الحديث القرآني الرمضاني – 5 رمضان 1435هـ / 03 يوليو 2014م
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة الشورى)
الحلقة الخامسة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
قوله تعالى: ” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ”[1]. تقدم أن الدابة كل ما يدب على الأرض ويتحرك عليها حركة على تفاوتها ضعيفة واهنة، وعلى هذه الأرض حيوانت كبيرة وحيوانات صغيرة وحشرات وميكروبات ووجودات مجهرية كل ذلك مما يدب على وجه الأرض، وكل ذلك من خلق الله تبارك وتعالى، وكل شيء من ذيك يقوم وحده دليلا كافيا على قدرة الله تبارك وتعالى وعلى علمه وحياته ولطفة وحسن دقة تدبيرة.
الآية تقول” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ”[2]، البث: التفريق والنشر فيهما وليس في الأرض فقط، وهل في السماء دواب؟ حسب ظاهر الآية هو كذلك، وهل الدابة هي المَلَك كما أراد بعضهم أن يفسر الدابة بالملك، قال صاحب الميزان أن دابة لم يعهد من هذا اللفظ أن يطلق على الملك، وإطلاقه على مخلوقات الأرض كثير، وعدد من الآيات يعبر عن أحياء الأرض المتحركة وذات الروح من حيوانات وحشرات وغيرهم بالدواب وهذا تعبير موجود في أكثر من آية كريمة، والملك لم يعبر عنه ولا مرة واحدة في القرآن بأنه دابة، على أن الدب والدبيب بمعنى الحركة اليسرة البطيئة والمهينة نجد أن حركة صعود ونزول الملك سريعة خاطفة، وليس متصورا أنها زحفا أو مشيا، فهذا مما يبعد أن يكون معنى الدابة شاملا للملك، فإذا كان في السماء دواب فهي غير الملائكة، أحياء ذات روح من غير الملائكة، والعلم لحد الآن لم يصل إلى هذا ولكنه لم يستبعده بوجود حياة في بعض الكواكب وبعض مناحي السماء.
” وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ”[3]، الكلام عن الحشر وهل أن الدواب والحيوانات تحشر كما يحشر الإنسان أم لا؟ والآية في سورة الشورى تقول ” وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ”[4]، وهذا الجمع هل للإهلاك أم جمع للحشر والنشر؟ والحشر والنشر إنما يكون للحساب والجزاء، فحين نكون أمام قول قرآني يفصح عن أن الدواب تحشر نكون أمام حقيقة أخرى بذلك، وهي حقيقة أن هذه الدواب تحاسب وتجازى بنعيم أو عاذب، فهل الأمر كذلك؟ الآية الأخرى تقول وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ”[5]، الآية الثانية حينما تقول” وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ”[6]، وضعوا علامة سؤال لما ذكر الجناحين؟ فالطائر يطير بجناحين وحينما قالت الآية الكريمة ” وَمَا مِن دَابَّةٍ “[7]، والدابة تمشي بمشيتها الخاصة المهينة، يحتمل في مقابلة الدابة بالطائرة أن يعنى بيطير أن يتحرك بسرعة فيكون المعنى معنا مجازيا، فدابة الأرض تمشي مشيا مهينا ودابة مسرعة خاطفة في حركتها، وهذا يعطي ليطير وطائرا معنا مجازيا على خلاف ما هي حقيقته، حقيقة الطائرة أنه له جناحان ويحلق بهما طيرانا في حركته، وحتى تحترس الآية من المعنى المجازي وتدفع أن المراد بطير هو معنى مجازي آتت بكلمة جناحين حتى يتحدد المعنى المراد في المعنى الحقيقي، وأن المراد هو الطائر بحقيقته العرفية المعروفة.
