خطبة الجمعة (608) 29 شعبان 1435هـ 27 يونيو 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : البركة
الخطبة الثانية : ماذا وراء اقتتال المسلمين – دعوة جادة أو هازلة؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي عمّ كرمه، ووسعت رحمتُه، وغزرت في السماء والأرض بركاته، ولا تنقطع الآمال في عفوه ومغفرته، ولا تحقُّق لرجاء راج إلّا بإذنه، وكلّ ما في الكون ملكه، وكلّ شيء من خلقه، ومصير كل كائن إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله من طلب الهدى فالهدى من الله، ومن أراد الحقّ فالحقّ ما هو كذلك عنده، ومن قصد الرشد فلا واهب له إلّا الله، ومنه تبارك وتعالى وحده الخير كلّه، وطالب العزّ والنصر ممن سواه لا يناله.
فلا يكن طلبنا لخير إلا من عنده، واستدفاعنا لشرٍّ إلّا به ولا لجأ إلا إليه. ومن كان لا يطلب الخير إلّا من عنده، ولا يستدفع الشر إلّا به كانت التقوى والطاعة منه إليه، والتعلّق بعفوه وكرمه.
فلنتق الله حقَّ تقاته، ولنحسن طاعته، ولا تكن لنا مفارقة عن دينه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا جاهلين نطلبُ الخير من عبادك، ونستغني بأحد ممن سواك، ونقصد بالطاعة من دونك، ونتشبّث بغير كرمك، ونقنع بغير رضاك يا غنيًّا لا يُحدّ غناه، يا كريمًا لا يصل كرمُ كريمٍ كرمه، يا من هو الرؤوف الرّحيم.
أما بعد أيّها الإخوة الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه مواصلة للحديث في موضوع البركة تأتي في هذه الحَلْقَة الآتية:
تقدّم الكلام عن اتصاف مجاميع من النّاس ببركة خاصة ظاهرة متميّزة، وممن تذكر الأحاديث الشريفة من هذه الفئات الأكابر في الشأن الذي يُرضي الله سبحانه، ولا شيء يرضي الخالق العظيم والربّ الجليل لا يوافق الدين ولا يلتقي بالإيمان وممن لهم بركة كبار السن من أهل الاستقامة بلحاظ ما لهم من تقدّم فيه.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“البركة مع أكابركم”([1])، “البركة مع أكابركم أهل العلم”([2])، “إن البركة في أكابركم أهل العلم”([3])، “إنّ البركة في أكابرنا، فمن لم يرحم صغيرَنا، ويُجلُّ كبيرنا فليس منّا”([4]) فليس منّا من حيث تمام الأخلاق الكريمة، والاتباع لتعاليم الإسلام في واجباته ومندوباته، وإن كان منا عقيدة وإسلامًا على مستوى الإجمال.
ومن النّساء المتميّزات بالبركة من تذكره مجموعة من الأحاديث هذا حديث واحد منها. عنه صلّى الله عليه وآله:“من بركة المرأة خفّة مؤنتها، ويسر ولادتها، وشؤمها شدَّةُ مؤنتها، وتعسُّر ولادتها”([5]).
ولا يريد الحديث أن يُحمّل المرأة مسؤولية عسر ولادتها إلّا بمقدار ما كان لها من دورٍ في ذلك لو حدث منها وإنْ مثّل لها ذلك من متاعب جسدية ونفسية وشاركها زوجها في الأثر النفسي.
أمّا شدّة المؤونة فيُمثّل شؤمًا اختياريًّا، والتثقيل على الأزواج فيها خطأ ترتكبه المرأة كما أنّ تقتير أزواجهن تقصير شرعيّ يرتكبونه، ورداءة خلقية، وشُحٌّ معيب.
وتيسير صداق المرأة بركة فيها، والتشدّد والمغالاة فيه على خلافه وإن كان ليس حرامًا. فعنه صلّى الله عليه وآله:“يُمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها”([6]).
ومن الأرض بقاع كريمة مباركة كثيرة معطاءة مع امتداد الزمن حيث تُفيض على الدنيا خيرًا من خير الدّنيا والآخرة، وتبعث نورًا وتشعّ هدى وتحيي نفوسًا، وتلهم دروسًا وتغذّي أجيالًا بالإيمان والوعي وتمدّها بالاستقامة.
وفي مقدّمة هذه الأماكن الكعبة الحرام {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}([7]).
وكم أثرى ذلك البيت البعيد في شرفه، العظيم شأنًا، الغزير بركة من خُلُق، وكم هدى، وكم صنع أجيالًا من أهل الإيمان، وكم وحّد، وكم أعطى من قوّة، وحافظ على كيان أسمى أمة؟!
إنّه لبيت مبارك معطاء كريم بحقّ.
