الحديث القرآني الرمضاني – 25 رمضان 1440 هـ / 31 مايو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث :
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (8) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 25 رمضان 1440هـ / 31 مايو 2019
قوله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) – الأنبياء
تَقدَّم الكلام في اتّخاذ الولد، وأنّه أمرٌ مستحيلٌ في حقّ الله تبارك وتعالى، سواء كان الولد ولداً حقيقياً أو ولداً مصدره التبنّي، فكلّ ذلك لا يليق بجلال الله وكماله وغِناه تبارك وتعالى. الولد بعضٌ من الأب، وجزءٌ منه، وهذا يحتاج إلى أن يكون الأب مركّباً، ويمكن تبعّضه، ويمكن أن يعرض عليه النقص، وتعرض عليه العوارض، وكلّ ذلك مستحيلٌ في حقّ الله تبارك وتعالى.
والتبنّي قائم على ضربٍ الحاجة، أيّ نوع من أنواع الحاجة، التبنّي يحصل من منشأ الحاجة، أيّ حاجة من الحاجات، سواء حاجة مادية أو حاجة نفسية وما إلى ذلك، وكلّ ذلك منفيٌ عن الله تبارك وتعالى.
إذن، ما الملائكة إذا لم يكونوا كما ادّعى المُبطلون بأنّهم أولادٌ لله، بناتٌ لله تبارك وتعالى؟ الآية تقول: (سُبْحَانَهُ) أمرٌ منفيٌ بجلال الله، بجمال الله، بكمال الله. أمرٌ متنزّهٌ عنه الله تبارك وتعالى، لا يليق بساحة الألوهيّة والربوبيّة على الإطلاق، هذا نقصٌ والله منزّهٌ عن كلّ نقص. (سُبْحَانَهُ) هذا نفي نهائي قطعي.
إذن ما موقع الملائكة؟ ما هويّتهم؟ هم عبادٌ مكرمون. المَلَكُ مملوكٌ والنملةُ مملوكة لله تبارك وتعالى، وملكيّة الله للمَلَك على مستوى ملكيّة الله للنملة وما هو أقلّ من النملة، فكما أنّ النملة لا استقلاليّة لها في أمرٍ من أمر الوجود، أو الصفات، أو الآثار، أي حركة أو سكون، فكذلك المَلك لا يملك أي استقلاليّة على أيّ مستوى من هذه المستويات.
مَلَك، رسول، كلّ أولائك سواءٌ في قضية أنّهم تحت السيطرة التامّة وأنّ وجودهم وآثار وجودهم واقعةٌ تحت القبضة الإلهيّة المُحكَمَة التي لا إفلات لأحدٍ منها.
هذا موقعهم الأصل، لأنهم منسجمون مع موقع عبودّيتهم، معترفون بعبوديتهم، منسجمون في كلّ حالاتهم مع مقتضى عبوديّتهم، بعباديّتهم لله تبارك وتعالى، بتبعيّتهم الإراديّة التامّة لإرادة الله تبارك وتعالى، حتّى أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون كما سيأتي.
هذا الإكرام ما هو؟ فهم مكرمون، هذا الإكرام ما هو؟ إكرامُكَ بما يُشرِّفك، وبما يرفع درجتَك، وبما يُعطيك الشعور بالكرامة، وبالوزن، وبالحُسن، فما هو الذي يُعطي الله عزّ وجلّ ملائكتَه لإكرامهم؟ أيّ شيءٍ يُشعِر المَلَك بالكرامة؟ يُشعره بالرُقيّ والرفعة؟ أن يكون مقرَّباً للمَلِك الحقّ العظيم الكامل، أن يرضى عنه الكامل، شعوره بالكمال وكماله بأن يحصل عنده هذا الشعور بأنّ الله راضٍ عنه، وأنّ الله يُحبُّه وقد رضيَ عبادَته.
