كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني 13 رمضان 1443هـ
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المجلس القرآني الذي عُقد في منزل سماحته بقم المقدسة ليلة السبت وسط حضور المؤمنين – 13 رمضان 1443هـ / 15 أبريل 2022مـ:
*فيديو الكلمة:
*صوت الكلمة:
*نص الكلمة:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي العظيم وآله الطيبين الطاهرين.
الإنسانُ بقابلياتٍ كبيرة، ومواهبَ عظيمة، ولكن لهدفٍ صغير صغير.
التوفُّر على المواهب الكبرى، والقابليات رفيعة المستوى، إذا كان صاحبُها يتبنى هدفاً صغيراً؛ فهو صغير.
والإنسانُ ولو كانت قابلياته مُتَدنيّة، ومستواه الاستعدادي للكمال ليس إلى الحدّ المطلوب، ولكن كان يتبنى هدفاً صحيحاً سليماً يتناسب مع قابلياته، فإنّه في النتيجة سيكون أكبر بكثيرٍ من ذلك الإنسان المتوفّر على المواهب الكبرى من دون هدفٍ صحيح.
فلان إبنُ فلان يولدُ وكلُّه مواهب عظيمة، واستعدادات ضخمة، لكن حيث لا يهتدي الطريق، لا يهتدي الهدف، أو حيث يضلُّ الطريق إلى الهدف، بالنتيجة سيكون صغيراً، وحقيراً، ودونياً، وستكون مواهبه عليه وعلى مجتمعه، ولن تكون ربحاً ولا مكسباً له ولا لمجتمعه.
حين نواجه نفوسنا، ونريدُ أن نَصِلَ بها إلى الكمال، أن نُجاهدها، أن نقاومها من أجل أن تَصِلَ إلى أكبر حظِّ يتناسب مع استعداداتها الكبيرة؛ أوّلُ ما يواجهُنا هو أنْ نتعرّف على الهدف من هذه الحياة.
شخصٌ حين يُقَاسُ بالآخرين تكون قابليات كماله مائة في المائة. مَن دونه في قريته، مَن دونه في قِطره، من دونه في في أمّته؛ كلّهم أدنى منه في قابلياتهم واستعداداتهم. كلٌّ من أولئك يستبصر هدفه، يعرف هدفه، ويعرف الطريق إلى الهدف. كلُّ واحدٍ من أولئك هو أكبر بكثيرٍ من هذا العظيم في قابلياته.
مَن يُحدِّدُ الهدف؟
أنا أحدِّدُ هدفي؟
هل الخيار مفتوح على اختيار الهدف؟
من ناحية إرادية -بغضّ النظر عن الموقف الإرادي أنّه موقفٌ خطأ أو موقفٌ صحيح، اتجهت الإرادة اتجاهاً مصيباً أو اتجاهاً مخطئاً، أنا أملكُ تحديدَ هدفي-، فلْيَكُن هدف الحياة شيئاً معيّناً، ولـ أختَرْ هدفاً دون ذلك الهدف. هذا أستطيعه، وكلٌّ مِنّا يستطيع أن يتبنّى الهدف الذي يروق له وتشتهيه نفسُه، ويميل إليه هواه.
لكن أن أخلق لي هدفاً سليماً، أن أتبنّى هدفاً من خلقي، وبنحتٍ من إرادتي، ويكونُ الهدف المصيب، هذا ليس محلّ اختيار. الهدف المُصيب للحياة واحد غير متعدِّد ولا مُتكَثِّر، إمّا أن يُصيبه الإنسان أو يُخطئه، ثمَّ قد أُصيب الهدف فيأتي بحث آخر، وهو أن أصيب الطريق إلى الهدف أو أن أخطئ الطريق إلى الهدف، هذا شيء ثاني.
الكوْن كلّه هادف، ولا شيء يمتلك هدفاً سليماً وفي صالحه في اتجاهٍ غير اتجاه ربّه تبارك وتعالى، لأنّ غير الله باطل، والهدفُ القائم على الباطل باطل، والهدف الباطل يعني ضياعاً، يعني عدماً، يعني لا شيء، يعني صِفر، فلو أنَّ أيّ شيءٍ في الكوْن إتّجه في إتّجاه هدفٍ لا يلتقي مع الله، مع إرادة الله، مع التوجُّه إلى الله، مع الانشداد إلى الله عزَّ وجلّ؛ فهو هدفٌ خطأ وهدف خاسر.
