خطبة الجمعة (610) 12 شهر رمضان 1435هـ – 11 يوليو 2014م
الخطبة الأولى: البركة
الخطبة الثانية: خطر ماحق – لا إرهاب… لا تفجير… لا تدمير – أين الأمة الإسلامية من فلسطين؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أبدع ما خلق ابتداعًا، وابتدأ ما أوجد ابتداء، لم يسبق صنعه صنع صانع إذ لكل شيء قبل، وهو وحده الذي لا قبل له، ولا مبدأ لوجوده، كما لا محدودية ولا منتهى له، ولا صنع لأحد في عرض صنعه، إذ لا صنع لأحد إلّا من صنعه، ولا قدرة لأحد إلّا بإقداره؛ فله الملك وحده، ولا ملك لأحد غيره، ولا سلطان من دون سلطانه، ويصنع الله ما يشاء لا ضيق في قدرته، ولا يمنعه من غيره مانع.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله ما من إنسان إلّا وقد هدي بفطرة من الله السبيل، وهُيِّء له أن يسلك طريق النجاة، ويبلغ السعادة. وما ضلّ إنسان إلّا من نفسه، وما ضيّع الطّريق إلّا بتقصيره، وقد ظلم نفسه أيّما ظلم من فعل بها ذلك. ومن طلب المزيد من الهدى إلا من الله وجده وذلك بأن يسلك لما يطلب من هذا المزيد مسلكه الذي دلّ عليه الله، وهدت إليه شريعته، وأوضح معالمَه دينُه.
وتقوى الله مما يفتح القلوب على الهدى، وينير أمامها الطريق، ويرفع عنها الغشاوة، ويُجلّي في رؤيتها الحقائق.
فلنطلب العلم والتقوى لتستضيء بذلك قلوبنا، وتتوضّأ من ظلماتها، وتغنى بالهدى والنور. ومن كان له ذلك كان في سعادة.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد أفضل ما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك العلي العظيم الحميد الغفور الرحيم التواب الكريم المغني المتفضّل المحسن.
أستغفر الله لي ولكم ولوالدينا جميعا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم تب علينا وارحمنا يا توّاب يا رحيم.
اللهم إنا نستودعك قلوبنا فادرأ عنها كلّ ضلالة، واحمها من كلّ غواية، واحفظها من الزَّيغ، ومن أن يجد لها الشرك سبيلا، ونوِّرها بنور الإيمان، واملأها هدى واعمرها بالصَّلاح يا أرحم من كلّ رحيم، يا من هو على كلِّ شيء قدير.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه متابعة للحديث في موضوع البركة:
من أسباب البركة:
عبادة العبد لله سبحانه من أبرك البركات التي يمكن أن يتوفّر عليها إنسان، وهي في الوقت مجلبة لأكثر من نوع من البركات([1]).
ومما تذكره النصوص في هذا المجال ما يأتي:
- الاستغفار:
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}([2]).([3])
الاستغفار عما سلف من الذنب الذي تُصدِّقه أوبة عملية إلى الله تتمثّل في امتثال أمره ونهيه، والالتزام بما أوجب، والامتناع عمّا حرَّم يَعِدُ الله عليه عباده وهو صادق الوعد أن يُمتِّعهم متاعًا حسنًا في هذه الحياة بتوفير طيباتها لهم وتنعُّمهم بها آمنين مطمئنين في أوضاع سياسية واجتماعية وإنسانية كريمة مريحة، كما يَعِدَهم بأن يؤتي كلّ ذي زيادة في علم أو تقوى، وعمل صالح، وإنتاج نافع أكبر جزاءِ ما كان له من فضل اكتسبه من غير أن يَحرِمه أحد منه، ويحفظ له هذا الفضل كان فضل دنيا أو آخرة([4]).
وتنذر الآية كلَّ من يدير ظهره لأمر الله ونهيه ويتمادى في غيّه ويبقى على معصيته، ويناهض الدين، ويأخذ بمناهج الجاهلية بعذاب يوم كبير. وإنه لكبير في عذابه، ومقاساة أهل المعصية فيه في شقاء مقيم.
والآية الأخرى في بركة الاستغفار {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}([5]).
ومن الحديث الشريف بهذا الشَّأن ما عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا، ومن كلّ همّ فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب”([6]).
