الثورة التي أبقت الإسلام حياً – 1
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في الحسينية البحرانية بقم المقدسة في استقبال موسم عاشوراء 1441هـ / 29 أغسطس 2019م
للمشاهدة :
نص الكلمة :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين ، وعلى أولاد الحسين ، وعلى أنصار الحسين.
السلام على أنصار الحسين في كربلاء، وفي كل لحظة من الزمن وفي كل بقعة من المكان.
“الثورة التي أبقت الإسلام حيّاً”
أولاً: الأمة الإسلامية في سنة الستين هجرية:
على مستوى الحكم، الحاكم يزيد بن معاوية، من تنصيب أبيه، الخارجي على الإمام المعصوم “عليه السلام”، وهو الذي ينصب الخليفة ويورثها ليزيد ولده.
يزيد وقبله معاوية غاصبان للخلافة مسيئان للدين والأمة والإنسانية، هذا معلمٌ من معالم سنة الستين هجرية في تاريخ الإسلام.
كلكم تعرفون يزيد، والعالم كله يعرف يزيد ولكن للتذكير، يزيد المتبوأ لموقعٍ من مواقع رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” وأعني به موقع الحكم في الناس والمترشح من نبوة رسول الله.
ما هو رأي زياد بن أبيه عن يزيد، ووالي معاوية ويزيد، ما هو رأيه في يزيد؟ ما تقول الناس في ردٍ على معاوية؟
أراد منه أن يأخذ عهداً بولاية عهد يزيد على أهل الكوفة، ما تقول الناس إذا دعوناهم إلى يزيد وهو يلعب بالكلاب والقردة ويلبس المصبّغات ويدمن الشراب ويمشي -أنا أريد أن أستحضر مقارنة وتكون حيّة بين الكرسي الإلهي العظيم وبين شخصية الخليفة الذي صار خليفة تحت نظر المسلمين، مستوى ذلك المقام مقام رسول الله ومستوى الرجل الذي يملأ هذا الموقع، ليست نكسة وإنما نكسة أمة وكارثة أمة بل كارثة إنسانية- يمشي على الدفوف وبحضرة الحسين، أنت تريد أن نأخذ على الناس بيعةً ليزيد خليفة للمسلمين، هذا هو يزيد ومن بحضرة يزيد؟ وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبدالله بن عباس، ويعدد أسماء أخرى ليست من مستوى الحسين ولا بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير.
صاحب كتاب الأغاني: كان يزيد بن معاوية أول من سنّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء، وآوى المغنين -هذا ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية وهذا ما يحتاج إليه الدين- وأظهر الفتك وشرب الخمر وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه والأخطل الشاعر النصراني.
المغيرة بن شعبة، والي الكوفة، أحس بأن معاوية يريد عزله عن ولاية الكوفة، فأراد أن يتملّق إلى معاوية ليعدل عن قراره أو عن نيته في اتخاذ ذلك القرار، فأشار عليه بولاية عهد يزيد، تبرع من نفسه وهو المغيرة بن شعبة ليقترح على معاوية تقرّباً له بأن يعهد الولاية إلى يزيد، عندما أشار على معاوية لولاية العهد ليزيد أجابه معاوية -أب يزيد- ومن لي بهذا؟ كيف تمرر؟ من هو المجرم الكبير الذي يستطيع أن يصل بالأمر إلى هذا الحد؟ من لي بهذا؟ فقال المغيرة بن شعبة، أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، عندك مجرمان كفوءان في الإجرام، فلَّما رجع المغيرة إلى أصحابه، هذا الذي اقترح تولية يزيد، ماذا يقول عن يزيد؟، يقول: لقد وضعت رجل معاوية في مغرزٍ بعيد الغاية أو الغيّ على أمة محمد، وفتقت عليهم فتقاً لا يُرتق -وفعلاً كلمته كانت تكشف عن مستقبل الأمة- وفتق المسلمين بولاية يزيد بعدُ لم يرتق وسيطول عليه الأمد قبل الرتق.
عبدالله بن حنظلة، وقد رجع من عند معاوية وأغدق عليه وعلى أبنائه المال الكثير، رجع إلى المدينة، ماذا رأيه في يزيد بن معاوية؟: أتيتكم من عند رجلٍ لو لم أجد إلا بَّنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، لفسقه ومجونه وفتكه وشخصيته الغريبة عن الإسلام.