كم كمال مطلق في فهم المَلَك؟ ليس إلاّ كمالٌ مطلق واحد هو كمال الله عزّ وجلّ، فحيث يَطلب الرفعة، والكرامة، والشعور بالعزّة، وبالأمن، وبدرجةٍ من التقدّم، يحرص على حصول الرضا ممّن؟ ليس إلا من الله تبارك وتعالى.
فمّنُّ الله عزّ وجلّ على الملائكة بالشعور الغزير الدّفّاق، الراسخ المُتأكّد، بعبوديّتهم وارتباطهم، وعناية الله بهم، وحبّ الله لهم، هذا هو إكرام الملائكة.
النبي الأعظم “صلى الله عليه وآله وسلم” لو أُعطي الدنيا وما فيها، وكان مع ذلك شعورٌ بشيءٍ خفيفٍ خفيفٍ خفيفٍ من غضبة الله عليه، أيشعر بالكرامة؟ أيشعر بأنه مُكّرّم؟ أيشعر بالأمن؟ أيشعر بالسعادة؟ لا. للنبي “صلى الله عليه وآله” مستواه، وللملائكة مستواهم.
واحدٌ من صحابة رسول الله “صلى الله عليه وآله” الصادقين المُخلصين يَغنَى ماديّاً إلى حدٍّ كبيرٍ فاحشٍ عريض، ويشعر في يومٍ من الأيام بذنبٍ وبُعدٍ عن الله عزّ وجلّ، وأنّ لله غضبةً عليه، أتراه يهنأ؟ أتراه يسعَد؟ لا، لا يهنأ ولا يسعَد، لماذا؟ يشعر بالصغار، يشعر بالدونية، يشعر بالخوف، يشعر بأنّه قزم، وأنه تافه، وأنه سخيف، إلى آخره. كلّ ما بيده من مال لا يُعالج هذا الأمرَ في نفسه.
أنتَ حينما تحترم أباك، وتُكبر أباكَ ومستوى أبيك، ويحصل لك في يومٍ من الأيام نجاحٌ مدرسيٌّ كبير، ويحصل منكَ ما يؤذي أباك ويُغيظه، فتشعر بالغضب منه عليك، أنت في ذلك اليوم هانئٌ سعيد أم شقيّ في نفسك؟ مرتاحٌ أم قلق؟ إذا كانت لكَ إنسانيّة حقيقيّة فستنسى كلّ ربحكَ ذلك اليوم وستكون مشغولاً بهمِّ غضبةِ أبيك عليك.
إذن إكرامُ الملائكة هو هذا المنُّ الإلهي العظيم عليهم بالشعور بكامل العبوديّة، وانسجامهم مع عبوديّتهم التكوينيّة في عبوديّتهم الإراديّة.
(بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ)، مقرّبون لله عزّ وجلّ، وقربُ العبد من الربِّ بمَ؟ ليس إلا بتعلُّقِه بصفاته الحُسنى، وبعبوديّته لله، واقتباسه من نور صفات الله الأعظم. أولائك الملائكة لصِدق عبوديّتهم على مستوى الإرادة.
(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، “القول” هو من مصدر الإرادة، فهم لا يسبقونه بالقول؛ لأنهم لا يسبقونه بالإرادة، ولا تتعلَّق لهم إرادة بما لا إرادة لله فيه تبارك وتعالى، وليس لديهم خاطرة تمرُّ بهم متعلّقة بشيءٍ لا يرضاه الله عزّ وجلّ، فلأنّه لا إرادة لهم تسبق إرادةَ الله، وتخالف إرادة الله، وتتقدّم على إرادة الله، ما لم يعلموا أنّ هذا فيه إرادة لله لا يريدونه، إذا علِموا أنّ هذا الأمر مُرادٌ له سبحانه وتعالى تعلّقت بهذا الأمر إرادتهم، إذا لم يعلموا بأنّ هذا الأمر متعلَّق لإرادة الله فلا تعلّق لإرادتهم به، فمن هنا لا تأتي كلمة منهم تسبق كلمة الله تبارك وتعالى.
