الحديث القرآني الرمضاني – 27 رمضان 1440هـ / 2 يونيو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث :
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (9) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 27 رمضان 1440هـ / 2 يونيو 2019
قوله تبارك وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) – الأنبياء
الآية الكريمة تأتي ردّاً على الوثنيين، وتبصيراً للجاهل الذي يذهب به وهمه إلى أنّ الخالق غيرُ المُدبّر، وأنّ الكون وإنْ كان خالقه واحداً لا شريك له إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ الربّ واحد، فمرحلة الخلق غير مرحلة التدبير، ويمكن أن يكون الخالق واحداً، أمّا المُدّبر فيمكن أن يكون كثيراً، وهذا وهمٌ موغلٌ في الوهم، وخيالٌ ساقطٌ كلّ السقوط.
تدبير الله عزّ وجلّ -من الناحية التكوينية- لا يقوم على الأمر والنهي اللفظيين والاعتباريين، ]إنما[ يقوم على الخلق. أن تكون الشمس في هذا الموضع، أن يكون القمر في هذا الموضع، أن تكون السماء مكانها، الأرض مكانها، أن يكون كلّ شيءٍ على وزنه، وبمقدار ذرّاته، وأن تكون له وظيفته الخاصة، وأن تكون له علائقه بالأشياء الأخرى، كلّ ذلك يحتاج إلى عملية خلق، تدبير، تدبير بمعنى الخلق، بمعنى التنزيل الدقيق الذي يحفظ لكلّ شيءٍ وجودَه، ويحفظ لكلّ شيء خصائصه، ويحفظ لكلّ شيء موقعه من النظام الكوني العام، الذَرَّة، الإلكترون، الجُزيء، الجزء، العضو، كلُّ ذلك يكون في موقعه وبالنسبة المُحدَّدة له في علاقته بالأشياء الأخرى ممّا هو معه في وجودٍ واحد.
يعني يوم أن يتنزّل على العين ما لا ينسجم مع وجودها، مع وظيفتها، مع موقعها، لمّا تزيد خلايا، لمّا تنقص خلايا، ذرّات، كلّ ذلك يفسد العين والأشياء الأخرى. فمسألة التدبير الإلهي غير تدبيرك لمنزلك، أنت كيف تدبّر منزلك؟ بالأوامر والنواهي اللفظية، والحاكم يدّبر المحكومين وشؤون المحكومين أيضاً عن طريق إصدار الأوامر والقوانين الاعتبارية. أما قوانين الكون فتكوينيّة، ما يحفظ الكون ليس الأمر اللفظي، ما يحفظ الكون ونظامه هو الأمر التكويني، هو مسألة الخلق بمقدارٍ دقيق، وبأوزان عالية الدقة، هذا هو التدبير للأشياء. فنفس التدبير هو خلق، كلّ ما هناك أنّ هناك خلقاً ابتدائياً وخلقاً استمرارياً، والذي لا يستطيع أن يُعطي الخلق ابتداءً لا يستطيع أن يُعطي الخلق استمراراً، ومن يُعطي الخلق في الاستمرار هو الذي يُعطي الخلق في الابتداء. هذا من جهة.
الآية الكريمة تعرض تداخلاً وتشابكاً في عملية الخلق والتدبير، تعرض عملية تداخل وتشابك بين عملية الخلق وعملية التدبير، ووقوع عملية الخلق كعملية تدبير، أو قُل: هي تذكر التدبير عن طريق الخلق.
فهذه إشارة إلى أنّ الآية الكريمة تتعرّض لدعوى الوثنيين بإمكان انفصال المدبّر عن الخالق، وإذا انفصل المدبّر عن الخالق فالمعبود هو المدبّر، فيمكن أن أعبُد المدّبر، الخلق مضى، انتهى، أمرٌ حدث وانتهى، الآن حياتي ووجودي وشئوني وآثاري وخصائصي ومصيري قائم على التدبير، فإذا انفصل التدبير عن الخلق فهنا أعبُد القديم الذي أحدثني ابتداءً أو الذي يقوم وجودي على عنايته الآن وعطائه الآن؟ أنا أريد أن أعبد من يصلني عطاؤه الآن وهو عن طريق التدبير، فإذا أتى المدبّر بعد الخالق وقام وجودي وكلّ شؤوني به عبدتُه، فإذا كان للسماء إله، وللأرض إله، وللشرّ إله، وللخير إله، للنار إلهٌ، للماء إلهٌ، للريح إلهٌ، لي إلهٌ، لك إلهٌ، أمكن لي أن أعبُد إلهي الذي هو مُدبّري، وأمكنك أن تعبد إلهك الذي هو مُدبّرُك، فأمكن الشرك بلا إشكال.
