الحديث القرآني لسماحة آية الله قاسم – 24 أغسطس 2015م
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
في
“المواثيق العقدية الإلهية والبشرية”[1]
الموافق 24 أغسطس 2015م
للإستماع :
اضغط على الصورة لمشاهدة الألبوم :
للمشاهدة :
وفيما يلي نص الحديث:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
المواثيق الإلهية المقصود منها ما كان بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى والبشرية هو ما كان بين الناس أنفسهم، ويؤول أمر مواثيق الناس مع بعضهم البعض إلى كونها مواثيق مع الله سبحانه وتعالى إذا كانت خاضعة لأمره متقيدة بقيود شريعته وناظرة إلى تقدير هذه الشريعة والالتزام بها لذا تكون مواثيق إلهية في النهاية.
- المواثيق الإلهية مع المسلمين[2]:
قال تعالى “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ“[3]، الحديث مع المسلمين بما هم مسلمون وليس بما هم داخلون في عنوان الإنسان حيث يكون المعني بالميثاق عند ذلك إنما هو الميثاق التكويني ويبدو أن هذا هو من المواثيق التشريعية التي دخل فيها المسلمون بما هم مسلمون في عهد مع الله وميثاق معه سبحانه وتعالى، وهذا الميثاق مضمونه هو الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله ويشمل ذلك كل تفاصيل الإسلام وأحكامه.
“وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ“[4]، وقبل ذلك كان الخطاب “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ“[5]، وهذا السياق يعطي بأن الميثاق مع المسلمين وبما هم قد دخلوا في الإسلام وأن هذا الميثاق هو الذي أخذته الرسالة الإلهية عليكم، “وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا”، ونحن اليوم وقد قلناها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد سول الله فقد قلنا سمعنا وأطعنا بكل ما يريد الله وبكل ما يفرضه وبكل ما يبلغه رسول الله وكل ما يجريه رسول الله صلى الله عليه وآله من إجراءات عملية وكذا الأئمة من بعده صلواته وسلامه عليهم وأي خليفة بأي مستوى وكان شريعا من خلفاء رسول الله وأئمة أهل البيت عليهم السلام.
“وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ”، والميثاق نعمة من نعم الله عز وجل على عباده وفيه تقديره لهم وهو قائم على تأهيلهم للأخذ بكلفة هذا الميثاق ويكون هذا الكيثاق نعمة بأنه يقودهم إلى كمالهم وإلى جنة الله ورضوانه، ولا قيمة لهذه الحياة ولا قيمة للإنسان إلا بأن تنتهي به حياته إلى رضا الله سبحاونه وتعالى وإلى جنته ورضوانه، “وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ“، أذكروا الميثاق واحترموا التزامكم بقولكم “سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ“.
“وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا“[6]، سياق الحديث في الآية الكريمة حول طائفة من أهل يثرب ويذكرهم بميثاق قد قبلوا به وعهد عاهدوا به الله عز وجل “وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا“[7]، في الإسلام صلاة قد تخف على نفس وقد تثقل وكذا سائر التكاليف ومن تكاليف الإسلام الجهاد والقائم في أساسه على كلفة كبيرة وتعريض للنفس للموت ومطلوب من هذا المسلم أن يقف أمام الزحف من غير فرار إلا لحيلة وما يسمى الآن بالتكتيت أو لينضم له جماعة تؤيده وفيما عدا ذلك الفرار إنهزامي وتعتبر كبيرة من الكبائر وهذا موقف يتطلب صبرا وتحملا كبيرا وهنا يحتاج الإنسان إلى أن يذكر عهده مع الله سبحانه وتعالى، ومعارك كثيرة في هذه الحياة تقرب من هذا النوع من المعركة الساخنة التي تهدد بالموت،وعلى الإنسان المسلم أن يصبر في كل معاركه التي يأذن بها الإسلام أو يوجبها.
“وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا“، وهو يولي الأدبار عند الخوف وعند الشدة وفرار من الموت ولكن حتى في هذا الموقف الصعب والبالغ الصعوبة على النفس لا إدبار عن هزيمة. هذا عهد يأخذه كل إنسان مسلم على نفسه أعلنه بالصريح أم لم يعلنه حين يدخل الإسلام ويعلن الشهادتين.
“مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا“[8]، أؤلئك رجال يفرون ورجال يثيرون الذعر والخوف في نفوس المسلمين من أجل أن يفر من يفر وهنا “رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ” هذا النتظر وقبل أن يبرهن عمليا على أنه صادق العهد مه الله يصفه الله العليم الخبير بأنه صدق العهد مع الله “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ”، وهذا من وقف الموقف العملي الذي يبرهن على الصدق والوفاء بالعهد وهناك فئة يعلمها الله عز وجل صادقة الإيمان وأنها تنتظر الشهادة في سبيل الله عز وجل بقبول وارتياح بل وشوق عند البعض “وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا“، لم يبدلوا أي تبديل وملتزمون بكل تكاليف الإسلام لا يميلون عن الصراط يمنة ولا يسرى وإن كان قد يشذ الموقف عند بعضهم قليلا إلا أنهم سريعا ما يرجعون ويذكرون الله عز وجل ويذكرون ما بينه وبينهم من ميثاق.
“لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً“[9]، هناك بيعة من عدد من المسلمين مع الله عز وجل عن طريق البيعة مع رسوله صلى الله عليه وآله وكان من بيعة تحت عنوان بيعة الشجرة وعن تقديم الإنسان المسلم الداخل في تلك البيعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المال والنفس والولد فليس لذلك المسلم الداخل في تلك البيعة أن يدخر ما عز عليه وغلا عن نصرة الإسلام والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه مرة عن أسمه والدفاع عن الأذى المادي ومرة عن كرامته وشرفه وعصمته ووجوب طاعته صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء رضي الله عنهم “لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ”[10]، كانت منهم بيعة صادقة “فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ“، ومهما كان والقلوب تقدم على مثل تلك البيعة التي فيها تجنيد كل شيء من الإمكانات وبذل كل عزيز في سبيل الله عز وجل وهي تشعر بعظمة من تبايع على مستوى الرسول العظمة الكبيرة ثم العظمة التي لا حدود لها عظمة الله عز وجل ولابد بذلك تشعر بالهيبة من جهة وبثقل المسؤولية وعظم الكلفة فكانت هذه القلوب تحتاج إلى سكينة وليس للإنسان في أي لحظة من لحظات وجودة وإن تراءا له أنه في أوج قوته أن يعتمد على النفس وإنما عليه دائما أن يلجأ إلى الله عز وجل وأن يستعين به على نفسه وعلى كل ما حوله وكل ما يواجهه من تحديات وصعاب ولذلك علينا أن نكرر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وعلينا أن نعني ما نقول فكرا وشعورا وعملا وهذا قبل النجح العملي وتحقق المأرب وبعد النجح وتحققه، ولذلك “ذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً“[11]، ما يعقب النصر عند الإنسان المسلم ليس الغرور وليس التبجح وليس أنا وإنما الاستغفار والتسبيح لله عز وجل، وجل جلاله عن حاجته لعون العبد وإلى أن يحتاج في إنقاذ دينه على جهود العباد ولكنه التكليف الذي يبني النفس البشرية ويعبر بمستواها ويدفع بها على طريق القوة والسمو.
“وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ“[12]، عهد أخذه بعض المسلمين قد يتمثل في شخص واحد أو أكثر بالتصدق لو آتاهم الله عز وجل من فضله فلما أتوا ذلك الفضل انقلب الموقف وهذا ما يحدث كثيرا في يومياتنا نحن في أمور قد نكتشفها أو قد نلتفت إليها تماما وأنا قد خالفنا وقد لا نلتفت إلى أننا خالفنا وليس عندنا حضورا نفسينا وليس عندنا أسف وليس عندنا ندم على مخالفتنا ولكننا نخالف ولكثرة المخالفات تهون مخالفتنا لعهد الله عز وجل على النفس لما ألِفت، وكل ميل وكل تخلف عن التكليف الشرعي عن عمد هو خروج على عهد الله عز وجل بالمقدار الجزئي.
