الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم (سورة النور 05) – 16 مارس 2016م
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
في
“تفسير سورة النور 05”
الموافق 16 مارس 2016م
للإستماع :
للمشاهد :
اضغط على الصورة لمشاهدة الألبوم :
نص الكلمة :
“إضاءات من تفسير سورة النور”
الحلقة الخامسة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين
“إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ”، الإفك هو في اللغة صرف الشيء عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كان هذا الشيء فعلا أو قولا، الفعل له وجه يجب أن يكون عليه ونية ودور يجب أن يأخذ به في ممارسة هذا الفعل وحين يصرف صراف عن وجهه إلى ما هو غير وظيفته وإلى ما هو غير وجهه وغير دوره فهذا إفك، الكلام له وجه وهو أن ينقل الحقيقة ويعبّرَ عن الصواب ويهدي إلى الرشد والحق ودور الكلمة يجب أن يكون دورا بناء، والفعل حين يأتي أو القول منحَرَفا به عن هذا الدور البناء وعما وظفت له الكلمة أو الفعل هذا إفك، استعمال الكلمة وهي للصدق خدمة للكذب أو في وظيفة الكذب والتي هي للبناء من أجل هدم ما هو صحيح ومن أجل أن تعمر النفوس بالحق فإذا استعملت فيما يغزو النفس بالفساد هذا إفك.
وحديث الإفك الذي مس حرما من حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصروف عن وظيفته واستعمل وسيلة للكذب بدل أن يستعمل وسيلة للصدق وجاء لهدم الأعراض ونشر الفساد بدل أن يبني الشرف للمسليمن ويحافظ على المجتمع المسلم.
العصبة: هم جماعة بينهم توافق وارتباط وتعاضد على أمر أو أكثر من أمر وقد يكون هذا الأمر أمر خير وقد يكون أمر شر، والتعصب نوعان: نوع من أجل الحق ونوع من أجل الباطل، والعصبة الذين مارسوا قضية الإفك وابتدعوا كانوا عُصبة شر والشر هو الضار الحقيقي وقد أتصور ما هو شر خيرا لي وقد أتصور ما هو خير في نفسه وبالنسبة لي واقعا شر لي وذاك أمر آخر، ولكنه ما هو شر فعلا هو ما كان يضرني وما كان هو خيرا حقا هو ما ينفعني.
“لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”، الحسبان يشترك مع الظن في ترجيح أمر على نقضية وضده ولكن بفارق بينهما، الحسبان ليس فيه خطور للشيء النقيض في الذهن ورجحان للشيء من غير أن يخطر نقضيه في الذهن، وهو معنى للظن أيضا ولكن من مع خطور النقيض في النفس فحيث يخطر النقبضان ويترجح أحدهما على الآخر فهو الظن، وحيث لا يخطر نقيض واحد ويترجح في الاعتقاد فهو الحسبان.
كأنَّ الحسبان في الآية الكريمة كان في صورة ظن من دون أن يخطر النقيض المظنون وكان لإندفاعة جنونية وكان الهوى يُري المبدعين بأن هذا خير لهم ويُري سائر المسلمين بأنه شر لهم، وكأنه ليس هناك تصور من فائدة لهذا العمل وهو الإفك والذي أراد به أصحابه الإساءة لمسلمين وهذا أمر مفروغ منه بأن الهدف من الإفك هو الهدم وأن الإفك في نفسه وعلى أصحابه فكيف عدته الآية الكريمة خير للمسلمين، وماذا كان يستهدف الإفك من المسلمين؟ كان الهدف من الإفك هدم أشرف بيت في المسلمين بيت الرسالة والإساء كانت للرسول صلى الله عليه وآله قبل أي شيء آخر ولشرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان المستهدف هذا البيت الشريف القدوة وإنهدام شرف هذا البيت في نفس المسلم إنهدام وتسهيل لطريق التسيب والتحلل والرذيلة لأي بيت آخر.
وماذا بعد تربية الرسول صلى الله عليه وآله والأجواء الإيمانية التي يصنعها في بيته؟ وأين أي قدوة أخرى من قدوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأي ترقب عند مسلم بيت أكثر حماية للعرِض وأبعد عن الرذيلة التي تشوه سمعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو كانت رذيلة من تابع من أتباعه وممن يراعه، أي ترقب من مسلم أن هناك بيتا شريفا في المسلمين وأي خبر لا يهون من أخبار السوء وأخبار الفحشاء والرذيلة وغزوها للبيوت بعد أن يُتَداول عن بيت رسول الله صلى الله وعليه شيء من هذا الأمر ويمرر في نفوس الناس.
