وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ٩ شهر رمضان ١٤٤١هـ
الوقفة القرآنية لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، والتي يبثّها مركز المقاوم للثقافة والإعلام خلال ليالي شهر رمضان المبارك – ليلة الأثنين 9 رمضان المبارك 1441هـ / 3 مايو 2020م:
فيديو الوقفة:
صوت الوقفة :
نصّ الوقفة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على الأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات.
وَصَلَ بنا الحديث السابق إلى قوله تبارك وتعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) – سورة الأنفال، الآية 7، 8.
تعرفون أنَّ المسلمين وهم في المدينة كان لهم أحدُ خياريْن، خيار ملاقاة القافلة التجاريّة لقريش والتي كانت غنيَّةً بما فيها مِنْ مُستورَدات، وكان العدد محدوداً، وصحيحٌ أنَّ معها جماعة تحمي تلك المُستورَدات والمصالح التجاريّة التي كانت ترعاها، لكنّها ليست مستعدّة لخوض حربٍ ضروس، حرب فيها مقابلة جبهة قويّة تفوق عدد القافلة التجارية وقد تفوقها في صلابة الرجال وما إلى ذلك.
وكان الخيار الآخر، هو مواجهة جيش قريش الذي تكون المعركة بينه وبين المسلمين في بدر.
طبعاً هناك أرباح تجاريّة مضمونة، خسائر بشرية إنْ وُجدَت محدودة، جبهتان غير متكافئتين، وأمَّا في المعركة مع قريش فالجبهة الضعيفة هي جبهة المسلمين، ضعيفة عدَداً وعُدَّة، ألف في قبال ثلاثمئة تقريباً، ومع اختلاف في العُدَّة كان خيار المسلمين بلا إشكال من مُنطلَق طَلَب الراحة، أُنس النفس البشريّة بالراحة، بطَلَب السلامة وبالربح الدنيوي، كان التَّوَّجُه في الإرادة عند الكثيرين من المسلمين إلى مواجهة القافلة، إلاّ أنّ الله عزَّ وجلّ كان يوَّدُّ لهم ملاقاة ذات الشوكة في حين كانوا مُغرَمين لمواجهة غير ذات الشوكة، وهي القافلة.
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ). الكلمة هنا ليست لفظاً، الكلمة هنا قضاء وقَدَر، الكلمة هنا أمر تكويني، الكلمة هنا نُصرة تُحقِّق النصر، موقف داعم بالقوّة بالملائكة وبوسائل أخرى لتحقيق النصر.
(..وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، وكأنَّ (بِكَلِمَاتِهِ) أكثر من سَبَب، (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)، الهدف هو قطْع دابر الكافرين، ما دام الكفر مُستعلياً وحاكماً وقاهراً للإسلام، وقاهراً للفئة المؤمنة فإنَّ الأرض فساد، وإنَّ الأرض جَوْر، وإنَّ الأرض محرقة الإنسان.
لماذا قطْع دابر الكافرين؟ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)، وذلك هو الجهاد، لإحقاق الحقّ والحقُّ في دين الله لا يقوم إلاّ بدين الله عزَّ وجلّ، (وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) والباطل قرين الكُفر ولا ينفَّكُّ عنه، وإذا حَكَم الكفر حَكَم الباطل، والكفر أوَّلُّ الباطل، وإذا حَكَم الإسلام حَكَم الحقُّ والإسلام مصدر ومنبع الحقّ، وهو الهدى لكلِّ حقّ.
لهذا جاء الجهاد في الإسلام.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) – سورة المائدة، الآية 35.
دَفْع لهذا الجهاد، تَجِدون كلَّ عبادةٍ من العبادات لها وظيفة خاصّة إلى جنْب الوظيفة العامة من إيجاد الإنسان الكامل.
وإذا لَحظْنا فإنَّنا نَجِدُ أنَّ النفس قد يزيد ارتباطها بالمال على ارتباطها بالشهرة، وقد يزيد ارتباطها بالشهرة على ارتباطها بالمال، ارتباطها بهذا الدافع المادي بأكثر ممَّا ترتبط به، فالإسلام كان عليه وقد فَعَل أن يُواجه كلَّ هذه الدوافع وأنْ تأتي تربيتُه لكَّفّ هذه الدوافع عن الإنطلاقة بالإنسان إلى غير حدّ، وأنْ يوقف غلواءها وإندفاعتها المجنونة، ولأنْ لا يتحوَّل الإنسان ألعوبة بِيَد هذا الدافع أو بِيَد ذلك الدافع، ومن دَرَس العبادات ورأى ارتباطاتها بالدوافع عَرَف كيف أنَّ العبادات عالجت كلَّ هذه الدوافع وكلَّ غلواءها.
