كلمة آية الله قاسم في السحور الرمضاني على شرف عوائل الشهداء – 2014م
آية الله قاسم: أكبر قرار توفراً على العقلانية والحكمة ومراعاة حرمة الدماء هو قرار الدين في الشهادة
للمشاهدة :
ألقى سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم كلمة الحفل في اللقاء الرمضاني الذي تقيمه جمعية الوفاق على شرف عوائل الشهداء الكرام – 8 يوليو 2014… وفيما يلي محتواها:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعوذ بالله السميع العليم، والصلاة والسلام على سيدنا وآله الطيبين الطاهرين..
للشهداء ثورة على أنفسهم قبل أن تكون ثورة على الخارج، وثورتهم على الخارج من ثورتهم على النفس، وما هو محل ثورتهم في الخارج هو ما هو محل ثورتهم على النفس..إنهم لا يصبرون على انحراف النفس، ولا على خطرها، ولا على ظلالها ولا على ظلمها، وهم بذلك في ثورة دائمة أي ظلم من ظلم النفس وعلى أي زيغ من زيغها.
ومن هنا تكون ثورتهم دائمة أيضاً على انحراف الخارج، على ظلم الخارج، على ظلال الخارج..
أسلوبهم في هذه الثورة على ما في النفس هو ما ينعكس اسلوباً في تعاملهم في الثورة على انحراف الخارج..هم مع أنفسهم يبدأون بالوعد، يبدأون بالبيان، يبدأون بالتبصير، بالتذكير، بارجاع النفس الى مصادر الهداية، باعطائها الرؤية لما عليه الصحيح وما هو الخطأ، وما يؤدي إليه الصحيح وما يؤدي إليه الخطر.
ثم يشتدون على النفس ما ملكوا أن يشتدوا عليها، وما أمكنهم أن يشتدوا عليها، وهم لا ينتلقون الى أي خطوة فيها أذىً لأحدٍ في الخارج إلا بعد أن يأسوا بالكامل من دور الارشاد والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التبصير، المطالبة السلمية.
السلمية في فهم هؤلاء ليس اسلوباً متكلفاً، ولا اسلوباً تفرضه سياسة خارجية معينة، ووضع معين في الخارج، اسلوبٌ رئيس ينبع من قناعة النفس.
احترامهم لأي قطرة دم أمر لا يتزلزل، احترامهم لأي شيء من الثورة لا يتزلزل، لا يمكن أن تصدر منهم اساءة لأحد وهناك سبيل للاحسان، ولا أخذ بالعنف وهناك سبيل للاسلوب السلمي.لا تعدل بهم الظروف حتى الى الكلمة الخشنة الا عند الضرورة.
قرار السلوك لطريق الشهادة..أن انتخب قراراً بسلوك طريق الشهادة، أن أطلب أن أتعرف على طريق الموت والتضحية وأسلكه، من أين ينطلق عند هؤلاء؟ لا ينطلق من حالة انفعال، ولا ينطلق من ضيق صدر بالظروف، وحالة طغيان في درجة الضغط الخارجي على النفس، لا ينطلق قرار الشهادة عند هؤلاء الا من منطلق الأمر الالهي بعد التشخيص الدقيق، ولعدم امكان الانتصار الا بالشهادة ولأن الطرف الآخر لا يستجيب إلا لما تحدثه الشهادة بعد الشهادة من حالة زلزال في الناس، وتحركٍ في الغيرة واستثارة لروح التضحية، فإذا لم يكن من سلاح الا الدم كان القرار بالدم.اذا لم يكن سلاح الا بالتضحية كان قرار بالتضحية.
فهناك من يموت بغير حساب، ومن غير نظر دقيق، ومن يقدم على الموت عن ايمان حق، وأن الموت أصبح واجباً، وأن التضحية صارت ضرورة دينية، وحالما تكون التضحية ضرورة دينية النفس المؤمنة لا تتخلف عنها، والا فقدت ايمانها بهذا التخلف وهذا التلكؤ.
أقدس قرار هو قرار الدين في الشهادة
قرار الشهادة وقرار الدفاع وقرار المجاهدة، مرة يكون وطنياً، ومرة فئوياً، ومرة طائفياً، ومرة يكون دينياً، وأقوى قرار على الصمود والمواصلة وعلى الثبات وعدم التراجع هو قرار جهاد وتضحية وشهادة كان منطلقه الأمر الإلهي والقضية الدينية.