هذا مدفوعٌ، وممّا تدفعه الآية الكريمة عن طريق بيان أنّ التدبير هو عملية خلق، وأنّ الخلق والتدبير أمرٌ واحد، كلّ ما هنالك أنّ الخلق يُطلق على الإيجاد الابتدائي وعلى لحظة الحدوث، وأمّا التدبير فيُطلق على ما بعد ذلك من عطاءات الإله المدبّر القاهر الحكيم لذلك الموجود أو ذلك الموجود.
“الفتق” معروف لغة هو الاتصال والالتزاق، اتّصال الشيء المُتّصل بالشيء الملتصق به الذي لا تجد فاصلاً بينه وبينه. هذان الاثنان يكونان في حالة رتق، هذه الورقة ]مثلاً[ تعيش حالة رتق، أجزاؤها مع بعضها البعض تعيش حالة رتق، “الفتق” هو الفصل والتفكيك، إذا حصلت حالة الفكّ، وحالة الفصل وحالة إحداث فارق وفاصل بين هذا الجزء وهذا الجزء هنا فتقٌ، النساء يقولون: “فتقت الثوب”، باللغة العاميّة (فتّكت الثوب) يعني فَكَّكْتُ خيوطه فَفَكَكْتُ أجزاءه، أحلَلْتُ خيوطَه فَفَكَكْتُ أجزاءه، فتفكّك وتفتّق. فالفتق مقابل الرتق.
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا)، كانتا ملتصقتين ملتزقتين، ليست هناك سماء تراها مستقلّة، ليست هناك سماء تراها مفصولة عن الأرض، ولا الأرض تراها مفصولة عن السماء.
هذا الرتق، هذا الفتق، مرّة يُعنى بالرتق أنّ السماوات والأرض وكلّ ما فيهما كانا وجوداً واحداً متّصلاً، ليس منه ما هو متميّزٌ عن الآخر، ليس فيه شيئان يتميّز أحدهما عن الآخر، لا سماء متميّزةٌ عن الأرض ولها هوية السماء وحقيقة السماء، ولا أرض لها حقيقة الأرض مستقلة، ولا هناك نبات، وحيوان، ونجوم، ومجرّات، وتوابع، وأقمار، وما إلى ذلك، هذا كلّه غير موجود، الكون كلّه شيءٌ واحد، لا يُقال عنه أنّه أشياء، ليس له مسمّيات هذه سماء وهذه أرض وما إلى ذلك، ما في وجودات مستقلّة عن بعضها البعض، متميّزة، معروفٌ هذا بحدوده، ومعروفٌ ذاك بحدوده، ما في حدود، وما في خصائص خاصة، وما في شيء يُعنون بهذا العنوان وشيء آخر يُعنون بذاك العنوان، الكلّ وجود واحد معنون بعنوان واحد. هذا صورة من الرتق، الرتق الجامع لكلّ ما في الكون، يعني يجمع الكون كلّه في وجودٍ واحد، لا يتميّز بعضه عن بعض، ولا يأخذ بعضه هذا العنوان، وذاك البعض العنوانَ الآخر، هذه عملية رتق.
هناك رتق يختلف، عندنا سماء متميّزة، هذه سماء لها وجودها الخاص، وخصائصها الخاصة، وتركيبها الخاص، ومعادلاتها الخاصة، وأرض بمعادلاتها الخاصة، وتركيبها الخاص، وخصائصها الخاصة، لكن متّصلتين. فالاتصال بين شيءٍ اسمه السماء وعنوانه السماء وحقيقته السماء، وشيء آخر عنوانه وحقيقته الأرض. هنا اختلفت الصورة عن صورة الرتق الأولي، الرتق الأولي بمعنى يجمع لك الكون كلّه في شيءٍ واحد، مسمّى واحد، له اسم واحد، هذا المسمّى الواحد ما فيه اختلاف في الخصائص، ما فيه اختلاف في المميّزات، ما فيه اختلاف في الآثار. هذان نوعان من الرتق.
