كلمة آية الله قاسم في تأبين الشهيدين سليماني والمهندس

قال سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الحفل التأبيني الذي أقامته الجالية البحرانية في قم المقدسة بالذكرى الأولى لاستشهاد شهيدي الأمة الحاج قاسم سليماني والحاج أبي مهدي المهندس بأن جهادهما الرائع العظيم بما وراءه من حكمةٍ وبصيرةٍ وعمق نظرة وقدراتٍ متنوعة وصدقٍ واخلاصٍ للإسلام وجاذبيّة إيمانية وأخلاقية، أرعب دولة الغطرسة والغرور والطاغوتية الكبرى أمريكا، وصنيعتها ما تسمى بدولة إسرائيل، وقضّ مضاجعهما.

وأكد سماحته في الكلمة التي عرضت أمام الحفل مساء اليوم الخميس 24 ديسمبر 2020 بأن للأمة في شهداء المقاومة في الزمن المُعاش وقادتها العمالقة قدوة عظمى وعزّاً وفخراً كبيراً، مشدِّداً بأن من الحق عليها أن تتخذ منهم قدوات في التضحية والفداء وأن يحيوا فيها عشق الشهادة.

وعن ذكرى رحيل العلامة الكبير الجمري، وعيد الشهداء، قال سماحته بأن على البحرين أن تعرف حقّ سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري (رحمه الله) الذي أسّس حركة الاصلاح الجديدة فيها وضحّى ما ضحّى في سبيل ذلك، وأن تبقى على طريق شهدائها وكل شهداء الأمة في سبيل الله وفيّةً لإسلامها العظيم، لا يردُّها عن نصرته شيء، ولا تقبل أن تذلّ لظالم، ولا تقبل أن تدخل في ولاية كافر، ولا تسكت على ضياع حقٍّ لا يرضى الله بضياعه.

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الحفل التأبيني الذي أقامته الجالية البحرانية بقم المقدسة بالذكرى الأولى لاستشهاد الشهيدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس – 24 ديسمبر 2020م:

صوت الكلمة :

فيديو الكلمة:

https://youtu.be/oCB24OPLQ_w

 

نص الكلمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرى الشهيدين وفريضة الجهاد

السلام على الأمة المسلمة، أمة الإيمان والجهاد والشهادة.

أشد ما نستحضره ذكرى الشهيدين الحاج قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس اللذين استشهدا في سبيل الله على يد العدوان الأمريكي الصهيوني الغاشم في النفس هو نسيان أكثر حكومات الأمة لفريضة الجهاد والدفاع المقدّس في سبيل الله وحماية الإسلام وأرضه وإنسانه حتّى آل أمرُ عددٍ من هذه الحكومات إلى أن تضع يدها في يد العدوّ الأمريكي والصهيوني ضدّه وضدّ كلِّ من يناهض هذا العدوّ، ويدافع عن الإسلام وكيان وعزّ واستقلال هذه الأمة، وتبني القوة والجيوش لمحاربة الله ورسوله.

ولأمة الإسلام من إسلامها شأنٌ لا تشاركها فيه أمّة، ولا انحفاظ لقيمتها إلاّ به، وللإسلام قداسةٌ يستمدّ منها الإنسان القداسة، وحاكميةٌ لا حاكمية بحقٍّ إلاّ منها، وللبشرية افتقارٌ دائمٌ شامل لا يخرجها منه إلاّ الإسلام نفسه.

والإسلام على حقّانيته الجليَّة، وعلى ما له من براهين لا تُقَاوم، ومن منهجٍ قادر، وتجربة حيّةٍ ناجحةٍ شاهدة وتاريخ مجيد؛ لا تبقى له قداسة، ولا تقوم له حاكمية، ولا يرجع إليه في الانقاذ إذا ترك لأعدائه أن يحققوا مآربهم فيه ويطفئوا أنواره، ويقضوا على كلمته، ويهدموا أمّته.

إنّه إذا لم يكن دفاعٌ عن الإسلام، وحماية لفكره وحاكميته -وليس لفكره فقط- فطبيعة الأمور أن يكون غريباً ويفقد فاعليته، وللجهل به يستنكره حتّى أهله.