ما مر من آيات كلها تتحدث مع المواثيق العقدية مع المسلمين وتقدم أن هناك مواثيق عقدية مع النصارى واليهود ومع أهل الكتاب عامة ومع الكفار.
“وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ“[13]، هذا ميثاق مع أهل الكتاب وكل أهل ديانة سماوية مأخوذ عليهم بدخولهم هذه الديانة بمواثيق إلهية من الله سبحانه وتعالى.
هناك ظاهرة منتشرة لنقض المواثيق التي مع الله من قِبَلِ هذا الإنسان ونلمس هذا على مستوى الظاهرة “تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا”، والقرية قد تكون مدينة وقد تكون بالمعنى المألوف عندنا وقد تكون القرية الواسعة وفي المعنى القرآني تكون القرية في قبال المدينة “تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ“[14]، الواقع يشهد بهذا أن نقض الإنسان لمواثيقه مع الله عز وجل ظاهرة منتشرة “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ“[15]، والميثاق التكويني مع هذا الإنسان يقتضي إيمان كل إنسان إنسان ممن هو على إدراك ولكن الأكثر من بني الإنسان يسلك مسلك الكفر ويؤمن بالكفر وكثير من بني الإنسان يعلن الكفر ويستعدي على الرسالة وكل استعداء على أي رسالة متقدمة أو متأخرة وكل رفض لرسالة متقدمة أو متأخرة هو كفر بالله عز وجل وارتداد في الموقف عن ذلك الميثاق.
هذا النقض يبداء من الكفار الملاحدة ويوجود نقض من أهل الكتاب ومن بني إسرائيل ونقض من النصارى ونقض من المسلمين وهذه ظاهرة منتشرة في الأرض تتحدث عنها الآيات الكريمة بالصورة الاجمالية كما قد يفهم من الآية الكريمة السابقة وتتحدث عن ذلك بصورة تفصيلية كما في الآيات القادمة.
“إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ”[16]، الجواب على السؤال “الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ“[17]، الكفر نقض صريح وأقوى نقض للميثاق مع الله سبحانه وتعالى.
“إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ“[18]، فيما يفعلونه وفيما يصفونه وفيما يقفونه من المؤمنين بالإسلام هؤلاء بموقفهم العملي في من يسمون بالأميين ناقضون لعهد الله عز وجل وفي تخلفهم في أداء الأمانة “وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا“[19]، وهذا التخلف فيما يظهر من سياق الآيات بالنسبة للأمانة من يسمونهم أميين “وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ“[20]، وكانوا يمارسون الكذب على الله عز وجل فهو من النقض للعهد.
“إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ”، ليس لهم حظ في الآخرة وهذا يعني الحياة عند هؤلاء فرغت من غايتها، وحياة في تعب وفيها جهاد وكل واحد يجهاد في الحياة الجهاد الدنيوي والجهاد الأخروي وفيها المرض وفيها لذة وفيها سعادة وشقاء وهذه الحياة بك نعمها وبكل متاعبها وبكل ما آتا الله سبحانه وتعالى الإنسان من ألاء كلها تنتهي إلى خسران وأكبر رصيد في يد هذا الإنسان يخسره بخسارة الآخرة؛ لأن حياة الدنيا بلا غاية معناه خسار. ولذة القصر ولذة الطعام واللذات الأخرى كلها وما يؤدي إلى ذلك من مال وجاه وغير ذلك كل ذلك وسائل حياة في هذه الدنيا وليست غاية للحياة وإنما الغاية هي ما يتحقق بأداء ما له الغاية و الغاية شيء غير ما يُوصِلُ إليها والذي يدخل فيما يوصل إليها كله لا يصلح أن يكون غاية للشيء، فإذا أردنا أن نبحث عن غاية للدنيا فعلينا أن نبحث عنها في ظول الحياة الدنيا وفيما تنتجه الحياة الدنيا ونحن نرحل منها، والدنيا بكل ما أوتي فيها الإنسان من نعم ولذائذ إذا انتهت -وأن لم تنتهي إلى النار- إذا انتهت بنا وبهذا الجسم الضئيل إلى رميم وإلى ذرات ضائعة في هذا الكون العريض بعد إن كان جيفة في القبر، فهذه ليس غاية الحياة وبهذا تكون الحياة بلا غاية وحتى لو لم تكن هناك جنة ونار وكيف ما يواجه الكافر وما يرتقب الكافر إنما هو النار والعذاب.
“إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ”، بلا نصيب ولا حظ “وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، لا توجد لهم عناية من الأصل وعدم اكتراث من قِبَل الله عز وجل فليدعوا ما يدعون وليتضرعوا ما يتضرعون ذلك ليس يوم التضرع وإنما النافع للتضرع اليوم وحيث يصدق التوبة الصادقة، “وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ“، وإذا ما زكاهم الله وحكم عليهم بالرجس وأبقائهم في رجسهم فهم محل النفرة من كل خلق الله الآخر.
“لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ“[21]، هذه الظاهرة عند بني إسرائيل وأن ما يقبلونه من دين أو من تفاصيل أي دين حتى لو وافقوا بشكل إجمالي إنما ما وافق هوى النفس وحين لا أخذ من دين الله إلا ما وافق هوى نفسي فأنا عابد لهوى النفس، ولأختبر نفسي وما أكثر المواقف التي نتعرض إليها وتكون استجابتنا فيها إلى ما يمليه الهوى وأنه إذا جاء التكليف على خلاف الهوى لا يدخل على النفس إلا وثقل على النفس بالدرجة التي تتنصل معها منه وترفضه وتجادل فيه وليس عن جهل وإنما من رفض هوى داخلي في النفس وحتى أبحث عن أدلة علمية صورية لتبرير الموقف انتصار لهوى النفس ولما يعز عليّ من مخالفة هوى النفس وإن كان لله تبارك وتعالى.
“فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا“[22]، هذا النقض تمثل في قضايا متعددة وكل هذا النقض للميثاق “فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ”، فنجد مواقف نقض بني إسرائيل في هذه الآية الكريمة بشكل واضح.
“وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ”[23]، هذا الميثاق مأخوذ على اليهود “وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ“،والموقف كان “ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ“[24]، ومر سابقا كيف كانوا يقتلون أنفسهم “تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ“[25]، هناك أنواعا مختلفة من الجزاء لنقض العهود تتحدث عنها الآية الكريمة وليس لونا واحدا فما أخطر القضية.
تأتي هذه الآية في سياق الآية السابقة “فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ“[26].
والحمد لله رب العالمين
[1] ألقيت المحاضرة في جمعية التوعية الإسلامية بتاريخ 24-8-2015.
[2] “وهم الداخلين في الإسلام ظاهرا كما هو حال النصارى واليهود حيث يتحدث عن الميثاق معهم وهم الذين قبلوا بالنصارنية وقبلوا برسالة موسى عليه السلام”.
[3] سورة الحديد، الآيتين 7 و 8.
[4] سورة المائدة، الآية 7.
[5] سورة المائدة، الآية 6.
[6] سورة الأحزاب، الآية 13.
[7] سورة الأحزاب، الآية 15.
[8] سورة الأحزاب، الآية 23.
[9] سورة الفتح، الآيتين 18 و 19.
[10] سورة، الآية 18.
[11] سورة النصر.
[12] سورة التوبة، الآيات من 75 إلى 77.
[13] سورة المائدة، الآيتين 14 و 15.
[14] سورة الأعراف، الآيتين 101 و 102.
[15] سورة يوسف، الآية 103.
[16] سورة البقرة، الآية 26.
[17] صورة البقرة، الآية 27.
[18] سورة آل عمران، الآية 77.
[19] سورة آل عمران، الآية 75.
[20] سورة آل عمران، الآية 75.
[21] سورة المائدة، الآية 70.
[22] سورة النساء، الآية 155.
[23] سورة البقرة، الآية 84.
[24] سورة البقرة، الآية 85.
[25] سورة البقرة، الآية 85.
[26] سورة المائدة، الآية 13.