بين 3 ثقافات.. أين تقف؟
ثقافة “التشكيك – التخدير- الإيقاظ”
الثقافات المعاشة في حياة المجتمعات هذه الأنواع الثلاثة :-
1- ثقافة التشكيك:-
ومصدرها عقول فلسفية قلقة خسر أصحابها بسبب أوساط خارجية معينة، وصدمات نفسية خاصة، ولون من المطالعات فوق المستوى مبكرة طُمأنينة الفطرة، ووثوق الوجدان، ووضوح ركائز العقل البديهي النظري والعملي معاً؛ مما جعل قاعدة التلقي العلمي المطمئن، وأرضية الإيمان مهتزة دائما في داخل هذه النفوس.
وينضم إلى هذه الفئة من الفلاسفة مغرضون تستخدمهم سياسة محلية في أي مكان، أو عالمية في وقت الحاجة لمواجهة الحقيقة بالتشكيك، ولإسقاط الفكر العقيدي الذي يهدد المصالح السياسية في أي ساحة من الساحات.
ويقع أصحاب القراءات المكثفة المبكرة لهؤلاء المشككين في دائرة التشكيك نفسها، ويكونُ صلب ثقافتهم أفكاراً تشكيكية خالية من الرؤية الكونية الأساس، والتأصيل الفكري لما يطرحون.
2- ثقافة التخدير:-
ومصدرها الرئيس الساسة الانتهازيون، والماديون النفعيون، وإذا كانت الثقافة من النوع الأول تثير أمّهات المسائل في الوجود والحياة لتواجهها دائما بالتشكيك لا غير، وتتعمد تخريب المنهج العلمي الذي قد ينطلق في الكثير من المسائل من الشك إلى اليقين، لكنه لا يفقد يقينيات ثابتة بمقتضى الوجدان الفطري تعينه على الوصول إلى معارفه الفوقية، والتي لولاها لأصيب فكر الإنسان بالدُّوار من غير أن يخطو خطوة واحدة على درب المعرفة، ومن دون أن يفرق بين خطأ وصواب، وحق وباطل، وضار ونافع. إذا كانت تلك الثقافة – وهي ثقافة التشكيك – تثير المسائل الكبرى وقضايا المبدأ والمصير والحياة والموت والإنسان لتركّز قلق الشك، وتنسف أسس اليقين، فالثقافة التخديرية تهرب بالإنسان عن ذاته ومبدئه ومصيره ومسؤوليته وهدفه وقيمه ليتحول آلة إنتاج واستهلاك بيد المستكبرين، وأداة تنفيذ طيّعة لأغراض السياسة الغاشمة.
والسياسة العالمية الاستكبارية، والسياسة المحلية في كل بلدان العالم تقريباً تنشط على يدها الثقافتان من النوع الأول والثاني، في كل العالم، وفي البلاد الإسلامية بالخصوص في زمننا الراهن لأهمية هذه البلاد وتأهلها الحضاري لدحر حضارة المادة وتخليص العالم من شرورها.
والثقافة التشكيكية من أجل استدراج أصحاب القابليات العقلية للانحياز إلى جبهة الكفر ومعاداة الأمة، والثقافة التخديرية من أجل السيطرة على كل الفئات وبخاصة الفئات الجماهيرية العامة.
3- ثقافة الإيقاظ:
وهي الثقافة الإسلامية؛ ثقافة القرآن والسُّنة، والتي جاءت لتحرير الإنسان، وإطلاق عقله وقلبه وروحه في اتجاه الحق والحقيقة، ومن أجل أن يكتشف ذاته والآخرين، ويتعرف على قيمته وقيمة الآخرين، والأشياء من حوله، ويرى الكامل كاملاً، والناقص ناقصاً، ولا يختلط عنده ما هو بالذات وما هو بالغير، ولا يشتبه عنده خالق بمخلوق، ورازق بمرزوق، فلا يُخدع عن نفسه، ولا يغرَّرَ به، ويُتّخذ مطية لذوي الأغراض الدنيئة.
هذه الثقافة؛ كلُّ شيء فيها لإثارة التفكير، التدبر، التعقل، لتنبيه الفطرة، وحيوية الضمير، ولأن تتفتح الروح، وينشط العقل، ويفقه القلب. كل شيء فيها من أجل العلم والمعرفة والبصيرة. والآيات التي نجد فيها مشتقات لمادة من نوع فَكَرَ، وعَقِل وبَصَر، قد تصل إلى المئات وهي تحفز على هذه المعاني، وتستثير في النفس أسبابها، وتدفع على طريقها، ومع ذلك سيل كبير من الأحاديث يضع الإنسان على هذا الخط.
