كلمة آية الله قاسم في المجلس القرآني 12 رمضان 1443هـ
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في المجلس القرآني الذي عُقد في منزل سماحته بقم المقدسة ليلة الجمعة وسط حضور المؤمنين – 12 رمضان 1443هـ / 14 أبريل 2022مـ:
*فيديو الكلمة:
*صوت الكلمة:
*نص الكلمة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أُخواني الكرام.
مسّاكم الله بالخير.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين.
الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين.
وقفةٌ عند كلماتٍ نيِّرات من كلمة حكيم الإسلام الأوّل بعد رسول الله “صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”، في موضوع النفس وجهادها.
إذا كان الهدفُ أنْ نُجاهد النفس من أجل أن نُصلحها، وأن نبلغ بها المبلغ الذي يرضاه الله عزَّ وجلّ، وأنْ نستقيم بها على طريق جنّة الخُلد، وأنْ نبحث لها عن الراحة في الدنيا -الراحة الداخلية-، الطمأنينة في الدنيا والطمأنينة في الآخرة، والنفس موضوعٌ شائكٌ غامض، لا سبيل لمعرفته إلا بالإستعانة بدين الله عزَّ وجلّ واللجأ إلى توفيقه.
والنفسُ لا يُمكن أن نُصلحها بلا معرفتها.
أبسط موضوع في الحياة الدنيا حتّى تتعامل معه التعامل السليم، وحتّى تستفيد منه لابّد لك من معرفته، وكلّ الدنيا في تقدّمها في أيّ جهةٍ من الجهات تتخذُ العلم بالأشياء مقدمةً لإصلاحها.
سَبَق أنّ تعاملنا مع التراب، مع معادن الأرض، مع مخلوقاتها، مع كلّ ما فيها، حتّى يكون التعامل السديد والنافع لابّد لنا في ذلك من التعرّف الدقيق على الأشياء، ولا إتقان للعمل إلا بمقدّمة إتقان العلم بما نتعامل معه.
أمير المؤمنين “عليه السلام” يلتفتُ إلى هذا كلّ الالتفات، وليس أولى منه بالالتفات إلى ما هو الصحيح بعد رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”.
من كلماته في هذا المجال: (أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه).
من المُهّم أن تتعرّف على بيئتك الماديّة والمعنوية، حتى تنجح في التعامل مع هذه البيئة، وإلا كنت الغريب عليها وهي الغريبة عليك، وجهلت التعامل معها التعامل الصحيح.
ما من أكلٍ، ما من شرب، ما من دواء، ما من شيءٍ نحتاجه في هذه الحياة، ونحتاج إلى التعامل معه، إلا وكان لابد لنا من التعرّف على دقائق وجوده، على تركيبته، على آثاره، منافعه، مضارّه، إلى آخره.
لكن لماذا تكون المعرفة بالنفس أفضل معرفة؟
لأنّك لو عرفتَ كلّ أشياء الحياة، كلّ ما حولك من هذا الكون، وبلغت معرفتك بهذه الأشياء بالغ الدقّة، أنتَ أنا لو عرفنا هذه الأشياء وكان أحدنا جاهلاً بنفسه، لكانت معرفته بغيره، ولا شكّ أن معرفتنا بالغير أقلُّ قيمةً من معرفتنا بالنفس، وأنّ فساد النفس أكبر ضرراً علينا من فساد الشيء الآخر.
تتعرّف على فساد مطعمك أو صلاحه مهمٌّ جدّاً لصحتك البدنية، ولكن تبقى صحة البدن على أهميتها دون صحة أصل النفس وأصل الذات، وقد سَبَق القول والبيان بأنّ نفس الإنسان هي هو، حينما نقول نفسُ الإنسان أي الإنسان، وما الإنسان إلاّ نفسه. فجهلي بنفسي يعني جهلي بذاتي، جهلي بكينونتي، جهلي بما هو تركيبي.
معرفتي بنفسي ماذا تعني؟
كلٌّ مِنّا أصْلٌ ومُكتسَب.
أصلُنا فطرتنا بما فيها من استعدادٍ للخير واستعدادٍ للشرّ. أصل كينونتنا، كنهنا هذا العقل، وراءه هذه الروح التي تعني العقل وتعني القلب وتعني الإرادة وتعني كلّ شيءٍ نابضٍ بالحياة المعنوية في وجودنا.
أنا أجهل هذا الكمّ كلّه. أجهل فطرتي، أجهل كينونتي، تركيبي الأصل، .فأصل الروح من نفسي.