أي رتق مَعنيّ؟ الرتق الشديد الذي يجمع العالم كلّه مثلاً في كتلة واحدة متجانسة الأجزاء، وما لأبعاضها خصائص متميّزة؟ أو الرتق بمعنى عندنا سماوات وعندنا الأرض غاية الأمر أنّ هذه السماوات متّصلة بالأرض، وأنّ الأرض متّصلة بالسماوات، أيّ رتقٍ يأتي؟ هذا فلنجعله في ذهننا.
عندما تقول الآية الكريمة: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا..)
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه تقرير، هذا التعبير يُقرّر أنّ الذين كفروا رأوا (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا)، ويوبّخ الذين كفروا على عدم انسجامهم مع هذه الرؤية، رأوا شيئاً وبنوا على نقيضه. (أَوَلَمْ يَرَ) يعني رأوا، وهم ملومون، وموبّخون، ومؤاخذون على عدم توّحد موقفهم مع مقتضى رؤيتهم.
هذه الرؤية -رؤية أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما- يعني خلق هذا الرتق، هذا الوجود الواحد مخلوق لكم واحد؟ مخلوق لواحد. سماوات وأرض، وبعدين؟ ونبات وحيوان وجماد وما إلى ذلك، هذا جاء فيما بعد، بتدبير من؟ بتدبير خالق الكتلة الأولى أو الوجود الأول، فصار خلق مدبَّر بالتطوير من خلال خالقه أو بفضل خالقه. فإذن ليس لدينا مدبّر مفصول عن الخالق، المدبّر هو الخالق.
وإذا كانت الربوبيّة تعني التدبير فهذا يعني أنك تعطيني وجودي، أنت ربّي يعني تملكني، تعطيني وجودي، تعطيني آثار وجودي، تعطيني خصائص وجودي، هذا الخالق هو الذي يعطيكم هذا الوجود باستمرار، وخصائص هذا الوجود، وبركات هذا الوجود.
انزين، الذين كفروا رأوا السماوات والأرض رتقاً؟ رأوا فتق السماوات والأرض؟ الذي تقرّره الآية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) تقرّ بأنهم رأوا! كفّار ذلك الزمان، وثنيّوا ذلك الزمان عندهم تكنلوجيا وتلسكوبات وعلوم حديثة أو ما دونها ورأوا فتق السماوات والأرض؟ حتّى يُقال لهم: رأيتم ولم تأخذوا بما رأيتم؟
طبعاً كفار ووثنيوا ذلك الزمان لا يلتفتون إلى صورة معقدّة من الرتق، أو صورة فتق جاءت بعد الرتق المعقّد، هذا لا يلتفتون له، الذي يمكن أن يلتفتوا له هو رتقٌ وفتقٌ مشهود لحواسّهم العاديّة، هذا هو الرتق والفتق الذي يمكن لي الآن بعدم علمي بالعلوم الحديثة أن أراه.
هذا موجود في الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، هناك رأي لعكرمة وفيه روايات لأهل البيت (عليهم السلام)، يمكن ثلاث روايات هكذا، هذه الروايات تذهب إلى أنّ الرتق والفتق بهذا المعنى: كانت السماء في نفسها رتقاً، والأرض في نفسها رتقاً، ليس أنّ الرتق بين السماوات والأرض، ما كان عندنا اتّصال بين السماوات والأرض، إنما كانت السماء موجودة باستقلال، والأرض موجودة مستقلّة، والأرضُ كانت رتقاً، يعني متّصلة، والسماءُ كانت رتقاً، أي متّصلة. عندنا سماوات متّصلة، أو سماء متّصلة، وعندنا أرض متّصلة، ما معنى اتّصال السماء واتّصال الأرض؟ اتّصال الأرض لوحدها، واتّصال السماء لوحدها، ما معنى ذلك؟
معناه أنّ السماء كانت لا تُمطر، مغلقة، سقف السماء مغلق -والغلاف الجوي سماء، وكلّ ما فوقنا من أجواء هو سماء-، كان مغلقاً لا يُمطر، لا يتخلّله المطر، لا يسقط منه المطر، ففتق الله السماء بحيث تمطر، صارت تمطر، فهذا فتقها، فرتقُها عدم إمطارها، وفتقُها إمطارُها. وهناك بعض الروايات تقول بأنّه عندما نزل آدم (عليه السلام) إلى الأرض أمطر الله الأرضَ؛ حتى تقوم الحياة.