الإنسانُ كأيّ شيءٍ في هذا الكوْن، لابُّد أن يكون له هدف، وإلا كانت حياته ضياعاً.
دَعُونَا نفترض أنّي أصبحتُ صباحي، ولم يتبيَّن لي هدفٌ من حياتي في لحظة يقظتي ولا طوال يومي. لم أعرف لنفسي هدف، وتَكرَّرَ هذا منّي لمدة سنة، وصرتُ أخرجُ من البيت -أنا أعرف أي طريق أسلُك، ولكنني لا أعرف الهدف- فصرتُ أمشي بلا حساب. هذا الشَهْر، وهذه السَنَة، لو استمرَّت سيرتي فيها على هذا المنوال، هل أخرج فيها بنتيجة؟ من الطبيعي لن أخرُج منها بنتيجة. كلُّ سيري ضياع، وكلُّ جُهدي ضياع، وكلُّ تصرُّفي ضياعٌ ما لم يتحدَّد لي الهدف، ولم يكُن هذا الهدف في الدرجة الثانية صحيحاً، أو اهتدَيتُ للهدف، والهدف الصحيح، ولكن لم أعرف الطريق!.
الإنسان يمكن أن تضيع حياتُه كُلُّها لو لم يتبيَّن له الهدف الصحيح، ولم يتبيّن له الطريق الصحيح لهذا الهدف.
الهدف هو الكمال..
عندي نَفْس، عندي ذات تحتاجُ إلى نقلة بعد نقلة بعد نقلة. مجموعُ هذه النقلات تَصِلُ بها إلى أعلى درجة من الكمال الذي يتناسب مع استعداداتها الإيجابية. هذا هو الهدف.
-نبتة لديك صغيرة، ترعاها يوميّاً، وتُدرك أنّ لها هدفاً تُريد أن تصل بها إليه.
هذا الذي يزرع اللوزة، أو يزرع نواة الرطب، أو أيّ شيء يزرعه. يسقيه، يسمده، يشذّب ، يُهذّب، يرعى الحالات الجويّة بالنسبة إليه، وما إلى ذلك، بهدف أن ينمو هذا بعد عشرين سنة النموّ الذي يجعله يعطي الثمرة المطلوبة-.
هذا أنت مع ما تغرس، هذا أنا مع ما أغرس. هذا أنا مع مَن ألِد، وأنت مع مَن تَلِد. -هذا أنا مع حيوان أشتريه صغيراً وأربيه، عندي هدف من تربيته، أُريد أن أبلغ به حدّ الكمال، وأعرف الطريق إلى كمال هذا الحيوان، وأنّه متى سيُعطي الثمرة من وجوده، لكنّي قد أجهل هدفي!..
أعرف هدفي من النبتة، من الولد، من الحيوان، من البيت الذي أبنيه، لكن أنسى هدفي من الحياة!-.
أنتَ يا عيسى ما هدفُك؟ هذا هدفُك مِن الحيوان الذي ترعاه، مِن الولد الذي ترعاه، مِن النبتة التي ترعاها، ما هو هدفُك من وجودك؟ من حياتك؟ من يومك؟ من يوْمَيْك؟ من ثلاثة أيّامك؟ من كلّ أيام حياتك؟.. قد لا أعرف! فأنا هُنا أُقَدِّر نفسي أكبر أو النبتة التي تحت رعايتي أكبر؟ أُقَدِّر نفسي أكبر أو الحيوان الذي أرعاه أكبر؟ تقديري للأشياء الأخرى التي لا أرضا لها إلا أن تكون هادفة على يدي، بينما أنا لا أرى لنفسي لزومَ الهادفيّة لذاتي! أنا أُحبُّ تلك الأشياء أكثر من حبّي لنفسي، أحبُّ لنفسي تلك الأشياء حيث أبلغُ بها غايتها -إذا قضية أنا سآكُل الحيوان، أنا أيضاً سؤؤكل من الحيوان، سؤؤكل من الحشرات والديدان وما إلى ذلك-.
أعزّائي..
إذا سألنا أنفسنا، ما هو الطريق لمجاهدة النفس؟
أوّل شيء أنْ أتبيَّن الهدف من حياتي ليكون هو دليلي، وبوصلة الاتجاه الذي أتجّهه، والحاكم على عملي، على كلّ عملٍ من أعمالي، على مواقف السلب والإيجاب في حياتي، صداقاتي، علاقاتي، كلّ أموري أقيسها إلى هذا الهدف. إذا كان هذا الهدف غلطاً كلّ شيءٍ منه سيأتي غلطاً. إذا كان هذا الهدف ساقطاً كلّ النشاط الذي سأبذله وكلّ الجهد وكل الإمكانات ستكون ساقطة القيمة وتافهةً جدّاً.