يعني أنا فيَّ روح، وأجهل أنّي فيّ روحٌ تمتاز عن روح الحيوان، تمتاز عن الروح الناميّة المتحركة على المستوى المادي. للحشرات روح، للحيوان روح، للنبات روح، لي روحٌ. حين أجهل الفارق بين روحي وبين روح الحشرات، بين روح النبات، بين روح أيّ حيوان؛ كنتُ قد جهلت نفسي، فيأتي منّي إذن أن أتعامل مع نفسي تعاملي مع الحشرة، أتعامل مع نفسي تعاملي مع الحيوان الهابط القدر.
للحيوان مستواه ووظائفه، مستوى الحيوان يُركَب ويُستغلّ ويُقاد ولا يملك إرادة تُقرِّر مصيره.
أنا عندما أكون الحيوان، لمّا أرى نفسي وكينونتي هي كينونة الحيوان فسأقبل تماماً أن أكون حيواناً. ماذا هي أماني الحيوان هي أمانيّ، ماذا يُثير الحيوان يُثيرني، ماذا يُرضي الحيوان يُرضيني، كما يُقاد الحيوان أُقاد، كما يُستخدم أُستخدم. هذا إذا فقدت معرفتي بنفسي. أنا أعرف كلّ شيء، أعرف الذرّة، أعرف معرفة بعيدة وكبيرة وغزيرة في الكيماويات، أعرف التغذية وما ينفع منه وما يضرّ، أعرف السياسة بدقّة، فلتفرض فيّ ذلك كلّه، أو فلأفرض فيك ذلك كلّه، لكن مع ذلك حين أكون قد جهلتُ نفسي ولا أعرفها، طبعاً لن أعطي لنفسي قيمتها، لن أعرف لها هدفها، لن أبلغ بها مبلغها، لن أرقى بها في الشعور على مستوى إحساس الحيوان بذاته، ولذلك يقول أمير المؤمنين “عليه السلام”: (أفضل المعرفة معرفة الإنسان نفسه).
فإذا اهتممتَ -وكُلّنا هَمٌّ بهذا- بمعرفة الأشياء من حولك -ولَكَثيراً ما نهتمُّ بمعرفة الأشياء، وحتّى الأمور الفضولية التي لا تنفعنا-، فعلينا أن نُعيد التفكير، ونمتلك التفكير الدقيق في أن نُعطي الاهتمام الأوّل في طلب المعرفة بمعرفة أنفسنا -معرفة الإنسان بما هو إنسان، ومعرفة ذاتي بما أنّي ذاتٌ مستقلّة لها مصيرها، لها حاضرها، الذي له خصوصياته-.
يقول “عليه السلام” في الكلمات المنقولة عنه: (أفضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره).
وتقدَّم القول بأنّ النفس أصلٌ ومكتسب. الأصل الفطرة، الروح، بما تعني الروح من كنزٍ كبير ،ومن قابلياتٍ عظمى، ومن مستوىً مؤهّل إلى أن يتحوّل هذا الإنسان إلى كتلة اشعاع، وإلى شعورٍ غامرٍ بالقوّة وبالثقة وبالطمأنينة وبالجمال.
الروح تُعطي الإنسان هذا الاستعداد كلّه. هذا جانبٌ مهمٌّ جداً.
لكن هناك مكتسبات. ماذا فعلتُ بنفسي؟
تطوّرتُ بالنفس على هذا الخط، على خط الروح المهديّة الموهوبة من الله أم خالفتها كثيراً؟
كلّ مكسب إيجابي أو سلبي في مواقفي العمليّة والشعورية وما إلى ذلك، يترك أثره الإيجابي أو السلبي في ذاتي، فيأتي أحدُنا بقابليةٍ كبرى في هذه الحياة من موهبة الله عزَّ وجلّ؛ ذكاءً، صفاءً، وراثةً، خَلْقةً، وكما هو ذلك في الروح هو في البدن أيضاً. نأتي بأبدان مختلفة، قابليات مختلفة، تربية أهلنا لنا، وتربيتنا لأنفسنا قد تُعطي زيادة ونموّاً واشتداداً في قابليات الخير، في استعدادات السموّ، وقد تهبط. وكما عليَّ أن أدرس ذاتي في أصلها، عليَّ أن أدرس ذاتي فيما صارت إليه من خلال تربيتي، المسؤولين عن تربيتي لي، عن البيئة التي ربّتني، آثار تربيتي لنفسي واستجابتي لهذا النوع من التربية أو لذلك النوع من التربية، فالعين الفاحصة والمُدقِّقة عينُ العقل والتفكير؛ عليها أن تتوجه لهاتين الجهتين معاً، جهة أصل الذات وما حَدَث لها من تغيُّر، ومن جهة المُكتسب، وما حصّلتُه بإرادتي وبمواقفي الإرادية من إيجابٍ وسلب، ينضاف كلٌّ منهما إلى الذات ويؤثر عليها.