وأما رتقُ الأرض فعدم إنباتها، ما كانت تنبت شيئاً، وكيف تُنبت بلا ماء؟ فلمّا نزل المطر أنبتها الله تبارك وتعالى، فالرتق في الأرض عدم إنبات، والفتق إنبات، والرتق في السماء هو عدم إمطار، والفتق إمطار. حتّى أنّ السائل يقول له الإمام (عليه السلام) ما مضمونه: لعلّك تعني أنّ السماء والأرض كانتا متّصلتين، استغفر الله عن هذا القول. هذا تفسير.
الرويات يمكن أن نحصل فيها على صحيحة واحدة.
معاني أخرى للرتق:
التبيان للطوسي يقول: أنهما كانتا ملتصقتين ففُصِلَتَا، لكن يبقى سؤال عندنا: هل أنّ اتّصالهما -يوم أن كانتا متّصلتين- هل هما على هيئتهما الحالية أم لهما هيئة أخرى؟ فصار فتقٌ مع تطوير إلى الهيئة النهائيّة الحاليّة الآن، يعني قبل الفتق كانتا متّصلتين، لكن ليس اتّصالهما على هيئة سماءٍ متميّزة وأرضٍ متميّزة.
واحتمال آخر أنّه يُعنى بذلك أنّهما متّصلتان وهما على هيئتهما الحاليّتين.
فيمكن أن يكون هذا ويمكن أن يكون ذاك. ماذا يعني هو ]الشيخ الطوسي[؟ هو قال بأنهما كانتا ملتصقتين، وهذا ما أنكرته الرواية.
ابن زيد، وعكرمة، المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): لم تكن السماء تمطر ففتقها الله بالمطر، ولم تكن الأرض تنبت ففتقها الله بالإنبات.
عندما نأتي للآية الكريمة وهي تقول: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا)، أيُّ رتقٍ كان يراه الوثنيون يوم ذاك؟ وأيُّ رتقٍ يراه الإنسان العادي الذي لا صلة له بالرياضيات، ولا بالجغرافيا، ولا بالفلك، ولا بالكونيات، ما له صلة بهذا كلّه، ما هو الرتق الذي يراه؟ يرى ظاهرة الإمطار وعدم الإمطار، الإنبات وعدم الإنبات، فهذه ظاهرة كانت مرئية، فيمكن أن يُخاطب بها الوثنيون يوم ذاك ويُحتّج بها عليهم، ويقول لهم ألم تروا الفتق والرتق؟ وأنّ هذا الفتق والرتق الذي هو يدلّ على نظام واحد؟
السماء تبقى يابسة، الأرض تبقى يابسة جافة ما فيها شيء، ويأتي الحي الذي يحتاج إلى النبات، ويحتاج إلى الحيوان، ويحتاج إلى اهتزاز الأرض، ويحتاج إلى ما تعطيه الأرض ما يُقوّم حياته، فتنفتق السماء بالمطر. الأرض فيها مخزونها، وفيها خصوبتها، فتُنبت، هالإمطار، وهالإنبات، وهذا العطاء المُقّوِّم للحياة ووجود الحيّ على الأرض وهو آدم ونسلُه، هذا تدبير واحد أو تدبير خمسة عشر واحد؟ هذا خلق. هذا الفتق خلقٌ، هذا الماء خلقٌ، الذي ينزل مخلوق، هذه الأرض مخلوقة، هذا الإنبات مخلوق، هذا الاهتزاز من الأرض مخلوق، هذا خلقٌ وهو تدبير، يعني تدبير معناه جمع بين مقدّمات، بين أمور، بين قضايا، بين أفعال مرسوم لها طريق معيّن، تصبّ في اتّجاه هدف معيّن، توصل إلى هذا الهدف، تحمل نِسَب معيّنة، معادلات معيّنة، تحافظ على المسار، وتُحقّق الوصول إلى الغاية، هذا تدبير وهو عن طريق الخلق. فهذا يمكن أن يُحتجّ به على الوثنيين يومذاك، ويُحتجّ به عليّ أنا العامّي اليوم أيضاً.
فهذا يُقرِّب هذا التفسير، تفسير أنّ الرتق للسماء هو عدم إمطارها، أمّا فتقها فإمطارها، وأنّ الرتق للأرض هو عدم إنباتها، وفتقها إنباتها. هذه قرينة.
