الحديث القرآني الرمضاني – 4 رمضان 1435هـ / 02 يوليو 2014م
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة الشورى)
الحلقة الرابعة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
|
الآية الكريمة التي جرى عنها الحديث بالأمس “وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ”[2]، سبق القول بأن منع الغيث وتنزيل الغيث من بعد ما قنطوا كل ذلك فيه تربية للعباد وتدبير لصلاحهم، والصلاح كما يعلم كل مسلم لا يتركز على البعد المادي لحياة الإنسان فحسب وإنما يتناول ما هو أهم منه وهو البعد الفكري والبعد الروحي، فسلامة الجانب الروحي،أعظم من سلامة البعد الجسمي في تقدير الإسلام؛ لأن الإنسان بمعناه قبل أن يكون بوزنه المادي وشحمه ولحمه وعظمه، وحقيقة الإنسان ليس في هذا الجيم وأعضائه وإنما فيما هو عليه من إنسانية رفيعة المستوى شأنا لو أحسن الإنسان في التعامل مع إنسانيته كما أراد الله تبارك وتعالى.
كان ينبغي لهذا الإنسان بعد أن يعاني من شدة القحط الذي يسببه انقطاع الغيث، وحين يرى من نفسه مكروب مهموم مغموم ومهدد بالموت منقطع الحيلة وهذا ما حصل من ظرف نفسي للإنسان عند انقطاع الغيث، حين يجد من نفسه كل ذلك ثم يجد من فرج الله الانتعاشة النفسية وقيامه على قدم بعد يئس وقنوط، وبعد أن يحيى أمله ويستعيد لنفسه اطمئنانه لحياته، فكل ذلك ينبغي له أن يرتب الأوبة إلى الله والاعتراف بضعفه وبقوة الله، وبمحدوديته وعجزه وبإطلاق يد الله عز وجل وقدرته التي لا تتناهى، وأن يخضع ويستكين ويبعد الله عز وجل وحده، هذا الذي ينبغي أن يترتب على درس القحط وقطع الغيث والفرج من بعده.
ولكن ما يحصل لهذا الإنسان؟ ” وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ”[3]، ألحق الحديث السابقة بشيء من الكلام الذي توحي به هذه الآية الكريمة.
تأتيهم الضراء كما هناك إنقطاع الغيث يبسبب ضيقا وخناقا وتأتيهم الضراء الشدة والبأس، وتمسهم: أي تنال منهم، يحسونها ويذوقون من طعهما، مستهم البأساء: قرصتهم، أحسوا بها يذيقهم الله رحمة: الذوق نوع من استطعام الشيء بحيث تنال شيئا من حلاوته وهو غير الشبع.
يذيقهم الرحمة بأن يفرج عنهم ويرفع عنهم غطاء البلاء بمقدار، وبسرعة وبلا تريث ولا انتظار يبداء إنكار النعمة وإنكار ضعف الذات وإنكار قوة الله، وإنكار فقر الذات وإنكار غنى الله، وإنكار ذنب الذات وإنكار عفو الله ومغفرته، “إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا”[4]، الضراء آية من آيات الله تري سطوته وقدرته وفاعليته وقهرة وجبروته وسلطانه، إذاقة الرحمة آية تري على أنه قادر على تقليب حال الإنسان وأن لا شيء يعجزه، وأنه رحيم بعبادة وأنه عليم بضرائهم وكل ذلك تحمله دلالة إذاقة الرحمة.
هذه الآيات يُنكر بها بأن تسلب هذه الآيات دلالتها من خلال وسائل شيطانية ووساوس وإعلام وتبجح، محنة مرت ولكنها ذهبت، ولكن لا ينسب المحنة إلى الله، وأنها مرت بلطف من الله لا شيء من هذا، وإنما فكرنا وقمنا بوسائل، وفي حال أنه لم يقم بشيء فيقول أنه حادث من حوادث الكون والطبيعة هي هكذا والأحوال متقلبة، ولكن قدرة الله وعلمه وفعاليته لا يذكرون، فلا تعيش النفس الشعور بالخضوع لقدرة الله وعلمه وفعاليته، والأمر لا يرد إلى الله عز وجل فليرد إلى الطبيعة، تقالبات الأحوال والخلل في البيئة، فهذا نوع من المكر والتحايل الخبيث على دلالة آيات الله عز وجل، وكما أنه هناك تحايلا ومكرا مخزيا للأهله بالنسبة للآيات التكوينة، هناك مثله بالنسبة للآيات الموحات، تلك آيات مخلوقة تكوينا وهذه موحات من الله عز وجل.[5] وهنا مكر في تحريف الآيات في دلالتها، ليُّ في عنق النص، فبدل أن يتجه النص بالإنسان لهذا الفهم، أءخذ به بهواي وضلالتي إلى مسار آخر من الدلالة.
“وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً”[6] لتوك ذقت الرحمة ولم تبتعد عن الدرس كثير، ولكن يبتداء هذا الإنسان بفاعلية غروره ونسيناه وغفلته في الإنحراف.
“وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا”[7]، أين تمكرون؟ هذا الذي تفعلونه حينما يتيح لكم الله عز وجل أختبارا ويمكنكم أن تفعلوه ويعطكم إرادة، فهذا مكر من الله عز وجل بكم، لأنه يتنهي بكم هذا التحريف إلى أكبر خسار، وهذا المكر والإنكار وهذا التحايل على آيات الله عز وجل في دلالتها وهذا التضلل لعباد الله عز وجل كي ينسوا إرادة الله ولطفه وسطوته فهذا مكر بكم قبل أن يكون مكر بأي أحد، وما ينال مكركم من الله عز وجل؟ ولو أراد أن يجبر العباد على الإيمان هل هناك من مانع له؟ ” قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ”[8]، بالإضافة إلى هذا أن هذا المكر منكم لن يذهب بل هو مرصود محفوظ وتحاسبون عليه، وتعاقبون عليه وتأخذون به.
“وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ”[9]، قطع الغيث ليس مفصولا عن ذنب الناس كبلية عامة، هناك نوعان من البلاء: فردي وبلاء عام، البلاءات العامة كثيرا ما تأتي جزاء وأثرا تكوينا مترتبا على نوع من الذنوب الاجتماعية، وتساهل المجتمع، وتواطئ المجتمع، وبأن يصير إلى مخالفة الله عز وجل، فهذا له عقوبتة.
هناك أعمال تفسد البيئة “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ”[10] هذه تفسد البيئة، وفساد البيئة ماذا يعني؟ فالبيئة وجدت صالحةلهذا الإنسان بوضعها الذي خلقها الله سبحانه وتعالى عليه، وهذا هو الوضع المعطاء الذي يقوم يناسب حياة الإنسان، ويقوّم حاجاته ، فإذا خربت نسبة الأوكسين والهيدوجين في الهواء لا تبقى الحياة صالحة، وإذا فسدت خصوبة التربة لا تبقى الأرض معطاءة، وإن صار تصحرا لا تبقى البيئة سليمة، آثارا تكوينية تعطي قحطا وتعطي أمراضا واضطرابا نفسيا وقلقلا.
” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”[11]، نقف أمام آية مذهلة لا يملك عقل أن ينكرها، وأن يصمد أمام عظمتها ودلالالتها، فماذا يقول العقل عن هذه الأية؟ هل خلقا نفسيهما في حال عدمها أو في حالة وجودها؟ يوم أن كانا معدومتين هل خلقا نفسيهما؟ لو كانتا موجودتين أصلا وأساس وأبتداء وبلا سبب -وهما غير قادرتين- كل واحد يدرك أن هذا الجماد والتكوين لا يمكن أن يوجد نفسه، لو كان هذا الوجود لهما أصليا ذاتيا. السماء والأرض شيئان متلبسان بالوجود، أكسيا حلة الوجود وأعطيا نعمة الوجود، وأخرجا من عدمهما إلى الوجود، وليس هما ذات الوجود، وأن فرضت أن وجود ذات لهما فقد غالطت عقلك، وأن فرصت أنهما أوجدا نفسيهما في حال عدمهما لأنهما ممكان فقد غالطت نفسك، فكيف يوجد المعدوم وجوده؟ وأن فرضت أنهما أوجدا نفسهما وهوموجودان فالموجود لا يحتاج إلى الوجود ولا يحتاج إلى أن يوجد من جديد فهو موجود، وحتى أنا الموجود بالغير فموجدي بالغير لا يوجدني مرة ثانية وأنا موجود، يوجدني مرة ثانية وثالثة ورابعة وفي كل آن وآن لأن وجودي الأول آني ووجودي الثاني آني ووجدي الثالث آني والرابه آني بمعنى أنه محدود، أما لو أوجدني ربي عزوجل شيئا محتفظا بوجده إلى مليون سنة، فهل في هذه المليون سنة يوجدني؟ لا يوجدني لأني موجود.
وأي شيء موجود، فهل توجده هو هو هل هذا ممكن؟ لا يمكن أن توجده هو هو مرة ثانية، فالآن يكون وجوده في اللحظة الأولى غير وجوده في اللحظة الثانية والثالثة، فهذا لابد أن يتدفق عليه ال الوجود لحظة بعد لحظة وآن بعد آن وهذا شأن كوننا العظيم كله وكل خلية فيه وكل ذرة، فلا يوجد خلية ولا ذرة ولا يوجد سماء ولا أرض ولا جسم ولا وجود روحي إلا ووجوده ينصب عليه من فيض الله، ويتدفق عليه من فيض الله آن بعد آن ولحظة بعد لحظة، من دون أن تكون له قدرة على الاحتفاظ بذاته من اللحظة السابقة إلى اللحظة اللاحقة. فهذا الكون يحتاج إلى عطاء ربه، فيتعلق بربه لكي يعطيه الوجود، والحي لكي يعطيه الحياة، المفكر ليعطيه التفكير.