ماهو رأي المعصوم “عليه السلام” فيه؟ الإمام الحسين (عليه السلام): ويزيد رجل فاسق شارب خمر قاتل النفس المحرّمة معلن بالفسق.
هذا على مستوى الحكم والحاكم.
على مستوى الأمة:
سنة الستون للهجرة، أوضاعها على مستوى الأمة:
عن الإمام الحسين (عليه السلام): إنّ الدنيا قد تغيّرت وتنّكرت، وأدبر معروفها، ولم يبقى منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل.
أي دنيا؟ دنيا أمريكا أو انجلترا؟ دنيا العالم الغربي؟ العالم الشرقي؟ لا.. الدنيا في بلاد الإسلام وفي أمة الإسلام، الصورة المعروفة للدنيا في الأمة الإسلامية والبلاد الإسلامية قبل يزيد ومعاوية قد تغيّرت، هذه صورة جديدة بعيدة عن الإسلام، غريبة عن الإسلام، معادية للأمة، سقط فيها الإنسان، الإنسان غزته الجاهلية وقعدت بهمّته وإرادته الخيّرة وأنسته ذكر الله، ووضعٌ حاكم يأخذ بالأمة في خطواتٍ متسارعةٍ إلى النهاية، إلى الإنسلاخ عن الإسلام، هذا هو تغيّر الدنيا الذي يعنيه أبو عبدالله (عليه السلام).
ابحث عن معروف، فتش الزوايا عن المعروف، تنظر في الرجال وما عندهم من معروف، فإن وجدت شيئاً وجدته قليلاً نادراً، إذا بقي خير فهو خيرٌ قليلٌ شحيح لا يروي، وفيه كدورة، لأن الصبابة النهائية تكون عادةً فيها الشوائب، هذا الوجه الخيّر المحدود من ما بقي من الدنيا.
السر هنا، سر الإنتكاسة هنا، سر الفساد هنا، سر التدهور هنا، سر المصيبة هنا: ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟
لبقاء الأمة لابد من العمل بالحق والتناهي عن الباطل، عدم السكوت عن المنكر، جاء من صغير أو جاء من كبير، من محكوم أو حاكم، وإلا فالإسلام والحق إلى ذهاب.
من وصفه (عليه السلام) للدنيا، للإنسان، للناس: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون.
الديّانون قليلون الذين كانوا على استعدادٍ بأن يواجهوا المحنة المفروضة على الأمة من الدولة الأموية.
الأمة تتخلى تحت ضغط سياسة القمع والتجويع والمطاردة عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنصاع للسياسة الظالمة العابثة بأحكام الدين تحت عامل الخوف، وطلب الدنيا وقد شحّت بسبب الحكم الظالم في تخلٍّ خطير عن رساليتها وصارت تعاني من غيبوبة فكرٍ وغيبوبة ضمير.
من طاغوتية يزيد، ووهن الأمة، والإنشغال بأمر الدنيا، يقدم يزيد على أمر واليه على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، بأخذ البيعة كرهاً من الإمام الحسين (عليه السلام)، الإمام المعصوم المفروض من الله عز وجلّ، وبن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والشخصية الأولى في نظر الجميع يومذاك في المجتمع الإسلامي.
كان الإسلام أمام مصير خطيرٍ من التدهور في واقع حياة الأمة لإستمرار الحكم الأموي الوراثي الجاهلي، وأمام تحريفٍ بالغ في عقيدته وقيمه وأخلاقه وأحكامه، تضيع معه -هذا الواقع- صورة الإسلام الإلهية الحقيقية، بحيث ينسدّ الباب، ولا يجد طلاّب الحقّ من الأجيال المتعاقبة سبيلاً للوصول إلى الإسلام، إلقاء ستار بين الإسلام وبين الأجيال بحيث لا تراه الأجيال، الصورة الإسلامية الحقّة ممنوعٌ أن تصل، المخطط أن لا تصل إلى الأجيال المتعاقبة بعد الحكم الأموي، ويحلّ إسلام الهوى السياسيّ والجاهلي محلّه في فهم الأمة قبل واقعها، أكبر من كون الواقع غير إسلامي أن يُنسى الإسلام، أن يُجهل الإسلام، أن تغيب الصورة الإسلامية الحقيقية، أن لا تحضر في الساحة إلا الصورة المشوّهة الأرضية الشيطانية الجاهلية للإسلام.