على مستوى العمل، كيف؟ (وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، كيف يعني؟ يعني قبل أمره لا يعملون، وإذا توقّف كلّ عملهم على حصول الأمر منه ]هل[ تحصل منهم مخالفة؟ تحصل منهم معصية؟ الشيء الذي نهى عنه أو لم ينهَ عنه، الشيء قبل أن ينهى عنه لأنّه لم يأمر به لا يعملونه، فهم مصونون عن المخالفة نهائياً، مصونون عن المخالفة لله تبارك وتعالى، لا يعصونه. مرّة لا يأتيهم الأمر منه ولا من غيره، وهم متوقّفون ينتظرون أمر الله.
أنتَ إذا كنتَ جنديّاً تحت ضابطٍ من الضبّاط، ]هل[ تبادر إلى حركة المعركة لم يأتِ بها أمر من الضابط؟ حتى لو كانت الحركة صحيحة، فأنت لست مطيعاً.
مالك الأشتر كان قاب قوسين ويأخذ معاوية إلى الإمام علي (عليه السلام)، فيأتيه الأمر (قف) فتوّقف عن ذلك، لو أصرّ مالك الأشتر على أن يأخذ بمعاوية أسيراً لعليٍ (عليه السلام) أيكون الرجل المخلص لله؟ المخلص لوليّ الله؟ لا يكون.
فالملائكة حركتهم متوقّفة على إذن الله، على أمر الله عزّ وجلّ، انزين الله لا يأذن بالمعصية، ]فهل[ يعصون؟ يفعلون؟ لا يفعلون. مرّة يأتي الأمر من غير الله، مرّة لا أمر من الله ولا من غيره، هم لا يعملون. مرّة يأتي الأمر من غير الله؛ من نبيٍّ معصومٍ خالفَ عصمته –فرضاً، جدلاً- وعَلِم هذا المُكلَّف بمخالفته، مثلاً علي بن أبي طالب عَلِم بأنّ النبي “صلى الله عليه وآله” -وحاشاه وحاشاه وحاشاه- مخالفٌ لعصمته في هذا المورد، ]هل[ يطيع النبي؟ لا، لا يطيعه.
فهُم معصومون تماماً، لا يتأخّرون عن واجب، ولا يحتاجون إلى نواهٍ أبداً؛ لأنهم لا يعملون إلا بأمر الله تبارك وتعالى. فهُم في الموقف العباديّ الإراديّ على حدّ ما هم عليه تماماً في الموقف العبوديّ التكوينيّ. يعرفون أنفسهم ليس لديهم الحقّ في أيّ تصرّف؛ على مستوى خاطرة، على مستوى كلمة، على مستوى عمل.
(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، الآية الكريمة بعد ذلك تُعلِّل: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، هذه شهادة من الله عزّ وجلّ لهم بأنّ ما قاله عنهم (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) إنما يقوله الله عن علمٍ لا يُخطئ، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، يعلم ماضيهم، ويعلم حاضرهم، ويعلم مستقبلهم.
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ…)، ما هو الذي بين أيديهم وما خلفهم؟ المعروف أنّه أعمالهم، ذواتهم، صفات ذواتهم، كلّ أثر من آثارهم، ما قبل وجودهم، كلّ ذلك معلومٌ لله عزّ وجلّ. فالكلام هنا عن الإحاطة العلميّة التامّة لله عزّ وجلّ بالملائكة.
(وَمَا خَلْفَهُمْ)، فـ (يعلم ما بين أيديهم) يعني ما يأتي، و(وما خلفهم) ممّا مضى، ممّا كانت عليه ذواتهم، بدايات ذواتهم، قبل بداية الذوات، الصفات، الآثار، إلى كلّ شيء.