المسألة صعبة جدا جدا تستهدف بيت الرسالة ورسول الإسلام والمجتمع المسلم. هذا هو الهدف فكيف لا يكون شرا للمسلمين الآية الكريمة تقول “لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ”، لا شك أنه شر على أصحاب الإفك أنفسهم وعلى صناع مسألة الإفك ومصدرها، ولكن أعطى درسا كبيرا للمسلمين وكشف عن جماعة خطيرة لهم دور هدّام لو مكث تحت الأرض لعظم الفساد وأثره السلبي على المسلمين وأعطى نوعا من اليقظة والانتباه ولما يمكن أن يختبأ في زوايا المجتمعات من بؤر خطيرة ومنطلقات فساد في المجتمع المسلم، كشف عن رجال قد يُظنُ فيهم خيرا، والرجل يملك الثقة في المجتمع وله دور باطن مخالف فما أخطره على مجتمعه، جعل الجماعة والمؤمنة تراجع نفسها ومستواها وأن تلجأ إلى الله تبارك وتعالى من بعد درس يأتي به الوحي في صرامة وشدة وفيه حسم فهو خير للمسلمين.
وعندما تعرى أصحاب الإفك ورفع عنه الستار وظهرت جريمتهم للعيان كُفيَ المجتمع المسلم من شرهم، وليرى المجتمع المسلم شدة الإسلام وصرامته في حماية الأرعاض والحفاظ على الشرف وحتى تكبُر المسألة في نفوسهم، كل هذا خير وفشلت مؤامرة المتآمرين وسقطت محاولتهم من دون أن تحقق الدور المطلوب لها.
“إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ”، سمي إفكا كذبا وافتراءا ، هم أفّاكون في الواقع فيما أخبر به تبارك وتعالى في هذا الحادث، وقال عنهم أفاءكون وأن الحادثة غير صحيحة ولكن هذا ليس إفك فقط ونجد أن من رمى مؤمنا أو مؤمنة في الحكم الشرعي هو أن يقام عليه حد القذف لم يأتي بأربعة شهداء، ولم يقذف وهو محتمل الصدق؟ ففي حادث الإفك تاريخي والذي كان موردا لنزول الآية دعونا نقول أن هذا علم الله علم الغيب ويقول لنا بأنهم أِفكوا وأن الحادثة ليس لها أي واقع وهذا مصدق به بعد إخبار الله عز وجل ، ولكن حكم إقامة حد القذف حكم القذف على القاذف الي ليس له أربعة شهود يشهدون بما أدعاه فحكمه أن يجلد ثمانين جلدة.
لو أتى أي أحد وقذف مؤمن أو مؤمنة من الناس ويشهد شهود عليه السلام بأنه كاذب أو تقدم إلى القاضي المعتبر شرعا وشَهَدَ ورمى فلانة بالفاحشة ولم يقم أربعة شهداء فحكمه أن يجلد ثمانين جلدة فلا نفقه بأنه كاذب و لكنه يحتمل الصدق والكذب ولكن عنده مخالفة شرعية وهو أنه رمى من دون أن يكون له أربعة شهداء على ما رمى المؤمن أو المؤمنة به وهذا يجعله في حكم الله مفتريا أفّكا كاذبا ويستحق علما فعل أن يقام عليه الحد، المسألة ليست مسألة نفي واقعي فقط فالله سبحانه أخبرنا عن طريق الوحي بأن هؤلاء أفاكون في مورد وهو المطلع على الأمور ويعلم بنظافة عِرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك أخبر أن عِرض رسول الله نظيف، ولكن حين يأتينا الحكم الشرعي بإقامة الحد على القاذف في مثل هذا الزمن أو غيره في غير مورد نزول الآية، فهل نقذفه وهو محتمل الصدق و كل من لا محتمل الصدق أو الكذب فنقيم عليه الحد، أو لا بد أن يحكم شرعا بأنه كاذب في مورد قذف المحصنة وأنه إذا لم يحضر أربعة شهداء يقام عليه الحد ، فأنظر إلى أي حد أن الإسلام يحمي الأعراض وليس فقط إقامة الحد على الزاني والزانية بل حتى عن هذا الرمي وعن هذه التهم الرخصية وكم احتاط في طريق إثبات الحد وأمام هذه الصعوب لا يكاد يقام حد حتى الشهود أنفسهم مهدد كل منهم لو أنسحب واحد من الأربعة قبل أن يشهد أن يقام عليه الحد.
“إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ “، المخاطب في الآية سائر المؤمنين وبقية المجتمع المسلم وما حال أهل الإفك أنفسهم؟ ” لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ”، أفاكون آفكون آثمون هذا حكمهم ودورهم ليس واحد وإن كان دورا واحد فجزاءهم عند الله وعذابهم يوم القيامة وما يصيبهم من آثار معنوية في الدنيا فالعدل أن يكون واحد لأن دور الكل بحجم واحد، ولكن حين تختلف الأدوار ويكون هناك رأس وتابع ومخطط ومنفذ ومنفذ كبير ومنفذ صغير و مشارك بدور مباشر وآخر مساعد من بعيد وكل له دور وكل له من جزاء إثمه بمقدار دوره وجزاءه بمقدار إثمه وهذا وعد الله تبارك وتعالى وهذا في كل مسألة الإفك وكل مسائل الفساد الإفساد والأدوار الهدامة والأعمال التي تضر بالفرد والمجتمع هذا حسابها.
“لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ”، أي الرأس والمخطط والعقل المدبر والمحرك والممول هذا له النصيب الأكبر من دور الإفساد والكذب وله الحظ الأكبر من الإثم و “لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ”، عذاب عظيم مطلق ولم يقيد بآخرة أو دنيا فهو شامل وعذاب عظيم في تقدير العليم الحكيم المُوقِع للعذاب الذي أوجب هذا العذاب وبقدرته يقع هذا العذاب على المعنيين والله سبحانه وتعالى يصف هذا العذاب بأنه عظيم فأي نفس تحتمله وأي نفس تقوم إليه أو تقاومه، لا نصبر على عذاب الدنيا فأين النفس التي تصبرعلى عذاب الآخرة، ثم لا نملك لأنفسنا نفعا وقدرة على النفع ولا قدرة على دفع الضرر وعلى جلبه -القدرة الذاتية- فمن أين لنا أن نملك ما ندفع به العذاب العظيم يوم القيامة، أمرنا في الدنيا واضح فكيف أمرنا في الآخرة وحالنا في الدنيا والآخرة حال الضعيف المسكين المستكين الذي لا يملك حول ولا قوة إلا بأذن الله.
الاكتساب هو السعي لما يرى الإنسان فيه خيره، والإنسان عادة لا يسعى لما يرى فيه شره وإنما يسعى لما فيه خيره، ولا يصيب دائما وما أكثر الذين يسعون إلى النار ويسعون إلى عار الدنيا ونار الآخرة ويجدون في ذلك ويبذلون بتصور أن ما يسعون إليه خيرا، ولا يكفي أن أرى الأمر خيرا فأسعى إليه إذا كان الرؤية غير قائمة على دراسة وعلى موضوعية وفكر صحيح وإلا قتلت نفسي.
الإثم: الإثم والأثام أسم للأفعال المبطئه وجمع الإثم آثام، والإثم والأثام مأخوذ من البطئ مادة لغوية هي الهمزة والثاء والميم تدل على أصل وجذر واحد هو البطئ والتأخر، ويعطي هذا المعنى الذي ينبث في أي تركيبة من تركيب الهمزة والثاء والميم “إثم آثم، مأثوم، …” وكل هذه تحمل معنى البطئ والتأخر، والإثم مشتق من ذلك لأن الإثم الذي يكتسبه من خلال الجريمة والجريمة نفسها تهبط بنفوسنا وبمستوانا الداخلي وبجانب الخير فينا وعائق من عوائق النمو الزكي الصحيح وعائق من عوائق الخير في طريق النفس إليه فهو إثم.
وأما الذنب: كل فعل يسوخم عقباه -نتيجة مستوخمة ومستقذرة ومستثقله ومضرة- ومنه الذَنَب -ذنب الحيوان- وسمي الذنب ذنبا اعتبارا بالذَنب ولما عليه السلام عثبى الذنب، والإثم هو الذنب فهذا الإثم أمر يستوخم عقباه وتستقذر نتيجته ويضر في مآله. الذين جاءوا بالإفك من داخل المجتمع المسلم وممن أعلن الإسلام ويعرف في الناس بأنه مسلم ودخل في أهل الشهادتين “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله” وهذا الذي أقول بدليل قوله تبارك وتعالى وهو يخاطب المجتمع المسلم “إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ”، ليسوا من خارجكم وهم من المجتمع المسلم ومن أهل الإسلام في ظاهرهم.
