كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني الدُّعائي الثالث – ليلة 12 رمضان 1445هـ
نص حديث سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم على هامش انعقاد المجلس القرآني الدُّعائي في منزل سماحته بمدينة قم المقدسة “شرح دعاء أبي حمزة الثمالي” – (الجلسة الثالثة) الجمعة 22 مارس 2024 / 11 رمضان 1445هـ:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تقبل الله أعمالكم وشكر سعيكم وضاعف ثوابكم إن شاء الله
في الدعاء: (ودعوناك ونحن نرجو أن تستجيب لنا، فحقق رجاءنا يا مولانا، فقد علمنا ما نستوجب بأعمالنا ولكن علمك فينا وعلمنا بأنك لا تصرفنا عنك حثنا على الرغبة إليك، وإن كنا غير مستوجبين لرحمتك، فأنت أهل أن تجود علينا وعلى المذنبين بفضل سعتك وامنن علينا بما أنت أهله، وجد علينا بفضل إحسانك، فانا محتاجون إلى نيلك يا غفار!)
وقفة قبل وقفة الدعاء إلى الله مع دعاء الناس لبعضهم البعض لقضاء حاجاتهم.
ممن يطلب العباد من الناس الحاجة؟
لا يطلبون لكل أحد، وإنما يطلبون ممن رشحتهم أهليتهم الإنسانية والدينية ورشّحهم علمهم، تقواهم، شرفهم، كرمهم إلى أن يُسألون.
متى يسأل الشريف غيره؟
هناك إنسانان، إنسانٌ ليست له عزّةٌ ولا كرامةٌ في نفسه، إنسانٌ يقوده طمعه، شهواته، ما استولى عليه من حب الدنيا وسحرها، هذا يسأل ولا يبالي، ولا يحسُّ بأيّ حرجٍ في أن يسأل حتى أهل الدناءة والخسّة والبُخل والحرص على الدنيا.
يسأل العبدُ العبد حاجته فكم يؤمِّل في سؤاله هذه الحاجة؟
أمامه فقرُ مَن سأل، وأمامه غفلةُ مَن سأل، وأمامه خواطرُ النفس السلبية التي تأخذ بالإنسان إلى هنا وهناك من وديان التيه، أمامه الكثير مما يكسر أمله، ومما يحطّم رجائه، ومما يُحرجه، ومن خوف المنع، إلى آخر ذلك.
والعبدُ يسألُ ربّه فماذا يخاف؟
يتملّق العبد للعبد بصفاتٍ قد يكون فيه منها شيء وقد لا يكون، وإذا كان فيه منها شيءٌ وهو لا يُناسب ضخامة المدح والثناء والتملُّق الذي يبذله السائل، أمّا المؤمن الحق -المؤمنون العظام- فهم لا تتوجّه نفوسهم، وليس يأتي فيها حديثٌ أو خاطرة بأن تسأل غير الله حاجتها، ذلك لعلمهم بأنّ أحداً غير الله لا يملك أن يُعطي أو يمنع، لا يملك أن يريد، أن تعزم إرادته، أن تمرّ عليه خاطرة الإرادة في العطاء أو المنع، أن يملك تنفيذ شيءٍ من هذه الإرادة للعطاء والمنع إلا بإذن الله.
تسألني، أسألُك، ولك عندما سألتُ أو سألتَ حجراً أو خشبة، شأنُ سليمان بن داوود “عليه السلام” على غناه وكرمه الموهوب من الله عزَّ وجلّ، شأن النملة التي حدّثها، هو صفر اليدين، وهو لا شيء في نفسه من غير عطاء الله وبقدر عطاء الله.
الناسُ محتاجون إلى الناس، جعلنا الله كذلك لحكمة، جعلنا الله نحتاج لبعضنا البعض حتى لا يستغني أحدٌ عن مجتمعه وعن أهله، ولكن أصلُ رزقه وما يصله من رزق ومن هلكةٍ أو نجاة ليست بيد الخلق، هؤلاء وسائل جعلها الله لتنبني المحبّات ولتترابط العلاقات وليقوى المجتمع ولتمتحن النفوس في داخلها، نفس الغني والفقير والبخيل والكريم.
أمّا الحاجة الأصلية -هذه حاجات تبعية- تتبع إرادة الله في الناس، أما الحاجة الحقيقية للإنسان؛ لله عزَّ وجلّ، وهي حاجة كلّ ذرّةٍ في هذا الكون لخالق الكون ومنظمه.
هنا يقول أبو حمزة عن الإمام “عليه السلام”: (دعوناك)
الكاف للتوحيد، دعوناك للاشتراك بين كلّ الخلق، (ونحن نرجو أن تستجيب لنا) أليس الله بأكرم الأكرمين؟ أليس الله بأغنى غني؟ فلماذا تقول يا إمام “عليك السلام” (ونحن نرجو)، ولا تقول “ونحن نقطع أنّك تستجيب لنا”، القدر بيد الله، والله مجيب الدعاء عند توفر الشروط وارتفاع الموانع وإصابة الدعاء ما هو صحيح وما هو الحقّ.