أراد الحكم الأموي أن لا يصل إليكم الإسلام، إلا الإسلام المصبوغ بالصبغة الجاهلية والهوى الأرضي وجنون السياسة.
للإسلام كغيره من المبادئ حياةٌ في فكر الناس بحيث يتوّفرون على فهمه كما هو وفي صورته الحقيقية -لا في صورة مكذوبة عليه تسقط بقيمته وتهبط بمستواه وتخالفه في عقيدته وأخلاقه وأحكامه ونظمه ورؤاه- هذا نوع من الحياة لأي مبدأ في أمّته، في العاشقين له، في المنتمين له.
وللإسلام حياة أخرى هي حياته في واقع الناس، على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، ومرجعيته العملية في كل شؤون الحياة وبناءاتها المتعددة.
وكما لأي أطروحة حياتان، فكرية وعملية، ومن ذلك الإسلام نفسه، فكذلك لكل أطروحة ومبدأ مستويان من الغيبوبة أو الموت، فقد تموت الأطروحة على مستوى الواقع في واقع الحياة، فلا تجد لها أثراً في واقع الحياة، موجودة فكرياً، موجودة في الكتب، لكن لا أثر لها ولا انعكاس على واقع الحياة، هذا مستوى من الموت للفكرة، للأطروحة، للمبدأ، ويختفي أثرها في قيادة الأوضاع وصياغتها ولكن تبقى مفهومة على حقيقتها أو يبقى السبيل إلى فهمها مفتوحاً، ويبقى لها الإنتماء الفكري، وتكون موجودة في الكتب على واقعيّتها وصورتها الأصل، وليس هناك تهويل لها ينقض ما تدل عليه نصوصها، هذا مستوى من الحياة، حياة على مستوى الفكر، موت على مستوى الواقع.
وفي مستوى آخر، قد تموت على مستوى الفكر، والفكر أصل الواقع، الواقع يقوم على أساسٍ من الواقع البشري، الواقع السياسي، واقع الأوضاع الحياتية التي تصنع على يد الإنسان، وراء ذلك خلفية فكرية، والخلفية الفكرية قبل هذه الأوضاع.
قد تموت على مستوى الفكر، وتنسلخ عن حقيقتها، إلى حقيقة أخرى مجانبة ومعادية في فهم الناس، وهذا هو الموت الأكبر للأطروحات والمبادئ، والإسلام أريد له أن يموت هذا النوع من الموت، بحيث يُغيّب عن الأجيال، يطلبه عشّاق الحقيقة لكن لا يصلون إليه.
والإسلام كان مهدداً بصورة جديّة بهذا المستوى من الموت والتزوير وانقلاب صورته الإلهية إلى صورة أرضية جاهلية على يد السياسة الأموية التي كان يقودها يزيد وأمثال يزيد.
أما مسؤولية الثورة -الثورة التغييرية- فهو انقاذ الإسلام فكرياً وعملياً من الموت والغياب والنسيان والتزوير وأن يكون القائد للحياة كل الحياة، للفكر كل الفكر، للواقع كل الواقع.
الهدف الأصل للثورة التغييريّة الواعية والمُخلصة أن تُقادُ حركة الأرض كل الأرض بالفكر الإسلامي وأن يسودها الواقع الإسلامي، أن يسودها واقع من صنع الإسلام، وما كانت المعادلات وواقع القوى على الأرض ليسمح لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) أن يُعاد للإسلام موقعه القيادي لسياسة الأمة وكل شؤونها وصوغه لها في كل جوانب الحياة. هذا مطلب لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) تصحيح الفكر والواقع، وتحكيم الإسلام فكراً وعلى مستوى حياة الواقع، لكن تمكين الإسلام في الظروف التي كانت يوم الثورة، موازين القوى المادية عند يزيد وعند الإمام الحسين، وواقع الإهتراء والسقوط في إرادة الأمة وضعف حالة الإيمان، كل ذلك عوامل ما كانت تعطي الإمام الحسين أن يحقق إنتصار الإسلام الإنتصار القريب السياسي وأن يحقق قيام حكم الإسلام على المستوى الفعلي، هذا كان ممتنع بحسب الظروف القائمة.