العبادة بشكلٍ إجمالي، تُرَّكِّزُ في النفس قضيّة التوحيد وتُنقِذُ من الشرك وتَشَتُّت الولاء، تَجمعُ كلَّ ولائك، تُريحكْ، تُعطيك الولاء الراقي، الولاء المُربِّي، الولاء الهادي، الولاء الذي ينعكس عليكَ بالكمال، ثمَّ تجمع كلَّ اهتمامك وتجمع كُلَّكَ على خطّ هذا الولاء.
أنا مرَّة أُراعي الولاء لفلان، والولاء لفلان، عشرين، أربعين، وخمسين، أتشتَّت، أتمزَّق، أتناقض، أتهافَت، لابُّد أنْ تُسيطر عليَّ حالة القلق، أُرْضي مَنْ؟ أُغضِبُ مَنْ؟ إلى آخره. هنا ولاء واحد وهو ولاء صنَّاع، ولاء يرتفع بالنفس إلى أقصى حدٍّ يُمكن لها أن ترتفع إليه، ترتفع بالنفس إلى الكمال إلى أقصى حدٍّ أُهِّلَّت أنْ تصلْ إليه.
العبادات تحمي من انهيارات النفس، أمام جنْس، أمام مال، أمام سُلطان، أمام موْت، وما إلى ذلك، لا تنهار النفس أمام بلاء، نفس العابِد الحقّ ممَّن ذاقوا طعم العبادة الحقّة وعاشوها فعلاً وانغمَروا في مُحيطها، أولائك لا يعرفون حالةً من حالات الإنهيار أمام أيّ قوّة وأمام أيّ مُغْرٍ وأمام أيّ حالةٍ من الحالات.
العبادات تضعُ النفس خطّ المُقاومة لكلِّ ظلمٍ وظالم، ولكلِّ فسادٍ ومُفسدٍ، ولأيِّ حالةٍ من حالات الإنحطاط، انحطاط النفس، انحطاط المجتمع، انحطاط الأسرة، لأيِّ حالةٍ من حالات الإنحطاط وفي أيّ بُعْدٍ من أبعاد الحياة والنفس الإنسانيّة.
تشُّدُّ النفس إلى الكمال، وتجعل حياتنا كلُّها مسيرةً كمالية حتّى لحظة الموت.
يوميَّاً عبادة، أسبوعياً عبادة خاصّة، عبادات موسميّة، وعبادة الذكر التي لا تنقطع، في سوق، في مكتب، في أيّ مكان، ذكر الله الذي ينبغي للإنسان المسلم أنْ يَستحضره، دائماً مشدوداً إلى الهدف الكبير، إلى حالة الكمال، مشدوداً إلى الله عزَّ وجلّ.
فهذه العبادات تَشّدُّ النفس إلى الكمال شَّدَّاً وتجعل حياتنا كلَّها مسيرةً كمالية، في تجارةٍ، في حربٍّ، في كتابةٍ، في قراءةٍ، في تأليفٍ، في أيّ شيءٍ من الأشياء، حتّى في لذَّاتنا المادية.
حالُ لقاء الرجل بزوجه يذكر الله، في حالة الدخول إلى الحمَّام يذكر الله، في حالة استنجاءه يذكر الله، في كلِّ مَقامٍ تقريباً ذِكْرٌ وملاحقةٌ من التربيّة الإسلامية للنفس حتّى لا تضعُف، وحتّى لا تشذَّ عن الهدف، وحتّى لا تسقط، هذا من عطاء العبادة.
أيضاً العبادة تُعطي للنفس الإنضباط الكامل الذي يصّبُّ في مصلحتها ومصلحة الناس، وحتّى البيئة، من خلال الإحساس الدائم بمراقبة الله. كلَّما حرَّم الله المؤمنُ يجتَنبُه لأنّه يشعر أنّ الله مطَّلعٌ عليه، أنَّ الله مُعاقِبٌ له على ارتكابه، وما مِنْ شيءٍ قبيحٍ وضارٍّ بإنسانية الإنسان وبمصالح الإنسان إلاّ ونَهَى الله عزَّ وجلّ عنه، نَهَى عن كلّ قبيح وأَمَرَ بكلّ حَسَن، فأنا أمام أي موقف في مُراقبتي لله عزَّ وجل لا أملك إلاّ أنْ أرتبط بالفعل الحسن، بالموقف الحسن، أجتنب عن الموقف السيء والقبيح.
