كلمة آية الله قاسم في ذكرى رحيل آية الله مصباح اليزدي – 2023

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في مؤتمر دراسة الشخصية والآثار الدولية للحكيم المجاهد سماحة آية الله الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي، وذلك في ذكرى رحيله الثانية، والذي نظمته سبع جهات في الجمهورية الإسلامية – قم المقدسة 1 يناير 2023م:

*فيديو الكلمة:

*صوت الكلمة:

تنزيل

*نص الكلمة:

-رجلٌ عرف من أين يبدأ-

عرف من أين يبدأ وإلى أي غاية يقصد وأي منهج يسلك، وما حُفظت حياة إنسان عن الضياع والتذبذب ما لم يعرف من أين تبدأ المسيرة الإرادية في الحياة، والغاية الصحيحة لها، والمنهج الموصل لها.

والبداية الصحيحة معرفة الله عزّ وجلّ مصدر الوجود والهدى، والخير والنور كلّه. والغاية الصحيحة رضاه الذي لا يكون إلا بالجمال والكمال، والمنهج الصحيح ما جاء به كتابه وأنبياؤه ورسله.

وباب معرفة ذلك كلّه الفطرة وعطاءات العقل البرهانية المنتهية إلى القضايا الأساسية الثابتة من ضروريات وبديهيات.

ويعتمد مستوى المعرفة بالله تبارك وتعالى في ما بعد الفطرة على مدى الاستثمار للطاقة الفكرية ضمن المنهج المنطقي السليم، وفي فضاء قلبٍ قادر على استقبال الحقائق والاطمئنان إليها لعدم تفكّره بآثار الذنوب وقبح السيّئات. وناتجُ العقل المنطقي لا يجد مكانه في القلب الذي أفسدته كبائر الآثام، وحتى البديهة قد يفقد القلب الاطمئنان إليها بفعل ما أفسدخ صاحبه من تعوّد العناد والجمود والمكابرة، وما وقع فيه من ظلمات الآثام.

وحين نجد أن سماحة الشيخ المصباح قد جاء نسخة جيّدة من الإنسان السويّ المتمتع بالجاذبية الروحيّة والأخلاقيّة الكريمة؛ فإنّ ذلك لكاشف عن معرفته من أين يبدأ، وإلى أيّ غايةٍ يقصد، وأي منهج يسلك، معرفة صحيحة كانت أساس شخصيته المتينة الأخّاذة الزّخارة بالجمال، والإيجابيات الكثيرة التي تغنى بها.

خرّجته تلك البداية والغاية والمنهج شخصيّة مستضيئة بالهدى الإلهي، ومضيئة إيماناً، وفكراً، وخلقاً، وسلوكاً وحكمة. شخصية مستقيمة على الطريق لله سبحانه، دالّة عليه، ومعلّماً كبيراً، ومربيّاً شفيقاً على الآخرين، قويّاً في الحقّ لا ينهزم، متواضعاً لله، شديداً في ذات الله، ذليلاً على المؤمنين لا في وضاعة ولا صغار، مستكبراً على المستكبرين كما يحب الله.

من لا يعرف الله بحقّ ضيّع على نفسه معرفة الكامل الحقّ العظيم الذي لا تعدد له، ليبني شخصيته في ضوء كماله، ويرقى بإنسانيته في ضوء منهجه، وتتحقق له الرفعة والكرامة، ويفنى بالجمال.

لابد في بناء الشخصية الإنسانية القويمة المتكاملة من عقل ناشط متعمّق في تفكيره، وقلب ماهر يستقبل الحقّ ويحتضنه، ولا يكون له المحتوى السيء الذي يفسد على العقل تفكيره ويخرج به عن موضوعيته.

ولا تكفي سلامة العقل، وصحّة تفكيره مع سُقم القلب، ولا سلامة القلب مع خطأ التفكير، والوقوف عند الظن، وحاكمية الشك، وبناء الشخصية يختلّ مع اختلال أي وضع من وضع التفكير والقلب.

والنية الصالحة المقترنة بالجهل قد تخدم الباطل، وتضرّ بالحقّ، وتوقع في المفاسد، وتقود إلى الكوارث العددية والاجتماعية، والعلمُ مع النيّة السقيمة سلاح فتّاك بيد العالِم.

والعلمُ محتاج إلى كدٍّ وكدح فكري، ومنهج سليم في التفكير وبناء الدليل، وصلاح النيّة محتاج إلى خوف الله، والعلم بما يرضيه ويقضيه، ويبقى على الإرادة أن تكون قويّة في تقديم الحقّ على الباطل، وما لله على ما للشيطان وهوى النفس وأهل الضلال.

ولقد أصرّ الإسلام الاصرار كلّه على أن تكون أمّةُ الإسلام أمةَ الإيمان الحقّ والاستسلام لله لما هو عليه سبحانه من جلال وجمال وكمال مطلق، وبذلك يشفى القلب، وتسلم النيّة، ويسمو القصد.

كما أصر على أن تكون أمّةَ العلم  بالله سبحانه، والإيمان محتاج إلى العلم حتى يكون إيمان صدق، ولا يقبل الاهتزاز. والاستسلام والخضوع الإرادي للمشيئة الإلهية وللأمر والنهي الإلهي حين يكون عن قناعة ورضى تامّ لا يكون إلا بمقدار العلم بجلال الله وجماله وكماله، ومع هذا العلم تتحوّل طاعة العبد لله من تكليف تغلب على أدائه حالة المجاهدة إلى مطلب نفسي يدفع إليه الشوق إلى رضوان الله، ولا يتعرض أداؤه إلى الفتور.