وعنه صلّى الله عليه وآله:“أكثروا الاستغفار تجلِبوا الرزق”([7]).([8])
- البسملة:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“إذا قال العبد (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله – جلّ جلاله -: بدأ عبدي باسمي، وحقّ عليّ أن أتمِّم له أموره، وأبارك له في أحواله”([9]).([10])
- صلاة الليل:
عن الرسول صلّى الله عليه وآله:“صلاة الليل مرضاة للرّب، وحبُّ الملائكة، وسنّة الأنبياء، ونور المعرفة، وأصل الإيمان، وكراهيةٌ للشيطان، وسلاح على الأعداء، وإجابة للدعاء، وقبول الأعمال، وبركة في الرزق”([11]).
وقول الحديث عن صلاة الليل أنّها سلاح على الأعداء يمكن أن يُشير إلى أمرين: الأول ما تُودعه صلاة الليل في نفس صاحبها من قوّةٍ في الإيمان، وما تُقيمه له من بناء الشخصية الإسلامية القويّة المطمئنّة والمضحّية في سبيل الله مما يجعله مقدامًا في هذا السبيل لا ينهزم ولا يتراجع، والثاني أن صلاة الليل مورد لاستجابة الدعاء ومنه الدعاء على أعداء الله، والمؤذِين للمؤمنين لإيمانهم.
- الحج:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“حجّوا تستغنوا”([12]).
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام:“حجّوا واعتمروا، تصحُّ أبدانكم، وتتسع أرزاقكم”([13]).
- الدعاء:
وهو مفتاح خيرٍ وبركة وله موارد عديدة تُطلب فيها البركة؛ فمن موارده نزول المنزل الجديد، وطلب البركة في الرِّزق، وبركة الزواج، والصَّبيّ، والزّرع، وبركة اليوم، والشهر والقضاء والقدر، وكل ذلك وارد في الحديث عن المعصومين عليهم السلام.
من ذلك ما عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع عليّ في رزقي، وبارك لي في ما رزقتني”([14]).
عن أبي عبد الله البرقي رفعه قال:“لما زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام قالوا بالرفاه والبنين. فقال: لا بل على الخير والبركة”([15]).
وعنه صلّى الله عليه وآله:“إذا زُفّت إلى الرجل زوجته وأُدخلت إليه فليصل ركعتين، وليمسح على ناصيتها، ثم ليقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لها فيّ، وما جمعت بيننا فاجمع بيننا في خير ويُمن وبركة، وإذا جعلتها فُرقة فاجعلها فُرقة إلى كل خير”([16]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام – من دعائه يوم عرفة -:“اللهم بارك لي في قدرك، ورضّني بقضائك، اللهم افتح مسامع قلبي لذكرك، وارزقني شكرًا وتوفيقًا وعبادة وخشية يارب العالمين”([17]).
وهكذا نجد دين الله يدلّنا على الطريق، ويفتح لنا الأبواب المؤدّية إلى فتح أبواب الخير والبركة، ويُعلّمنا كيف تغنى حياتنا بالبركة، ونعيش في غمرتها باتّباع منهجه، والأخذ بهدى دينه، وكيف نُثري ساحة الحياة كلّها بألوان الخير، وأنواع البركات([18]).
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما أحييتنا فأحينا في خير، وبارك لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، ومتّعنا بنعمة الإيمان، وأكرمنا بكرامة التقوى، وأعزّنا بعزّ طاعتك، ولا تذلّنا بذلّ معصيتك، ولا تُخزنا فيمن أخزيت، ولا تُهِنّا فيمن أهنت، ولا تحرمنا إحسانك، ولا تقطع عنّا امتنانَك يا محسن، يا متفضّل، يا غنيُّ، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([19]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وسع كلَّ شيء علمًا، ولا يشغله علمُ شيء عن علم شيء، ولا تخفى عليه خافية في بحر أو برّ، أو أرض أو سماء، ولا يشتبه عليه صوت بصوت، ولا يلهيه سؤال عن سؤال، ولا يغفل عن حاجة عبد من عبيده، وشأن من شؤون مخلوقاته، ولا يأتي عليه سهو ولا نسيان، ولا يحدث عنده تقادم للأزمان، ولا تأخذه سِنة ولا نوم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنّ منتهى كلِّ نفس أن ترحل من دار الفناء إلى دار البقاء، وإنَّ متاعها هنا لقليل، ومكثَها ليسير، وما يُصيبها من ضَنَكٍ منقطع. أمَّا الدّار التي هي إليها صائرة فهي دار لا ينقطع خلودها، ولا انتهاء لأمدها، ولا محدوديّة فيها للبقاء. ونعيمُ كلِّ نفس وعذابها في آخرتها مما كسبته في دنياها من خير أو شر، وما كان لها من طاعة أو معصية لله عزّ وجلّ.