أيضاً قرينة ثانية لصالح هذا التفسير، وهي تكملة الآية: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)، فتقٌ للسماء يجعلها تمطر، فتقٌ في الأرض يجعلها تُنبت، وهذا الماء من أجل أن تقوم الحياة على الأرض (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، فصارت هذه قرينة ثانية على صحّة التفسير بكون الرتق هو عدم الإمطار، والفتق هو الإمطار، الرتق عدم الإنبات، والفتق الإنبات.
صاحب الميزان يقول ما مضمونه: لا زلنا نشاهد في الأرض رتقاً وفتقاً، عنده عملية الفتق والرتق موجودة في الأرض الآن قائمة، يعطي مثالاً من انفصال أنواع النباتات من الأرض، هذا النبات ما هو؟ هذا النبات تراب، طين، تراب مبلّل بالماء، صار الآن نبات. هالنبات شنهو؟ هالنبات مستحدث استقلالاً عن الأرض أو أنّه كان من أصل الأرض وكان متضمّنّاً في الأرض؟ هذا النبات والأشجار السامقة والغابات والبطيخ والجح وغيرها، هذا شنهو؟ هذا وجود جديد بالمرّة ليس له علاقة بالأرض؟ أو وجود مخزون في الأرض؟ مخزون في طبيعة الأرض؟ يعني الأرض تحمل استعداده وتحمل جرثومته وأصل وجوده؟ طبعاً أصل وجوده موجود في الأرض، في التراب والماء الذي أنزله الله تبارك وتعالى. هذا النبات لمّا يخرج هو أرض؟ أم تراه وجوداً جديداً له خصائصه، فيه نمو، فيه لون جذّاب، فيه طُعوم، فيه فوائد بدنيّة، وإلى آخره، له خصائصه وآثاره، فهو وجود جديد مفصول عن الوجود القديم الأمّ، انفصل عن الوجود الأمّ. والمواليد البشرية والمواليد الحيوانية على هذا النحو أيضاً؛ أنا موجود في أبي وأمي أو غير موجود؟ كنت موجوداً، ولكن هل أنا الآن أبي وأمي؟ أنا الآن غير أبي وغير أمي في خصائصي وأفكاري وإلى آخره، فصار فتق، موجود فتق بيني وبين أبي، كنت وأبي شيئاً واحداً، ففُتِقْتُ عن أبي وففُتِقْتُ عن أمي، وفُتقت النبتة عن الأرض، وفُتق كلّنا عن الآباء والأمهات، فُصلنا يعني، هذه عملية رتق وفتق.
الأرض والسماء، والكواكب والمجرات، وما إلى ذلك، لا زالت في حالة رتق وفتق، وحالة انفصالات وما إلى ذلك. والأشياء التي تأتي من الشمس والشهب وما إلى ذلك، فالكون كلّه، هذه المظاهر والظواهر تعطي صورة عن أنّ الكون كلّه كان وجوداً واحداً، هذه نظرية غير نظرية الروايات، وليس السماء والأرض بس كانتا ملتصقتين، كلّ الوجود، كلّ الكون كان شيئاً واحداً متّصلاً، لا يتميّز بعضه عن بعض، لا سماء ولا أرض ولا نبات ولا إنسان ولا حيوان ولا إلى آخره. ما موجود، موجود شيء واحد.
وقد ذَكَرَ مفاد الروايات المتقدّم ووافق عليه، وهذا يعتبر نوعاً خاصاً من الرتق والفتق أضيق دائرةً من الرتق والفتق الذي تحدّث عنه الآن، هذا الرتق الجديد يجمع الكون كلّه في شيءٍ واحد، ]و[الرتق الأول يجمع السماء والأرض. والفتق الأول فتقٌ بين السماوات والأرض، أمّا الفتق العامّ الكونيّ هو فتقٌ لكلّ الموجودات الآن في الأرض والسماء عن اتّصالها مع بعضها البعض، الاتّصال الأول الذي لا يعطي تميّزاً لهذا عن ذاك، ولا لذاك عن هذا.
عندما نأتي إلى العالم الحسّي الآن، مكّوّن من عناصر معدودة ومشتركة، المادة عناصرها واحدة، والتفاحة والرمانة وإلى آخره وأجسادنا كلّها تحمل هذه العناصر، هذا يدلّ على حالة الرتق وأنّ الأصل كان شيئاً واحداً، وهذا التنوّع، والتعدّد، والتميّز، والانفصال، هو أمرٌ طارئ على الأصل.