ثم أن أقدس قرار، وأكبر قرار توفراً على العقلانية والحكمة، وعلى مراعاة حرمة الدماء، وعلى التدقيق في المصالح والمفاسد هو قرار الدين في الشهادة، يمكن أن يدفعني المنطلق الطائفي الى تضحية غير مدروسة، الى تضحية انفعالية، الى تضحية أشبه بالانتحار غير الواعي، أما قرار الدين فلا يأتي فيه مثل هذا الأمر.
يمكن أن تضعني الروح الطائفية المقهورة المواجهة بالظلم المستثارة إلى أن اندفع على طريق الانتقام من الآخر من غير حدود لأموت ميتة رخيصة، ولكن الدين حين يتخذ في حق أي واحد من أتباعه قرار الشهادة إنما يتخذه عن مصلحة وحكمة وعدل.
من هو الشهيد؟ الشهيد واقع من البصيرة الجلية، يعي بما يضحي، لما يضحي، من أجل من يضحي، ماذا ستعطي تضحيته، ماذا ستحدث تضحيته من أثر، متى يضحي، فالشهيد هو تلك البصيرة الواعية الملمة الرشيدة.
الشهيد عشقٌ للحق، وجود عاشق للحق، الحق في نفسه يغلب شهوة الحياة، حب الحق في نفسه يغلب شهوة الحياة، هو يشتهي الحياة كما يشتهيها الآخر، يتمسك بالحياة كما يتمسك بها الآخر ولكن مرأى الحق، عشق الحق، جمال الحق يغلب كل حب وكل عشق آخر ومنه عشق الحياة.
الشهيد حالة من الخضوع التام لله تحت أي ظرف من الظروف، ظرفاً سهلاً، ظرفاً صعباً، ظرف فرح أو حزن، ظرف هزيمة، ظرف انتصار..
لا ينتظر أكثر من أن يعرف أن الأمر الالهي متنجز في حقه، ما ان يعرف أن الأمر الالهي بالشهادة وسلوك طريقها متنّجز في حقه إلا ويبادر الى هذا الطريق، لا تمنعه دنيا ولا تعلق ولد ولا تمنعه آمال عريضة ولا تطلّع الى أن يعيش لحظة نصر الأمة.
الشهيد حالة نفسية وفكرية وروحية اندغمت حباً والتحاماً وذوباناً في الآخرة، حتى كان حضور الآخرة في نفسه أكبر من حضور الدنيا، وحب الآخرة في نفسه أعظم من حب الدنيا..الدنيا بكل جمالها صارت لا تساوي شيئاً في تلك النفس أمام عظمة الأخرة، وليس من ألم في الدنيا يساوي شيئاً، كل الآمال ميتة ذابلة حين يقوم أمل الآخرة، لذلك يكون للآخرة في هذه النفس كل انجذابها.فلا تجد ما يعرقل خطوة لها على طريق الشهادة وما يتكلئ بها عن طلب الموت في سبيل الله.
الموت الحقيقي حين تموت الروح
الشهيد وعيٌ دقيق، ورؤية صائبة لما هي الحياة ولما هو الموت، وأن الحياة في تلك النظرة هي حياة الروح، وليس حياة البدن، وأن الموت الحقيقي حين تموت الروح والجانب الروحي، حين تتجمد حركة الروح، حين تأسن الروح، حين تتقهقر الروح، هنا الموت، أما ضعف ووهن البدن، وسكون حركة البدن فهو إن كان موتاً إلا أنه الموت اليسير والموت السطحي، أما الموت في العمق فأن أفقد شفافية روحي وطهر روحي، والرؤية الروحية ومعرفة الله سبحانه وتعالى، وأن تخسر روحي معانقة الحقيقة.
ثم أن ما نسميه موتاً بمفارقة الروح البدن هو ليس موتاً في نظر تلك النفس، أنه نقلة في الحياة، نقلة من حياة الضيق إلى حياة السعة، ومن حياة الانغلاق إلى حياة الانطلاق، ومن الحبس الضيق الى الأفق الرحب الوسيع، ومن معاناة الروح في قفص البدن إلى سعادة الروح وهي تشرف على كل هذا العالم من علوّ في أفقها الرفيع البعيد.
والشهداء يتفاوتون قيمة ودرجة بإختلاف ما لهم مما سبق من محاور وفوارق في عالم وعي الروح وانشداد الروح ورؤية الروح وطهر الروح وحرية الروح وعشها.
الشهيد يؤدي ما عليه من شهادة وهو لا يؤديها للناس، صحيح أن لها انعكاساً كبيراً على حياة الناس، وأنه سخي بحايته من أجل مصلحة وسعادة الناس، ولكن ما جعله يضحي ليس الناس وانما رب الناس، ولو ضحى من أجل الناس لكان طلبه للأجر منهم وهو لا يطلب من أحد التكريم ولا يرتقب من أحد جائزة ولا بما أن تمشي وراء جنازته الملايين.