فلننظر عباد الله كيف نكون هنا فنكون كما اخترنا لأنفسنا في الحياة الدنيا هناك؛ فمختار النعيم المقيم إنما يختاره ويعمل له، ومختار الشَّقاء الدّائم إنما يختاره ويعمل له هنا، أمَّا هناك فموسم الحصاد، وكلُّ نفس تجني ما زرعت، وتستوفي ما قدَّمت لنفسها([20]).
فلنتّق الله حقّ تقاته لنرى العاقبة الحميدة يوم القيام، ومن أَلْهَتْهُ دنياه، واستغفله الشيطان فقد خسر نفسه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارأف بنا ولا تتركنا لوسوسة الشيطان، وخداع النفس، وغرور الدُّنيا، واحرسنا بحراستك، واحفظنا بحفظك، وحصِّنا من كلِّ ضلالة، وثبّت أقدامنا على صراطك المستقيم يا حنّان يا منّان، يا رحمان، يا رحيم، يا جواد، يا كريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض كلمات:
خطر ماحق:
خطر ماحق يتهدّد الأمة كلّها بل يحيط بها، وإنْ يأخذ مداه لا يبقى لهذه الأمّة شأن في الأرض من بين الأمم. إنه خطر مركّبُه الطائفية والإرهاب اللذان غذّتهما وألهيتهما السياسةُ المنحرفة من جلّ أنظمة الحكم السائدة في الأمة حتى آلت هذه الأنظمة تحت طائلة تهديد الإرهاب والطائفية بالمحق والسحق، وأصبحا خطرًا منذرًا للجميع.
وسياسة المصالح الدنيوية المنحرفةُ إذا كانت لها هبّة جادّة قوية ومواجهة غاضبة ضدّ الإرهاب الذي يتهددها فذلك من منطلق الحرص على مصالحها وكياناتها وامتيازاتها، وليس من منطلق معاداة الإرهاب الظالم في نفسه وهي التي دفعت إليه ما دفعت، وبنته بما بنت واحتضنته، ولا زالت مستعدة للوقوف معه وتغذيته إذا قَبِل أن يتحوّل أداة باطشة بيدها في أمن من اغتياله لها، وانقلابه على سياستها.
أمّا الطائفية فإذا شجبتها فإنما تشجبها على مستوى الإعلام، وبما يدرأ عنها ما تجد فيه تأثيرًا ضارًّا على وجودها أو استقرارها.
أمّا على مستوى أعمق فهي حريصة كلّ الحرص على إبقاء نار الطائفية ولو تحت الرماد مؤقّتًا، وترى فيها ورقة رابحة لا غنى لها عنها على المدى الأطول لاستغلالها وتوظيفها في تمزيق صفّ هذه الأمة، وصف أيّ شعب عند الحاجة إلى توظيفها إجهاضًا لأيِّ حركة إصلاحية تستهدف أي وضع سياسي ظالم داخل الأمة بتغيير أو تعديل أو إصلاح.
ومن هنا تأتي أهميَّة التفكير عند من يهمّهم شأن الأمة، وشأن دينها ووحدتها وقوّتها في طريقة القضاء على الطائفيّة المتمثّلة في انقسام الأمّة إلى طائفتين أو طوائف تقتتل باسم الدّين والتقوى والحميّة الدّينية من أجل الدّنيا ومصالحها المادية ومكتسباتها لاستئثار كل طرف بها وحرمان الطرف الآخر باعتباره عدوّ المذهب وأخطرَ خطر عليه([21]).