هناك رؤية أخرى تقول: الرتق حالة عدم التميّز في ظرف العدم. كان الكون عدماً، أيام عدم الكون هل يتميّز شيءٌ عن شيء في الخارج؟ خوب عدم، كلّه عدم، فإذا كان كلّه معدوماً فهل يتميّز نبات عن حيوان، حيوان عن إنسان، إلى آخره؟ هل هناك تميّز؟ لا يوجد تميّز، في حالة الوجود ولمّا وُجد الكون وُجد التميّز، فهو حالة الفتق. متى صار الفتق الذي هو التميّز والانفصال؟ في حالة وجود الكون؛ لأنّ هذا وُجد بخصائص، وذاك وُجد بخصائص، هذا وُجد بآثار، وهذا وُجد بآثار، هذا وُجد حقيقةً متميّزة، وهذا وُجد حقيقةً متميّزة، صار عندنا فتق بين هذه الحقيقة وبين هذه الحقيقة، بين هذا المتميّز وذاك المتميّز، أما في حالة العدم فلا توجد حدود، بين هذه الأشياء كلّها لا توجد حدود، ولا توجد حقائق قائمة تتميّز. هذا فهمٌ.
هذا الفهم ملاحظة صاحب الميزان عليه أنّه يتناسب مع دليل الحدوث، وليس مع دليل حالة التدبير وحالة الاستمرار، هذا يتكلّم عن الحدوث، كانت الأشياء معدومة فلا تميّز بها، وُجدت فوُجد التميّز بها، يعني لمّا كانت الأشياء معدومة هل فيها تميّز يا عقل بشر؟ لا يوجد تميّز. لمّا وُجدت هل فيها تميّز أو ليس فيها تميّز؟ فيها تميّز. التميّز حصل بالوجود، ولم يكن حاصلاً في حالة عدم الأشياء كلّ الأشياء، يعني معناها أنها حدثت، هذا الآن موجود عندها تميّز بعد عدم التميّز، يعني حدوث بعد عدم الوجود، ما كانت موجودة فوُجدت. والمناقشة معهم، ليس مع الملحدين، إنما المناقشة مع الوثنيين، والمناقشة مع الوثنيين تنصبّ على إمكانية تعدّد الإله وعدم إمكانية تعدّد الإله، والمناسب في هذه المناقشة هو دليل التدبير وعدم إمكان تعدّد المدبِّر.
أيضاً يمكن أن توجد ملاحظة ثانية على هذا، وهو أنه لمّا تتكلّم الآية الكريمة: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)، الرتق والفتق المتبادر منهما ]أنهما[ وصفان لموجود، العدم ليس له هذه الأوصاف من الرتق والفتق، هذا الوصف بالرتق والفتق، والجمال وعدم الجمال، والاستقامة وعدم الاستقامة، والكبر والصغر، وما إلى ذلك، وأصفر وأحمر، هذا جعل وين؟ جعل موجود أو جعل معدوم؟ هذه الأوصاف تأتي لموجود. فهذه مناقشة يمكن أن تتوجّه لمثل هذا الفهم.
هناك تفسير خامس، وهو أنّ الكون قد كان حالة سديميّة، كان سديماً -كما يعبّرون-، السديم في القاموس -أحد تفسيراته، وإلا له أكثر من تفسير- هو (غازات مضيئة، وشديدة الحرارة، تدور حولها، وربما شديدة الكثافة)، هذا هو، حالة غازية، يعني كان الكون كلّه، ويش الموجود؟ موجود سماء؟ موجودة أرض؟ موجود ماء؟ موجود هواء؟ موجود شيء؟ لا، حالة سديميّة، هذا الموجود، السديم، هذا هو الأصل، فكان الكون رتقاً بمعنى أنّه شيءٌ واحد، لا أشياء يتميّز بعضها عن بعضٍ، وينفصل بعضها في وجوده وحقيقته عن بعض، ما موجود هذا الشيء، موجود سديم.
هذه النظرية أيضاً صار لها تجاوز، لعلّ العلم الآن تجاوزها.
والنظرية الحديثة لم يبقَ لها وقتٌ. وغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.