الحديث القرآني الرمضاني – 11 رمضان 1440 هـ / 17 مايو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث :
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (5) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 11 شهر رمضان 1440 هـ / 17 مايو 2019م
قوله تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أعاذنا الله من ذلك.
اللعبُ شأنُ مَن؟
شأن الناقص، والله هو الكامل المطلق تبارك وتعالى، فأين اللّعب من الله؟ كمال الله عزّ وجلّ ينفي أساساً شُبهة أن يصدر منه اللعب.
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)، الضمير للواحد الأحد الفرد الصمد، والمستعمل هو ضمير المتكلمين بدل ضمير المتكلّم المفرد؛ لبيان العظمة، وبيان العظمة هنا لنفي اللّعب، عظمة الله، جلال الله، علوّ الله، ينفي نهائياً صدور اللّعب عنه، فالحجّة هنا قائمة، مذكورة، حجّة نفي اللعب مذكورة، وهو أنّ الصادر منه الخلق إنما هو أجلّ جليل، وأعظم عظيم، وأكمل كامل، فكيف يأتي منه سبحانه وتعالى صدور اللّعب.
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)، مَن خالق السماء والأرض؟ طفلٌ؟ عالمٌ محدود العلم؟ حكيمٌ محدود الحكمة؟ مَن يجوز عليه الخطأ؟ مَن تجوز عليه الحاجة؟ مَن يعاني من نقصٍ يسدّ هذا النقص باللّعب؟ كلّ ذلك منفي. الصادر منه الكون هو الله تبارك وتعالى الجليل العظيم.
(لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)، “لو” للامتناع، امتناع ما بعده، هذه الإرداة ممتنعة، مستحيلة، لماذا؟ لأنها إرادة الجليل العظيم، اللا محدود، المطلق إطلاقاً لا محدوداً، الكامل كمالاً مطلقاً لا محدوداً.
(لَوْ أَرَدْنَا..)، لو أراد مقام العظمة، والجلال، والجمال، والكمال، والقدرة المطلقة، والعلم المطلق، والحياة المطلقة، لو أراد -ولا يريد-، كل ذلك يمنع أن يريد اللّهو.
(..لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا)، لمّا قالوا أنّ الله عزّ وجلّ خلق الأرض والسماء لعباً، فهذا القول يحمل تهمتين ساقطتين:
التهمة الأولى، والنقص الأول المنسوب لله عزّ وجل في هذا القول: هو أنّه عزّ وجلّ يمكن أن يصدر منه اللّعب، مرّة وقوع اللّعب، ومرّة إمكان صدور اللّعب، هنا الدعوى الإمكان وأكثر من الإمكان الوقوع، هم قالوا ما يسلتزم أنّ خلق السماوات والأرض كان لعباً، ما المستلزم لذلك ممّا قالوه؟ بنوا على أنّه لا معاد ولا حساب، وحيث لا حساب ولا معاد يكون الخلق عبثاً ولعباً، لا غاية. والتخطيط الدقيق والهندسة الفائقة لا تُنجي الفعل والمخطّط من صفة اللّعب عندما لا تكون للمخطّط غايةٌ حكيمة. يكون أكبر مهندس ولكن هندسته وإنتاج هندسته لا يحمل غاية في نفسه، والغاية الحكيمة التي يرضاها العقل والعقلاء؛ لعب.
حين يبني الله عزّ وجلّ السماوات، ويَعِدُ بأن يُنهيها، ثم ينهيها فعلاً، ولمّا يخلق الأرض، وهذه الدقائق في الأرض، وهذه الابداعات في الأرض والسماء، وهذا الكون العريض المتقن الصنع، لكن لا لشيءٍ إنّما ليهدمه بعد حين، بلا أن يستتبع غاية من الخلق، هذا لعبٌ أو لا؟ هذا هو عين اللعب.