ويمثل تنزل الوجود على الكون كمثل تنزل النور على المصباح، فمبجرد أن تنقطع الكهرباء ينقطع النور، فالانقطاع بالنسبة للكون ليس انقطاع حرارة وإنما انقطاع وجود لأن نفس الوجود يتنزل، فالمكيف وجده لا يتنزل من الكهرباء وليس من الطاقة وإنما البرودة من الطاقة ولذلك تنقطع، فلو كان المكيف قائم في وجوده على الطاقة الموجودة في المركز فلو انقطعت الطاقة لا يبقى لنا مكيف، فهذا الوجود مله حرارته وفعاليته وحركته وهيئته ومادته كل ذلك يتنزل عليه شيئا فشئيا ولحظة فلحظة وآنا آنا.
فلا يملك عقل أن يقول بأن السموات أو الأرض أنهما خلقا نفسهما، أو خلقهما ناقص محدود القدرة والعلم، أو ممكنا في ذاته جبرائيل وخلق السموات والأرض، ولكن لا يخلقها من ذاته ولابد أن ينتهي خلقها إلى الله عز وجل وإلى ما هو موجود بذاته تبارك وتعالى؛ لأنه حق الوجود وليس شيئا لبس الوجود، والله عز وجل ليس شيئا مفصولا عن حقيقة الوجود وطرئ عليه الوجود، وأخرجه من عدمه وجوده، ومن كتمه إلى ظهوره، إنما هو الوجود الظاهر القوي والوجود الذي الذي لا يخفى تبارك وتعالى ربنا وهو أحسن الخالقين.
“وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”[12] أدوس على عقلي لو قال أن السموات والأرض ليست من خلق الله فهذا ليس بعقل، ” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ”[13]، ميكروب مجهري أو جرثومة فهي دابة، والدبّ: هو المشي المهين الخفيف والحركة البسيطة والسريان البطيء، تقول عن الشيخ في العمر: يدب دبيبا، مشيا خفيفا لا ثقل فيه، لا يملك سرعة حركة ولا قوة حركة، ودبّ الألم إلى جسمه: تسلل، ودبّ الوهن إلى جسمه، ودبّ اليئس إلى نفسه يدخل بتسلل وبطئ، وأحيانا يهجم هجمة، مرة يقول هجم اليئس هجمة ودفعة واحدة، ومرة تقول تسأل: هل دبّ لقلب أيها البطل شيء من اليئس؟ أيها الواثق بالله هل دبّ إلى قلبك شيء من اليئس من رحمته؟ الدواب تشمل كل ما على الأرض حتى من يركض ففي تقدير الله أنه يدب على الأرض، غير الملك يصعد من السماء إلى الأرض وينزل فهو لحظة هنا ولحظة هناك.
” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ”[14]، في كل دابة آية عظمى، وهذا الإنسان في صنعة عينه أسرار، وفي صناعة أذنه أسرار، وفي جهازي البولي والتنفسي والهضمي واللمفاوي والعضلي وفي قوامه وفي لونه وفي هيئته وفي لسانه فكله آيات، والعلم يبحث وألولف العلماء وكلهم يعترفون بالمحدودية وعدم الاستيعاب ومعلومات تتجدد وتتصح بزيادة التجارب والإمعان، وهذا هو الإنسان نفسه، وتعرفون اليوم لكل عضو فريق من الأطباء المختصين وفريق المدرسين الدارسين. والنمل والميكروبات التي أتعبت العالم والآن لم يستطيعوا اكتشاف أسرارها.
فهذه القدرة يخضع لها الإنسان الضعيف المحدود، كل أسرار الكون وآياته وقوامها يقومها العلم وليس الجهل، والحياة وليس الموت، ولقدرة وليس العجز. ولا يأتي هذا النظام من جماد، وتناسق نظام كوني شاسع ليس محدودا في أجزاءه فضلا عن خلاياه وفضلا عن ذرته، ويلفه نظام واحد وحالة تناسق، وتسلك به القدرة الإلهية مسارا واحدا إلى غاية محددة، فليس وراءة بعض قصر مشيد في بعض الزخرفات والدقة أو طائرة، فما يساوي صنع الطائرة وما يساوي صنع القصر؟ فما تفعل هندسة الإنسان؟ تأتي وترى تصميم لمبنى وتذهل منه ومن الدقة فيه وننسى عظمة الله، نقف مبهروين أمام عظمة مهندس وننسى عظمة هندسة الله.
والحمد لله رب العالمين
[1] سورة الشورى، الآيات من27 إلى 29.
[2] سورة الشورى، الآية 28.
[3] سورة يونس، الآية 21.
[4] سورة يونس، الآية 21.
[5] آيات القرآن الكريم.
[6] سورة الشورى، الآية 28.
[7] سورة يونس، الآية 21.
[8] سورة يونس، الآية 21.
[9] سورة الشورى، الآية 29.
[10] سورة الروم، الآية 41.
[11] سورة الشورى، الآية 29.
[12] سورة الشورى، الآية 29.
[13] سورة الشروى، الآية 29.
[14] سورة الشورى، الآية 29.