الإفك هو إشاعة أمر مفسد عظيم وكان مستهدفا أعظم بيت في الإسلام شرفا بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما هو بيت رسول الله وعِرض رسول الله وحريم من حرمه بما هو حريم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أي إشاعة من إشاعات الفساد دورها خطير ومس أي بيت من بيوت المسلم بالسوء وهدم شرف أي مسلم والإطاحة بسمعة أي مسلم تسهل لكثيرين أن يسلكوا مسلك التساهل والفساد، والسماح بإشاعة فساد واحدة يفتح الباب لإشاعة فساد أخرى متوالية تعظم وتكبر وتفحش كلما مر الوقت وذلك خطير، وأنت تهدم المجتمع أي مجتمع بنشر الإشاعات المحبطة والميئسة والمطيحة بالثقة بين الناس بعضهم البعض وإشاعة الفساد الأخلاقي في المجتمع المسلم هدم ساحق له، وحديث الإفك وسيلة من الوسائل والكذب على السمعة وعلى شرف بعض البيوت والنيل من بعض الشخصيات ورميها بتهمة الفحشاء مثلا والتسيب الخلقي دوره خطيره، وهذا ليس هو الأسلوب الوحيد وليس ممارسة الفاحشة نفسها يشيع الفساد وإنما هناك شبكات لواط وشبكات زنا وأفلام سينمائية خليعة وفيديوات وأنتنت وأموال وصور عارية على المجلات وتقديم أنماط غريبة وسخة قذرة فكل ذلك رائج في المجتمع المسلم اليوم وكل هذا للبناء والهدم ولتذويب أخلاقية هذا المجمتع وليس لتصليبها وتثبيتها.
أمام حرب شرسة شعواء قاتلة تحتاج إلى جبهة مجابهة وإلى يقطة ذهنية و إلى مجتمع واعي وإلى ميزانيانت وإلى مخططين وتحتاج إلى دعات ومربين وإلى وعاظ وإلى أصحاب مشاريع وقائية وإلى مشاريع مقابلة تحصن الشباب. مسألة الإفك واجهها الإسلام بصرامة شديدة جدا جدا حتى لا تتسرب ريح الفساد إلى المجتمع المسلم.
الآية الإثنى عشر من سورة النور، وسورة النور هي سورة مربية محصنة وورد أنه يستحب للنساء أن يقرأنها أو أن يكثر من قرأتها.
“لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ”، المخاطب هنا ليس أهل الإفك وإنما المخاطب المجتمع المسلم المستهدف من أهل الإفك وأمثال أهل الإفك “لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، “هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”،هذا كذب واضح جلي وكلمة كان عليهم أن يقولها أمام من ينقل لهم خبر الإفك فيقول هكذا جرى وهكذا قيل فتقول “هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، وأقول هذا من أين وقبل أن ينزل الوحي بذلك، الكلام حول موقف كان لا بد أن يتخذ قبلا وابتداء وليس عليهم فقط أن يتخذوا هذا الموقف بعد نزول الوحي الذي وصف تلك الدعاية بأنها إفك، ويأتي بعد ذلك توضيح في آية أخرى لاختيار هذا الجواب الذي على المؤمين أن يجبهوا ناقل خبر الإفك.
الآية الكريمة تقول “لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ”، حين تأتي لولا وبعدها فعل ماضي “سمع” فتكون للتوبيخ والتلويم والتقريع فعلى هذا تقول الآية حاملة من الله العزيز الحكيم بكلمة الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواصلة إليه بأمانة والمؤدي لها بأمانة وهذه الكلمة تنقل توبيخ الله عز وجل وتلويمه وتقريعه للمؤمنين علما لم يكن منهم حدث أن يقولوا “هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، ولكنهم لم يقولوا هذه الكلمة وتعاملوا مع النقل غير هذا التعامل فهم موبخون من قبل الله تبارك وتعالى وملومون مقرعون في الخطاب لأنهم لم يتخذوا الموقف الذي كان يتناسب مع كونهم مؤمنين ومؤمنات ومأخوذ عنوان الإيمان “لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ”، وليسوا بما هو أفراد عاديين من بني الإنسان.
“لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ”، والإيمان قاعدة فِكر وقاعدة شعور وقاعدة أخلاق وسلوك معين، وما كان سلوك المؤمين في الحادث وفيما قوبل به خبر الإفك منسجما مع قاعدة الإيمان ومع مقتضى الإيمان وبما يصح أن يقوم على الإيمان من موقف وعمل، كان عندهم الإيمان وهو قاعدة سلوك معين فأين هذا السلوك ومقتضاه من الإيمان، فهم موبخون على هذا ومقصرون.
“ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا”، ظننت بنفسي خيرا من خلال إيماني إذا كنت أعرف من نفسي الإيمان فأظن بالنفس خيرا بمقدار ما لي من إيمان وأنا لا استطيع أن أضمن إيماني وأني متوكل على الله عز وجل أبدا وفي كل لحظاتي في بقاء إيماني واحتفاظي بكل خير من فضله، بنفسي لا أضمن إيماني وأعرف من نفسي أني لو خسرت إيماني لخسرت التزامي واستقامتي وكل خير، وأعرف بمقدار ما هبط إيماني قل الخير عندي ولكن بما أعرفه اللحظة من صدق إيمان بنسبة معينة في نفسي فأعطي لنفسي ظن الحماية فأظن أنها محمية بإيماني بهذا المقدار -هذا بالنسبة لي أنا- والآخرون ظنوا بأنفسهم خيرا فيظنون بالمتهمين كما يظنون بأنفسهم خيرا، والمطلوب أن ظنك بنفسك خيرا يولد ظنا خيرا بالمتهم بالمؤمنيسن والمؤمنات فلا تصدق فيه القول وتقبله، ولكن من أين لي أن أظن بصاحبي المسلم وبمغتاب المسلم الذي أغتيب والذي أتهم بهذه التهمة العريضة القاتلة أظن فيه خيرا فلا أصدق فيه التهمة؟ إلا يشترك معي في الإيمان بمشترك الإيمان، وليس لي أن أبني على أن إيمان صاحبي أقل من إيماني أو أن أسيء الظن في إيمان إمراء لم يقم على ذلك الدليل الواضح ففلان أعرفه متسيبا متهتك ولا يكتثر في أمر لله ولا نهي فلا أستطيع أن أحسن به ظنا ففيه تناقضا في نفسه لا يحتمل، ولكن مثلا إنسان لا أدري عنه فليس لي أن أحمله على سوء الظن وأتهمه في إيمانه وأقول أن عندي إيمانا -إن شاء الله- يحمني عن هذه الفاحشة الكبرى وهو ليس ذلك الإيمان الذي يحميه عن الزنا بسوء الظن وأنا لا أدري أنه يملك إيمانا بهذا الوزن أو أقل من هذا الوزن، فأنا مأمور إسلاما أن أحسن الظن فيه وليس لي أن أحكم عليه بالغيب بأنه قليل وضعيف الإيمان.
هذا ينتج أن المؤمن لديه مشترك مع أخوه المؤمن الثاني الذي أعلن إيمانه وعرف عنه في المجتمع بأنه مؤمن والله أعلم بمستوى إيمانه الداخلي وعندي معرفة بهذا وعند حسن الظن بالمؤمن وليس لي أن أبني غيبيا على أن إيمان فلان مثلوم وناقص وقليل ودون المستوى المطلوب لحمايته من الزنا وهذا المشترك في الإيمان يجعلني كما أظن بنفسي خيرا أظن به خيرا.
وسوء ظنك بأخيك المؤمن هو سوء ظن بك نفسك لأنه لا حامي لك إلا ما هو حام له عن السوء وعن الشر وعن الفساد، وإذا كان يحمك شيء فهو الإيمان وإذا كان يحميه شيء فهو الإيمان وإذا أسأت الظن فيه وأنَّ إيمانه لا يحميه فلتسئ الظن في إيمانك وهو سوء ظن في النفس في صورة سوء ظن بالغير. المجتمع واحد وحسن الظن في هذا المجتمع يستوجب اتساع حسن الظن لأفراده ممن لم يعلم بخروجهم على مقتضى الإيمان.
“لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ”، سواء دور المؤمن والمؤمنة واحد ومسؤولية المؤمن كمسؤولية المؤمنة والمؤمنة مسؤوليتها كمسؤولية المؤمن والمسؤولية “ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، حكم حاسم وسريع يواجهون به ناقل الفرية وناقل الخبر غير المعلم ويقولوا له “هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، كفَّ عن هذا وتراجع وأقطع لسانك عن هذا لن أسمع لك ولا مكان لكلمتك في المجتمع المسلم، وإذا انفتح الباب لنقل الإشاعات المهلكة فهذا طريق واسع لفساد المجتمع وسقوطه وإنهدام الثقة بين أفراده وتفكك بنيته. الآية الكريمة لا تقول إفك وتسكت وأنما تقول “هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ”، واضح وفي حكم الشارع المقدس ويجب أن يكون في نفس المؤمنين إفكا مبينا.