ولنقرأ من قوله تعالى في هذا المجال ما يأتي “…فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (176) / الأعراف.
القصة التي تتخذ عند الثقافة الدنيوية مصيدة للشيطان، ولتستهوي نفوسا للباطل، وتخدر أعصاب الناس، وتهرب بهم من ساحة الحياة الجدية إلى ساحة اللهو والعبث؛ هذه القصة في القرآن من أجل التفكر، من أجل التدبر، من أجل أن تعي ذاتك، من أجل أن تكتشف ذاتك، من أجل أن تسجد لله وحده، ولأن ترفع أنفك وترفع جبينك معتزا بالله عز وجل أمام كل طاغوت.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)/ يوسف البقرة.
إذا كان القرآن يطرح بعض القضايا التكوينية، ويطرح بعض العلاقات التكوينية بين شيء من الأسباب وشيء من النتائج فإنه يتيح للفكر أن يحاول الوصول إلى دقة هذه العلاقة وإلى واقع هذه العلاقة، القرآن الكريم يتحدث لك عن نفسك ويتحدث لك عن الكون، ويتحدث لك عن آيات القرآن، ويتحدث لك عن التاريخ، ويتحدث لك عن الواقع، ويتحدث لك عن الأنبياء، ويتحدث لك عن الطغاة، لا ليجمد فيك فكرك، إنما لينطلق بك على مسار الفكر الصاعد المنفتح لتتعرف على الحقيقة… ليأخذ بك إلى واقع الأمور من أجل أن تبني حياتك دائما على بصيرة.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) / آل عمران.
تحرك الآية الكريمة السماوات والأرض وكل شيء فيهما… تحرك الجماد على مسار الفكر الإنساني، على مسار التدبر. تعطي تدبرا، تعطي تفكرا، وتعطيك أن تغوص بفكرك في أغوار الكون، أن تتوقف عند كل صغيرة وكبيرة من هذا الكون العريض، لتتحدث مع الأشياء، ولتتحدث لك الأشياء، فإن كل شيء في هذا الكون لله عز وجل فيه آيات وآيات، وإنك تستطيع أن تتعرف على الحقيقة وأن تنجو من خداع الإعلام ومن تضليل الطغاة في الأرض حينما تقف بفكرك متأملا متدبرا متفكرا أمام هذه الأشياء التي تراها في الظاهر جمادات وهي في تمور بالحركة وهي تسبح من خلال الإبداع الإلهي لله عز وجل وتحمده. إنها فيوضات إلهية، إنها تقوم بالحكمة بالقدرة بالعلم باللطف ومن ذلك تستطيع أن تتعرف على عمق، على صدق، على شمولية لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
والإنسان لا يستطيع أن يبني معرفة ولا علما من فراغ، ولا يمكن أن يحصل له يقين أبدا إذا لم تكن له معرفة نوعية أساس، وقضايا يقينية نابعة من فطرته ووجدانه كما هو حال هذا الإيمان الراسخ في كل نفس متنبهة من عدم إمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما، وحاجة الممكن إلى الواجب.
وكما تحمل النفس البشرية بفطرتها يقينيات تمثل منطلق المعرفة، كذلك تحمل روح الإنسان أشواقا كمالية تضعه على طريق الله وتدعوه إلى الإنشداد إليه.
في روحك انجذاب للجمال، في روحك انعطاف على الجمال، في كيانك طلب فطري للكمال، وهذا الانجذاب للجمال لا يغذيه إلا السير على طريق الله.
ولما كانت النفس البشرية محمَّلة بأسس الثقافة الإسلامية المتجهة إلى الحق والحقيقة كان من صالح هذه الثقافة – لا أن تستغفل الإنسان، لا أن تقتل قابلياته، لا أن تهرب به من حالة التفكير، وحالة التدبر بما يطيقه من تفكير ومن تدبر في كل المساحات التي يملك فيها أن يتفكر ويتدبر لينتج الجديد النافع بل أن توقظ النفس دائما وتطلق منها قوى الإدراك الصحيح، ومشاعرَ الكمال والرفعة والسمو. وكل البشرية محتاجة إلى الثقافة الإسلامية لتكتشف ذاتها وجمالها وقدرها وهدفها ودورها وتصبر على درب النمو والكمال، وإلا فستبقى جاهلة عاجزة.
وتغييب الثقافة الإسلامية تغييب لإنسانية الإنسان، ولقيم الخير والعدل والجمال، ومصادرة ٌ لرحلة هذا الكائن للكمال.
خطبة الجمعة (85) 10 رمضان 1423هـ – 15-11-2002م