فأوّل نقطة هي تحديد الهدف.
تحديد الهدف ليس بمعنى أن أضع يدي على أيّ هدف، وأقول اخترتُ هذا الهدف، لا، وإنما أدرسُ ما هو الهدف الذي يتعيَّنُ لي. مُتعيّنُ الهدف يأتي وراءه أسئلة: أنا مملوكٌ أو مالك؟ حياتي هي الحياة الدنيوية أو حياتي ستمتدّ للآخرة؟ ما قيمة جزاء الدنيا وما قيمة جزاء الآخرة؟ هل لي قدرة تُغالب قدرة الله عزَّ وجلّ أم ليس لي قدرة تُغالب قدرة الله عزَّ وجلّ؟ ما هو أهون ضرراً عليّ، غضبة المَلِك أو غضبة الله؟ غضبة أبي أو غضبة الله؟ غضبة ذلك الإنسان التقيّ الورع الفقيه الكبير الذي نظر لي نظرةً ليس فيها ظلمٌ ولكن فيها انخداع، وأعرف من نفسي بالضبط تماماً تماماً في هذا العمل الذي قمتُ به أنّه لوجه الله عزَّ وجلّ، وأنّي راجعتُ فيه دين الله المراجعة الشرعية المطلوبة منّي فوجدتُ منه هذا الموقف. لتصوُّر خاطئ عند أكبر شخصية إيمانية وعلمية أنّي أنا أخطئتُ كما ظَنَّ موسى “عليه السلام” في الخضر يومَ أنْ ثقبَ السفينة، يومَ أن قتل الغلام، لكن الخضر وهو يُكبر موسى “عليه السلام” أيّ إكبار، ويعرف قدره، هل كانت تهزُّه كلمة موسى “عليه السلام”؟ لا لم تكُن، لأنّه لا يرى ضرراً يلحق به كما هو الضرر الذي يلحق به بإغضاب الله عزَّ وجلّ ولو رضيَ عنه كلّ المخلوقين.
أقول الهدف يعني أنْ تتقدَّمه هذه الأسئلة.
إذا كان هذا الهدف يخرُج بي عن طاعة الله. إذا كان هذا الهدف يُرضي عنّي كلّ المخلوقين ويُغضِب الله عزَّ وجلّ، أغنى به غنى الدنيا وأفتقر به فقر الآخرة، أسعد به سعادة الدنيا وأشقى به شقاء الآخرة، أحترق به بنار جهنّم، أسكُن هنا في القصور، وأتوفَّر على أكبر اللذّات، وأعظم الشهرة، ولكن أتعذّب به في الآخرة. هل أتّخذه هدفاً في ظلّ هذا الواقع؟ من الطبيعي لا.. فأقيس هدفي من الحياة إلى مدى موافقته مع طاعة الله، تمشّيه مع إرادة الله، خضوعي به إلى مالكيّة الله عزَّ وجلّ. الذي يحدِّد لي الهدف هو الله تبارك وتعالى.
عندما نقول اِختَر الهدف الصحيح، فالهدف الصحيح لا يمكن أن يأتي خارج نطاق مرضاة الله، طاعة الله، التعلُّق بالله عزَّ وجلّ، الثقة بالله. اختيار ما يختار، أنْ يختار العبدُ ما يختار الربّ تبارك وتعالى.
هذه الخطوة الأولى الرئيسة المحوريّة لتهذيب النفس، لتربية النفس، لمجاهدة النفس.
مجاهدة النفس تأتي في ظلّ تحديد ومعرفة هذا الهدف.
أنا أريدُ رضوان الله، هدفي رضوان الله، أنْ أُرضي الربّ وإنْ أغضبتُ العبد، أنْ أرضى عن الربّ، إذا وصلتُ إلى هذا وصلتُ إلى كلّ خير، وتوفّرت على الطمأنينة الكاملة، ولم تهزّ نفسي عواصف الحياة كلّها.