وكيفية علاج هذه الفتنة الكبرى، وضمانُ القضاء عليها، وعدم تجددها تختلف فيها عقلية تريد الحفاظ على الإسلام، وعدم التفريط به على الإطلاق، وأن تبقى الأمة بهُويّتها الإسلامية، وعلى خط الإسلام آخذة في حياتها بالمنهج الرباني الحق، وعقلية أخرى كلُّ ما يهمّها أن تنتهي صراعات الأمة وأن تستقرَّ حياتها المادية وتتقدم في هذا الشأن، ولا يهمّ بعد ذلك أن تبقى الأمة الإسلامية هي الأمّة الإسلامية ومحتفظةً بهُويتها، أو أن تنسلخ من واقعها الإسلامي، وتصير إلى هُويّة أخرى غير هُويّتها ويلفّها التغرّب الكامل عن الإسلام.
إذا أردنا أن نتخلص من مشكلة الطائفية في إطارها الدّيني وكفى أمكن لنا أن نأخذ بأيِّ حلٍّ ولو كان على حساب الدّين الإسلاميّ كلّه في التخلُّص منها. فيمكن أن نترك الإسلام إلى العلمانية ونتحرَّر من الحسّ المذهبي وتقديس المذهب ولو بدرجة كبيرة تقضي على منبع الطائفية أو تُخفّف دفعه إلى الحد الذي يؤمن من غائلة هذا الأمر الخطير، ونستطيع أن نضحّي باستقلال الأمة، ونبيعها رخيصة، ونبيع هويتها في طريقنا للتخلّص من الطائفية([22]).
كما يمكن أن تجري مصالحه على حدّ المصالحات في النزاعات الشخصية بين المذاهب بأن يتنازل كل مذهب من المذاهب الإسلامية عن نسبة من قناعاته لخاطر المصالحة([23]). كما يمكن أن نُشكّل مذهبًا واحدًا مشتركًا يقوم على الانتقاء الذوقي الذي يوافق عليه مجلسٌ من فقهاء شكليّين، ونُسوِّق له بين المسلمين جميعًا ليصير إليه الجميع فيكون إسلامهم الواحد الجامع ولكنّ هذا الإسلام من صناعة هذا الهوى. وهناك طرق عديدة يمكن أن تُؤدّي إلى مثل هذه النتيجة وما شابهها مما يُخلّص من الطائفية ولكن تؤدّي كلّها إلى نتيجة واحدة وهي الابتعاد عن الإسلام.
ومن الطروحات الفاسدة في هذا المجال أن يُخيّر المسلم العادي في كل مستوياته في الأخذ بأي فتوى توافقه من الفتاوى المختلفة للمذاهب فيتبع دين كل واحد من المسلمين هواه، وما تشتهيه وتحدِّثه به نفسه([24]).
إذًا ما العمل والطائفية ستأكل هذه الأمة وتُحرق دينها وتُحوّلها إلى جماعات همجية شرسة تقتات على دماء الآخرين وتتهدد العالم كلّه بالرعب والفزع والهلاك؟
العلاج في حكم عادل للأمة رحيم بها لا يعتمد في بقائه على التمييز بين أبنائها من غير عدل وإشعال نار الفتنة والفرقة بين صفوفها، وهذا ما على الأمة أن تسعى مجتمعة إليه.
والعلاج في مجلس يضُمُّ النخبة الصالحة من فقهاء الأمة وعلمائها ممن يتميّزون بالمستوى الفقهيّ والعلميّ المشهود له، والنزاهة، والغَيرة على وحدة الأمّة ومصلحتها، ولا يُقدّمون شيئًا على مصلحة الدّين وسلامته، ويُسلّمون للحقّ، ويتنازلون له، ويُخلصون العبودية لله؛ مجلس من هذه النخبة من كلِّ المذاهب الإسلامية القائمة.
وأمام هذا المجلس أكثر من مسؤولية. أمامه مسؤوليةُ البيان لعموم المسلمين بكلِّ وضوح وتركيز وتأكيد لحرمة دم المسلم وعِرضه وماله من كلِّ المذاهب وأنَّ المذاهب السُّنية والشّيعية كلّها داخلة في الإسلام وأنَّ أتباعها داخلون في هذه الحرمة. وبيان أنَّ اختلاف المذاهب لا يُبيح لأحد من أتباعها أيَّ ظلم للآخر من مذهبه أو غير مذهبه فضلًا عن استباحة الدم أو العرض أو المال.