وإذا كانت الاستجابة العاجلة ليس أكبر منها الاستجابة الآجلة، ولم يكن في تأجيل الإجابة درسٌ للعبد وتأديبٌ له وبناء مَلَكَة الصبر عنده.
(ودعوناك ونحن نرجو أن تستجيب لنا)
الدعاء يحتاج إلى الرجاء، إذا لم يكن رجاء لم يكُن موضوعٌ للدعاء. إذا يئست اليأس الكامل من الاستجابة هنا تتحرك نحو الطلب، هذا الرجاء من أين جاء؟
من روح العبد. -كلامنا عن العبيد من بعضهم البعض-.
يتقدّم منك موقف إحسانٍ في يومٍ من الأيام لأخٍ لك، موقف عطاء، إحسان، دعم، معونة، كلمة خير، ما إلى ذلك، فيَجِدُ في الإحسان السابق منك، الكلمة الطيبة التي أراحت قلبه، يجدُ في الدفاع السابق منك من شرفه، مكانة انْبَنَتْ في نفسك له، وجميلاً لا ينساه لك عليه، يأتي وقت حاجة هذا الأخ فيتذكّر أنّ له في نفسك، يترقب أن يكون في نفسك وزناً، يرى لك شيئاً من الوزن، تعتبره رصيد تتوسل به لقضاء حاجتك، لا ينسى يوماً كان عطشاناً فسقيته في حال عطشه، فحينما تلم بك الحاجة والضائقة الشديدة ولا تجدُ شيئاً تتقرب منه إليه، إلا أنّك مع ذكرك لذلك الموقف تتوقع بأن يكون لك في نفسه القبول، فتستعمل ذلك الموقف ضاغطاً عليه.
أنت رئيس عشيرة، قويٌّ مهابٌ بعشيرتك الضخمة وشجاعتها وبسالتها، تريدُ شيئاً من السلطان لا يقدر به على كلّ أحد، يعزُّ عليه أن يعطي إلا القليل إلا أنّه لا لمحبةٍ لك ولكن لخوفه من عشيرتك وتهديدك له بها يستجيب لطلبك، نحن نملك ضواغط فيما نحتاجه من إخواننا المؤمنين وغير المؤمنين، في العادة هذه الضواغط تستعمل عند الناس عند ضيق الحاجة وضيق الحال، أمّا الله عزَّ وجلّ ففي لجئنا إليه لا نملك أيّ ضاغطٍ عليه، تهدّد الله بماذا؟ تعده وتتوعده بماذا؟ يخاف منك أيّ شيء؟ يرجو منك أيّ شيء؟ يحسبك لك أيّ حساب؟ ألستَ مخلوقاً له؟ مملوكاً في كلّ ذرّات وجودك لقدرته؟ ألستَ تبحث عن حيلة نجاةٍ من عنده؟ أيلجأ إليك؟ أينظرُ إلى عروضك؟ إلى إغراءاتك؟ لا وعد ولا وعيد، فإذن بمَ نتوسّل إليه؟ بعواطف تحكمه نستثيرها؟ لا يحكم الله شيءٌ أبدا، يفعلُ ولا ينفعل. لا حيلة للتقرب إلى الله عزَّ وجلّ عن طريق القوة، وسيلة واحدة وهي أن تعلن توحيدك في الدعاء، وهذا أساس من أسس الدعاء وداعم من دعائمه، خط عريض، والله يعلم الصادق والكاذب، تتقدّم بهذا.
هناك امرأة كبيرة -رحمها الله كانت حيّة أو ميتة- في العراق، كانت تدخل بعض البيوت وتقول، أنا ماذا لديّ غيرك؟ كلمة ساذجة سطحية تحتاج للتنبيه عليها، يا بنت الحلال، عندكِ غيري الذي ينجيك وينقذك ويغذيك، لا أنا ولا غيري؛ الله عزَّ وجلّ. عندما تذهب إلى الله تقول “ما عندي غيرك”، وهو فعلاً هذا صدق، وليس عندك غير الله تبارك وتعالى. هذا الإقرار لابد منه، وهو المدخل في الدعاء.
لا استضعف استضعاف كاذب، هذا لا يفيد، حتى أستدّر عواطف الله. الله ليس لديه عواطف، الله لا ينفعل تبارك وتعالى، فاعلٌ غير مفعول.
على كلّ حال، مع العباد لدينا وسائل أحياناً قوية، أحياناً ضعيفة، ويتشبث المحتاج، يضعف خيط، وببيت العنكبوت، وبقشة في المحيط المتلاطم، أمّا هذه الوسائل ليست لدينا مع الله عزَّ وجلّ إلا الخضوع، إلا الاستكانة، إلا الذل، إلا تسليم الحاجة، إلا الصدق والتقرّب.
(ودعوناك ونحن نرجو أن تستجيب لنا، فحقق رجاءنا يا مولانا، فقد علمنا ما نستوجب بأعمالنا)
هذا الرجاء لا لوسيلةٍ نملكها، ولا لمؤثر عليك سبحانك وتعاليك، وليس من ضعفٍ عندك وما إلى ذلك، هذا سر هذه الاستجابة غناك وكرمك، سر هذا الرجاء غناك وكرمك، وليس من أجل الركعتين التي أصليهما.
غَفَرَ الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.