تَمرُّ على إنسان في “عالي” (عالي البحرين)، يصنع اشراب ]فخّاراً[ ويكسّره، يصنع اشراب ويكسّره، يصنع احبوب –على لغة أهل البحرين- ويكسّر، ماذا تقول عنه؟ يمكن أن تقول عنه أكثر من اللّعب: أنّه مجنون.
تنظر إلى دولة تبني القلعة وتهدمها، والثانية وتهدمها، تصنع الصاروخ وتحطّمه، تصنع الصاروخ الثاني وتحطّمه، لا للتجربة وإنما لمجرّد الصناعة، تبذل أموالاً وتعدّ مهندسين وصنّاعاً، وكلّما بَنَت شيئاً هدمته، هذه دولةٌ عابثة لاعبة.
فلّما قالوا بأنّ السماوات والأرض خُلقتا من غير غاية، وإنّما هو الإنسان، ممّ خُلق في الأرض؟ الإنسان يولَد باستعدادات هائلة، وقابليات ضخمة، يوضع على الطريق لتفعيل هذه القابليات وهذه الاستعدادات، يُمضي الأربعين والخمسين والستين سنة، يدرس، يطالع يختبر، يَجهَد، وينبني فكراً عملاقاً منتجاً تماماً، وفي هذه اللحظة يموت وينتهي كلّ شيء.
يأتي الجيل الثاني والثالث وهكذا، وكلّ هذه القابليات وهذه المواهب وكلّ هذه الإمكانات تنتهي إلى حالة صفر بالنسبة لحاملها. ينتهي وجوده، يموت، لا يُبعث ولا يُحاسب، يفعل هنا ما يفعل، خيراً فعل، شرّاً فعل، أيّاً ما فعل لا حساب أمامه ولا رصد عليه ولا رقابة.
وأيّ دولة توّظف أي واحد فتجعل عليه مراقب وحسابات وقوانين؛ من أجل ضبط الأعمال لتصل للغايات المحدّدة لها، أمّا الله عزّ وجلّ فيخلق ويعطي إمكانات وإبداعات ومواهب وما إلى ذلك، ويبدع على يديه كلّ شيء ليحطّمها من بعد ذلك! كما يحطّم صانع الفخّار مصنوعاته الفخارية! كلٌ يُبدع ويزيد في الإبداع ويطرّز وما إلى ذلك ولكن لا لشيء، لا لأجل أن تشرب هذه الشربة، لا لأجل أن تستعمل هذا الكوز، إنما ليُحطّم، لا لغاية له، فقد وضعوا الله تعالى في صفّ صانع الفخار في صنعه وتكسيره من دون غاية في صنعه!
هذا يتناسب مع ذي الجلال، مع الكامل المطلق؟!
نأتي إلى (مِن لَّدُنَّا)، اختلفوا في تفسير (مِن لَّدُنَّا)، بعضهم قال بأنها تعني “من نفسنا”، وهو ما ذهب إليه صاحب الميزان، “من نفسنا” أي من غير اللجأ إلى شيء من خارج الذات نتّخذ منه لهواً ولعباً يُسلّينا ويرفع نقيصةً لنا.
(مِن لَّدُنَّا) نحن في غنىً تامّ، غنى الله فوق كلّ غنىً يمكن أن يُتصوَّر أو لا يتصوّر. غيرُ الله محتاجٌ إلى الله، كلّ من عداه محتاج إليه وهو غنيٌ عن كلّ من عداه، فلا حاجة لنا للجأ لعملية الخلق لنتسلّى بها كما يتسلّى صانع الفخاريّات بصنع الفخّار، هذا اللجأ إلى الغير في رفع النقيصة باللّعب بواسطته منشأه الحاجة في الذات، وعدم الغنى الذاتي، وإذا كانت الذات غنيةً كلّ الغنى والغنى المطلق فلا حاجة فيما لو أرادت اللّعب -وهو مستحيل عليه كما سبق، فلو أرادته جدلاً- فهي لا تحتاج إلى أن تخلق السماوات والأرض لتتسلّى بعملية الخلق والصنع والهدم.