وعن المناقب لابن شهراشوب: جهلوا تفسير قوله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}([8])فقال له (لعليّ) عليه السلام رجلٌ: هو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للنّاس مباركًا؛ فيه الهدى، والرحمة، والبركة….”([9]).
فهو ليس أول بيت من حيث هو مجرّدُ بيت، وإنما هو أول بيتِ بركةٍ وهدى ونور ورحمة في الأرض من كلّ بيوت الأرض، ومن بين كل بيت آخر من هذا النوع من البيوت كبيت المقدس.
ولمسجد الكوفة شأن عظيم في البركة فعن الإمام عليّ عليه السلام – في فضل مسجد الكوفة -:“تقرّبوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة لأتوه من أقطار الأرض ولو حبوا على الثلج”([10]) فبركته لمن عرفها جاذبة للنفوس مما يدفع بها إلى السعي إليه ولو السعي الشّاق المكلِف المضني، ويسهّل ارتكاب الصعاب من أجل نيلها.
وهو مسجد عَمَر بذكر الله من قلب منشدّ إلى بارئه، وروح لم تعدل في خطها عن هداه. وشعّ منه فكر الوحي المتنزّل على رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وبلغ أقصى المدى من أرض الله مع امتداد الأجيال كما هو امتداد كلمة الرسول وهداه لا توقفهما محاولات الطغاة والجبابرة وعبيد الدنيا طوال التاريخ.
وكربلاء التي تشرّفت بضريح الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام الشهيد الذي بعثت شهادته الزكية روح الإيمان والعزّة والكرامة في أمّة جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وأحيتها بعد موت وذبول، وبقيت زادًا في هذا السبيل وهي باقية كذلك ما امتدت الحياة، واستُشهِد فيها صفوة من أبطال الإيمان وأسوده كان لها بما احتضنته أرضها الطاهرة من تلك الشهادات العظيمة في سبيل المولى الحق منبعًا لا ينضب للبركة والعطاء المتدفِّق بالخيرات والهدى الآخذ انتشاره في الأرض في اتساع وازدياد.
أرض غنيت بالخصوبة الروحيّة، وأنوار من نور السماء، وهدى فيّاض من هدى الإسلام، وخرّجت أجيالًا من حملة رايته الصادقين فيما عاهدوا الله عليه. وتخريج هذه الأجيال على يد كربلاء من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام والتتلمُذ على إيحاءات بقعته الطاهرة، ومصرعه الدامي في سبيل الله سبحانه مخلصًا صادقًا لا ينقطع.
عن الإمام الصادق عليه السلام:“البركة من قبر الحسين بن علي عليه السلام عشرة أميال”([11]) عشرة الأميال هذه ليست هي المدى الذي تصله بركة قبره عليه السلام وإنما هي المسافة التي يشع منها نوره وهداه وتنطلق بركته لتعمّ العالم([12]).
وعنه عليه السلام:“إنّ طين قبر الحسين عليه السلام مسكة مباركة”([13]).
وجاء في قم عنه عليه السلام:“سلام الله على أهل قم، يسقي الله بلادهم الغيث، وينزل الله علهيم البركات”([14]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم بارك لنا في أمر ديننا ودنيانا واجعلنا مباركين، ولا تمنعنا سيبك، ولا تُضيِّق علينا في عطائك، ولا تحرمنا من رحمتك وإن كنا أهل الذنب والتقصير الذي نستحقّ به ذلك يا عفوّ يا غفور يا رحمان الدّنيا والآخرة ورحيمهما، يا الله، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([15]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أقام الحجّة، وأتمّ الدين، وفتح باب اليقين، وقَبِل توبة التائبين، ودعا للأوبة الصادقة العاصين، وأن يعود الضّالّ عن ضلاله، والجاهل عن جهالته، والمعاند عن عناده ليدفع عن نفسه بذلك الشّقاء، وينعم منه سبحانه بالسعادة وهو الغنيُّ الذي لا يحتاج إلى مخلوق، وهو الخالق ولا خالق غيره، والرازق ولا رازق سواه. له الحمد وله المجد وله العزّ والكبرياء والجبروت.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله علينا دائمًا طلبُ العفو من الله سبحانه إذ لا وفاء لنا بحقّ طاعته، وشكره على نِعَمِه وسابغ آلائه وعظيم فضله، وأن نطمع في مغفرته لأنه الكريم الغفور الرّحيم، وأن نجاهد النفس كلَّ المجاهدة على لزوم الصِّراط إليه والجادّة التي يرضاها لنا لصدق التوبة، والجدّ في طلب الأوبة والرغبة في المغفرة، وما صَدَقَ تائب وهو يقيم على الذنب، ويُصرّ على المعصية، ويتمادى في مخالفة من يدعي التوبة إليه، والاعتراف بحقّه، والاستكانة إلى عظمته، والشعور الصادق بالحاجة إلى مغفرته.