أفضل الحكمة أن لا أبحث عن الرياضيات، -والبحثُ عن الرياضيات مُهمّ-. أن لا أبحث عن أمورٍ مهمّةٍ جدّاً على أهميتها الكبيرة. أفضلُ الحكمة أن أبدأ بدراسة ذاتي، والتعرُّف على ذاتي لما سَبَق بأنّ معرفة الغير تأتي في الدرجة الثانوية من ناحية النفع والضرر بالنسبة لمعرفة الذات، والخسارة التي تحلُّ بالذات لا توازيها خسارة، والربحُ الذي تناله الذات لا يوازيه ربحٌ آخر. فلذلك يكون (أفضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه)، -ليس معرفتي نفسي يعني عيسى أحمد قاسم، من البحرين من الدراز من الحيّ الفلاني، أصدقاءه فلان وفلان، هذه معرفة سطحية. معرفة كُنه الذات، واقع الذات، ما في هذه الذات من سلبٍ وإيجاب-.
(غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه)..
غاية الشيء قِمَّته، أعلاه.
المعرفة درجات تتفاوت في أهميّتها. هناك معرفة لا تكاد تنفع، ومعرفة بالغة النفع، ولكن أيّ معرفةٍ أكبر؟ وهي الغاية التي تنتهي إليها معرفة أشياء الحياة، ما في الأرض وما في السماء من دون الله تبارك وتعالى؛ هي معرفة النفس.
طبعاً معرفتك لولدك مهمة، لزوجك مهمة، لصديقك مهمة، إلى آخره، لكن غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.
تأتي هذه الكلمة منه “عليه السلام”: (مَن عرف نفسه عرف ربّه).
إذا عرفتُ الأرض سأعرفُ ربّي، إذا عرفتُ أشياء السماء سأعرف ربّي، إذا عرفتُ حبّة الرمل سأعرف ربّي، إذا عرفت تكوين الحشرة سأعرف ربّي، وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنّه واحد، لكن لا معرفة ترقى بك إلى معرفة ربّك تبارك وتعالى كمعرفتك بنفسك.
عَالَم كبير غامض مليء بالأسرار، بالآيات، ونفسك أقرب ، وهي الشيء الذي لا تستطيع أن تُنكره، هناك نظرة سفسطائية تجعل صاحبها يُنكر كلّ شيءٍ حوله. هذه شمس يقول لك أنا أرى صورة الشمس، أمّا هناك شمس حقيقة أو لا؟ لا أُسلِّم، لا أجزم. شَكّاك. يشكّون في كلّ شيء، ليس واحد زائد واحد يساوي إثنين، لا. شمس!.
أجهل الجهل أن يُنكر وجود نفسه، وإذا أنكر وجود الشمس، وكنتُ أملك أنْ اُسلِّط عليه الشمس تماماً وأحرقه بها، فسيضطر إلى الاعتراف.
إذا أنكر وجوده وضربته ضربةً مؤلمة شديدة سيصرخ، ويذهب إلى المحكمة. فقل له أنت غير موجود فلم أضربك لأنك لاتقر بوجودك.
على كل حال ليس أقرب لذات الإنسان من ذاته، فإذا جَهِل ذاته كان أقرب إلى جَهْل أيّ شيءٍ آخر. إذا أنكر ذاته كان أسهل عليه أن يُنكر أي شيءٍ آخر، فلا يعترف بشيءٍ من خلق الله كلّه.
(مَن عرف نفسه عرف ربّه)..
أنا موجود، وإذا كنتُ سليم العقل فوجودي يتناقض مع عدمي، لا أستطيع أن أقول أنا موجودٌ وأنا معدوم. يتناقض أن أكون موجوداً مع أن أكون عدماً. فتأتي بديهيّة جدّاً: العدمُ لا يُوجِد العدم. العدم لا يملك أن يُوجِد نفسه فضلاً عن أن يوجد غيره، فلابُّد من مُوجِدٍ موجود. هذا الموجود الذي أوجدني مثلي من الممكنات؟ حكمه حكمي؟ إذا كان مثلي ممكنٌ من الممكنات حتّى لو فاقني في درجة القوّة وما إلى ذلك، لكنّه ممكن، يعني أيّ شيءٍ عنده ليس من عنده، أي شيءٍ عنده ليس عنده، يصلح لك أن تقول الذي عندي ليس عندي، لحظة حياتي هذه ليست عندي، لأنّها تُعطى لي، هي بيد غيري، بصري بيد غيري، إلى آخره.