لكن بقي شيء؛ وهو أنْ أعرف الطريق إلى رضوان الله، والطريقُ إلى رضوان الله يسبقه التعرُّف على كمال الله، وعلى جلال الله، وجمال الله تبارك وتعالى، على تنزيه الله عز وجل عن كلّ نقْص، فلا أُصَدِّق بكلمةٍ تأتي عن أيّ شريف، وأيّ عالم، وأيّ مُدعٍّ للنبوة وهي تتهم الله عزَّ وجلّ بشيءٍ من النقص. شريعة فيها ظلم بَيِّن -معروف أنّه ظلم- لا يمكن أن أتخذ منها طريقاً إلى الله عزَّ وجلّ. مُسَيْلَمَة الكذّاب لو جاء بمليون حقّ ومعه باطل واحد، لا يمكن أن أصدّق بأنّه طريقٌ إلى الله عزَّ وجلّ.
فالطريق إلى الله نعرفُه طريق إلى الله برضوان الله عزَّ وجلّ. الطريق الذي يوصل إلى الله هو طريقٌ لابُّد أن يكون مُتَنَزِّلاً عن الله عزَّ وجلّ، جاء من عند الله. الطريقُ للوصول إلى رضوان الله لابُّد يكون طريقاً جاء من عند الله عزَّ وجلّ. فعَلَيَّ أن أضمن على مستوى عقلي، وعلى مستوى فطرتي؛ أنّ هذا الطريق من عند الله. متى أضمن هذا؟ طبعاً بأن يأتي هذا الطريق عن إرسال رسول وتقوم البيّنات على أنّه رسول، وتُثبت المعجزة أنّه رسول.
إنَّ الطريق لتهذيب النفس هو الإسلام العظيم.
فهناك أمران في المقدمة:
• أنْ أتبنى الهدف الذي أعلم بأنّ فيه مرضاة الله.
• وأنْ أبحث عن الطريق الذي أعلم تماماً ويقيناً بأنّه طريقٌ من الله.
-هذا يبقى المقياس-.
نأتي إلى النفس التي أريدُ أن أُربيها. أنْ أسلُك بها السلوك إلى الله، أنْ أتحوَّل بها من كلّ حيثيّة نقصٍ تُغضِب الله عزَّ وجلّ، أستطيع أنْ أتخلَّص منها فيُوجب الله عز وجل عليّ أن أتخلّص منها، فلو بقيَت لأغضبت الله عزَّ وجلّ. مَكّنْتُكَ من أن تُصلِح نفسك، أعطيتُك القدرة على إصلاح نفسك ولم تُصلِحها، فتأتي المحاسبة.
هذه النفس لابُّد أن أدرسها الدراسة الدقيقة -كما سَبَق- التامّة الموضوعية وكأنّها ليست نفسي، بلا أيّ محاباة، وهذا لنجاتها. هذا لنجاة ذاتي ولفوْز ذاتي. ولن أكون مُحبّاً لذاتي حتى أدخُل في الدراسة الدقيقة لنفسي لأتعرّف على كلّ عيوبها ونواقصها.
ما هو مقياسي في أن أقول لنفسي فيكِ هذا العيْب؟
أنا أريد أن أقف على عيوب نفسي. مَن الذي يُحدِّد أنّ نفسي معيبة؟ أنا؟.. أنا عليَّ أن أكتشف في الحقيقة، وأحتاجُ إلى كاشف يكشف لي عن واقع نفسي، وأنّها في هذا الموقف، في هذه الكلمة، في هذه النيّة، في هذه العلاقة، في هذا التَرْك، في هذا الفعل. أنت إصابة أو خطأ؟ هي دنيوية أو أخروية؟ هي إلهية أو شيطانية في هذا الموقف؟ هذا كيف أتعرّف عليه؟ قبل ذلك لابُّد أن أتعرّف على الإسلام، أتعرّف على ما يُصحِّحه الإسلام وما يُبطله الإسلام، ما يرضا به وما لا يرضا به، أحتاج إلى علم، وعلى ضوء علمي بالإسلام وبكمال الله عزَّ وجلّ أحاسب، وأستكشفُ نفسي، هذا موافق لمرضاة الله، هذا موافق لشريعة الله، هذا الموقف فيكِ يا نفس، هذه الخاطرة، هذه النيّة، هذه النظرة إلى هذه المرأة أو تلك المرأة، هذه الكلمة التي ظاهرها حسن أو ظاهرها قبيح هل هي ممّا ترضى به الشريعة أو ممّا ترفضه الشريعة؟ لابُّد أن أعرف الشريعة حتى أُقايس مواقف النفس السلبية والإيجابية، وكلّ علاقاتها، وكلّ طرقاتها وأفعالها على ضوء ما أعرفه من الصحيح والخطأ في نظر شريعة الله تبارك وتعالى.