هذا العلم من الله بهم، هذه الإحاطة العلميّة التامّة المهيمنة المسيطرة، يعلمونها من الله أو لا يعلمونها؟
أولئك المقرّبون المكرمون يعلمون بأنّ الله بكلّ شيء عليم، يعلمون بأنّ علم الله مطلق، وأنّهم لم تخفَ منهم خافية، ولا تخفى منهم خافية على أيّ مستوىً من مستويات وجودهم وصفاتهم وآثارهم، وهذا تعليلٌ لكونهم (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، دائماً هم في مراقبة لله عزّ وجلّ، في مراقبةٍ لرضاه، في مراقبةٍ لغضبه ممّا يجعلهم لا يتأخّرون عمّا فيه رضاه، ولا يُقدِمون على ما فيه غضبه.
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى)؛ لأنّهم يعلمون أنّ الله بكلّ شيءٍ عليمٌ محيط، ويرون أنّ من واجبهم، وأنّ من حفظهم لأنفسهم وكرامتهم ألاّ يخالفوا علمَ الله تبارك وتعالى بهم، ألاّ يخالفوا الله عزّ وجلّ فيما يُرضيه وفيما يُغضبه، لذلك (لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى)، يكون يعرف المَلَكُ أولاً أنّ هذا مرتضى لله أن يُشفع فيه أو يُشفع له -أحد المعاني- فيتقدَّم بالشفاعة، لا يتقدَّم باجتهاده فقط، لا يعتمد على اجتهاده في أنّ هذا رجلٌ طيّب أو عبد غير طيّب، يكون يعلم أنّه عبدٌ مقبولٌ لله عزّ وجلّ أن يتوّسّط فيه متوّسّط، أن يشفع فيه شافع.
الشفاعة لها منطلقات، يمكن أن تشفع عند والدك أو أمّك لواحدٍ أساء لهما، هذه الشفاعة شفاعة دلال، أنت تملك أن تضغط على عاطفة أبيك، تملك أن تضغط على عاطفة أمّك، أذاك يؤذيهم، وأنت تتأذّى لغضبهم على فلان، ويلينون تحت ضغط العاطفة فيقبلون شفاعتك، أنت تملك موقع الشفاعة من موقع قوّة في الحقيقة، هذه القوة في وين؟ فيما تملكه من قدرة على الضغط على عاطفة الأب والأم، هذا منشأ.
مَرّة أنت رئيس قبيلة تساوي نصف الشعب، ويخطئ واحدٌ من قبيلتك برئيس الجمهورية مثلاً أو من سائر الشعب، وأنت تتوّسط له، وهذا رئيس الجمهورية لديه قرار حاسم بأن يُصفّي هذا الذي أساء إليه، ينهيه، لكن إنْ أنهاه أمام شفاعتك قام عليه نصفُ شعبه، فأتعبه على الأقل. هنا ليس احتراماً لك، ولا شفقةً على الطرف الآخر، ولا لمنطلقٍ خُلُقي، ولا لأيّ شيء آخر، وإنما خوفاً منك، من قوّتك، فأنت تملك قوّة، فيشفع، يقول مقبول وهو يضحك في وجهك مبتسم. هذا منطلق.
أنا رجل عادي، أساء إليّ شخص، ومع كوني عاديّاً لديّ علاقة بك، وأنت ويش غنايتك على قولة العامي، على غنىً كبير، عندك ثروة طائلة، معاشي يومياً من عندك، لقمتي من عندك، فيسيء لي هذا، فتأتي لتشفع، بعد ما يحتاج أن تأتي لتشفع عندي على مستوانا الهزيل، بس أفهم أنّك لا تحبّ أن أؤذي هذا الفلان، ]أقول لكَ[ سمعاً وطاعة. هذا من أيّ منطلق؟ هالشفاعة من أين أتت؟ من موقع القوة.
]هل[ في شفاعة لأحدٍ من عباد الله، مِن ملائكته، مِن رسله، مِن أوليائه، من أحد هذه المنطلقات؟ هل يقدر أحد أن يشفع لله عزّ وجلّ من منطلق الضغط على الله عزّ وجلّ؟ ما ميش، ما في.