هذا كله ” أُمَمٌ أَمْثَالُكُم”[8]، وإذا سألنا عن الجمع والحشر وما يترتب عليه من حساب وجزاء بنوعيه، نوع الثواب والعقاب لابد أن نسأل عن الخلفية التي يقوم عليها التكليف، والتكليف يقوم على أرضية خاصة وله موضوعه الخاص وله مؤهلاته، فهل للطير والدواب مؤهل التكليف؟ ومؤهل التكليف شعور وإرداك يميز بين خير وشر وضار ونافع، وإرادة تمكنه هذه الإرادة من أن يقف هذا الموقف المنسجم مع الخير، أو ذلك الموقف المنسجم مع الشر من دون هذا الزاد وهذه العدة لا يكون تكليف، فمن دون شعور ومن دون إرادك ومن إرادة لا يكون تكليف، فهل للإنسان من الحيوان شيء من هذا وإن لم يكون بمستواه؟ يأتي بحث عند السيد صاحب الميزان -أعلى الله مقامه- يتكلم عن توصل الباحثين المتخصصين في علم الحيوان والمراقبة الموضوعية والاستقراء الدقيق لأوضاع الحيوان وحالاته ومعيشته وعلاقاته، فيقول عنهم أنهم وجدوا حالات من النظام الدقيق المعبر عن إدراك وشعور وتدبير عند الحيوان يوازي في صورته ما عليه مستوى الإنسان في هذا المجلا علة مستوى حضاراته المتقدمة، وهذه ملاحظة تعتمد على الاستقراء العلمي عند المتخصصين، ونحن نعرف بشكل إجمالي دقة العلاقات والتنظيم في عالم النحل وعالم النمل مثلا حتى بالملاحظة البسيطة.
يلاحظ في الحيوان -كما يقول- أن أفراد النوع الواحد من الحيوان كأفراد الخيل وكأفراد الديكة وكأفراد الغنم، والملاحظة ليست لنوعين متقابلين وإنما لأفراد النوع الواحد أن هذه الأفراد لا تتحد في درجة عطفها على بعضها البعض ولا في درجة رحمتها وقسوتها وعدوانيتها، فنجد الحيوانات من النوع والصنف الواحد حادة، وبعضها هادئة، وبعضها عندها لها درجة عالية من العدوانية، وبعضها لا تتصف بهذه الدرجة من العدوانية، ويوجد عند بعضها شراسة شديدة وبعض ليس عنده شراسة، وبعضها عنده ألفة أكثر من ألفة، حتى في عالم القطط تجدها على درجات في أمور مختلفة وليست كلها مطبوعة على طابع واحد ومسيرة سيرا حديا وموضوعة على قالب من السلوك والتصرفات لا يتغيير أبدا وليس بينهم أختلاف، وهذا مما يعطي أن هناك شعورا مختلفا من هذا الفرد إلى ذلك الفرد وأن هناك درجة من الاختيار والقصد.
نأتي للقرآن الكريم ” حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”[9]، هذه ليست ملاحظات حسية وإرداك حسي وإنما إرادك وراء الحس، يحطمهم ويحطمهم وهم لا يشعرون، والحاطم لا يدرك أنه حطم من دونه؟ أدخلوا مسكاكنم هذه إشارة ونصيحة بان يحتموا من التحطيم بدول المساكن، سليمان عنده جنود وهذا ما فهمه سليمان عليه السلام من لغته، وقاله الله عز وجل عن النملة وهذا إرادك وشعور.
الهدهد “أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ”[10]، متأكد أنا وعلى علم جازم ويتبجح بعلمه ويعتز ويثق بعلمه، “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ”[11]، وملك الملوك للناس ليست شيئا حسي وإنما اعتباري يقوم عليه تصرفات حسية وتدبيرات، فكيف أدرك ولو من المظاهر كيف أنها ملكتهم؟ “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ”[12]، فكيف كان بنائها وما هي قوتها؟ وكيف أدرك أن لها بناء وقوة ولها فاعلية في الناس؟ “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”[13]، لقد قيم ملكها وهذا إدراك وشعور، “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ”[14]، أن في سيرتهم خضوعا للشمس والخضوع مع الحسي معنوي، ويعرف أنهم يخضعون للشمس “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ”[15]، كلها تقيمات فكر وإدراك وتحليل، وهذا لا يصدر عن غريزة فقط وليس لدينا كلام قرآني يقول أن هذا الهدهد أه الوحيد من بين هذا النوع وأنه أعطي إلهاما خاصا وأنه متميز وأنه الفرد الوحيد في عالم الهدهد الذي يقدم هذه المعلومات ويعطي هذه التحليلات والأفكار، أو أن هذه النملة هي الوحيد في عالم النمل، مما يوحي تماما بأن للحيوان مستو من الشعور والإرادة والإدراك، ولا نقول لحد ما عليه الإنسان من شعور وإدراك وإرادة.