والعلاقة بين ذكرى الشهيدين كما تُطالع به المعاشرين لهما سيرتُهما الحيّة وعلى الأرض، والقارئين كذلك لهذه السيرة العطرة بالجهاد والدفاع عن الإسلام؛ هي علاقة وجود، ورؤيتهما أن ليس لحياتهما من قيمة إلاّ بما كانا يجسّدانه من الإسلام، وهي علاقة وجدانٍ وعقلٍ وقلبٍ وجارحة، علاقة عشقٍ لا يفتر، وفداءٍ لا زيف فيه.

وكلّ ما نقمته الصهيونية الخبيثة والسياسة الأمريكية الجاهلية الطاغوتية من هذين الرجليْن الربّانيين العظيمين؛ هو جهادهما المستميت المضحّي في سبيل الله، ودورهما القيادي المتميّزان فيه، وجاذبيتهما الإيمانية للشباب الغيارى وللأبطال ممن معهم، وتربيتهما الصالحة لعبادٍ كثيرٍ من عباد الله الصالحين، ولصدقهما في ما عاهدا الله عليه من الاستقامة على طريق ذات الشوكة ابتغاء رضوانه حتّى صارا بحقّ قدوةً كبرى في الاقدام والفداء في سبيله لهذا الجيل والأجيال من بعده.

صار الشهيدان مدرسةً حيّةً في الجهاد الحقّ الصِّدق المُجدّ، وملهميْن لحبّ الشهادة في سبيل الله لمن بعدهما من أجيال، لا يُذكرَان إلاّ وتُذكر ضرورة الجهاد وعظمته، وقيمةُ الشهادة وسمو مقام الشهيد.

وشأن الجهاد والشهادة في الإسلام عظيمٌ لشدّة ارتباط بقاء الإسلام بهما، وردّ العدوان عنه، وهدم الحواجز الطاغوتية المعترضة طريقه، والتي تحاول أن تصدّ عنه، وتحول بين الناس الذين لا هدى لهم بدونه وبين أنواره وهداياته، ولا يمكنُ لهم أن يجدوا الهداية، وتتحقق لهم هناءةُ الحياة ولا غايتها إلاّ به.

وقد أنزل الله الإسلام رحمةً بالعباد ليبقى، لأنّ غاية الحياة لا تنحفظ إلاّ بهدايته وقيادته ونفاذ كلمته وحاكميته، ولا بقاء للإسلام وحاكميته بلا مقاومةٍ ودفاعٍ وحبّ الشهادة.

شَدَّد الإسلام على واجب الجهاد والدفاع، وبمثل ذلك شدَّد على مواجهة الانحراف عن الإسلام في كل موردٍ من موارد مساحته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى ينحفظ الإسلام ويمتدّ ويقود حركة الحياة على الأرض.

ويأبى الإسلام لأمّته أن تهون وتذلّ أو أنْ يمسَّها الضعف، وألاّ تكون إلاّ القويّة التي تُهابُ ولا تَهاب، وتَغلبُ ولا تُغلَب، حتّى تأمن على إسلامها ومصالحها، وينفتح لها الطريق إلى هداية النّاس ونقلهم من الظلمات إلى النّور.

وحتّى تعزَّ الأمة المؤمنة ويعزَّ دينها؛ جاءت المُخاطبة القرآنية المباشرة الصريحة لها بأنْ قد أُوجب عليها القتال في المواقع التي يرضى الله بها، وذلك على ما في النفس الآدميّة بطبيعتها من كرهٍ لما يُعرِّضُ إليه من فقد الحياة الدنيا، وإن كان في هذا القتال خيرها في الواقع، ولو احتملت فيه ذلك أو ظنته ظنّا. (1).

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2).

إنّه لو كُشف لنا الغطاء لأحببنا كثيراً مما تكره النفس، ولكرهنا كثيراً مما تُحِب. والموقنون بالله حقّاً موقنون بأن الله لا يأمر عبده بشيءٍ إلاّ وهو خير للعبد، ولا ينهاه عن شيءٍ إلاّ وفي ما نهاه عنه شرّه. ولذلك لا يتخلّفون عن مأموره، ويفرّون عمّا نهى عنه. وبأمره يكون مكروه النفس عندهم محبوباً، ومحبوبها مكروها.

ولكون القتال في سبيل الله خيراً للعباد وإنْ كرهته النفس وطبيعتها.

فالقرآن الكريم لا يُعَذّر الناس بكرههم الطبيعي للقتال وإن كان الآمر به هو الله سبحانه، فهو يقول: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (3).