ومسؤوليةُ توضيح المساحة الواسعة من الإسلام والتي لا تختلف على شيء منها المذاهب، وإنْ كانت لها اختلافاتها الاجتهادية الأخرى.
ومسؤولية البحث العلميّ والتخصصيّ الدّقيق والبعيد عن الضجيج الإعلامي واللغة الإنشائية والمستوى السّطحيّ في تناول المسائل الدّينية بين النُّخبة من هذه النُّخبة ثمّ في إطار جميع أعضائها لتقارب وجهات النظر ما أمكن في كلّ مسائل الاختلاف بلا مجاملة ولا محاباة على حساب مقتضى العلم والحقّ الذي يطمئنُّ إليه هذا العالم والفقيه أو ذاك([25]).
ومسؤولية متابعة المستجدات في المسائل التي تتطلب حكمًا شرعيًّا لم تتوصّل إليه الحركة الفقهية بعد ليكون النظر فيها مشتركًا طلبًا للوصول إلى نتيجةٍ فقهية واحدة أو نتائج متقارِبة ما سمح بذلك الدليل.
ومسؤولية متابعة الاختلافات التي تحدث في صفوف الأمّة على أساسٍ مذهبيٍّ لتقديم الحل لها وإطفاء نائرتها.
ومسؤولية الاستمرار في توجيه جماهير الأُمة إلى ما يؤكّد على وحدتها ويقطع الطريق على مريدي إشعال الفِتنة بين صفوفها.
والمطلوب لهذا المجلس أن تكون له استقلاليّته التامّة عن كلِّ الحكومات والارتباطات السياسيَّة الخاصَّة([26]).
لا إرهاب… لا تفجير… لا تدمير:
نُصِرُّ على أن يكون الحراك في البحرين سلميًّا بلا إرهاب بسفك الدّم الحرام ظلمًا، وبلا تفجير، وبلا تدمير، وأعمال تخريبية([27]).
كل فِرارنا من الظلم، من الإرهاب، من سلب الحقوق، من هتك الحرمات، ومن التعدّي على الدّين، ومن إلغاء الآخر، من الاستخفاف بالدّماء، من موجة التكفير وما تُسبّبه من زلزال لأمن الأمة، وتقويض ثوابت من ثوابت الدّين، ونشر الرُّعب والفزع في أوساط الشعوب، واقتتالٍ جاهليّ بين أبناء أمتنا، والوطن الواحد الذي يسكنه شعب من شعوب هذه الأمة.
وقضيتنا في البحرين هي قضية حقوق مسلوبة سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة وثقافيّة ومعيشيّة وغيرها، ولابد من العمل على إرجاعها، ولا أسلوب غير الأسلوب السّلميّ في العمل على إرجاع هذه الحقوق والعودة إلى العدل وحياة المساواة والإنصاف، والأخذ بالسياسة القائمة على احترام حقوق الشّعب بكلّ مكوّناته، وما يضمّه من فئات.
ولسنا الذين نُقِرُّ الاعتداء من أي أحد ولا نقرّ ظلما أحد، ولسنا الذين نتنكّر للعدل، ولسنا نريد الفتنة، ولسنا من الذين يريدون الفساد في الأرض. قضيتنا قضية عادلة، لا تقوم على الثأر، وما ننكره من الآخر لا يمكن أن نقرّه من أنفسنا، وما نطالب به الآخر نطالب به أنفسنا أولا وقبل كل شيء.
أين الأمة الإسلامية من فلسطين؟
فلسطين نُهبت، فلسطين تُحرق، الشعب مسلم يُضطهد، يُقتل، يُذلّ، يُسحق، أين أمّة العرب، أين أمة الإسلام؟
الأمتان في غياب عن القضية الفلسطينية، وماذا يلهيهما؟ قتل ونحر للمسلمين من دعاة يَعدّون أنفسهم دعاة للإسلام، ومن ثورة إسلامية غريبة على الإسلام، من فكر غريب على الإسلام، من مذابح يُمارسها المسلمون في حقّ الأبرياء، الأطفال، الشيوخ، النساء، المصلّين، المتهجدّين من أبناء الإسلام.
والأمتان في غياب من سياسات داخلية ظالمة مشغولة باضطهاد الشعوب، بامتصاص دم الشعوب، بسرقة الشعوب، بإذلال الشعوب، بتركيع هذه الأمة.