شهادة الشهيد وتضحية الشهيد من أجل الرب تبارك وتعالى ورحمة الشهيد بعباد الله نابعة من رحمة ربه لعباد الله، وشفقته عليهم هي من تلك الرحمة الإلهية الواسعة.
والشهيد، هذا الشهيد السخي ومن أجل انقاذ الانسان المحروم والمظلوم في طول طلب مرضاة الله ما أبخله لدينه ولو بذل ما بذل، هو بخيل كل البخل بدينه وعلاقته بالله، كريم كل الكرم للدنيا وبما يسعد به الآخرون في دنياهم.
لنسلك بأنفسنا في طريق الشهادة
لما ترون ضحى شهداء هذا البلد بحياتهم؟ ومن أي منطلق انطلقوا في اتخاذ قرار الشهادة؟ بما اعتزازهم الأول؟ الأكبر الأهم؟ ولأي شيء كان انتمائهم؟ أؤكد لكم وبكل ايمان أن قيمة أي شهيد سقط على هذه الأرض أو على غير هذه الأرض انما تتحدد في ضوء ما كان قد ضحى من أجله، ومن ضحى من أجله، ومن انتمى إليه ومن سمع نداءه، لـ إن كانت التضحية في سبيل الله -وإن كانت لانتصار المظلوم على الظالم، لرفع حرمان الناس- ولكن المنطلق الأول هو الاستجابة لأمر الله الذي يأذن بالشهادة في مثل هذا السبيل..من كانت شهادته كذلك فهو الشهيد الأحق بإحترام المؤمنين وبالمكانة العليا عند الله.
فقد النفس ترخص كل الرخص اذا كان في سبيل الله، فلنتعلم الشهادة ولنسلك بأنفسنا في طريق الشهادة ولكن ليس الا على الطريق الذي يأذن به الله ونرجع فيه الى أمر الشريعة..ولتكن الشهادة دائماً تحت راية الدين، والدين لا يقول لكم بأن لا تضحوا من أجل انقاذ أنفسكم من الذلّ، من أجل تصحيح الأوضاع، من أجل ردّ الظلم، من أجل مواجهة حالة الاستكبار، كل ذلك يقول الدين بالتضحية من أجله، وكل ما هناك أن أرجع الى الدين في الأمر بالجهاد، في الأمر بالدفاع، في طلب الشهادة..والدين لا يقبل ظلماً، ولا يقبل استكباراً، ولا يقبل عبودية للانسان وربوبية للطواغيت، ولا يقبل تدميراً للثروة واستئثاراً واستحواذا عليها.
ربّ نفسٍ انتصرت اليوم وغداً تنهزم
أخوتي الكرام..
أنا أحارب اليوم مع الدين، ولكن ربما أكون غداً ممن يحاربني الدين وأحارب ضده، حين أنقلب على قيمه وأهدافه، حين أجيّر النصر لمصلحتي الشخصية، حين أظلم الطوائف الأخرى للانتصار لطائفتي، حين أتعملق على حساب الآخرين، حين أسرق أتعاب ونصب الآخرين..جاهدت وأخلصت في الجهاد وشاركت في صنع النصر الا أنني من بعد ذلك انقلبت على موازين الدين والعدل هدف لا يمكن أن يتغير من هدف الدين، العدل مع الصديق ومع العدو..
خوفٌ على المؤمن المضحي اليوم الباذل لدنياه في سبيل آخرته وفي سبيل المستضعفين، أن يكون بذله غداً في سبيل الكراسي والمواقع الصغيرة ومن أجل المواقع الهزيلة ومن أجل الغنائم الدنيوية العابرة. النصر اليوم لا يعني النصر غداً بعد النصر، ربّ نفسٍ انتصرت اليوم وغداً تنهزم، غلبت اليوم وغداً تُصرع، تُصرع كما صرعت نفوس من أبناء المسلمين في صدر الاسلام، أعطوا وبذلوا وضحوا ثم استرخت نفوسهم أمام سحر الدنيا، وأمام سحر المواقع فتنكرّوا للدين وأهدافه وكفروا به كفراً عملياً، هذا مما ينبغي أن يحترس منه المؤمنون اليوم، أبطأ النصر الخارجي أو عجل.
رب مجاهد اليوم لو سقط شهيداً لنجا وفاز، ولو عاش إلى الغد الذي يتحقق فيه النصر وتنفتح فيه أبواب الدنيا ربما انهزم ومات على ضلال..