هذا هو المدخل إلى مجاهدة النفس، معرفة الهدف من الحياة في ضوء كمال الله وخالقيّة الله ومالكية الله لنا تبارك وتعالى، وكمال الله وجلاله وجماله، ومعرفة شريعته، ودراسة النفس في مختلف أحوالها على ضوء ما نعرفه من كمال الله عز وجل ومن كمال دينه.
أمران تُراقبان في النفس:
هل هي قامت بالواجب الذي أوجبه الله؟ هل هي منتهيةٌ عن المعصية التي نهى الله عنها؟
قد تنجح النفس في ترك المعاصي، ولكنّها تُقصِّر في الواجبات، وقد تقوم النفس بالواجبات ولكنها ترتكب مع ذلك المعاصي.
فأنا وقفتُ على نفسي بالتتبُّع، في يوم واحد مثلاً صرتُ أتتبّع نفسي من الصباح إلى المساء، وأنا أطالعها، كلّي التفات إليها، في كلّ ما يحدث منها في الأربعة وعشرين ساعة، قد أجدُ منها التزاماً بالصلاة، قد أجدُ تباطئاً عن أدائها، قد أجدُ من نفسي غيبة، قد أجدُ من نفسي عفةً عن النيل من أعراض الناس، إلى آخره. يحسب ويحسب، يحسب.. في فكره يحفظ هذا، أو في دفتر مثلاً يكتب كذا وكذا، فهنا كما أنّ معلوماته عن نفسه قد تُعطيه أنّه مرتكبٌ للمعاصي وأنّه قائم بالواجبات، أو أنّه مقصّر في الواجبات، أو أنّه مرتكبٌ للمعاصي مُؤدٍ للواجبات، فعليه أن يقوم بوظيفتين في مواجهة النفس:
أن يستنهض عوامل الذات الإيجابية المشجعة على الطاعة -وهي موجودة وكثيرة-، وهنا مُجاهدة من ناحية العجز عن حمل ثقل الواجب، وهذا يعينه عليه أن يفكر في جميل الله عليه، في مالكيّة الله له، في اطّلاع الله على كلّ غائبةٍ فيه، على كلّ علنٍ وسرٍّ من علنه وأسراره، على أنّه لن ينفعه أحدٌ على الإطلاق أمام غضبة الله عزَّ وجلّ، ولن يشفع له شافعٌ إلا بإذنه تبارك وتعالى، وأنه ملكٌ له لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً من دون إذن الله تبارك وتعالى. أنْ يوقف النفس ويُنزّل عليها هذه الأفكار البديهية في عقيدته ويُمليها عليها، يقول لها قومي قومي تحرّكي تحمّلي ثقل القيام للصلاة، الصوم، وما إلى ذلك. أنْ يدخل معها في التدريس، وفي معاتبة، في لوْم، تقريع، توبيخ، تذكير بالمصير، وحَشْد من الدروس الفكرية والمواعظ النفسية، وفلان الذي لا يصوم ولا يصلي، الذي كان قد أهمل الصلاة، ها هو اليوم قد مات، ما مصيره يا نفس؟ ويدخل معها في حساب طويل.
مَن تعصين يا نفس؟ تتأدبين أمام طفلُكِ إذا كان مُمَيِّزاً، هذا يزني أمام طفلة؟ لا يزني. أمام أناس شرفاء ينكرون كلّ الإنكار الغيبة، يفرض عليهم نفسه، يأخذ من وقتهم خمس دقائق ليغتاب الناس؟، يستحي، يستحي حتّى من حُضّار أمامه، يا نفس تستحين من خلق الله ولا تستحين الله؟ تهابين خلق الله ولا تهابين الله؟ أنتِ يا نفس في مجلسٍ من مجالس الملوك، في مجلسٍ من مجالس الوجهاء، تُخلِّين بالأدب الذي يرونه هم؟ لا تُخلِّين..
فمطلوب حتى نكتشف عيوبنا، مطلوب مراقبة النفس، وهناك إتجاهان في المراقبة:
• مراقبة المُحاسِب.
• ومراقبة المُحاسَب.
عليَّ أن أراقب المُحاسِب، والمُحاسِب هو الله عزَّ وجلّ، أراقبه كيف؟ أن أستحضر دائماً أنّه عالمٌ بي في لحظتي هذه وفي كلّ لحظة، في أيّ ممارسة لي هو عالمٌ بي، قادرٌ على الأخذ بي، نَفَسَي بيده، كلّ خيري بيده، كلّ شرّي بيده، لو أراد أن يُنزل عليّ العقوبة هذه اللحظة قبل الآخرة وقبل مضي خمس دقائق لأنزل عليّ عقوبته.
