وقفة قرآنية : آية الله قاسم – ٥ شهر رمضان ١٤٤١هـ
الوقفة القرآنية لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، والتي يبثّها مركز المقاوم للثقافة والإعلام خلال ليالي شهر رمضان المبارك – ليلة الخميس 5 رمضان المبارك 1441هـ / 29 أبريل 2020م:
فيديو الوقفة:
صوت الوقفة:
نصّ الوقفة:
بسم الله الرحمن الرحيم
بالله نعتصم وعليه نتوَّكل وإليه نُنيب.
عباداتُنا ماذا تُعطينا؟
هناك هدفٌ إجماليٌ عامٌ للعبادة بعنوانها العام من غير تفصيلٍ بين أنْ تكون صلاةً أو صوماً أو غير ذلك، هذا الهدف الذي تشترك فيه كلّ العبادات، هو إيجاد الإنسان الكامل الذي أعدَّه الله عزَّ وجلّ لاستعداداتٍ تؤهله للكمال الذي يُليق به.
والعبادات والمنهج الإسلامي كلُّه طريق التفعيل لتلك الإستعدادات الثّرَّة الكريمة، ذلك هو الهدف العام للعبادة.
الكلام في هذا المقام عن بعض الأهداف التفصيليّة للعبادات.
رأسُ العبادات الصلاة، والله عزَّ وجلّ يقول في كتابه الكريم: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) – سورة العنكبوت، الآية 45.
الصلاة إذا أتَت كما أراد الله عزَّ وجلّ وكما شّرَّع وكما اشترط فيها، وكانت عن إقبالٍ وتوَّجهٍ من القلب لله سبحانه وتعالى، نَهَت عن الفحشاء والمنكر فعلاً.
هي مُعَّدَّةٌ لأنْ تنهى النفس عن الفحشاء والمنكر، ليس النهي التشريعي، وإنما النهي التكويني، يعني أنَّها أعدت لتعطي أثراً تكوينياً في النفس بانتهاءها عن الفحشاء والمنكر.
وهذه القُدرة للصلاة لا تعني أنَّها تقهر الإنسان عن الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر، هي تحمل اقتضاء النهي عن الفحشاء والمنكر، فيها قابليَّة إنتاج حالة للنفس خالية من الفحشاء والمنكر، ثمَّ يبقى دور الإنسان في الوصول إلى تحقُّق هذه الحالة، وصول هذه الحالة الصلاةُ تقتضيه، لكن تحقُّق هذا الوصول يبقى مشروطاً بدور الإنسان من أنْ يأخذ بالصلاة كما هي وأنْ يُعطيها الإهتمام الذي أراده الله تبارك وتعالى، وأنْ لا يُقيم موانعَ من سلوكه ومن سوء قلبه وسوء نيَّته تُحبِط هذا العمل وتُفشل نتيجته التي يقتضيها.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ).
فالصلاة تُخرِّج إنساناً تترَّفع نفسه عن الفحشاء والمنكر، قد تُعاني بدرجةٍ وأخرى في الانتهاء عن الفحشاء والمنكر في بداية الأمر، وقد تنتهي عن الفحشاء والمنكر في بداية الأمر عن خوفٍ من الله عزَّ وجلّ، خوفٍ من عقابه، ولكن بعد ذلك تأتي هذه النفس كارهةً كلّ الكُره الفحشاء والمنكر، وتكون الفحشاء والمنكر مؤذيةً لها كلَّ الأذى، ذلك أنَّها ترفَّعت، انبنَت، تنزَّهت، اقتربت إلى الله عزَّ وجلّ، تجاوز مستواها مستوى أن تشتهيَ فحشاء أو منكر.
هناك شيءٌ تُعطيه الصلاة أكبر من الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر. الفحشاء والمنكر قائمة على ذكر الله عزَّ وجلّ، لمَ ينتهي الإنسان عن الفحشاء والمنكر؟ يخاف الله، يرجو الله، يستحي من الله، عَشَّاقٌ لجمال الله، وهذا يحطُّ بقدره، حريصٌ على طلب رضوان الله، لأنّه لا يجد لنفسه قيمةً غير رضا الله، ورضا الله تُضادُّه ممارسة الفحشاء والمنكر، فلذلك يترك الفحشاء والمنكر، فترك الفحشاء والمنكر راجعٌ لذكر الله ونتيجة من نتائج ذكر الله، وذكر الله أكبر لأنه أوسع في عطاءاته من الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر.
ذكر الله يجعلُكَ تجدُّ كلّ الجد، تسعى كلّ السعي، تبذل كلّ البذل، تواصل الطريق الصعب، تُجاهد النفس كلّ المجاهدة، تُكابر الشيطان كلّ المُكابرة، يجعلكَ لا تقتنع بدرجةٍ من درجات الكمال وأنتَ في عروجك لله تبارك وتعالى، يجعلُكَ صورةً من وجود المَلَك من حيث شفافيّة الروح ومن حيث طُهر القلب ومن حيث نظافة الهدف ومن حيث العشق الإلهي الشديد، وهذا أكبر من مجرّد الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر. هذا عطاء الصلاة.