إنّه التهديد الصادق من الله عزَّ وجلّ بحرّ جهنم لمن ثبّط عن الجهاد ولمن قصّر في أمر الجهاد.

وهنا سؤال، وكيف لا يُعذر عن القتال من كانت نفسه مطبوعةً أساساً على كرهه؟! ذلك لأن الإيمان بالله وعلمه المطلق وحكمته ورحمته بعباده يُسقِط قيمة هذا الكره الأولي، ولا ينبغي أن تكون له مانعيّةٌ من الأخذ بما أمر الله به.

وللنفس البشريّة هواجسها الضاغطة التي تُجَبِّن عن القتال وتثقّل أمره عندها، وترتدّ به عن الاقدام عليه. ورأس هذه الهواجس فَقْدُ الحياة، ثم الضياع الذي يتهدّد الضعفاء من الذريّة.

والقرآن الكريم يعالج هذه الهواجس فيقول عن هاجس فَقْد الحياة: (لَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ) (4).

ويقول عزَّ وجلّ:

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (5).

من يُقتلون في سبيل الله ويُعدّون في الحسّ البشري المادي أمواتاً لفقدهم الظواهر الحياتية المعروفة في هذه الحياة حسب إدراك الإنسان؛ هم أحياء يرزقون أكرم رزق، ويعيشون الفرحة في جوار الله وبما أوتوا من خيرٍ عظيم، ولا يعتريهم شيءٌ من خوف، وإنما يغمرهم الشعور بالبشرى بما ينتظر اخوانهم في الإيمان والجهاد من نعمةٍ من الله وفضلٍ وانحفاظ كلّ طاعةٍ من طاعاتهم وبما سيُقدمون عليه من أجر عظيم وأمن دائم وحياة لا حزن فيها. ويستبشرون بتواصل نعم الله وفضله عليهم أنفسهم وأن لا شيء من عملهم الصالح مما كان منهم في الدنيا إلاّ وهو محفوظٌ لهم في آخرتهم أجراً عظيماً وخيراً كثيراً.

ويُبَصِّر الله عباده في قوله تعالى: (…وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً، أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ…) (6).

وممّا يهدف إليه هذا القول القرآني الكريم هو ألا يخطئ مؤمن في المقارنة بين أن يقاتل في سبيل الله فيستشهد، وبين أن ينتظر موتة عينه على الفراش بأمل أن يكسب بعض وقتٍ في البقاء في هذه الدنيا، ولا يخدع للنظرة القصيرة، ولا يسمع لوسوسة الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء فيحرم نفسه درجة الشهادة بما تعنيه من علوٍّ كبير، ولا يعدل خيرَها ما في دنيا الغرور، وليكُن خير الدنيا ما يكون إلاّ أنه متاعٌ قليل، أمّا الخير الحق الدائم الذي لا يزول فإنما هو خير الآخرة لمن اتّقى، وخيرُ الآخرة العظيم مضمونٌ ذلك أنّ الله لا يظلم عبداً من عباده فتيلا.

والموت مقدَّرٌ لا مفرّ منه، وكل إنسانٍ له يومٌ لا مفرَّ منه ولو تحصّن ما تحصّن، وتوقّى ما توقّى، وسلك كل سبل الفرار، فإلى أين المفرّ؟ ممّن يُفَرُّ أمن شرف الموت شهيدا؟

ومن قاتل في سبيل الله قُتِلَ أو غَلَبَ، فوعد الله الصادق له بما تتحدث عنه هذه الآية الكريمة (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (7).

والمقاومة اليوم قتالٌ في سبيل الله من نوعِ الدفاع، والذي موضوعه ما جاء في الآية الكريمة الآتية: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) (8).

والقتال لاسترداد الأرض الإسلامية المغتصبة من قِبَل الكفار، وإعادة المشرّدين المسلمين من ديارهم على أيديهم كما هو الحال في فلسطين المغتصبة وشعبها المسلم المشرّد من أرضه؛ هو دفاعٌ في سبيل الله تبارك وتعالى، فالمقاومة في سبيل الله واجبةٌ على نحو القضية الحقيقية من خلال النصوص الكثيرة، وعلى نحو القضية الخارجية كما في القضية الفلسطينية المستوجبة للجهاد.

