عملٍ أذهب عنّي كلّ بصيصٍ من النور، بسيئاتٍ متراكمات، وقبائح مظلمات، وأعمالٍ منكرات سدّت على قلبي كلّ منفذ دون أن يرى نور الحقّ، تلك اللحظة صعبة والعمل في سبيل الله عزَّ وجلّ يجب أن يستمر صالحاً مع اللجأ إلى الله عزَّ وجلّ والدعاء بأن يديم هذا العمل وما ورائه من روحية ونفسية وعقلية وطُهر قلب، وعليَّ أن أخاف في كلّ لحظة لأنّي لا أملك هداي، كما أن الفلس، الدينار في جيبي لا أملكه، مضموناً؟ ملكه اعتباري.. أحترق ويحترق ديناري، أغرق ويغرق ديناري، يُؤخذ ديناري من جيبي، ألف ومليون سبب لذهاب الدينار منّي، لا أمسكه، حتى أمسك الدينار عليَّ أن أكون سبب وجوده، السبب الدائم والعلة لوجوده بحيث لا يكون له بقاءٌ إلا بي، وبحيث كلّما تُصوِّر بقائي لزم أن أتصوّر بقاء الدينار، وأنني قد أفارق الدينار وقد يفارقني الدينار.
شأن النِعم الروحية والمعنوية هو شأن النعم المادية، الهداية التي عندك وعندي الآن لا أملك بقائها لحظة، لا أملك مضمون قلبي، فحين لا أملك شيئاً كيف يكون لي أن أحتفظ به؟ فالهدايات الإلهية عندنا قد تبقى وقد تذهب وتتحوّل إلى غوايات وإلى ضلالات، وطبعاً ليس بسبب الله أو شحٍّ منه أو إهمالٍ أو عجزٍ منه إنما السبب فينا.
فلو بدأت أسلك درب الخطايا بعد أن أمضيت -لو كان كذلك- عمراً طويلاً في طاعة الله فقد بدأت طريقي إلى جهنم، فلنحذر أن تأتي علينا لحظة هي بداية طريقنا إلى جهنم وبئس المصير.
(وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلّى الله عَلَيْهِ وَآلِه)
أهدى السنن، أرقى السنن، حاكمة على السنن، هي سنة تعني بالضبط وبالدقة طريق الجنة.
بعد ذلك يدخل دعاء أبي حمزة إلى موضوع جديد، إلى موضوع المجتمع الإيماني، بناء المجتمع الإيماني، الحفاظ على المجتمع الإيماني، أوصاف المجتمع الإنساني، علاقات المجتمع الإيماني، هذا المجتمع الذي هو رسالة السماء وجُند الله في الأرض، يتحدّث عن هذا المجتمع حديثاً طويلاً مُهتمّاً، لأنّه رسالة الإسلام والغرض من مجيء الإسلام.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.