فالآية الكريمة بعد أن تُحيل إرادة اللّهو تنفي التهمة الأخرى، وهي أنّ الله محتاجٌ -عزّ وجلّ، وتبارك وتعالى، وتقدّس وتنزّه- في لعبه إلى أن يخلق السماوات والأرض، الآية بصدد نفي هذا البُعد من الشبهة.
تفسير آخر: أنّ (مِن لَّدُنَّا) يعني “بقدرتنا”، يعني بهذا البُعد من وجود الله تبارك وتعالى، هذه الحيثية صارت صِفتيّة، وصفات الله طبعاً غير متعدّدة، فهو عالمٌ من حيث أنه حيٌ، وهو حيٌ من حيث هو عالم وإلى آخره، وصفاته عين ذاته، ليس هناك اثنينيّة لا بين الصفات في نفسها ولا بين الصفات والذات، ولكن هي حيثيات ينظر إليها العقل، مرّة ينظر إلى الله بما هو قادر، ومرّة إلى الله بما هو عالم، إلى الله بما هو حيٌ، إلى الله بما هو حكيم، وإلى آخره، فهو تحليل عقلي.
تفسير آخر: أنّ اللّهو لو جاز على الله أن يتّخذه، ولو صحّ من الله أن يتّخذه إنما هو اللّهو المناسب لجلاله وكماله، والذي يمكن أن يصدر من خلفيّة هذا الجلال والكمال والقدرة المطلقة، ما هو هذا اللّهو؟
شيءٌ أنتم تسمّونه لهواً، سمّيتموه لهواً، وهو الحكمة، ما يمكن أن يصدر من الله ممّا تسمّونه لهواً هو حقيقته ليست اللّهو، وإنما هو حقيقته الحكمة، أمّا اللّهو -وهو منفيٌ عنه تبارك وتعالى- لا يمكن أن يصدر منه، ما يمكن أن يصدر منه هو الحكمة وليس اللّعب.
(مِن لَّدُنَّا) أي ممّا يقتضيه كمالُنا وجمالنا وجلالنا، وما هو مقتضى جمال الله وكماله وعظمته، أهو الحكمة أم اللّعب؟ إنما هو الحكمة، أمّا اللّعب فذاك شيءٌ مستحيلٌ على جلال الله وكمال الله وعظمته. هذا وجه.
منهم من فسّر اللّهو واللّعب المعني في الآية: هو الولد والمرأة، فإنّ الولد من لهو الأب، والمرأة أيضاً من لهو الرجل، فالآية الكريمة (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)، لا أدري من أين أتوا بقضية الولد والمرأة، يعني السياق ليس له علاقة بالكلام عن المرأة وعن الولد، عن مريم “عليها السلام” وعيسى “عليه السلام”، الكلام عن خلق السماوات والأرض، التهمة تنصبّ على أصل خلق السماوات والأرض، وأنّ هذا الخلق بلا غاية، فهو لعبٌ محض، ولا علاقة للآية بالمرأة والولد.
فكأنّهم قالوا هكذا: إذا كان المعني الولد والمرأة، (لّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) يعني ممّا عندنا من ملائكةٍ مُصطفين، شأنهم كلّه الروح ولا علاقة لهم بالمادّة كما هو الحال في حقّ مريم وعيسى “عليهما السلام” وكلّ بشرٍ آخر.
(لّاتَّخَذْنَاهُ) من مستوى الأرواح الخالصة النقيّة الصافية البعيدة عن شَوب المادّة، إلا أنّ الآية الكريمة في كلّ السياق الذي مَرّ ليس فيها ذكر المرأة والولد، ولا مريم ولا عيسى “عليهما السلام”.
الآية تنفي أمرين: وقوع اللّعب من الله عزّ وجلّ، وتنفي إمكان اللّعب من الله عزّ وجلّ.