فالشفاعة من منطلق ارتضاء الله، ليس من منطلق استجابة الله للضغط، لا توجد استجابة من الله عزّ وجلّ للضغط، إنما رضاه وعدم رضاه، رضاه النابع من ذاته وعدم رضاه النابع من ذاته، فهم (لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) فيشف الله عز وجل.
هم عباد مؤدّبون، عارفون بحقّ الله، عارفون بوزنهم اللاشيء أمام جلال الله وعظمته وكماله، فلا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.
ما هو مُتعلِّق الرضا الإلهي؟ الارتضاء الإلهي؟ “ارْتَضَى” ماذا تعني؟ لم يّكر المتعلّق! ارتضى دينه؟ ارتضى الشفاعة له؟ ارتضى عملَه كلّه؟ فما هو الشيء الذي تتوقّف عليه شفاعة الملائكة؟ حتى يشفع الملائكة لشخصٍ ما الشيء الذي يجب أن يضمنوه قبل ذلك من رضا الله عز وجل؟ رضا الله بأيّ شيء بالنسبة لهذا العبد؟ بالنسبة لكلّ أعمال العبد؟ إذا واحد كلّ أعماله مقبولة لله عزّ وجلّ ومرضيّة لله عز وجل فهذا بعد ليس محلّ الشفاعة، هذا خارج تخصّصاً، الشفاعة هنا سالبة بانتفاء الموضوع كما يُعبّرون، فهو خارج هذا الوجه، أنه يكون مرتضٍ بالنسبة لكلّ عملٍ عملٍ على نحو التفصيل والاستيعاب.
“إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى” دينَه، بمعنى أساسياّت دينه وعقائده وإنْ حَدَثت عنده أخطاء عمليّة حتى على مستوى الكبيرة. صاحب الكبيرة والعقيدة الصحيحة عقيدته مرضيّة عند الله عزّ وجلّ، دينُه على مستوى العقيدة مقبول، على مستوى العمل عنده فسوق، عنده كفر عمليّ، أيّ تخلّف عن أوامر الله ونواهيه هذا قد يُمثّل كفراً عملياً جزئياً، هل هذا معني لنقول بوجود شفاعة لأصحاب الكبائر؟ المعروف هكذا، لكن الكبيرة التي لا إصرار عليها.
الإصرار الذي يعني مواجهة الله، والاستخفاف بالله، وبدين الله، وبرسول الله “صلى الله عليه وآله”، هذا الظاهر لا يتكلّمون عنه.
وموجود “لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار”، الصغيرة لمّا يصرُّ عليها العبد، هذا ماذا يمثّل نفسياً يعني؟ ما هي الخلفيّة النفسيّة للإصرار على الصغيرة؟ كأنّه يقلّ شأن الله عزّ وجلّ في نفسه.
أنت شوف، واحد عنده روح التجرؤ وروح العدوانيّة بدرجة ما، يضرب واحداً عادياً كف، طبعاً شيء عظيم بلا إشكال، وواحد لا يضرب كف وإنما ينظر إلى إنسان محترم كبير نظرة شزر، هناك كف وهنا نظرة شزر، نظرة الشزر هنا هل تساوي نظرة الشزر لطفل؟ أو لإنسان عادي؟ افرض ]أنه[ نظر نظرة شزر لعليٍ (عليه السلام)، أو قال كلمة فيها شمّة تعدٍّ على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ]هل هي[ مثل كلمة فيها شمّة تعدٍّ على واحد ثاني؟ طبعاً تختلف، فالصغيرة صغيرة، ولكنها بالنسبة لله عزّ وجلّ حين يرتكبها مخالفةً لله ]هي[ في روحها كبيرة، الارتكاب بهذه الروح ناشئ من روح استخفاف كبير؛ لأنّ المُخالَف عظيم عظيم عظيم. المخالفة تأخذ حجمها أحياناً من حجم مَن يُخَالَف، وإذا كانت المخالفة لله عزّ وجلّ وإنْ كانت في أمرٍ صغير إلاّ أنها مخالفة عظمى وكبيرة، فكيف إذا تكرّرت وتكاثفت وتكثّرت وتراكمت؟ فهنا يكون مرّة عن غلبة نفس وما إلى ذلك ولكن مع الإصرار، كأن يكون نوع من التصميم ونوع من العناد والمكابرة، وهذا قائم على الاستخفاف بقدرة الله عزّ وجلّ وعظمته.