هل كان يقدر الإمام الحسين هذا أو لا يقدره؟ يعرفه أو لا يعرفه؟ لو لم يكن (عليه السلام) معصوماً وهو المعصوم، لكان لتربيته وعلوّ فكره وبيئته -بيئة أمير المؤمنين عليه السلام وبيئة الصراع الذي عاشه- لكان يعرف ذلك دقيقاً. لم يكن غائباً على الإمام الحسين أنّ تحقيق النصر العسكري بعيد المنال يومها، إذن ماذا يبقى من مبررٍ للثورة؟
الشيء الأهم، أن لا تختفي صورة الإسلام الحقيقي وتحلّ محلها في الواقع الفكري للأمة –واقع الإعتقاد، الفهم للدين- الصورة المشوّهة الجاهلة الأرضية.
أنا تحدثتُ عن هدفين للثورة، هدف يمتنع تحقيقه، هدف رأى الإمام الحسين أنه يُحقق بدمه الشريف ونفسه الزكيّة العالية، بشهادته وبشهادة الصفوة من بعده، صفوة من صفوة الأمة يوم كربلاء.
فكان على الثورة أن تنقذ الإسلام -اسقاط الحكم الأموي كان ممتنع، ليس عقلاً وإنما على مستوى لغة الواقع، يعني من المعادلات الواقعية، ميزان القوى وتفاوته الكبير، كم وجد يزيد من جيش وكم وجد الحسين من جيش؟ انظر إلى المستوى- كان على الثورة أن تنقذ الإسلام من أن يخسر صورته التي رسمها الوحي إلى صورةٍ أرضية جاهلية منحدرة في فكر الأمة -أنا لا أتحدث عن واقع الأمة- بحيث تغيب الصورة الأصل للإسلام حتى لا يجدها الساعي الجاد للحصول عليها -لولا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) لكنتَ تنّقب في كل ما جاء من حديث، وكل ما جاء في التاريخ، وكل ما كتب من التراث المنسوب للإسلام، ما كنت لتجد الصورة الإسلامية الناصعة في كل هذه المصادر، لأنّ كل شيء كان سيخضع للتزوير والكذب على الله ورسوله-.
وقد أعطى الدم الزكيّ للإمام الحسين (عليه السلام) والشهداء الكرام معه، والتخطيط الدقيق للثورة، والتضحيات الضخمة، أن أبقت للإسلام صورته المُشعة الصَّنّاعة الرائدة وإمكان الوصول إليها لكل طالبٍ جادٍ للوصول إلى الحقّ وإن صعب الطريق إلى ذلك –نشاط الفكر التحريفي وإمكاناته العملية الهائلة والقائمة إلى اليوم، أنت الآن الباحث الغربي عن الإسلام الحق، الباحث من المسلمين عن الإسلام في صورته الحقّ، له طريق يوصله إلى هذه الصورة، لكن دونه حواجز وموجود ضباب وغيوم وتضليل فكري وتزوير وتراث مكذوب وهذا يصعب الوصول إلى الحقيقة، لكن الطريقة غير مسدود نهائياً، وكان له أن يبقى مسدوداً نهائياً لولا شهادة الإمام الحسين (عليه السلام).
أعرفت أين وجه العظمة لثورة كربلاء؟ أبقت الإسلام بعد محاولة شرسة ما كان لو تُركت إلا اندثر الإسلام.
وكانت الثورة خالصة لوجه الله الكريم، تقدّم الحسين (عليه السلام) للقتل، للشهادة، بوعي وتخطيط في مدة طويلة، منذ طلب البيعة إلى يوم كربلاء أشهر، والحسين (عليه السلام) ينظر بعين البصيرة بأنه مقتول وعنده الخبر الغيبي عن طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هذا يقاتل لنصر؟ ميؤوس منه، يعلم أنه لا نصر عسكرياً. لينجو؟ يعرف أنه يستشهد. هذه حركة تُحمل على أن فيها طلباً للدنيا؟ طلباً للجاه؟ جاهي بعد موتي صفر لا قيمة له، الحسين (عليه السلام) عظيم ويعرف هذا، أستشهد حتى تكون المآتم؟ حتى نلطم على صدورنا؟ أستشهد في سبيل حياة المبدأ، ومن أجل الله تبارك وتعالى، وفي تقّيّدٍ تامٍ بالإسلام بكليّاته وبجزئياته وتفاصيله، بأحكامه، بأخلاقه.