التائبُ من فارق طريق الفسق والعصيان، والتزم طريق التقوى والطاعة، ولم يُصغِ للشيطان فيما يوسوس به، وللنفس الأمّارة بالسوء فيما تدعوه إليه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ربنا وتب علينا وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات توبة نصوح وتقبّلها منا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفّقنا لِسَبْق قدوم شهرك الكريم بالتوبة النصوح، والأوبة الصِّدْق، وخلّصنا من كل ما تحمّلناه من وزر، وكسبته أيدينا من إثم، ومن غِلِّ القلوب، وأمراض الصّدور، وشحّ النفوس، وسوء النيّة، ورداءة الخُلُق، وظلمة الروح، وسُبات العقل، ومن حجاب المعاصي، ومن كلّ شدة وكرب يا عليّ يا عظيم يا قدير، يا رحمان يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومٍين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذا الحديث:
ماذا وراء اقتتال المسلمين:
هناك كيد وتخطيط شيطانيّ استكباريّ من قوى عالمية متنفِّذة عابثة بوحدة المسلمين، مستهدفة إضعاف الأمّة الإسلامية لتفتيتها، واشتغالها بالحروب الداخلية الطاحنة.
ولكنَّ ذلك لا يُمثِّل السبب الأصل والمردّ الأخير لهذا الواقع الخطير المدمر الذي يُهدد مصير الدين والأمة.
السبب الأصل يتمثّل في أمرين ولهما ثالث؛ جهلٌ بالدين من رؤوس تتزعم جماعات ذات قوة وبطش وروحِ تضحية وفداء ولكن على غير هدى ونور، قد لقّنتها رؤوسُ دينٍ لا تفقه دين الله حقّ فقهه كفر أكثر المسلمين الكفر المستوجب لاستباحة دمهم والتقرُّب إلى الله عزَّ وجل بقتلهم لا فرق في ذلك بين مسالم ومحارب، طفل صغير أو شيخ طاعن في السنّ، رجل أو امرأة وأنَّ ذلك من أقرب ما تقرّب به عبد متق لله عز وجل ونال به الجنة والرضوان لديه([16]).
هذا أمر والآخر أنْ وَجَدَ الساسة من عبيد الدّنيا والسلطاتُ الدنيوية التي لا تقيم وزنًا للدين في هؤلاء الزعماء الدينيين وأتباعهم ممن استرخصوا حياتهم وحياة الآخرين مغرَّرًا بهم في سبيل ما يتوهمونه إسلامًا وهو بعيد كلّ البعد فيما يذهب إليه من استباحة دم المسلم عن الإسلام الحقّ وجدوا فيهم فرصة سانحة للاستغلال في ضرب من يريدون ضربه، وتشتيت من يريدون تشتيته، والتخلص ممن يريدون التخلص منه ممن يخالفونهم في السياسة، أو يضادُّوهم في السلطان، ليكون القتل والتصفيات لغيرهم ومكاسب الحروب الطاحنة بين الجماعات بعضها مع البعض وبينها وبين كيانات حكومية مستهدفة تصبُّ في جيوبهم.
وهكذا يتذابح المسلمون، وتتعاظم الخسائر البشرية، وتتلفُ الثروات، وتتساقط آلاف الضحايا، وتُحصد الأرواح، وتخسر الأمة وحدتها، ويُهدَّد منها أصل البقاء لفهم أعمى بالدّين، وجهل ببديهات من بديهات الإسلام، ولكيدِ حكومات دنيوية تركب كلّ مركب سوء، وترتكب كلَّ فظيعة من أجل كرسيّها الظالم والحكم وبسط النفوذ وتوسُّع رقعته.
أما انقسام المسلمين في إسلامهم إلى مذاهب فأرضية ممكنٌ أن يقال عنها بأنها أرضية يمكن استغلالها في الفرقة الطائفية التي لا تُبقي حرمة للمسلم من الطائفة الأخرى في نفس أخيه المسلم الذي شاركه في التوحيد والاعتقاد بخاتمية النبيّ محمد صلّى الله عليه وآله، وفي قِبلته وصلاته وصومه وحجِّه وزكاته، وفي المساحة الأكبر من الأحكام الفرعية في دينهما العامِّ الواحد المشترك الذي يحتم على الجميع وجوب احترام الدماء والأعراض والأموال من كلِّ طرف للطرف الآخر.
ولكنَّ هذا الانقسام في المذاهب مع كلِّ هذه المشتركات، ومع ما ينصّ عليه الإسلام المشترك بين كلِّ المذاهب التي يمكن نسبتها للإسلام من حرمة دم المسلم وعِرضه وماله على أخيه المسلم لا يمكن أن يدعو لهذا الاقتتال والتذابح الجاهليّ بين المسلمين.