وصفُ الله عزّ وجلّ باللّعب يُسقط قيمة السماوات والأرض، يُسقط قيمة الإنسان، يُذهِب بأيّ محاسبة من إنسانٍ لإنسانٍ آخر، يُذهب قيمة كلّ هذه التنظيمات، وكلّ هذه الحكومات، وكلّ هذه الكيانات، وكلّ ما على الأرض.
إذا كان الله عزّ وجلّ يُفرَض في حقّه ظلماً اللّعب واللّهو، أنا الإنسان كيف تطالبني بموقف جدّ؟ كيف تطالبني بجهاد؟ كيف تطالبني بأن أشارك في بناءٍ اجتماعيّ صالح؟ كيف تطالبني بسياسة عادلة وحكيمة؟ تسقط كلّ محاسبة، تسقط كلّ الموازين، يَتفُه الإنسان.
إذا كان خالقُ الإنسان والحياة والكون لاعباً -عزّ وجلّ وتبارك وتعالى- فما قيمة من خلق؟ واعجباه! الإنسان لا يرضى لنفسه أن يُوصف في مجتمعه باللّعب واللّهو، وأنّه لا شأن له إلا باللّعب واللّهو. أيُّ دولة تختار لحكمها مَن عرفته باللّهو واللّعب خالصاً، وكان خالياً من الجدّ؟ وإذا كان الله عزّ وجلّ قد خلق السماوات والأرض لعباً ولهواً فمعناه أن لا شأن له إلاّ باللّهو واللّعب.
البشرية هل ترضى حاكماً أرضياً ليس له شأن إلا اللّهو واللّعب ولا حكمة له؟ ولا تحمل أعماله أهدافاً وغايات صحيحة؟ أتقبل دولة كبُرت أو صغُرت أن يكون لها حاكمٌ هذا مستواه؟ وإذا بهذا الإنسان الظالم الذي يربأ بنفسه عن وصف أنّه لاعب لاهٍ سفيهٌ يتعالى، يجهل، يغبى، يجترئ على خالق الكون كلّه، فيقول: إنّما خلق السماوات والأرض لعباً، أظلمٌ فوق هذا الظلم؟ أسفهٌ فوق هذا السفه؟ أجهالةٌ مثل هذه الجهالة؟
والكفر بالله، أو الكفر باليوم الآخر، هذا لازمُه، وكلّ واحدٍ منّا يلعب ولو جزئياً، تاركاً الجدّ، تاركاً الهادفيّة، كلّما انسحبنا عن الهادفيّة قيدَ أنملة كلّما استبطن ذلك أنّنا نتّهم الله عزّ وجلّ بأنّه خلق الكون لعباً، يعني لهوي ولعبي، وتركي للجدِّ، والطاعة، والحكمة، أعني أنّه لا حساب ولا معاد ولو بهذا القدر الجزئي المستبطن -وإن لم يكن مكشوفاً للنفس وحاضراً لدى النفس- أنّ لعبي ولهوي وعبثي وتلاعبي بالأمور أنّه راجعٌ إلى عدم التصديق بالمعاد والحساب جزئياً، عنديّ عدم تصديق جزئي بعدم الحساب وبعدم الكتاب وعدم الجزاء، قد لا ألتفت، ولكن هذا أمرٌ مستبطن ونقصٌ في ذات المؤمن.
أوقاتُ المؤمن كلّها جِدّ، واللّعب غير الترويح للنفس، يجب أن لا نخلط، هناك ترويحٌ للنفس مطلوبٌ إسلاماً، في لحظة من اللّحظات عليك أن تكفّ عن القلم، عليك أن تكفّ عن المنشار، عليك أن تكفّ عن أيّ شيءٍ آخر؛ لتستروح، بمداعبة طفلك، بمحادثة أهلك، بالخروج إلى تنزّه في الخارج، وما إلى ذلك، هذا ليس من اللّعب، يجب أن لا نخلط بين اللّعب وبين ترويح النفس، والذي كان يمارسه الأئمة “صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين” فيما كان عنهم.
الآية الكريمة تقول: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)، ما هو الحقّ؟
الحقّ هو الخارج المتحقّق الشاخص، ما يخالف العدم، ويناقض العدم، التحقّق الخارجي حقّ، التحصّل الخارجي حقّ، هذا الكأس حقّ، والباطل بالإضافة إليه عدمٌ، هو حقٌّ، الباطل المساوي أو المقابل له هو عدمه، هذه المنضدة حقّ، باطلها عدمها، هذا حقّ، كان حقّاً محدوداً صغيراً أو كان حقّاً مطلقاً كاملاً، والله هو الحقّ الكامل الصدق الأصل، وما عداه حقٌّ مترشّحٌ منه تبارك وتعالى وبإذنه.
الحقّ أيضاً ما يطابق الواقع، الحقّ من التفكير. الفكرة الحقّ ما هي؟ التي تطابق الواقع الخارجي، أمّا ما ناقض الواقع الخارجي وادّعاه فهو باطل.
شعورٌ بالكرامة، وراءه كرامة حقيقية، شعورٌ من الذات بكرامتها، هذا الشعور بإزائه كرامة حقيقية، علم، وتقوى، صلاح، هذا حقّ، شعورٌ حقّ. شعورٌ بالكرامة، والذات سفه، جهل، استكبار على الله، خُبث سريرة، وما إلى ذلك، هذا شعورٌ باطل.
شعورٌ بالكبرياء الإلهية من عبدٍ محدود، ساقط، شعورٌ بالفرعونية، فرعون يشعر بأنّه إله، هذا شعورٌ باطل، شعورٌ زيف، شعورٌ كاذب.
شعورٌ بالعبودية المحضة لفلان، أو العبودية المشوبة لفلان، هذا شعورٌ كاذب، أنت لستَ عبداً لفلان، أنتَ ذاتٌ كلُّ أمرها بيد الله عزّ وجلّ، حدوثاً واستمراراً، ذاتاً وأثراً، وفلان لا يملك لكَ نفعاً ولا ضرّاً، ولا يقوم شيء من وجودك على وجوده، فمن أين تكون لي عبداً؟ ومن أين أكون لكَ عبداً؟ أنا لست عبداً لك أبداً، فكِّر ما فكّرت في هذا، أمّا أنا فلستُ معك في أنّي عبدُك، وأنت لستَ معي لو أدّعيتُ أنّك عبدي. هذا شعورٌ كاذب، عبوديّتي لفلان شعورٌ مغشوش، شعورٌ كاذب، باطل.
شعوري بحريّتي بالنسبة إلى أيّ إنسانٍ آخر، -الحرية التكوينية-، هذا شعورٌ حقّ؛ لأنّ أي إنسانٍ آخر لا يملك عليّ وجودي، ولا يملك أصل وجودي، ولا استمراري في وجودي، ولا أثر من آثار وجودي، ولا شيئاً ممّا يقوم عليه وجودي.
شعوري بالحريّة أمام الله خطأ، باطل، واضح البطلان، دعني أصدق مع نفسي، هل أنا أملك نفسي لحظةً من اللحظات، الله لا يريدني أن أكون فأكون؟ الله لا يريدني أن أُبصر فأبصر؟ الله لا يريدني أن أفكّر فأفكّر؟ أملك؟ سَلْ نفسك، حاسبها، تجد نفسك لا، لا تملك أنْ تفكّر ما لم يرد لك الله أن تفكّر، لا تستطيع أن تُبصر ما لم يَرضَ لك الله عزّ وجلّ أن تبصر، فإذن أنا مملوك ملكاً تكوينياً كاملاً، يعني ما عندي شيء من وجودي، ما عندي شيء من آثار وجودي، أيّ لحظة أوجدها، أكون فيها موجوداً هي لحظة ينصبّ الوجود عليّ من الله عزّ وجلّ، لحظةَ أن ينقطع مدد الله لي بالوجود لا أكون موجوداً، هذا تفكيرٌ حقّ، هذه فكرةٌ حقّ؛ لأنها مطابقة للواقع.