أنْ تُراقب قدرة الله، تُراقب حقّ الله، تراقب علم الله، تراقب جلال الله، تراقب جمال الله، تراقب مالكية الله. هذه مراقبة للمُحاسِب الذي سيحاسبك المطلّع عليك.
وتُراقب المُحاسَب وهي النفس. يا نفسُ أنتِ ترتكبين القبيح، يُراقبها هل تأتي قبيحاً أو حسناً، تأتي بصدقٍ أو بكذب، تتخلّق بالأخلاق التي ترضي الله أو التي تغضب الله، هذا محلّ المراقبة لنفسي.
أنت قد تهتمُّ في يومٍ من الأيام بمراقبة ولدك -تقول أنا مهمل لولدي كثيراً ومقصّر في حقه، اليوم يتحمل التوجيه، وسيفيد معه التوجيه، غداً لا ينفع معه التوجيه عندما تتركّز فيه العادات السيئة وما إلى ذلك-، فتراقب ولدك، لكن ليست مراقبة عدو لعدوّه، مراقبة حبيب لحبيبه، من أجل إنقاذه ولتصحيح مساره، من أجل حاضره ومستقبله، فتراقبه وتُحصي عليه وتقدّم له دفترك في آخر النهار وتذكر له ماذا فَعَل. من الممكن أن تُسجِّل عليه الكثير، ومن الممكن أن تُسجِّل عليه القليل. الولد عزيز، وحبيب، وقطعة من الكبد، وصلاحُه يُفرح الأب ويُسرّه ويُنعش نفسية الأب، وفساده يُسيء إلى الأب ويؤلمه، ولكن نفسُك تبقى أعزّ عليك، يبقى صلاح نفسك طبعا فيه ربحك الأكبر، فساد نفسي فيه خسارتي الأكبر. فجيعةٌ لي كلّ الفجيعة أن يفسُد ولدي، ولكن فجيعتي في فساد نفسي أكبر، وفرحي بصلاح ولدي كبير ومفخرة لي في داخلي، وأحمد الله على ذلك وأراه نعمةً كبرى عليّ، ولكن لا أدري، هذا الخير العظيم الذي يفرح به الإنسان، لو كان له نفسه أيفرح أكثر أم لا؟ يفرحُ أكثربصلاح النفس.
أخذنا مثال مراقبة الولد، وهذه المراقبة من باب العَطْف والرحمة والشفقة والعناية وأداء الواجب. ألا تستحقُّ نفسي منّي هذا؟ إذا كان ولدي يستحقُّ منّي هذا، نفسي أليست أحقُّ بهذا منّي؟ وأن أستوقفها وأراقبها؟
وهذه ليست وظيفة يوم. هذه وظيفة عمر. كونها متعبة لأنّها وظيفة عمر. ويمكن أن أستحي لو راقبتُ نفسي أسبوعاً واحداً المراقبة الدقيقة، وسجّلتُ فعلاً وإنْ كنتُ حسن الظن بنفسي إلى درجة مبالغاً فيها، حين أقف على النتيجة بعد أسبوع أستحي من نفسي، أكتشف أنّني مليءٌ بالعيوب. مليءٌ بالعيوب يا عيسى وترى نفسك مَلَكاً؟
ويُمكن هذا أن يكون سبباً للرجوع إلى الطريق الصحيح، وأقوى على نفسي وأخطاءها.
بدأنا من الهدف، وتحديده تماماً، واتخاذه مقياساً، وهو ما يُتخذ في ضوء كمال الله عزَّ وجلّ، وكمال شريعته، والطريق إلى الالتزام بهذا الهدف والتجاوب مع هذا الهدف وهو بمعرفة شريعة الله، والصواب والخطأ.
هذا عرفناه. وجئنا إلى أن نقيس النفس المسؤولين عنها على ضوء الهدف والطريق الذي تبيّناه مما يوصل إلى الهدف. هذه النفس نُراقبها. نُحاول أن نستكشف كوامنها وما تُحاول أن تُخفيه عنّا، بلى النفس تحاول أن تُخادع حتى صاحبها، فيُحسن الظن فيها في موارد ليس له أن يُحسن الظن فيها. هنا تأتي المراقبة والمراقبة الصحيحة الدائمة الدقيقة العلميّة التي لا ظلم فيها للنفس ولا ميلاً لها.
والحمدُ لله ربِّ العالمين.