وهنا سؤال، وهو كيف يُخفَّف من ثقل الجهاد على النفس، وبِمَ يُواجَه كرهُها له بحيث لا ينقطع سبيل الجهاد، ولا تتعذب نفوس المجاهدين ولا تقلق، وحتى تندفع للجهاد وتخوض أهواله مطمئنة، وحتى يكون الجهاد من محبوبات النفس ومن أمنياتها الغالية؟

حتّى لا يتقدم عندها حبّ شيء من علائق الدّنيا وأسبابها على حبّه، وإلاّ فإن تقدّمه كانت بذلك النفس محلّ التهديد القرآني كما تفيد الآية 24 من سورة التوبة: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (9).

فمن كان معتقداً بعقيدة التوحيد الحقّ، والكمال الإلهي وأمر الله الصدق بوجوب الجهاد لم يقف أمامه من الدنيا شيءٌ ولا خوفٌ ليُقلِّل من اندفاعه على طريق الجهاد. وما كان مثل هؤلاء من حَمَلَة الرسالة الإلهية وأتباعهم الحقيقيين -الذين استعلت نفوسهم على حب كل شيء أمام حب الشهادة- بقليلٍ في تاريخ الرسالات البعيد والقريب وإلى اليوم، وستبقى مسيرة الجهاد وعشق الشهادة في استمرارٍ وتصاعدٍ بلا انقطاع ولا فتورٍ بإذن الله.

وقد وَعَدَ الله المجاهدين في سبيله والمستشهدين في سوح الجهاد، ووعدُه حقٌّ غير مكذوب بما يحلُّ عقدة الخوف عند النفس البشرية من الموت الذي تلقاه على طريق الجهاد، فقال سبحانه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (10)، (11).

وقال عمّن جاهد في سبيله وغلَب ولم يُقتل (..وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (12).

وهذا الوعد من الله سبحانه ينزع خوف الموت على طريق الجهاد، ويُحَوِّل الشهادة إلى معشوقٍ لأي نفسٍ آمنت بالله ووعده حقَّ الإيمان. (13).

ولكسر حالة التهيّب من العدو، وجَعْل المجاهدين في سبيل الله هم المُهابين لكل عدوّ تُحدّثه نفسه بمهاجمتهم أتى قوله عزّ وجلّ: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (14).

ومن اعداد القوّة الاعداد المبكّر للمقاتلين المجاهدين والمدافعين عن حياض الإسلام وأمّته، وتربية الأجيال في طليعة العمر التربية الجهادية الرسالية القادرة من الناحية الفكرية والنفسية والبدنية وعلى مستوى السلاح، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) دَخَل النبي (صلَّى الله عليه وآله) ليلةً بيت فاطمة (عليها السلام) ومعه الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال لهما النبي قوما فأصطرعا، فقاما ليصطرعا…) (15).

إنّ الإشارة هنا إلى العناية بقوة البدن، ورياضة البدن، وتمرين البدن، التمرين الذي يعطي القوة على واجبات الحياة الدينية والدنيوية، وهو نوع من الاعداد للجهاد.

وعنه (عليه السلام): (ليس شيء تحضره الملائكة إلاّ الرّهان وملاعبة الرجل أهله) (16)، (17).

وعن النبي (صلَّى الله عليه وآله): (اركبوا وارموا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا… إلا أن الله عز وجل ليدخل في السهم الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، والمقوي به في سبيل الله، والرامي به في سبيل الله) (18)، (19).

وممّا يسهّل على النفوس الاقدام على الجهاد تقدُّم القدُوات العظيمة في العلم والشرف والحكمة وأصحاب المواقع الاجتماعية الرفيعة صفوف المجاهدين المضحّين في سبيل الله.

ولم تحظ ساحةٌ من ساحات القتال بما حظيت به الساحة الإسلامية من أعلى القدوات الإنسانية وأوزن الشخصيات عقلاً وإيماناً وهدىً وتقوىً وخُلقاً كريماً وعدلاً وشفقةً واحتراماً للإنسان واعتباراً لكرامته؛ لتكون مثالاً لا يُجارى ومدرسةً جهاديةً خالدة تُلهم أعظم الدروس في الفداء والتضحية والشجاعة والاباء والاقدام. هي قدوات كُثرٌ كُثرٌ في مقدمتهم الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والحسن والحسين (عليهم السلام)، ومن بعدهم شهداء عمالقة كشهداء الطّف الذين رأوا الجنّة رأي عين فأندفعوا إليها عن طريق الشهادة اندفاعاً لا يقف أمامه شيء، وما أغنى تاريخ الإسلام بالشهداء العظام والقدوات الجهادية على الطريق المضيء السالك إلى الله.