العبادة تطرد الوحشة والإحساس بالدونية والحقارة عن النفس، مَنْ انفصل عن الله قهراً عليه أنْ يُحسَّ بحقارة النفس، يهرب من هذا الشعور بطريقةٍ وأخرى ولكن يرجع إليه ذلك، يرى نفسه محدودة وأنّه لا شيء يدعَمُه، لا شيء يقف معه، وكلُّما تطَّلَّع إلى قوّةٍ تحميه وجدها غير قادرة، وكلّما حطَّت عينه على هدف وجده هدفاً من دون الوصول إلى الله، هدف الكمال، وجد نفسه دون ما هو الهدف المزروع فطرةً في نفسه.
أشعُر بالوحشة، يموت الحبيب، يُكرَثُ الإنسان بالكارثة، يكون في صحراء، يكون في ظُلْمَة، يكون تحت أيّ ظرفٍ، لو كان قلبه تلك اللحظة منفتحاً حقَّ الإنفتاح على الله، والله العظيم القادر الخبير بالحال، العطوف الرحيم الذي يَملك كلَّ شيء، فَلِمَ الوحشة؟ لا تأتي الوحشة قلباً موصولاً بالله ذاكراً إليه. تُهَّوِّن من ضغط الخسائر والمصائب بل تُفقِدَها ضَغطَها بالنسبة لأهل الدرجات العُليا مِن الإيمان. أهل الإيمان لا يواجهوا ضغطاً من خسارةٍ أو مصيبةٍ وما إلى ذلك، مثُلُهم الأعلى الأنبياء والأئمة “عليهم السلام” وأوصياء الرُسُل.
العبادة تُلغي العبثيّة من حياة الإنسان. حياة الإنسان العابِد خاليةٌ من العبثيّة، دائماً الهدف الكبير حاضرٌ عنده، هو أبو الجِّدِّيَّة ولا يعرف شيئاً من العبثيّة، ولا يسمح لنفسه بشيءٍ من العبثيّة، لا ينام إلا على ذكر الله، ليس عنده وقت فراغ، ليس عنده وقتٌ مُضَّيَّع، إنْ عجزت قدرته على هذا الجانب من العمل الصالح وهناك عملٌ صالحٌ آخر يدخل فيه. حياته وإلى لحظة الموت تبقى مُعبَّئةً بالجِّدّ المفيد.
هنا نقطة أشير إليها، وهي أنّ العبادة المُشَّرَّعَّة من الله عزَّ وجلّ بعلمه وحكمته ولُطفه وحبّه لعبده، وعدم خفاء أيّ شيءٍ من المصالح والمفاسد عليه لا يمكن أنْ يحلَّ محلَّها أيّ برنامجٍ تربويّ تُنتجه الأرض، مِنْ رياضات روحيّة أو أيّ شيءٍ آخر، وهذا يحتاج إلى تفصيل ولكن هي إشارة فقط هنا.
برامج الأرض كلّها تفتَقد رَبْطَ النفس بالمَثَل الأعلى، وقد تُعالج جَنْبةً من حالات الضعف في النفس، لكنّها كمْ من ضعفٍ تُهمله، وكمْ من فسادٍ قد تُنشئُه.
البرنامج الذي يلتفتُ إلى كلِّ عيوب النفس، ويُعالج كلِّ حالات الضعف، ويجعلُ النفس قويّةً قادرةً على أمر الدنيا والآخرة، ويُقوِّيكَ ولا يضرُّ بقوَّتكَ غَيرَكْ، ويُقوِّيكَ ويضعُ قوَّتك في يدكَ لإصلاح شأنكَ وشأن الناس الآخرين، والذي يُثمرُ الأمن والأمان والقوّة في الأرض.
البرنامج الوحيد القادر على تحقيق هذا الشيء هو البرنامج العبادي الإلهي، وكيف لا يكون ذلك؟ والإنسان قاصِرٌ محدود، ولو أرادَ أنْ يُخلِص فإنَّه قاصِرٌ لا يستطيع أنْ يُراعي كلَّ المصالح ويدرَأ كلَّ المفاسد وأنْ يُحقِّقّ كل المصالح، وهذا ليس جاهلاً في شأن الله تبارك وتعالى.
غفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.