هناك تحديات في طريق النصر ما يهدد الايمان، وما يخاف عليه النفس من سجون وتعرض للقتل والتهجير والتسقيط والسب والشتم إلى آخره، وفيما يتحقق من بعد النصر من فرص دنيوية تحديات أخرى قد تثبت نفوس اليوم أمام تحديات ولا تثبت غداً أمام تلك التحديات.
أقول مؤمناً بما أقول إن شاء الله، ملعونٌ حراك لو أمسك بشيء فاستبدل ظلم وكان ظلم، وأثرة وكان أثرة..اليوم يستأثر الآخرون غداً أنت تستأثر، ملعون هذا الحراك وملعون هذا النصر..
ملعون حراك يضع تحكماً جائراً مكان تحكم.. حراك يحقق نصراً فينساق وراء أخلاقية الانتقام والثأر الجاهلي هو مصيبة وكارثة..
الظلم قبيح من الغير في نفس المؤمن وفي وجدان المؤمن، ولكن الظلم من هذه النفس المؤمنة أقبح من ظلم الآخرين..اذا كان ظلمي للمؤمن قبيح في نفسه فظلمه لي في نفسه أقبح وأقبح، لأن مصيبة ظلمي له مصيبتي، وظلمه مصيبة له وكارثة على ايمانه.فالمؤمن الحق حين يتلقى الظلم من الآخرين يستقبحه، ولكنه حين يظلم فإنه لابد أن يستقبح ذلك أكبر.
أترى أن أخاك يقترف جريمة اليوم ويأتي عليكم الليل وأنت تحزن لما ارتكب من جريمة وتأسف له، لكن لو اتركبت الجريمة أنت نفسك كيف ستكون؟ الجرح أعمق، الاستقباح أكبر، لا يداعب جفنيك النوم أن ظلمت، أن سلبت يتيماً لقمة، أن اغتصبت عرضاً، أن آذيت مؤمناً بكلمة، أن رميت بريئاً بما هو برئ منه، أن ظلمت كافراً.
شعبنا وكل شعب لو صبر لكان نصراً
شعبنا وكل شعب لو صبر على البذل والتضحية والنصب والآلالم في طريق النصر والحل العادل والتخلص من حياة الظلم والهوان وسحق الكرامة وفقد الحرية والوقوع في ذل العبودية، لو استمر باذلاً يعطي من الشهداء والسجناء والأموال سنين وسنين لكان هذا شرفاً، ولكان هذا عزاً، ولكان هذا نصراً.
ولو أعطى مسترخياً، طالباً للراحة، مشتكياً من التعب أعطى اليوم بيعة ذلة وتراجع وتوقف عن حراكه طلباً للراحة والعافية ورضىً للهوان والذل، لكان ذلك سخفاً، لكان ذلك جنوناً، لكان ذلك بعداً عن الدين، لكان ذلك مغضبا لله تبارك وتعالى.
الطريق وإن طال والبذل وإن كَبُر والتضحيات وان عظُمت على طريق النصر والحل العادل المفضي الى سلامة هذا الوطن وخير كل أبناء الوطن كل ذلك هيّن وكل ذلك صحيح، وتوقف الحراك بشكوى التعب وبشكوى الخسائر، هذا قرار لا يتخذه الا شعبٌ قبل أن يعيش طوال حياته محكوماً مقهوراً ذليل خاسئاً، وشعبنا ليس كذلك، فلا مراهنة على توقف الحراك من غير حل عادل، لا ينبغي أن يراهن أو يساوم أحد على أن هذا الشعب سيتوقف حراكه بشكوى تعب، بشكوى نصب، بشكوى خسائر.
ولابد من هذا التأكيد في الأخير، حراك مستمر كما تؤكدون، حراك بلا عدوانية كما تؤكدون جميعاً، حراك لا يعرف الارهاب، لا يتخلى عن السلمية، لا يستبيح أن يقلّ قطرة دم حرام.
حراكٌ لا يستهدف نصراً لفئة تسحق فئة، لفئة تتعملق على حساب فئة، لفئة تظهر على حساب فئة، حراك لا يبيع الوطن بأغلى الثمن، يطلب الاستقلال لهذا الوطن والعزة والكرامة والتقدم والشموخ.حراكٌ لا يعتزم اساءة المعاملة لقريب أو بعيد ولا يسلك مسلك التشفي والانتقام على الطريقة الجاهلية.حراك من علمتهم مدرسة الاسلام الانتصار للحق وعدم التخلي عن روح التسامح والاصلاح.