وتزدهر الساحة الإسلامية في أمسنا القريب ويومنا الحاضر بالمجاهدين والشهداء والقادة الميدانيين العظام؛ ذلك لارتفاع درجة الوعي في ظل الصحوة الإسلامية، بقيمة الإسلام المُهاجَم، وأمّته المستهدفة، وبعلوّ شأن الشهادة، ووجوب المقاومة في سبيل الله وذلك بفضل عطاءات الصحوة الإسلامية المباركة.

شهداء الإسلام نجدهم في فلسطين ولبنان وإيران وسوريا والعراق وأفغانستان والحجاز، ونجيريا وغير مكان، وقريباً مرَّ عيد شهداء البحرين لاستحضار المستوى العالي من روح المبدئية والرسالية والغيرة على الدين والقيم الإلهية والشجاعة والشهامة والتضحية الكريمة والوفاء والإباء والشموخ بحقّ، والاخلاص لوطن الإسلام والأمّة، والروح المتوثبة الطموحة المتعلّقة كلَّ التعلُّق، المنشدّة كل الانشداد شوقاً وتولُّهاً بالشهادة التي تشغل بال الكثيرين من أبناء البحرين الكرام. شهداء أقدموا على الشهادة بصدورٍ مفتوحة وأيدٍ خالية وقلوبٍ يقوم ما فيها من الإيمان والثقة بالله وحب الله مقام كل سلاح وما يُغني عن كل سلاح وما هو فوق كل سلاح.

وللأمة في شهداء المقاومة في الزمن المُعاش وقادتها العمالقة قدوة عظمى وعزّ وفخر كبير.

إنّ شهداء قادة كباراً عظماء ميدانيين كالسيد عباس الموسوي وراغب حرب وعماد مُغنية لمن حقّ الأمة أن تفخر بهم، ومن الحقّ عليها أن تتخذ منهم قدوات في التضحية والفداء في سبيل الله، وأن يحيوا فيها عشق الشهادة، وإنّهم لمرآة صدقٍ لما عليه عظمة التربية الإسلامية من قدرة الصنع العظيم. (20).

ونحن في هذه الذكرى للشهيدين الجليلين المغوارين المعلمين، الحاج قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس نقف أمام رجليْن أرعب جهادهما الرائع العظيم بما وراءه من حكمةٍ وبصيرةٍ وعمق نظرة وقدراتٍ متنوعة وصدقٍ واخلاصٍ للإسلام وجاذبيّة إيمانية وأخلاقية تخلق جيوشاً من المجاهدين في سبيل الله، وروحٍ تضحوية وإقدامٍ عجيب، واستخفافٍ بالحياة الدنيا أمام قمّة الشهادة التي استقطبت من حبّهم لله ولقائه كلّ ما عندهم من حبّ، وذابت أمامها كل الأمنيات.

أرعب ذلك الجهاد المثال الرسالي منهما، دولة الغطرسة والغرور والطاغوتية الكبرى أمريكا، وصنيعتها ما تسمى بدولة إسرائيل، وقضّ مضاجعهما.

حارب الرجلان أمريكا وإسرائيل وداعش وجبهة النفاق، بلا لينٍ ولا هوادة ولا فتور، وهما يريان الموت يزحف لهما ويزحفان له بدرجةٍ أسرع من غير ما اكتراث، وفي عشق لاهب للشهادة.

وكان المعلم الحاج يرى في تلميذه الكبير الحاج أبي مهدي مفخرة إيمان وجهاد، وكان أبو مهدي يرى في الحاج القدوة معلمه العظيم، ومعشوقاً له على طريق الله.

ذهبا شهيدين سعيدين بأغنى حياة وأهنا مقام، وبقيا يُعلِّمان الأمة استرخاص الحياة في سبيل الله، ويشعلان فيها روح الشهادة، ويلهمانها الشهامة والبطولة وروح الاستعلاء على الهوان، وفي كل ذلك لهم أجرٌ لا ينقطع، وثوابٌ متدفّقٌ عظيم.

