آية الله قاسم : الظلم والأمة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الظُّلمُ والأمَّة
الظُّلمُ جريمةٌ كبرى يشترك فيها المُخطِّطُ له، والآمرُ به، ومُنفِّذُه، والراضي به، والقادرُ على نصرة المظلوم، الممتنع عن نصره.
وإذا استُسيغ -أو حَسُن- تغاضي الفرد عمَّن ظلمه في بعض الموارد -مع القدرة على مقابلته بما يصحُّ- لحكمةٍ مقبولةٍ، وتسامحٍ حميدٍ؛ فإنَّه لا يجوز التمكين للظلم في المجتمع، ولا التسامح في ردِّه، والتقصير في تطهير الأرض منه، والقضاء على منابعه، والتكاتف، والتآزر على اقتلاع جذوره، ومواجهة مصدره، وطلب أسباب القوَّة التي تقضي على الجور، وتحمي منه، وتدفع احتمال عودته.
ومن أقبح الظلم، وأخطره، وأشدّه اجتثاثًا للعدل، وقضاءً على الأمن، وإرباكًا للحياة، وإعاقةً للنموّ، وإفقارًا للنِّاس، ونشرًا للفساد، وإشعالاً للفتن، وإضاعةً للحقوق، أن يقيم فردٌ، أو قبيلةٌ، أو حزبٌ من نفسه قيِّمًا على النَّاس، وأمينًا على أنفسهم، وأموالهم، ومصالحهم، ومقدَّساتهم، ومقدَّراتهم، وأمنهم، فيكون السبع الضَّاري عليهم، النَّاهب لِلقمة عيشهم، الخائن لكل أماناته فيهم، وسلاحه في ذلك كله ناتجُ جهدِهم وعرقهم وكدِّهم، ويجعل من نفسه السيِّد المطلق الذي لا يرى في الشعب -الذي يحكمه أو الأمّة التي يحكمها- إلا عبيدًا مملوكين لا نصيب لهم من الحريِّة، بل يرى من نفسه الإله المطلق الذي يُركع له، ويُسجد، ويُتعبَّد بطاعته، وولائه، والاندكاك أمام عظمته.
وهذا ظلمٌ لا يصحُّ السكوت عنه، وإقراره، ولا تبرأ الذِّمة، ولا ينحفظ للنَّاس دين ولا دنيا بلا الإنكار عليه ومقاومته، وبذل كلِّ الجُهد في التّخلُّص منه.
على الأمَّة كلِّها أن ترفع صوتها عاليًا أمام هذا الظُّلم أيَّا كان، صارخة في وجهه لا لظلمك، لا لفرعونيتك يا فرعون، ولا سجود، ولا ركوع إلا لله.
ومَن أولى مِن أمَّة التوحيد وشعوبها بهذا النِّداء وبهذه الصرخة، والصِّدق فيها، والثّبات عليها؟!
وهي الأمَّة التي يقول قرآنها الذي آمنت به: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾ [البقرة: 258] ولمّا كان لا هدى إلا من الله؛ فالظالم وهو لا هدى له منه سبحانه، وقد حَرَم نفسه من هداه بإفساد قلبه، أعمى فاقد للبصيرة، وهل تُسلِم أمَّةٌ قيادتها بيد أعمى يأخذ بها إلى المهالك؟!
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين﴾ [آل عمران: 57]، وهل من العقل، والمصلحة أن تستسلم أمَّةٌ تؤمن بالله، وأنَّه لا خير إلا من عنده، وأنَّ حبَّه شهادة السموِّ والنَّجاح، وبغضه شهادة السقوط والخسار لإرادة أيٍّ كان، ولو كان ظالمًا مبغوضًا لله، منبوذًا من قِبله سبحانه؟!
﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون﴾ [النمل: 52-53].
وأمَّةٌ ترضى بالظُّلم وتقرُّه، ولا تُدافعه، وهي قادرة على مدافعته ومناهضته، أو تملك السعي إلى تحصيل القدرة على مواجهته شريكة في الظلم؛ والظُّلم هدَّامٌ للنّفوس، وهدَّامٌ للمجتمعات والحضارات، وكلِّ بناءٍ مجيدٍ.