أيضاً يقول الله عزَّ وجلّ: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) – سورة المُزَّمِّل، الآية 6.
“أَشَدُّ وَطْئًا” قد يكون بمعنى صعوبتها من حيث أنّ في القيام لصلاة الليل مواجهة لضغط شديد من الحاجة إلى النوم، وتكون الليلة ليلةً باردة ولا أحلى من الفراش والتدَّثُر والتزَّمُّل فيها، ويقوم هذا لصلاة الليل مقاوماً كلّ جاذبية النفس الراغبة في الراحة، ومقاوماً كلّ الإحساس بالتعب. قد يكون معنى “أَشَدُّ وَطْئًا” من هذه الناحية، ولها معاني أخرى.
“أَقْوَمُ قِيلًا”، عبادة فيها ثقل على النفس الأرضيّة، والتي بَعْدُ لم تترَّبى على الإنشداد لله عزَّ وجلّ بما لا يترك لها إنشداداً إلى الأرض يؤثِّر على رحلتها إلى الله عزَّ وجلّ. قبل هذا نافلة الليل صعبة وثقيلة، ولكنَّ “أَقْوَمُ قِيلًا” القوْل فيها يأتي صادقاً وَعِّيَّاً، متفاعلةً معه الروح، وقول الصلاة قول حقّ، وقولٌ يبني ويُربّي ويضع العبد موضعه ويجعل النفس تعرف ربَّها وتخضع إليه، وتجعل النفس قادرةً على الإنضباط في كلّ منعطفات الحياة، وأمام كلّ رغبةٍ ورهبة.
فالقوْلُ في الصلاة، والحركة في الصلاة، وصلاة الليل، وحيث الهدوء، وحيث عدم الرياء، وحيث عدم الجوّ الصاخب، وحيث تفرُّغ الذهن وصفاء الروح، يكون قول الصلاة بهذا “أَقْوَمُ قِيلًا”.
وهذه العزيمة التي جعلت هذا العبد يُغادر فراشه المحبوب في تلك الساعة تجعل هذا الجدُّ وهذا العزم وهذه الهبَّة، تجعل قول الصلاة في نفسه “أَقْوَمُ قِيلًا”.
قولٌ يأتي على اللسان “أَقْوَمُ قِيلًا”، وهو في القلب “أَقْوَمُ قِيلًا”.
فالصلاة هنا تُربّي، ترفع مستوى النفس، تُعطي القوَّة، تُعطي الشجاعة على مواجهة الباطل، تُعطي العزم الشديد في الخير، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)، قبل ذلك (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، فالآية كأنَّها تصِفُ ناشئة الليل بأنَّ فيها قولاً ثقيلا، مؤدَّى أن نُصّلِّي الليل فيه ثِقلٌ على النفس الرخوَة أو على النفس الإنسانية عامَّة من حيث إنسانيّها، من حيث بشرِّيَّتها. الرسول “صلى الله عليه وآله” من حيث بشَرِّيَّته من غير النظر إلى مواهب الله الخاصّة عنده طبعاً التكاليف صعبةٌ عليه، وإنما تسهُل لإرتباطه بالله عزَّ وجلّ ولتوفيقات الله الخاصة له وللعناية التربوية التي هيأها له.
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) – سورة طه، الآية 14.
ما هو الهدف الكبير من الصلاة؟
أنْ تُوَّلِّد في النفس ذكر الله بشكلٍ مستمرّ، أنْ يكون ذكر الله غير مُفارقٍ لقلب هذا الإنسان المُصّلِّي. حتّى يكون القلب ذاكراً لله، على ذكرٍ دائمٍ لله، ذكر إعظامٍ وإجلالٍ ورجاءٍ وخوفٍ ومحبّةٍ وانشدادٍ وشوقٍ وانجذاب، حتّى يكون ذلك كلّه للقلب، الطريق إليه لابُّد من صلاة. فالصلاة تُنتج هذا المستوى من النفس.
هذا الفرد بذكر الله لا يستوحش، لا يحسُّ بالضعف، لا يحسُّ بالهزيمة، لا يحسُّ بالإنفراديّة.
في كلامٍ للإمام زين العابدين “عليه السلام” في تَذّكُّرِّي -ما مضمونه- أنّه لو لم يكُنْ أحدٌ في الأرض وكان وحده وعنده ذِكرُ الله لما استوحَش.
هذا هو عطاء الصلاة.
نَقِفُ عند هذا الحدّ، وتأتي بقيّةٌ من كلامٍ إنْ شاء الله. والسلام عليكم أيُّها الأخوة والأخوات.