ثانياً: ماذا كان على الإمام الحسين (عليه السلام) أن يفعل أمام ظروف الأمة سنة ستين هجرية؟
ماذا كان عليه أن يفعل أمام جاهلية السياسة وطاغوتيتها وطوفانها الجنوني الساحق للإسلام؟ أمام انحدارة الأمة وسوء أوضاعها وسقوط ارادة الأمة؟ أمام إرادة يزيد واكراهه على الدخول في بيعته مع بُعد يزيد في كل أبعاد شخصيته عن الإسلام ومعاداته الشرسة للإسلام؟ أين يزيد من موقع القيادة الإسلامية وإمامة الأمة؟ هذا الساقط المكشوف سقوطه يريد أخذ البيعة من الإمام المعصوم (عليه السلام)، أمام هذا كلّه ماذا كان على الإمام الحسين أن يفعل؟
ماذا يقول قرآننا الكريم، ماذا يقول قرآن الله عز وجل، قرآننا النازل لنا؟
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
أمة يجب أن تستمر مع كل زمن، في كل مكان، حين تغيب هذه الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، لا حق ولا هدى ولا إنسانية، واجبٌ ولابد وبكل تأكيد من أن تقوم الأمة بصناعة هذه الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر إنْ قلنا بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الواجب الكفائي، فيجب عن الأمة أن تحضّر لوجود هذه الأمة وأن تعمل جادة على استمرار هذه الأمة ليتأدى الواجب الكفائي.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ..)
نداء يخاطب في المؤمنين إيمانهم، وينطلق من أمره إليهم من إيمانهم، ويبين بأن قاعدة الإسلام يقوم عليها هذا الأمر، وأنّ من كان مؤمناً حقاً ليس له أن يتخلّف عن هذا الأمر.
كان الوضع يحتاج إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لم يكن؟ الحسين (عليه السلام) يكون خارج الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟
حين ينادي الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، الحسين أين موقعه من هؤلاء الذين نودوا بنداء الله، هو الأول في وقته، حينما يُقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من هم أبرز المصاديق ذاك اليوم؟ هو الإمام الحسين (عليه السلام)، الخطاب عامٌ ويراه شخصياً عليه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ…)، ليس هناك قعود، هناك حركة، جهاد، بذل، تضحية، عمل دؤوب، جدٌّ جاد، في أي سبيل؟ ولوجه مَن؟ لوجه الله، ولإقامة دينه في الأرض، وإعلاء كلمته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)
هذه نداءاتٌ لا يفهمها أحدٌ الفهم الكامل كما يفهمها الحسين (عليه السلام)، ولا تملك عليه كلّ وجوده كما تملك على الحسين (عليه السلام) كل وجوده، أيصمد الحسين (عليه السلام) أمام أمر الله ونهيه إلا أن يُصعق؟ إلا أن يذوب؟ إلا أن يزهد في هذه الحياة وستقذر هذه الحياة وهو مأمورٌ من الله أن يسلك طريق الموت والشهادة.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
كتاب الله ميزان، رسول الله ميزان، حديث رسول الله ميزان، الأئمة ميزان، فرقانٌ بين الحق والباطل، معيار لما هو حق وما هو باطل.
كم وزنك من الحق؟ كم وزني من الحق؟ أجيبك بأن وزنك ووزني من الحق بمدى الاقتراب أو الابتعاد من النبي (صلى الله عليه وآله).
وظيفة لابدّية نزلت من أجلها الكتب وجاء بها الرسل، تقيمون العدل، وأول القسط توحيد الله، وتضييع قضية توحيد الله عزّ وجل فيها ضياع كلّ الحقّ، وإذا كان توحيدٌ في الأرض وحكم التوحيد الأرض انحلّت مشكلات الأرض كلها، اعطني توحيداً صادقاً –الدين يقول- أعطك دنياً آمنة سعيدة راقية رائعة، أعطيك إنساناً عملاقاً ملاكاً.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
والحديد وبأسه الشديد مشهورٌ من جبهة الباطل في وجه الحق، فحين لا يكون حديد ولا بأسٌ شديد في مقابل حديد الكفر وبأسه الشديد لا يكون إيمان، ولا يكون إسلام، ويندثر الحق.