من عرف نفسه لابد أن يعرف ربّه تبارك وتعالى، يعرفه وجوداً حيّاً، قادراً، مالكاً غير مملوك، مريداً، قيّوماً، وإلا لما كان موجد الموجودات والتي تكون به الموجودات. هذا ليس لوجوده سببٌ من خارجه حتى يفنى بفقد موجده، وحتى يفنى بإرادة مُوجِده، إرادة عدمه، هذا غنيٌّ بذاته لذاته تبارك وتعالى.
(مَن عرف نفسه جَلَّ أمره)..
هناك أقوى منه بدناً، أغنى منه مالاً، أنفذُ منه كلمة، يملكون أن يحزّوا رقبته بسهولة، هناك من لا يساوي أمام طوله وعرضه شيئاً، إلى آخره؛ لكنّه لا يستعير وزنه في نفسه من الأحجام والأوزان المادية، ولا يكتسب معنوياته من الآخرين، وتأتيه كلمة المدح من أكبر مخلوق، لكن يعرف أنّ هذه الكلمة ليست مَحلَّ رضا الخالق. أفضل مخلوق، إفرض -حاشا رسول الله صلّى الله عليه وآله- أن يقول كلمة ثناءٍ لعبد تبرُّعاً من عنده، إلا بمعرفةٍ من الله عزَّ وجلّ، لكن فرض المُحال ليس مُحالاً. فَرَضنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله مَدَح فلاناً لكنه ليس مدحاً صادراً من الله عزَّ وجلّ -فرض كاذب لكن على مستوى الفرض-، هذا الإنسان لا يغترُّ بكلمة رسول الله بما هو محمد بن عبدالله وليس بما هو رسول الله، لا يكتسب منها معنى، لا يكتسب معنىً إلا من كلمةٍ ترجع إلى الله عزَّ وجلّ، ولذلك عشرة آلاف، عشرون ألف يمتدحونه لا يهتمّ.
أبوذر، مئة ألف، مليون، يَسمع كلمة من أمير المؤمنين “عليه السلام” فيبكي، يسمع كلمة ثناء من أمير المؤمنين فيبكي، لأنّه يعلم أنّها كلمة صادرة عن رضا الله تبارك وتعالى.
مثلاً أنت الآن مررتَ على طفل، أنت فقيه كبير، سياسي كبير، مجاهد كبير -الذي تريده خُذه-، مررت على طفل فقال عنك “خوش رَجَّال”، “فلان عالِم”، يُحرّكك هذا الشيء -كلمة الطفل-؟ تملك وزناً في نفسك؟ إذا ملكت هذه الكلمة في نفسي فأنا صغير جدّاً صغير-.
كلمات العباد الذين لا يملكون شيئاً -كلمات الذمّ والمدح- في نَفْسٍ كنفس رسول الله “صلَّى الله عليه وآله”، أمير المؤمنين “عليه السلام”، في نفس تلميذٍ من تلامذتهم الصادقين، سلمان المحمدي، أبوذر، المقداد، مالك الأشتر، إلى آخره. هل تملك شيئاً؟
يشتم مالك الأشتر أو يهزأ به أو ما إلى ذلك، فيذهب ليُصلّي إليه، متأثراً لذاك المسكين.
فهنا( مَن عرف نفسه جَلَّ أمره).
كلمة من أكبر الملوك.
-أحدهم يقال له الضابط الفلاني مغتاظ منّك، أو يتكلّم عنك بكلمة سوء يموت. جُندي يرى عزّه من ضابطه، وقيمته ومعنوياته يأخذها من كلمة ضابط-.
-شايب مفلوت في بيته، بحّار، حمّالي وشاب، يقولون له اسمع عن بايدن وشهرته وملوكيته، يقولون له سمع عنك بايدن ويقول انت خوش رجّال، ، هذا يهزأ و يضحك
-لكن واحد حلمان أنّ العباس قايل فيه بأنّه زين، سيطير من الفرحة، هذا جَلَّ أمره أو ما جلَّ أمره؟ هزّته كلمة العباس بما هي كلمة يتوقع أن هذا الحلم صادق وما إلى ذلك؟-
فلكمة أمير المؤمنين “عليه السلام”: (مَن عرف نفسه جلَّ أمره).