ومن أراد أن يعرف الحاج والمهندس فليطالع سيرتهما، وليقرأ عنهما في كلمات القادة والأبطال ممن لا يجاملون وممن عاشوا في قربٍ منهم ورأوا بطولاتهم ومواقفهم الجهادية وحبّهم العملي للشهادة، ويُقرأ عنهما في كلمات الأعداء المتوجعة من دورهم وبطولاتهم، وهناك كلمات للأعداء تجعلك تُدرك كم كان يرى العدو من خطورةٍ ومن تهديدٍ من هذين الرجلين الكبيرين.

والكلمة أخيراً مع البحرين أن تعرف حقّ سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري (رحمه الله) الذي أسّس حركة الاصلاح الجديدة فيها وضحّى ما ضحّى في سبيل ذلك، وأن تبقى على طريق شهدائها وكل شهداء الأمة في سبيل الله وفيةً لإسلامها العظيم، لا يردُّها عن نصرته شيء، ولا تقبل أن تذلّ لظالم، ولا تقبل أن تدخل في ولاية كافر، ولا تسكت على ضياع حقٍّ لا يرضى الله بضياعه.

والحمد لله ربِّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

——————–

الهوامش:

(1): يمكن أن تظن النفس أن خيرها في الجهاد، ولكن يبقى في كثيرٍ من النفوس كرهُ القتال لما يهدد به النفس من الموت، والحياة محبوبةٌ للنفوس.

(2): الآية 216/سورة البقرة.

(3): الآية 81-82/سورة التوبة.

(4): الآية 154/سورة البقرة.

(5): الآية 169-171/سورة آل عمران.

(6): الآية 77-78/سورة النساء.

(7): الآية 74/سورة النساء.

(8): الآية 75/سورة النساء.

(9): الآية 24/سورة التوبة.

(10): الآية 169-171/سورة آل عمران.

(11): فأنت حينما تضع قدمك على طريق الجهاد والشهادة إنما تضع قدمك على طريق الحياة الكبرى، الحياة العظمى، التي لا هَمَّ فيها وحزن ولا خوف ولا فقر، وليس فيها شيءٌ من كدَر، وهذه الحياة ليست ببعيدة، ولا تنتظرك بدايةً من يوم يُبعثون إنما هي حياةٌ تلقاك وأنت في برزخك.

(12): الآية 74/سورة النساء.

(13): ووعد الله وعدٌ لا يُخلَف، وعلى ذلك يقيم النفوس المؤمنة.

(14): الآية 60/سورة الأنفال.

(15): ميزان الحكمة ج4/ص141.

(16) ميزان الحكمة.

(17): طبعاً ليس المقصود الرهان للتلّهي، وليس المقصود من هذه الملاعبة الأنس النفسي الحيواني فقط، وإنما المقصود في الأول، الرهان الذي يعطي القدرة على ركوب الخيل وعلى الرمي، والقدرة المتفوقة التي تسبق ولا تُسبق، وبالنسبة للملاعبة تحمل أيضاً معنى العبادة حيث يُقصد إيناس الطرف الآخر وراحة النفس لتحصل ساعة راحة للانفتاح بعد ذلك على العمل الجدي الكبير المقاوم في كل ميدانٍ وكل ساحةٍ من ساحات الطاعة لله تبارك وتعالى.

(18): ميزان الحكمة

(19): الركوب وسيلة مقدمة من مقدمات النصر، وإذا كان بالأمس هو ركوب الخيل، فالآن هي ركوب الطائرة الحربية والدبابة وما إلى ذلك، وإذا كانت آلة الحرب التي يأمر النبي (صلَّى الله عليه وآله) يومه بالتدرّب عليها وإجادة استعمالها، إذا كانت هي السهم والرمح والسيف فاليوم الصاروخ وكل آلةٍ من آلات الحرب المتقدّمة.

الحديث مهم، انظروا إلى هذه الفقرة (إلا أن الله عز وجل ليدخل في السهم الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، والمقوي به في سبيل الله، والرامي به في سبيل الله)، فثلاثة بسهم واحد، يُدخلون الجنة مصلح الخشبة للسهم ومن أعان به مقاتلاً في سبيل الله ومن رمى به عدوّاً في سبيل الله، فصانع الدبابة والصاروخ وما إلى ذلك، كل أولئك إذا كان صنعهم لوجه الله، وللاصلاح، ولاقامة الحق وهدم الباطل، وللتعاون على الحق لا على العدوان، فهُم من أهل الجنّة.

(20): الإسلام يصنع العظماء لأنه عظيمٌ وعظيمٌ وعظيم.

زر الذهاب إلى الأعلى