تبلور الإيمان وترسّخه وحضوره وقوّة دفعه وفاعليته، وما ينبث من خوف ورجاء وأملٍ حقٍّ عظيم والتذاذ بطاعة الحقّ تبارك وتعالى؛ يسهّل على النفس كلّ تكليف، وينفي عن الصدر أيّ ضيق على طريق التحدّيات والفعالية السبّاقة في كل ميادين القوّة البنّاءة والعمل الصالح.

وإنّ لنا من العلماء العظام من وهبهم الله عقولاً قادرة، وأفهاماً بالغة، وهمماً عالية، ونشاطاً وحيوية قوية، ونفوساً منشدّةً للعلم، وطلبُها أن تعرف الحقيقة وتعانقها، وتقيم كلّ حياتها في المسار الذي يوافقها، وقرأوا كثيراً، وكتبوا كثيراً، وأمعنوا التفكير والتأمّل والتدبّر، وأجهدوا أنفسهم وأكثروا الجهاد وواصلوه على طريق طلب العلم والتحقيق والتدقيق والمحاكمة الفكرية الدقيقة، ووصلوا إلى نتائج علمية ضخمة رائعة، وفيما يتصل بالحياة الدنيا، وما كان في ذلك شيء من ترف، وإنما هي جهود دفع إليها شوق الحقيقة واليقين بأنّ النفس الإنسانية لا تبني البناء الصالح، ولا تصل إلى الغاية الحميدة المتناسبة مع امكاناتها إلا بالعلم، وأن المجتمع الإنساني لا يقوم له كيان كريم عن طريق الجهل بأسباب الحياة وحقيقة الإنسان وبانفصال سيرته عن عالم الغيب مع كونه محكوماً له في كلّ أبعاد حياته، وماضيه وحاضره ومستقبله، ولا سبيل له إلى شيء من الهدى من دون أن يتلقى منه.

وما وصلت إليه جهود أولئك العلماء الأفذاذ -ومنهم شيخنا المصباح- ليس بالشيء المحدود في قيمته المعرفية مدى حياتهم، ولا بالذي تستغني عنه المسيرة التقدميّة للأمّة، ولا تدعو إليه حاجة الأجيال إلى البصيرة في أمر الدين والدنيا والآخرة.

إنّه انتاج توصّلت إليه عقليات إسلامية فذّة منفتحة على الإسلام، متقيّدة بهدى مصادره الأصيلة، حريصة على الوصول إلى الحقائق الإسلامية،………. تخاف من الله عزَّ وجلّ أن يميل بها هوى إلى القول بما يخالف مراد الله مما بيّن هو ورسله.

وفكر بهذا المستوى من الصدق والنقاء يسخُف أن تُهمل شأنه الأمّة، وتستخفّ بقيمته وتتعامل معه التعامل مع الإرث الزهيد.

ولبقاء هذا الفكر، ولأخذه مجالاً واسعاً من التأثير في بناء بصيرة الأجيال وتقدّم المسيرة العلمية، واهتمام أبناء الأمة بالدين، والنظر إليه وإلى علمائه النظرة العظيمة، والاقتداء بأولئك الرجال الصالحين العظماء المضحين بفرص الرفاه الدنيوي على طريق خدمة الدين وحمل أمانته الثقيلة، وترسيخ حقائقه الثابتة في العقول والنفوس، ودَفع شبهات أهل الغفلة، وإبطال جدل أهل الجهل والعناد، لهذا كلّه يأتي احياء ذكرى العلماء، ونشر آثارهم العلميّة، وبيان سيرتهم العطرة، والحديث عن معالم شخصياتهم القدوة الهادية، وحياتهم المعطاءة كما تحتاجه إنسانية الإنسان، والحياة الهادفة الكريمة.

إنّ احياء ذكرى العلماء العظام ليبقى شعاع شخصياتهم ويمتد في الآفاق، وليبقوا قدواتٍ كريمة لا تنسى، وليُخرّجوا أجيالاً من العلماء الجادّين المجتهدين المخلصين الذين يواصلون مسيرة الجهاد الفكري والعملي ويحمون فكر الأمة وشعورها ويمثلون الصف الرائد الأمامي في كلّ مجالات الدفاع عنها، والحفاظ على كيانها.

الاحتفال بمن مضى من رجال العلم والجهاد؛ اعترافٌ من الأمة بأنّها مدينةٌ لذلك الصفّ من العلماء المجاهدين، وبأنّهم المدرسة التي لا تنطفئ أنوارها، ولا يندثر تاريخها، وأن يختصر عمر عطائها العلمي بمساحة حياتها البدنية.

يُطلب للأجيال المتلاحقة أن تقرأ أصيلَ ما كتب من قبلها، وأن تجهد ما استطاعت أن تضيف الجديد النافع، وتناقش ما هو محل للمناقشة، وتسجل على سابق الفكر ما قد تراه من ملاحظات.

يُطلب لها أن تتقدّم أكثر مما كان قبل في جهادها الفكري والعملي الذي يُعطي للدين موقعاً عمليّاً أكبر وأشدّ تمكّناً وأوسع تأثيراً، وللأمة قوّة أعظم في دينها ودنياها.

إنّ في احتفالنا بذكريات علمائنا الأكفاء الصالحين المجاهدين الأبرار اعلاناً للتأكيد على اعتزازنا بهويتنا الإيمانية والعلمية وجدّيتنا في الوفاء بحقّ ديننا العظيم وحقّ من أخلص له.

والحمد لله ربِّ العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى