الحديث القرآني الرمضاني – 4 رمضان 1440هـ / 10 مايو 2019
فيديو الحديث:
صوت الحديث:
نص الحديث :
حديث في ضوء القرآن الكريم (2) – سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
قم المقدسة – 4 رمضان 1440هـ / 10 مايو 2019
قوله تبارك وتعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (*) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ) إلى آخر الآيات الكريمة.
مفارقة عظيمة تكون محلّ عجبٍ من الإنسان، الإنسان العاقل، المزوّد بفطرة إلهية هادية، الإنسان الذي له دافع خوفٍ، ودافع طمعِ، وله رؤية مستقبلية، حسٌ مستقبليّ، يعطي فارقاً كبيراً بينه وبين الحيوان الذي يعيش لحظته ويكون حبيس النظرة في اللحظة، هذه المفارقة هي المفارقة بين حسابٍ شديدٍ مصيريٍ من جبّار السماوات والأرض، من مطّلعٍ على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، حسابٍ دقيقٍ مستوعبٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبين غفلةٍ تغلق القلوب، تذهب بالبصيرة، تُسقط قيمة العقل. أين هذا الإنسان بعقله الوقّاد، بفكره الثاقب، بفطرته الهادية، بدوافعه البنّاءة، أين هو من هذه الغفلة؟ وكيف تكون له هذه الغفلة؟ أين مستواه في إمكاناته، في مواهبه، في قدراته من هذه الغفلة التي تحوّله كالبهيمة؟
يقترب منه الخطر أكبر الخطر، وهو سادرٌ، جاهلٌ، غاوٍ، ساقطٌ في الغفلة، في حكم من لا عقل له، ولا نباهة له، وليس له تلك المواهب الضخمة العملاقة من الله عزّ وجلّ.
في الخطاب تنبيه للإستدراك، للتنَّبُه، لأن يكون الإنسان بمستواه الذي أهلَّه الله له، أن يكون عند درجته، عند مرتبته الوجودية المتميّزة، تنبيهٌ له أن يخرج من هذه الغفلة، من هذا السقوط، من هذا التيه والضياع والضلال.
فلتسمع الأجيال نداء الله، أو تنبيه الله وخطابه لتُفيق، وإنْ كثُرت المؤامرات على العقل، وإنْ كثُرت المؤامرت على القلب، وإنْ اُغتيل داخل الإنسان، وإنْ كُثّف الجهد من أجل اغتيال الإنسان داخل الإنسان، فكر الإنسان، فطرة الإنسان، وعي الإنسان، نباهة الإنسان، الحسّ المستقبلي للإنسان.
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ..).
غفلة هي بلاء، واستكبار، واستعلاءٌ في غير محلّه، ومن قزم وأقل من قزم بالقياس إلى كمال الله الذي لا يُحدّ، يستقبح أحدُنا من نفسه، أو يستقبح الآخرون منه إذا كان ميّتاً أن يُقابل نصيحة إنسانٍ متميّزٍ في فنّه، في علمه، في اختصاصه، بالإعراض والإهمال وعدم الإكتراث واللامبالاة، إنه إعراضٌ يشهد على السقوط عند الناس، يشهد بالسقوط عند الناس وبالدونية، وبالبلاهة والغباء، فكيف إذا كان الإعراض عن أمر الله، عن نهي الله، عن تنبيه الله عزّ وجلّ.
ماذا يبقى للإنسان من قَدْر؟ من قيمة؟ من تقدير؟ وهو يقف هذا الموقف المُشين الساقط؟
من أنا، من أنت، لنُعرض عن كلمة الله؟ لنقف موقفاً بجهالتنا، بمحدوديتنا، بغبائنا، أن نقف فيه مُدبرين، مُعرضين، لا مُبالين بالأمر، بالنهي، بالتوجيه، بالنصح، بالحكمة، تأتي من الله.
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ..)
وصل، اقترب، وليس في انتظار الإقتراب، (..وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ).
كيف تجتمع الغفلة والإعراض؟
قالوا عن الغفلة بأنها عدم التفات، هي عدم الالتفات، غفلتُ عن شيء أي ليس لي التفاتٌ له، فيه غيبةٌ عن ذهني، بين ذهني وبينه انفصال ولو وقتي، بينما الإعراض يكون فيه عنصر العَمْد، وعنصر التوجّه والالتفات والإنتباه إلى ما أُعرض عنه، وهؤلاء في حين يعيشون الغفلة يعيشون الإعراض، فكيف هم غير نابهين ولا منتبهين، وكيف هم توجّهٌ وانتباهٌ والتفات؟
غفلة -فيما يذكره صاحب الميزان أعلى الله مقامه- لا تتناول أصل الحساب، هم في غفلة من الحساب، غفلة ولكنها غير مستوعبة حتى لأصل الحساب، يعني أصل الحساب محلّ إلتفات، والغفلة عمّا يترتب على الحساب وما يتطلّبه الإيمان والالتفات إلى الحساب، من التفت للإمتحان تطلّب منه التفاتُه أن يزيد في جدّه واجتهاده ليوم امتحانه، وأن يتزوّد بكلّ ما يقيه من السقوط في الامتحان، فالإيمان والالتفات للحساب وليوم الحساب مقتضٍ، ومقتضاه الجدُّ والاجتهاد والمثابرة والتوّقي الشديد من مخاطر يوم الحساب، والاستعداد لكسب الموقف في الحساب، فيكون المغفول عنه هذا، أما أصل الحساب فمُلتفت إليه، ولأنّ أصل الحساب ملتفتٌ إليه فيأتي الإعراض عمّا يترتّب عليه، يحصل موضوع الإعراض عمّا يترتّب عليه.
أولاً الغفلة غيرُ معذورٍ صاحبها، هي غفلة مسبّبة من قِبل الإنسان نفسه، وليست غفلةً مكتوبةً عليها حتماً، غفلة نحن نجلبها إلى أنفسنا، نحن الذين نتسبّب في إغراق أنفسنا في بحرٍ من الغفلة، وفي ظلمة من الغفلة، فهذه الغفلة لا تكون عذراً، وإنما الإنسان ملومٌ عليها، والآية الكريمة هنا تلوم الإنسان على هذه الغفلة، والغفلة التي لا صنع لي فيها لا لوم عليّ منها، لا أُلام عليها، إنما كانت غفلتي محلّ لومٍ من الله عزّ وجل لأنّي متسبّبٌ فيها.
مرّة الإعراض يكون عمّا يترتّب على الحساب، والمترتّب على الحساب قلنا عنه أنه مغفولٌ عنه بسبب ما أوقعه الإنسانُ نفسُه في الغفلة، ومرّة نقول الإعراض عن أصل الحساب والتفكير فيه، وإذا كان حسابٌ فهو حسابٌ لأيّ شيء؟ وماذا ترى سيترتّب على هذا الحساب؟ وماذا ستكون النتيجة من هذا الحساب الذي سأتعرّض إليه؟ ما دام الحساب حاضراً في ذهني ملتفتٌ إليه، تأتي هذه الأسئلة، يتحصّل موضوع التفكير في الحساب وما يترتّب على الحساب، فينفتح باب الإعراض، وإن كانت هناك غفلة أوليّة عمّا يترتّب على الحساب، فالإعراض على ما يترتّب على الحساب -في تصوّري- بواسطة الالتفات إلى أصل الحساب الذي يثير في النفس أن تُفكّر، وأن تتدبّر، وأن تتبصّر فيما سيحدث من وراء هذا الحساب، وأنَّ هذا الحساب ماذا يتطلّب منّي؟ وهل يتساوى فيه المحسن والمسيء؟ عقل الإنسان وفطرة الإنسان يؤكّدان له بأنه لا يتساوى محسنٌ ومسيء، والعقلاء -حتى الكفار منهم، نوع العقلاء، كان هذا العاقل من الكفار أو من المؤمنين- لا يساوون بين من أحسن ممّن كان عملاً إحساناً في نظرهم وبين المسيء الذين يحكمون على عمله بالإساءة. الكافر الذي يحكم على فعلٍ بالإساءة، وعلى آخر بالإحسان، سيرته كعاقل لا تسمح له بأن يحكم علناً بالمساواة بين المسيء وبين المُحسن.
داخل الإنسان، مؤمناً كان أو كافراً لا يساوي بين محسنٍ ومسيء، بين طبيبٍ يُبرىء مريضه، يبذل كلّ الجهد في أن يستعيد مريضه صحّته، وبين طبيبٍ آخر يأتيه المريض بالمرض العادي البسيط فيُجهز عليه عمداً. المحاكم البشرية كلّها لا تساوي بين الطبيبين، عند العقلاء الأول يُجازى بالإحسان، والآخر يُجازى بالإساءة. فحين أعرف أنّ هناك حساباً على أعمال الخير والشرّ، حين يكون هذا محلّ التفات عندي، حين يكون الحساب محلّ التفات في نفسي، ومتعلّق الحساب عملي، خيراً كان هذا العمل أو شراً، لا ضمير، ولا عقل، ولا فطرة، ولا سيرة عقلائية وفهم عقلائي يسمح لي بأن أصمت، بأن أسكت، بأن أدير بوجهي عن فكرة يوم الحساب وألغيها من قاموس تفكيري ومن قاموس عملي نهائياً، لا يسمح لي هذا الشيء، فإذاً بهذا الإعراض وإن كنت في غفلة بما أسرفت على نفسي أبقى ملوماً أيضاً، والمقدّمة أيضاً أتحملّها بلا إشكال وهي الغفلة.
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (*) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
تصوير للغفلة الهائلة، وهم في غفلة عظيمة، غفلة فاجعة، غفلة قاتلة، غفلة تنسف بحياة الإنسان نسفاً، تصير به إلى مصيرٍ أسود لا خروج له منه ولا مَفْلَت.
تنكيرُ هذه الغفلة للتفخيم، للتعظيم، وهي غفلة ليس مثلها غفلة. تغفل عن يوم امتحانك الدنيوي يا أخي، عن يوم فحص طبّي، عن يوم عملية جراحيّة ضروريّة، تأسف، تعضّ يد الندم، فكيف أن أغفل غفلة تُذهب بقيمة حياتي كلّها، وتخلّدني في العذاب الأليم، والجحيم المستعر؟! وليس لمليون سنة، ولا لمليوني سنة، حياة أبد، حياة شقاء أبديّة، لا مخرج منها إلا بأن يعفو الله تبارك وتعالى.
من هذه الغفلة، اُنظر لهذه الغفلة إلى أين تصل بصاحبها، (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ..)، تذكير بعد تذكير، آية بعد آية، سورة بعد سورة، كتاب سماوي بعد كتاب سماوي، إلى جنب الآيات الكونية المترادفة والمتوالية، آيات الأنفس والآفاق، آيات الموت والحياة، آيات الصحة والمرض، إلى آخر الآيات التي لا تفارقنا لحظة من اللحظات، إلا أن ننام عنها نوم العين أو نوم البصيرة. هذا كلّه، ما يأتيهم منه من شيء، كلّ هذه الأشياء تأتيتهم، وممّن؟ من العليم، الخبير، القدير، الجبّار، القهّار، الخالق، المدبّر، صاحب كلّ المنن والنعم على العباد، من الرؤوف الرحيم، ممّن هو أشفق بعباده من الآباء والأمّهات، ممّن لا يُتّهم الذكر من عنده، ممّن لا يغش، ممّن لا يخونه علم، ممّن لا تنقصه معرفةٌ بعباده، بالكون كّله، بالعليم بكلّ ذرّةٍ فيك، بكلّ خاطرة وخلجة نفس، بكلّ نقطة ضعف، بكلّ نقطة قوة، بكلّ ما يضعك على الطريق، بكلّ ما يأخذ بك عن الطريق.
من أين هذا الذكر؟
تأتيك نصيحة من أخٍ لك صديق، وتأتيك نصيحة من أب، وتأتيك نصحية من فقيه كبير، تأتيك نصيحة من مرجع أعلى، أتساوي بين النصائح؟ تأتيك نصيحة من جاهل، تأتيك نصيحة من عالم، هل نتوقّع أن تأتينا نصيحة، يأتينا توجيه، يأتينا أمرٌ لا يأتي عليه خطأ، لا يمكن أن يمسّه جهلٌ، نقصُ خبرة، من غير الله تبارك وتعالى؟ ومَن جاء عن الله بخبره، وبالنصح من عنده؟
ترتقب النصيحةَ ممّن يا أخي؟ ترتقب الأمرَ الحكيم الدقيق المُنقذ المنجي المنجح ممّن؟ ترتقب النهي الذي يُجنّبك السوء، ويُنقذك من الشرّ، ويَبْعُد بك عن الهلكة، ممّن، إذا لم تقبل من الله أمره ونهيه؟ أغفلتُنا تجعلنا ما يأتينا من ذكر الله ربّنا، هذا الذي تقوم به وتقعد، هذا الذي تفكّر به، هذا الذي يعطيك التفكير، هذا الذي يعطيك الصحة، هذا الذي يعطيك الحياة، هذا الذي يعطيك الوجود، الذي لا خير لك إلا من عنده، لا شرّ مدفوعاً عنك إلا به وبتقديره، تبارك وتعالى، أتتهمه؟ إذن ابحث لك عن ربٍّ آخر.
هذا الربّ العظيم يأتي منه الذكرُ فلا تفيق له النفس، ولا تنفتح له، وكأنّ المتحّدث لها طفلٌ صغير، كأنّ المتحدّث لها مَن لا خبرة له بشيء!
(مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
أكثر من عدم قبول، مقابلة ذكر الله باللّعب. واللّعب -كما في بعض تعريفاته عندهم- هو العمل الذي يقوم على التصميم، والدراسة، والتخطيط، والتقنين، له قانونه، تعرفون لعبة الشاه؟ لعبة الشاه، والصبيّة، والشطرنج، وغيرها، ولعبة الشاه العود اللي في البحرين، والكلينة، وغيرها، هذه قائمة على ماذا؟ كلّ هذه ألعاب مخططٌ لها عند الأطفال، ولها قانونها، ولها حدودها، ولها أخطاءها التي تسجّل على المرتكب لها، موجود هذا كلّه، إذن ماذا يفرق بينها وبين ما هو جِدّ؟ أنّ الغاية مترتّبة على هذه اللعبة غاية خيالية، ليس لها تحقّق، ليس لها خارج وتحقّق، النفع المتوقّع نفعٌ خيالي، النفع المتوقّع من هذه اللعبة نفعٌ خيالي، سكن، أبني بيت لعبيّ، بغاية وبتصوّر الطفل أنّ هذا بيتي، والبيت وظيفته أن يأوي، هذا البيت فاقد لغايته العقلائية المطلوبة، التي تجعله عملاً جدّياً.
هذا اللعب المعني به ماذا؟ (..وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لعب كرة؟ لعب الشاه؟ لعب الشطرنج؟ لعب الصبية واللّعب الأخرى، أو لا؟ كتابة راقية جداً، تأليف راقي جداً، كتابة تفسير، تحقيق فقهي، تحقيق فلسفي، كسب للتوسّع، عرق يتصبّب من أجل جمع شيء من المال لتوسّعي، لكن حين يكون هو الهدف، حين يكون البحث الفلسفي الراقي، والتفسير الراقي وإلى آخره، هدفُه نفسُه، ليس له من هدفٍ في نفسي إلا أن أُنتج هذا الشيء، أو أن أكبر به في أعين الناس، أن أجمع مالاً يستطيل ما استطال، هذه ليست الأهداف الحقيقة التي خلق من أجلها الإنسان.
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
لن يكون عملنا جدّياً إلا بأن ينتهي في الأخير إلى العبادة، وأن يكون فعلنا له من منطلق عبادة الله عز وجل والخضوع لأمره ونهيه -العبادة في معناها الأعمّ- بهذا يكون العمل جادّاً. بناء حضارة عملاقة لا لله، جهاد، خوض معارك عنيفة، وتضحيات ضخمة، لا من أجل الله، من أجل الوطن، من أجل القوميّة، من أجل أيّ عنوان آخر، لعب، لعب.
لن يشرُف عملٌ، ولن يخرج عملٌ من كونه لعباً والصفة اللّعبية، إلا بأن يُقصد به وجه الله عز وجل. صلاتي لعب إذا أخذَتْ هدفاً غير طاعة الله وعبادة الله عز وجل، صومي لعب حينما يكون صومي اشتهاءً فقط، ومسألة ذوقية فقط، ومسألة تمرين مفصول عن أمر الله وعن توجيه الله تبارك وتعالى، وأنا مستعدٌ أن أصوم حتى لو نهاني الله، هذا لعب.
فقوله تبارك وتعالى (..وَهُمْ يَلْعَبُونَ)، ليس هذا الوصف منصبّاً على خصوص اللّعب بمفهومه العرفي عندنا، إنما أي فعلٍ تنفصل به عن الله، وتتوجّه به إلى غير الله، ولا يصلح بالتوجّه به لله، ويكون لأمرٍ آخر، هو لعب.
(..وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لعباً لاهياً لهم عن الهدف، (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..)، هم في لعب ولهو، واللّهو هو الانصراف عن الهدف الحقيقي، الاشتغال بما يصرفك عن الهدف.
تخرج من المنزل لتقديم امتحانِ آخر السنة الجامعية أو غيرها، تمرّ بالطريق تشمّ ريح طبخة جيّدة تشتهيها، تقف عندها، تمضي ساعة في انتظار وصولك إليها، يفوتك الامتحان، أنت هنا لَهَوْت، غُلِب على عقلك، ضاع وعيُك، انتُهِب ذكاؤك، غُيّب عقلك، سُحِبَ فهمُك، أينك من الهدف الذي خرجت له؟
جئنا إلى الحياة لماذا؟ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، يعني ليرقَوا، لأنه لا رقي إلا عن طريق عبادة الله عز وجل، إذ لا كمال إلا بالاتصال بالكامل، وبالتوجه للكامل سبحانه وتعالى. تبحث عن شيء من كمال على غير طريق الله لن تجد. كلَّ ما خالف الله فهو سقوط، انحدار، تيه، ضياع، تفاهة، دونيّة.
(..وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..)، ومَن أوغل في اللعب فتح عليه باب اللهو، التهى، تلّهى باللعب عن جده، عن الهدف الحقّ، عن الأصل، والحياة كلّها مَلهاةٌ حين تنفصل عن الله عز وجل.
الآخرة هي الحيوان، هي الحقيقية، والدنيا في نفسها، وحين يقتصر النظر عليها، وحين تميل عن خط الآخرة، وحين لا تكون مقدّمة لها، لهوٌ.
قصور، حقول، المصانع الضخمة، التكنلوجيا المتقدّمة، الحضارة العملاقة، النصر، السيطرة العريضة على الدنيا كلّها، كل ذلك لهوٌ حين يكون بلا هدف الآخرة، وعلى غير خطّ الآخرة، ومن أجل غير الله تبارك وتعالى. إذا لم يكن لله، كان لهدفٍ آخر أو لغير هدفٍ بالمرة، فهو غير هادف، هو لهوٌ ومَسقَطة.
(..وَهُمْ يَلْعَبُونَ (*) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) احرس قلبَك، سُدّ عنه منافذ السوء، والسموم، وما يبغض الله عز وجل، اختر مجالسَك، اختر كتابَك، اختر صديقَك، اختر معلّمَك، اختر أكلَك، اختر شربَك، اختر مسكنَك، ممّا ترى فيه يضعك، يقرب بك، يساعدك على أن تكون على طريق الهدف، وأن تحتفظ بذاتك الغالية، وذاتُك الغالية ليست في عينيك البرّاقتين، ولا في وجهك اللميع، ولا في قامتك الممتدة، ولا في ذراعك المفتول، ولا في نشاطك الجسدي المتدفّق، إنسانيتُك في معرفتك بالله، فيما هو لك من شيء محدودٍ من أسماء الله الحسنى، من ضياءات كبيرة جداً، ونيّرة جداً، على أنها لا تساوي شيئاً من نور الله عزّ وجل، وهي مقتبسةٌ من نوره، أنت الإنسان، أنت النور، أنت المقدار من النور من نور الله، هذه هي نفخة الله، والباقي طين، والطين كيف تَشرُف به على الحجر التي هي أصلب منك، ومن الجبل الأصمّ الذي يهزأ أحدُنا بنفسه جسدياً أمام عملقته وصلابته، فحتى تحتفظ بنوريّتك، بإنسانيّتك، حافظ عليها أكثر ممّا تحافظ على عينيك، أكثر من أن تحافظ عليها من عضلة قلبك.
لو عرفنا أنفسنا وقيمتنا الإنسانية لكان هذا كلاماً مفهوماً جدّاً عندنا عملياً، ولكنني لا أعرفه عملياً لأني جاهلٌ بإنسانيّتي، وبالقدر الذي أراد الله عزّ وجلّ أن يكون لي من خلال مواهبه العظيمة في وجودي.
(لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..) هذا اللّعب واللّهو، والعبث بالقلوب، وتدمير محتواها الأصل، وتغييب الفطرة، وإطفاء نور القلب، لِمَ ينتقل بالإنسان؟ لأي شيء ينتقل بالإنسان؟ لأن يكون عدوّاً لله، وعدواً لرسل الله ورسالاته.
(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) يأتي عليه الكلام، وغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.