فالشعور قد يكون حقّاً وقد يكون باطلاً، الفكرُ قد يكون حقّاً وقد يكون باطلاً، التربيةُ قد تكون حقّةً وقد تكون باطلة، حيث تطابق المقتضيات الواقعية للتربية الصحيحة، حين تأتي هذه التربية طبقاً لهذه المقتضيات وهذه القوانين التي تُنتج تربية صالحة، حين تكون التربية متّبعة لهذه القوانين تكون تربية حقّة، وتربية مخالفة لهذا تربية باطلة.
إعلام مطابق للحقيقة والواقع والخارج إعلام حقّ، إعلام منافٍ للواقع الخارجي إعلام باطل، وهكذا.
فالحقّ إمّا تشخّصٌ في الخارج، يعني وقوع في الخارج، تحقّق في الخارج، حصولٌ في الخارج، وإمّا فكرٌ، شعورٌ، شيءٌ آخر يحاكي الخارج، يطابق الخارج، لا يخالف الخارج.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ..)، الله عزّ وجلّ قرّر أنّ خلقه للسماوات والأرض بالحقّ، وأنّه الحقّ الأصل تبارك وتعالى، وأنّه لا يصدر منه إلاّ ما هو حقّ، فلمّا كانت السماوات والأرض، وكانت حقانيّة السماوات والأرض لا تكون إلاّ لغاية، فقد خلقهما لغاية، قد خلق السماء والأرض لغاية، وهي غاية أن تكون آخرة، دائمة، ثابتة، يسعد فيها هذا المخلوق، الإنسان الموهوب بالمواهب الكريمة من الله سبحانه وتعالى، فيبقى هذا الإنسان دائماً أبداً بلا انقطاع دليلَ القدرة، دليل الحكمة، دليل اللطف، دليل الرحمة، هذه غاية، أن يُسعِد هذا المخلوق ويبقيه سعيداً أبداً.
تَقرَّر هذا، أنّ الله حقّ ولا يصدر منه إلاّ الحق. وشيء آخر، وهو أنّه لا يترك للباطل، ولا للعب أن يهدم غاية الله تبارك وتعالى، وغاية الخلق التي خلقه الله تبارك وتعالى، فلا يُحوِّل الكون لعباً، ولا يقضي على روح الحقّ، وروح الجدّية، والغائيّة في النفس الإنسانية، لا يسمح قدَرُ الله وقضائه وقدرته أن تتعملق قوة شيطانية في الأرض، دولة، دُوَل، أيّ وجودٍ استطال في الأرض لا يمكّنه الله عزّ وجلّ من أن يقضي على روح الجدِّ، وأن يتحوّل بمسار نوع الإنسان من الجدّ إلى اللّعب، وأن يحوِّل الحياة في نظر الإنسانية -من أراد ومن لم يرد- إلى أنّ الحياة لعب والكونَ لعب، هذا لا يمكن أن يكون على يد إنسانٍ واحد، ولا على يد أيّ دولةٍ طاغوتيّة في الأرض، ولا على يد دولٍ طاغوتيّة مجتمعة.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ..)، الباطل يمكن أن يوجَد، إذا لم يوجَد فلا يُقذَف عليه شيء، إنما يُقذَف على الموجود، فمعناه أنّ الباطل يمكن أن يوجد في الأرض، ويمكن أن يتحرّك، يمكن أن ينمو، يمكن أن يأخذ حالة من النمو والاشتداد، ولكنّه لا أنْ يصل إلى ذلك الخطر وذلك المحذور، فهنا لابدّ أن يقذف الله عزّ وجلّ الحقَّ عليه، وكأنّ الحقَّ وزنٌ ثقيلٌ يقذفه الله على الباطل، الرخوّ، الهشّ، الذي لا يمكن أن يُقاوِم قدَر الله، وقوّته، ووسائل بطشه.
أقف هنا، وغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.