نريد من أنفسنا أمة جديدة، تولد من أوساط الشعوب، من أوساط الوعي الإسلامي الصحيح حتى تنهض هذه الأمة، وتستردّ كرامتها.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل هذا بالبلد آمنا وكلّ بلاد المسلمين، وادفع عن هذه الأمة مضلّات الفتن ومُهلكاتها، واجمع صفوف هذه الأمّة على كلمة التوحيد، وردّها إلى الرشد يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([28]).
[1]– فهي في نفسها بركة، ومن جهة أخرى هي مجلبة وسبب كبير للبركة.
[2]– 3/ هود.
[3]– متاعٌ في نفسه حسنة، في الدنيا حسنة، في عاقبته حسنة. فرق بينه وبين متاع السوء.
[4]– وكثيرًا ما تضيع متاعب الناس هنا في الدنيا على أيد من أيديهم، وكثيرًا ما يُسرق جهادهم، وكثيرًا ما يتمتّع إنسان بما كسبت يد آخر على يد الإنسان نفسه.
[5]– 52/ هود.
[6]– بحار الأنوار ج90 ص284 ط2 المصححة.
[7]– الخصال للشيخ الصدوق ص615.
[8]– الاستغفار الذي تنزل به البركات، ويعمّ الخير، وتأمن العباد والبلاد، وتتقدّم أوضاع الحياة كلها، ويسمو الإنسان هو استغفار جادّ يتمثّل في الأخذ بالمنهج الإلهي اللاحب.
أما استغفار على مستوى لقلقة لسان فهو ليس صنّاعًا ولا منتجًا ذلك الإنتاج كلّه.
[9]– الأمالي للشيخ الصدوق ص239 ط1.
[10]– إنّ الاستعانة بالله تبارك وتعالى استعانة القلب من داخله، بكل مشاعره، بكل خلجاته من أعماقه، البسملة التي تأخذ هذا المستوى، والبسملة التي تقوم على الثقة المطلقة بالله، وبرحمته أمر يفعل الكثير لهذا الإنسان من الخير ومعالجة أوضاعه، ودرأ السوء عنه.
[11]– الخير والبركة في الكتاب والسنة ص218 ط1.
[12]– بحار الأنوار ج96 ص11 ط2 المصححة.
[13]– الكافي ج4 ص252 ط3.
[14]– الخير والبركة في الكتاب والسنة ص233 ط1.
[15]– وسائل الشيعة (آل البيت) ج20 ص246، 247 ط2.
[16]– جامع أحاديث الشيعة ج20 ص 184.
[17]– إقبال الأعمال ج2 ص129 ط1.
[18]– وخير هذه الأمة لا يقف عند حدودها، وإنما تسعى دائما في حال استقامتها، وأخذها بهدى الله أن تجعل الخير سمة الأرض كل الأرض، وأن تجعل الخير لأهل الأرض كل أهل الأرض.
[19]– سورة التوحيد.
[20]– ولن يأخذ أحد من كسبك لنفسك شيئا، ولن يتحمل عني أحد من وزري وزرا.
[21]– كما يصوّره هذا المذهب أو ذاك المذهب لنفسه وللآخرين.
[22]– هذا حل، وهو حل من العقلية الأولى.
[23]– وفي ذلك قضاء على هوية كل مذهب من هذه المذاهب.
[24]– هذه الطروحات تستطيعون أن تجدوها مأخوذة ومأسورة.
[25]– من أتباع هذا المذهب أو ذلك المذهب الآخر.
[26]– بهذه الدولة أو تلك الدولة، بهذا الحزب أو ذلك الحزب.
[27]– وهذا ما يجب على الحكومة أن تشاركنا فيه، وأن تقف من كل قطرة دم سفحتها يد تابع من أتباعها بحزم وجزم وقوة وعزم صارم، ثم يأتي العدل على كل مخلٍّ بدم بعد الإثبات بالدليل الذي يقبله الإسلام.
حين تأخذ الحكومة بهذا لا اعتراض: أن يقوم عليّ الدليل الشرعي بأنني سفكت دما حراما، فأجازى بهذا الذنب، وعلى الحكومة أن تقتص لدماء الشعب المسفوحة ظلما.
[28]– 90/ النحل.