قل بالصريح، يا رسول الله، قل أمر ربي بالقسط، فكلنا مأمورون بالقسط، وكلنا مأمورون بإقامة القسط، أنا مأمورٌ بالقسط في حدود شخصيتي فقط؟ أو أنّ عليّ المشاركة في إقامة القسط على مستوى الأمة وعلى مستوى الإنسانية؟ الثاني هو الصحيح.
(الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
وهناك أيضاً منافقون ومنافقات، وكافرون وكافرات، أولياء بعضهم البعض، ولاية بين الناس نابعة من ولايتهم للشيطان، وولاية بين فريق آخر بين أفراد هذا الفريق ولكنها نابعة من الولاية لله عز وجلّ.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ)
أتفرج على الفساد في الأرض؟ على الظلم في الأرض؟ على انتهاك الحرمات في الأرض؟ على التلاعب بالإسلام في الأرض؟ على بيع الأرض الإسلامية للكفر؟ على التآمر على الأمة الإسلامية وعلى الإسلام؟
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ) توبيخ من الله عز وجل لقرونٍ مضت، شحّ فيها من ينهى عن الفساد في الأرض، هذا خاص بهم أو يشملنا نحن؟ واضحٌ هو الجواب.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ..)، لديهم بقية من عقل، بقية من ضمير، بقية من وعي بصيرة، من حسّ فطري بالحاجة إلى الله عز وجل ووجوب طاعته.
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) قلة ناجية هي التي نهت عن الفساد في الأرض، الباقي ما حالهم؟ المتخلفون عن النهي الفساد في الأرض ظلاّم، ظالم ظالم إذا تخلفت عن النهي عن الفساد في الأرض، وإذا لم آمر بمعروف وأنهى عن المنكر. محكوم عليهم بالإجرام.
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)
الحياة ليست للراحة، الراحة في الجنة للمتقين، أما الدنيا فهي دار بلاء، ودار امتحان، ودار صِدام، ودار مواجهات، دار تغالب، فيها هذا كلّه.
حتى لا تكون فتنة في الأرض، وحتى لا يتعرّض أهل الإيمان لصعوبات، لابد أن يعدل الكفار عن كفرهم، وأن تكون الأرض ليس فيها إلا مؤمنون، حينئذ يسهل طريق الإيمان ولا تكون كلفة المؤمن كلفة عالية، أما والحال أنّ الكفر يبقى، والله قادرٌ على أن يقضي على الكفر في لحظة واحدة لكنه الإمتحان.
استبعد هذا الظن، هذا التصوّر، هذه الأمنية، أن تكون مؤمناً، أن تكون أمة مؤمنة من غير متاعب في أوضاع جاهلية، أوضاع معادية، مع وجود عناصر بشريّة شريرة شيطانية تسعى لأن تكون آلهة الأرض.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)
سُنّة لا تتوقف -باللغة العامية “مش بوزك”-، الله يعلم الصادق ويعلم الكاذب قبل موقف هذا وقبل ذاك العلني وقبل الإمتحان، ولكن ليكون صدقٌ عملي مبرهنٌ بالعمل، كذبٌ مبرهنٌ بالعمل، صدقٌ يحمل دليله العملي، وكذب يحمل دليله العملي، هذا متوّقف تعلّق العلم به على حصوله، فأن يحصل أولاً في الرتبة ليُعلم، أما أنّ فلاناً في داخله صادق الإيمان أو كاذب الإيمان فهذا معلوم عند الله أزلاً، ومعلوم عند الله أن هذا سيظهر صدقه عملاً وذاك سيظهر كذبه عملاً.
هذا القرآن، هذه أوامره، والحسين (عليه السلام) لا يفارق القرآن فكراً ولا عملا، تسألني ماذا كان على الحسين أن يفعل؟ هذا ما قاله القرآن، وهذا ما وقفه الحسين (عليه السلام) في إستجابةٍ لا تردد فيها لنداءات القرآن الكريم.
وغفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.