فـ “لا كبيرة مع الاستغفار”، وأيّ استغفار؟ ليس الاستغفار اللساني كما تعرفون، وإنما الاستغفار الناشئ من احتراق القلب والسخط على الذات التي خالفت الله عزّ وجلّ، هذا هو الاستغفار المعني.
فـالكبائر في مشهور أهل المذهب أنّها داخلة في الشفاعة، وطبعاً بإذن الله. وهل هذه الكبيرة يقبل الشفاعة فيها، هل هالكبيرة محفوفة بمخالفات أخرى، بنفسيّة معيّنة، هذا كلّه تقديره عند الله تعالى، وأصل القبول راجعٌ إلى الله عزّ وجلّ.
الملائكة لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى.
طبعاً، وحال الأنبياء والأولياء في شفاعتهم لا يختلف عن حال الملائكة، فلا تطلب رضا الحسين إلاّ لأنّه من رضا الله، لأنّ الحسين (عليه السلام) لن يشفع إلاّ بإذن الله، ولن يتقدَّم للشفاعة إلاّ أن يعلم برضا الله بأن يتقدَّم لهذه الشفاعة. فالمعبود هو الله تبارك وتعالى، والمطلوب رضاه أولاً وآخراً هو الله سبحانه وتعالى، ويُطلَب رضا أوليائه لأنه لا يرضى إلا برضاهم.
(َلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى)، توّقف الارتضاء على العبوديّة الشاملة الكاملة المُستوعبة لكلّ عمل من أعمال العبد، هذا كأنه غير معني، يأتي بالنسبة للكبائر، وبالنسبة للصغائر فهناك أحاديث تقول بأنّ “من اجتنب الكبائر عفيت عنه الصغائر” مع عدم الإصرار.
(..وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، الخشية والشفقة أعطوهم معنيين، أعطوا الخشية معنى الخوف مع الهيبة والتعظيم والإجلال.
فأنت مرّة يأتيك واحد مفتول العضلات وترى في وجهه الغضب فتخاف منه، تخاف ممّاذا؟ تخاف من قوّته، من بطشه، من شدّته، من قوّة ضربته. ومرّة تدخل على عالم واصل للتسعين سنة، فقيه، صرف عمره في الركوع والسجود وعبادة الله والمعرفة، لو تضربه قرطوع -بالبحراني- طاح، هذا لا يحتاج إلى ضربة قوية، ولكن تريد أن تتكلّم أمامه لا تستطيع، هناك موجود خوف، وهنا موجود خوف، هذا خوفك الثاني خشية، فيه خشية، يصدق عليه خشية، خشية جمال الروح، خشية هذه الروح المتّصلة بنور الله تبارك وتعالى، تحدث خشية قلبك وهيبة، هذه هي الخشية.
أمّا الإشفاق فهو خوف أيضاً، ولكنّه خوف مع اهتمام بتجنّب المخوف، يعني هناك حالة انقباض، وحالة تهيُّب من القوّة فقط، ليس صادراً بنوع من الاحترام ونوع من الإكبار والتعظيم، غير موجود هذا الشيء، موجود تفكير في السلامة الجسديّة والماديّة وما إلى ذلك.