ألا تريد الثقة بالنفس؟ تريد أن لا تهزّك كلمات الآخرين؟ لا تلهث وراء المدح والثناء؟ لا تجزع من قوْلة ظالم بذمِّك؟.. إعرف نفسك، تعرف نفسك بماذا؟ بأنّك الإنسان الذي أكرمه الله، الإنسان الذي يَجلُّ من قربه إلى الله، بتقرّبه إلى الله، بعبوديته إلى الله عزَّ وجلّ. إعرف نفسك هكذا.
-وإذا ضاق خِلْق ذاك المؤمن وكَثُر الكلام عليه ويش يسوي؟ ذهب يصلّي ركعتين، ذهب يقرأ قرآن، يغسل أدران النفس ويصلح معنوياته-.
هذه هي معرفة النفس. جهلها كيف؟
معرفة النفس ربحٌ. جَهْل النفس خسارة.
إذا كان ذاك أكبر ربح، فهذا أكبر الخسارة.
وجَهْل النفس ماذا يعني؟
قلنا مكتسبات، ومواهب الأصلية. الذات الأصل والذات المكتسبة. يعرف طاقاته، يعرف هدفه. الذات ماذا تعني؟ الذات الإنسانية جوهرة أو فَحْمَة؟ هادفة أو غير هادفة، هدفُها يساوي الدنيا أو لا يساوي شيئاً؟ هدفها يستأهل أن تسجد له الدنيا وأن تذوب أمام قيمته الدنيا أو لا قيمة له؟ هدفها يُباع بالقصور، يُباع بالثروات، يُباع بالجاه، يُباع بالسلطنة، بموقع ديني كبير إسمه ولاية الفقيه، يُباع بشيءٍ من هذا أو لا يباع بشيءٍ من هذا؟
تعرف نفسك يعني تعرف هذه الأشياء. -إذا لم تكتشف طاقات الطفل الذي عندنا الذي عنده خمس سنوات، يصّل عشر سنوات، خمسة عشر، وأبوه لم يكتشف منه قابلية متميزة، وبيئته لم تكتشف منه قابلية متميزة. هذا أرض خام خصبة جدّاً جدّاً، ذي ملكات وقابليات كبيرة، لكن في بيئة جاهلة، وبيت جاهل، وفي ظلّ حكومات مهملة ومُعادية، هل تتوقع منه عطاءً كبيراً؟ لا يُتوقع منه عطاءً كبيراً. يمكن بحّار شاطر أو ما يصير شاطر. تطلع منه كلمات ولكن ليست بمستوى كبير، يمكن يؤول أمره إلى زبّال. ماحد اكتشفه-.
-الواحد في قرية من قرى البحرين الصغيرة المُهمَلة التي كلّها ما تساوي شي في بعض الموازين الظالمة، الجاحفة. يشتغل في الخارج، يتّفق أن يعمل في الخارج فيكتشفه واحد غربي في مصنع، ينصحه أن يذهب إلى الغرب، بعدين إذا أراد الرجوع للبحرين، يقول له لا ترجع البحرين، ماذا تريد؟ انت كنز-.
فمعرفة الذات لنفسها، معرفة غيرها إلى نفسها ضروري جدّاً. فمعرفة الإنسان لنفسه في أصلها، في تكوينها، هدفها، وطاقاتها، ومواهبها.
أين الطريق؟ ما هو الهدف الصحيح؟ وما هو الطريق لهذا الهدف؟
أنا ضعيف، كنتُ بوزني هذا أو أكبر من هذا الوزن بمرّات ومرّات، بما أنا عليه من جهْل أو تغيّر جهلي إلى علم، إلى آخره، كلٌّ منّا ضعيف. رؤساؤنا، ملوكنا، كبراؤنا. كلنا ضعاف.
لابد أن أبحث عن قوّة ذاتية تحميني وتغنيني وأملكها وأملك القبضة عليها، ولا أحد يستطيع أن يسلبني إيّاها، لا أحد يستطيع أن يملك ذلك. لا عمري أمسكه، لا صحتي أمسكها، لا مالي، إلى آخره.
أين القوي؟
من معرفتي لصالح نفسي أن أعرف القويّ الأقوى، وأن أستمسك بالعروة الوثقى التي تربطني بأقوى قويّ.