الظُّلم محرقةُ إنسانيّة الإنسان، وكلّ الأوضاع الإيجابية للحياة.
أمَّةُ القرآن، أمَّةُ العدل، المناهضةُ للظُّلم، الثائرةُ عليه، الأمَّةُ المأخوذُ عليها -بمقتضى إيمانها بالله وعدله وشريعته- أن تجتثَّ الظُّلم اجتثاثًا، ولا تبقي له أثرًا، ما وجدتْ إلى ذلك سبيلاً أو أمكن لها أن تجد الطريق إلى القوَّة التي تُحقق لها هذا الهدف العظيم.
الأمَّةُ المستجيبةُ لسنَّة رسول الله وأهل بيته الأطهار.. السنَّة التي هذا من قولها، عنه(صلى الله عليه وآله): (مَن أعانَ ظالِما على ظُلمِهِ جاءَ يَومَ القِيامَةِ وعلى جَبهَتِهِ مَكتوبٌ: آيِسٌ مِن رَحمَةِ اللّه). [ميزان الحكمة ج2: 1779].
وعن الإمام الصّادق(عليه السَّلام): (العامِل لظلم والمُعين له والرّاضي به شُركاء ثلاثتهم). [الكافي ج2: 333.]
وعنه(عليه السَّلام) لمّا سئل عن عون الظالم للضيق والشدّة: (مَا أُحِبُّ أَنِّي عَقَدْتُ لَهُمْ عُقْدَةً، أَوْ وَكَيْتُ لَهُمْ وِكَاءً، وَإِنَّ لِي مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا، وَلَا مَدَّةً بِقَلَمٍ؛ إِنَّ أَعْوَانَ الظَّلَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ الْعِبَادِ). [الکافي- ط دار الحديث ج9: 624.]
وعن الإمام الرِّضا(عليه السّلام): (مَن أعانَ ظالمًا فهو ظالِم، وَمَن خذَلَ ظالمًا فهوَ عادل). [ميزان الحكمة ج2: 1779].
وعن مناهضة الظُّلم نقرأ الحديث عن الرسول(صلّى الله عليه وآله): (مَنْ أخَذَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ كانَ مَعي فِي الْجَنَّةِ مُصاحِباً). [ميزان الحكمة ج2: 1780]
وعن الإمام عليٍّ(عليه السَّلام): (أحْسَنُ الْعَدْلِ نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ). [ميزان الحكمة ج2: 1780]
هذه الأمَّة وحتى تنسجم مع هويّتها لا يكون لظلمٍ استقرارٌ فيها، ولا لظالمٍ إقامةٌ على ظلمِهِ من بينها.
لا بدّ لأمَّة الإسلام حتّى لا تنقلبَ عن وظيفتها، ولا تتناقضَ مع إسلامها، ولا تدخلَ في عداوة ربِّها من أنْ تنكر المنكر، ولا تساعدَ عليه، وتأمرَ بالمعروف، وتصرَّ عليه، وتنصرَ المظلوم على الظالم، وتشيِّد الحقّ، وتهدم الباطل، وتقتلع من الأرض جذور الفساد.
لا يسعُ هذه الأمَّة أن تذلّ، ولا يسمح لها دينُها أن تضعُف، أو تصبر على الاستضعاف. إنّها أمَّة الحقّ والقوّة والنهضة والعزّ والمجد والشموخ.
فإلى العمل.. إلى القوة.. إلى النهوض.. إلى المقاومة.. إلى الجهاد.. إلى الحركة الصاعدة، إلى المعرفة.. إلى البناء.. إلى الازدهار.
لا فتور.. لا سبات.. لا قعود، لا استسلام.. لا خوف.. لا ركود.. لا خنوع.. لا عبوديّة إلا لله.
لا للظلم من الخارج.. لا للظلم من الداخل.. لا للظلم من النفس.. لا شيء إلا الحقّ.. لا شيء إلا العدل.
لا تراجع.. وإنّما سيرٌ دائمٌ للأمام، وعلى طريق الله ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾. [المنافقون:8]
عيسى أحمد قاسم
٢٤ يوليو ٢٠١٩م