الملائكة خشية وإشفاق، (..وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، طبعاً جلال الله يملك عليهم كلّ نفوسهم، ويُلهيهم عن نفوسهم، وجلال الله عزّ وجلّ يجعلهم لا يرفعون وجوههم عن ركوعٍ أو سجود، وجلال الله عزّ وجلّ يمحو من نواظرهم أيَّ عظمةٍ محدودة، لا يرون عظمةً غير عظمة الله، ولا وجوداً غير وجوده، وحيث يرون الوجودات الأخرى إنما يرونها من خلال رؤيتهم لوجود الله تبارك وتعالى. فهذه خشية تجعلهم دائماً على خطّ الله عزّ وجلّ، وكما يريد الله تبارك وتعالى.
هم لا معصية لهم حتى يخافوا عذاب النار، وهم يعرفون عدل الله عزّ وجلّ، من أين الإشفاق هذا؟ خائفون ممّاذا؟ يعرفون أنّه لا معصية لهم، ولكنهم يعرفون أنّ الله مالك لهم، يرحم من يشاء ويُعذِّب من يشاء، وأنّ عدم معصيتهم لا يضع -كما يعبرون الآن- حقّ “الفيتو” على الله عزّ وجل بأنْ لا يغذِّبهم. ويعرفون أنّه مهما بذل العبد من جهده فهو لا يفي بحقّ الله تبارك وتعالى. فإذن لهم منشأ من مناشئ الإشفاق، والله أعلم بذلك.
(وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، الآية الكريمة هنا للتأكيد على مملوكيّتهم، أنتم الذين تعبدونهم، الخطاب للوثنيين الذين يتّخذون من الملائكة بناتٍ لله وآلهةً يعبودنهم ليقرّبوهم لله عزّ وجلّ، يتقرّبون بمن؟
خوب الملائكة أقاموا دليلاً من أنفسهم من عبوديّتهم في الآية الكريمة على خطأ الوثنيين في اتّخاذهم آلهة (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، والله عزّ وجلّ يقول لهم: تعبدون من؟ تعبدون مَن لو ادّعى أحدُهم الألوهيّة لجزيته جهنّم! لأنّه خرج عن حدِّه، لأنّه ظالم، والظلم خروجٌ عن الحدّ، وليس من ظلمٍ أكبر من أن يخرج عبدٌ عن حدود عبوديّته ليقول: أنا ربٌّ من الأرباب، فضلاً عن يقول: أنا ربّكم الأعلى.
وأساس كلّ ظلم في الأرض، ظلمٌ لو طال السماء، وطال الأرض، والكون كلّه، لانهدّ كلّ شيءٍ في الكون. شرك! هذا الظلم بالقول بالشرك، لو حَكَم الشرك الكونَ أو جزءاً من الكون لما كان. فهذا هو أساس كلّ ظلم، وواويلاه من عبدٍّ يُعطي لنفسه مقاماً يُشارك من خلاله الله عزّ وجلّ في شيءٍ ممّا لا يملكه إلاّ الله، من تصرّفٍ، أو حكمٍ، أو مشيئة.
أنا قاعد أُقدِّم نفسي أنّي أحلُّ محلَّ الله عزّ وجلّ؛ حين أحكم في ولدي، في زوجتي، في قريتي، حكماً على خلاف حكم الله فأنا أردّ حكمَ الله وأُحكّم حُكمي، أليس هذا معناه أنّك أنت الله في هالحيثية؟ في هالجزئية؟ في هالموقع؟ كأنّي أقول: أنا الله، وهذا من أكبر الظلم، وأساس الظلم هو هذا، الشرك بالله عزّ وجلّ.
(..كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، إشارة إلى أنّ هذا ظلم، وهذا أكبر ظلم، وهذا المَلك وغير المَلَك. يمكن، يمكن إلى ملوك الأرض، وإلى رؤساء الأرض أن يسكتوا على ظالم؛ لأنهم يخافونه، هم يظلمون أو لا يظلمون على كلٍّ يخافون من الظالم، ]بينما[ الله سبحانه وتعالى لا يخاف من ظالم، لا يخاف أحداً، ولا يحتاج إلى أحد، فالظالم يجزيه جهنّم، إلاّ أن يشمله بعفوه، العفو من منطلق الكمال، لا من منطلق النقص.
غفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.