التكليف في الإنسان مربوط بشيء من الشعور والإدراك والإرادة يساوي متوسط ما عليه مستويات الإنسان المختلفة في هذه الأمور، والإنسان إدراك وشعوره وإرادته ليست واحدة، ولكن هناك متوسط يقدر الله عز وجل بعلمه وحكمته وعدله ولطفه أن هذا المتوسط يناسب التكليف من الصلاة والصوم وغيرهما، الصلاة والصوم مكلف بهم الفيلسوف الكبير والفقيه المبدع ومكلف بهم من لتوه وصل سن التكليف صحي أن أدراك كل منهم مختلف ومسؤولية مختلفة ولكن يوجد مستوى يعلم الله عز وجل أنه قابل لتكليف وهذا المستوى يشترك فيه الجميع، ويوجد تكاليف خاصة تتبع مستوياتها، “لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا”[16]، ومن الوسع الإرداك والشعور والإرادة.
الحيوان فيه متوسط في شعوره وإدراكه وإرادتة يشكل موضوعا للتكليف، وتكاليف تتناسب معه، وتكليف فيه رسول أم لا هذا موضوع آخر، وحتى الإنسان عنده إرادك طبيعي يحاسبه به الله عز وجل، عنده تميز بين خير وشر حتى بلا رسل فهناك رسول باطن، ولا يستوي في عدل الله قاتل النفس مع منقذها، كلاهما عنده زاد يمنعهم ويجعل عندهم إنكار عقلي و استقباح عقلي عملي لعمل القتل، أحدهما استجاب والآخر لم يستجيب، عنده دافع للإنقاذ فطري وأحدهما استجاب لهذا الدافع والآخر لم يستجيب لهذا الدافع، فلا يتصور أنهما مستويان أمام الجزاء الإلهي العدل.
يأتي هذا الكلام في الحيوان، فإذا جاء هذا الكلام في الحيوان جاء أن جمعهم للحشر وليس للإماته ” وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ”[17]، لإماتتنا أو حشرنا، ولكن الحشر مقصود به مما يظهر حشر يوم القيامة لحسابها وجزائها، والآية الكريمة تقول مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ”[18]، يحشرون: ليس حشرا للموت، وإنما للحضور عنده سبحانه لحسابه وجزاءه، والحشر إلى الله عز وجل من أجل حسابه والحضور في محكمته، محكمة الحساب والجزاء بالثواب والعقاب.
آه آه أيها الإنسان إذا كانت النملة ستحاسب وستجازى فكيف أنا وأنت؟ وإذا كان العدل الإلهي يطال النملة حسب إرادكها البسيط فكيف لا يطالنا؟ أنت اكبر مسئول وأنا أكبر مسؤول كإنسان، ونحن كأناس أعطينا ما أعطينا من المواهب الإلهية على مستوى الشعور والإرداك والإدراة والتصمم والمعاندة والمكابرة والاستجابة، وفي أشد المواقف أملك أن أعاند، وأملك أن أستجيب، إن هذا الإنسان مؤهلا أكثر من غيره لأن يحاسب ويجازى.
والحمد لله رب العالمين
[1] سورة الشورى، الآية 29.
[2] سورة الشورى، الآية 29.
[3] سورة الأنعام، الآية 38.
[4] سورة الشورى، الآية 29.
[5] سورة الأنعام، الآية 38.
[6] سورة الأنعام، الآية 38
[7] سورة الشورى، الآية 29.
[8] سورة الأنعام، الآية 38
[9] سورة النمل، الآية 18.
[10] سورة النمل، الآية 22.
[11] سورة النمل، الآية 23.
[12] سورة النمل، الآية 24.
[13] سورة النمل، الآية 24.
[14] سورة النمل، الآية 25.
[15] سورة النمل، الآية 25.
[16] سورة البقرة، الآية 286.
[17] سورة الشورى، الآية 29.
[18] سورة الأنعام، الآية 38.