مثلا: أنت في قرية، وكلهم فقراء. وهناك ثلاثة أغنياء. قرية مقطوعة عن غيرها. وأحد الأغنياء أكبر من الإثنين الآخرين، أغنى وأكرم وأصدق وأشفق، وأنت مضطر ترتبط بأحد الثلاثة، ترتبط بمن؟ عقلك يقول لك ارتبط بمن؟ طبعاً ترتبط بالأقوى، الأغنى، الأسخى، الأصدق، الأشفق. وإلا ارتباطك بذاك يُغضب عليك هذا مشكل-.
غَضَبُ الله لا يُقابله غضب، ورضاه لا يقابله رضا.
إعرف نفسك، اعرف ماذا تطلب، ماهو هدفك، ما يسعدك وما يشقيك، مَن يُسعدك مَن يُشقيك؟ بالارتباط بمن تكون الأقوى والأسعد والأبقى؟ هذا كلّه من معرفة النفس-.
أمير المؤمنين “عليه السلام” يُوصينا -كما هو القرآن الكريم، وكما هو رسول الله “صلَّى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين جميعاً- بمعرفة النفس.
خسِر إنسانٌ وهو على إنسانيته يَزِنُ نفسه في قدْره وهدفه وما يُرضيه وما يُغضبه ويستفزّه؛ بحيوانٍ بهيم، وتقوده قطعة حلوى كما يُقاد الخروف والتيس بقبضةٍ من الحشيش.
وَزْنُكَ إنسان. أنتَ إنسان، وبَلَغْت، ورَشُدتَ عن حساب الناس، -ثم تكون مثل إبن ثلاث سنوات، تقودك قطعة حلوى، وأقلّ من قطعة حلوى؟ خوش رجّال إنت، أحبُّك-. فعلى الإنسان أن يعرف نفسه.
من كلماته “عليه السلام”: (أعظم الجهْل جَهْل الإنسان نفسه)، وهذا يُقابله (أعظم المعرفة معرفة الإنسان نفسه)، (كفى بالمرء جهلاً أنْ يجهل الإنسان نفسه).
-فلان فيلسوف، بروفيسور، مخترع، آينشتاين، يقول له أمير المؤمنين “عليه السلام” قف: (كفى بالمرء جهلاً أنْ يجهل الإنسان نفسه)-.
-هذا اللي تمدحه كثيراً، يعرف نفسه أو لا؟ إذا لم يعرفها كفى به جهلاً، وهذا يُغطِّي كلّ علمه ويُذهب بقيمة كلّ علمه في المآل-.
أيضاً كلمة من كلماته “عليه السلام”: (مَن جَهِل نفسه أهملها).
-بيتك تحته كنز كبير جداً، يشتري لك ألف بيت وأكثر، وأنت تجهل بهذا الكنز، يفيدك شي؟ لا يفيدك.
أرضك خصبة كلّ الخصوبة، وأنت تتعارك على أرض بعيدة تريد أن تشتريها مع آخر يريد أن يشتريها، وهي قاحلة، (مَن جَهِل نفسه أهملها)-.
-مجرد نجهل قيمتها، وموقع الإنسانية، “ولقد كرَّمنا بني آدم”، قَدْرُنا عند الله عزَّ وجلّ هو أنْ أسجَدَ الملائكة لهذا الإنسان، لجانبه الروحي. إذا نجهل هذا؛ نُهمِل النفس، ولا نعطيها قيمتها-.
عنه “عليه السلام”: (لا تجهل نفسك، فإنّ الجاهل معرفةَ نفسه جاهلٌ بكلِّ شيء).
-يعرف، ، يعرف الذرّة هذا، يعرف كيماويات، يعرف كلّ شي. علمه بالأشياء الأخرى في حكْم الجهْل، ما دام يجهل نفسه فهي في حكم الجهْل، لأنّ كلّ هالعلوم مضيعة، ولا تُفيده يوم الحسرة، أو تقوده إلى النار لا تقوده إلى الجنة، كلّها معارف تقوده إلى النار في ظلّ الجهل بالنفس وقيمة النفس، لأنّ الجاهل بنفسه يقودها نحو الضلال والهلاك.
ويقولُ “عليه السلام”: (مَن لم يعرف نفسه بَعُدَ عن سبيل النجاة وخَبَطَ في الضلال والجهالات) برغْم العلوم الكثيرة التي عنده.
هَدَانا الله بهداه، وتَفَضَّل علينا برحمته، وأنقذنا من الانقياد إلى الشيطان الرجيم، وغَفَرَ الله لي ولكُم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.