إذا أردنا أن نسد باب الدعايا ت الهدَّامة وإشاعة الفساد في المجتمع فلنملك الوعي الذي تقدمه هذه الآية ونطبق الأخذ بحكمها ونتأدب بأدبها ونتقي الله في أعراض المؤمنين ومصير المجتمع المسلم، ونعرف من الآيات الكريمة أن الدين لا يقيم أمر الناس والحياة على وهم ولا على شك ولا على ظن وليس من مرجع في حياة المجتمع المسلم عقيدة وسلوكا إلا العلم ، ولك أن تعترض عليَّ وتقول أنا حينما ينقل لي ناقل من أحد العلماء المؤمنين حكما شرعيا عن رسالة عملية أو فهما لهذه الرسالة أو ينقل لي خبر بأن فتوى فلان من الفقهاء هكذا، هذا قد لا يوفر علما بل يوفر لي ظنا فقط وتقول لي عليك أن تأخذ به ويكون عليك حجة ما دام الناقل عارفا وثقة لك وليس فاسق والثقة قد يشبه وقد يخرج على الوثاقة لحظة معينة فهو ليس معصوما وقد تخونه النفس في لحظة من اللحظات وقد يستحي وينقل الفتوى ولا يقول لا أعرف ويغلبه الحياء على دينه، ولكن من ناحية أخرى أنت معذور في الأخذ بقوله ولست معذورا في رد كلمته ونقله، الإسلام لا يأخذ إلا بالعلم وعند العلماء في علم الأصول مصطلح يسمى علم وعلمي فشيء تعلمه وجدانا وفيه تواتر لا يجعل عنك شك وكل من تلتقي به يخبرك بأن الحكم هو هذا نقل عن المرجع السيستاني فلا يتولد عندك الشك أو تحتمل الاشتباه عند واحد منهم أو الحياء في واحد وإنما يعتبر أخذ بالعلم.
ومرة ليس عندي هذا، خبر الثقة جاء الدليل القطعي عند العلماء على أنه يأخذ به في الحكم الشرعي ومحصل الخبر هنا لا يسمى علما وإنما ظن متكئ على ما هو علم والحجة في الدليل القطعي الذي أعتبر هذا الظن وأرجعني إليه سيدي ومولاي ربي وعن طريق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وعن طريق وليه علي بن أبي طالب يقول لي خذ بخبر أبي ذر فلا أملك أ، لا أخذ به، وأخذي بخبر أبي ذر ليس عن جهل وإنما عن علم؛ لأن مرجعي في أخذي عن أبي ذر هو الدليل القطعي على اعتبار خبره عند الله سبحانه وتعالى.
فالإسلام فيه إما علم مباشر أو علم غير مباشر، وأما مجرد شكوك وأوهام وظنون فلا، نعم تظن بالشيء من هنا وهناك وتحترس وأما أن ترتب موقف -في بعض الموارد- عندك شكوك حول فلان ودوره وهدفه فأستطيه الاجتناب ولا أسيء إليه ولا أقول عنه سوءا ولا أتهمه بشيء ولكن لست مجبورا على أن أصادقه وأن أتمنه على مالي، ولكن أن أقول فيه كلمة أو أن أتهمه أو أن أغمز في قناتنه فهذا لا يكون.
الدين لا يقيم أمر الناس والحياة على وهم ولا على شك وعلى ظن وإنما على العلم وحده وأما العلمي فهو راجع إلى العلم، وما كل ما علم المسلم صح له أن يشيعه -وهذا ما يقوله العقل- والعلم بالزنا لا يبرر لمن علمه بأن يشهد به كما تقدم في الآية الكريمة إذا لم تتوفر شهادة أربعة شهداء قائمة على المعاينة، وفي الأمور الأخرى وليس في مسألة الأعراض فقط عندي علم بالشيء الفلاني فقولي بهذا العلم وشهادتي بهذا العلم يفسد المجتمع ويضر بالمجتمع ضررا بالغا ونقلي لواحد فقط يهلك المجتمع وسواء هذا الأمر خيرا أم شر، وقد جاءت الكلمة “بأن الجهل ليس أن تقول ما لا تعلم ولكن الجهل أن تقول كل ما تعلم” ذاك جهل جهل وذاك كذب أن أقول ما لا أعلم ولكن قولي كل ما أعلم فهذا الجهل.
والحمد لله رب العالمين