والمسلمون اليوم أمام أكبر خطر تواجهه الأمة حيث هذه الحروب التي تهدم الإسلام وتنسف وحدةَ الأمة وتأتي على أمنها في حين تُرتكب باسم الإسلام وتعدّ حروبًا مقدّسة لا يخوضها مسلم إلا وأحرز دخول الجنة.
وهي حروب أقنعت الجميع من البُرَاء من شعوب وحكومات، كما أقنعت كيانات سياسية دنيوية زرعت بيدها بذور هذه الفتنة ورعت جماعاتها وغذّتها بالمال والسلاح، واستثمرتها لأغراضها السياسية الدنيئة([17]) بأنها تهدد الجميع، ولا ترحم طرفًا من الأطراف، ولا تراعي إلًّا ولا ذمّة، وأقنعتهم بشرِّها المستطير، وإن كان البعض لا زال يتوهّم بأنه لا زالت أمامه فرصة لاستغلال هذه الحروب في صالحه، وأنه لا زالت عنده فرصة للتدارك وتجيير هذه الحروب في صالحه لو بدأت تنقلب عليه وكادت نارها أن تطاله. ولو أفاق هذا البعض من سكرته لأدرك أنه واهم وأن الخطر بات يدقّ كل الأبواب ويُهدِّد كل التحصينات والسدود، وأن لابد من تدارك الأمر قبل فوات الأوان إن بقي في الوقت شيء يسير يسمح بذلك… لابد من إيقاف الفتنة وإطفاء النار القائمة والحفاظ على دماء كلِّ المسلمين، ورعاية الحرمات التي أوجب الله عليهم رعايتها.
ومن السبب الأصل في إشعال نار الفتن داخل الأمة، وتمزيق شملها، وتهيئة الأرضية الخصبة لنموّ حركات الإرهاب والالتفاف حولها ما تُعانيه شعوب أمتنا من ظلم الكثير من الأنظمة القائمة والتفريق بين مكوِّناتها، وكذلك معاداة هذه الأنظمة لدين الأمة ومناقضتها له فضلًا عن التخلّي عن أحكامه وتشريعاته إلا ما تجد نفسها قادرة على استغلاله وحرفه عن وظيفته حسب تقديرها على ألا يَمَسّ شيء من ذلك رضا القوى الاستكبارية العالمية عنها([18]).
لتتعلَّم الأمة من إمام المسلمين وخليفتهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام هذا الموقف العظيم الحريص على دم المسلم صديقًا له كان أو عدوًّا وعلى وحدة المسلمين حفاظًا عليهم وعلى قوة الإسلام وهيبته في صدر من عاداه.
يقول الخبر بشأن هذا الموقف سمع أمير المؤمنين عليه السلام جماعة من أهل العراق يسبون أهل الشام فوقف فيهم خطيبًا([19]) وقال لهم:“إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم ربّنا أحقن دماءنا ودماءهم([20])، وأصلح ذات بيننا وبينهم([21])واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقَّ من جَهِلَه ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لَهِجَ به”([22]).
وجاء سبّ أهل العراق لأهل الشام([23]) في أجواء الحرب العدوانية الظالمة التي شنّها معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام([24]).
وَوَصْفُ أهل الشام من حيث أفعالهم وحالهم الذي رخّص في إيضاحه الإمام علي عليه السلام كان لبيان الحقّ، وتجلية الباطل، وليظهر العذرُ تمامًا في مواجهة الإمام عليه السلام وجيشه لعدوان معاوية ومن جنّدهم([25]).
ومع تلك العداوة الشديدة التي كان عليها معاوية للإمام علي عليه السلام والجيش الذي ائتمر بأمره تراه يدعو لحقن دماء الجميع وإصلاح ذات البين بين الطرفين، والهدى للطرف الآخر الذي كان على صنفين: صنف يجهل الحقّ، فالدعاءُ له بمعرفته، وصنف يعرف الحقّ ويستكبر عليه ويضادّه عن عمد، ويُحشّد في مواجهته والدعاء له بأن يرعوي عن التمادي في موقفه المعاند للحق المناهض له.
وحال تلك الحرب في تصنيف الجيش العدواني هذا التصنيف هو حال الجيوش العدوانية داخل الأمة اليوم نفسه، وموقف أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك الجيش من المواجهة لعدوانه هو موقفه لعدوان الجيوش العدوانية الحاضرة لو كان عليه السلام على قيد الحياة مع حرصه على تقديم إصلاح ذات البين وأن يجتمع الكل على طريق الهدى والإسلام وأن يعرف الحق جاهله، ويرعوي عن محاربته عارفه، وينصره خاذله فيقوي بهم الإسلام ويقووا به. أما حربه عليه السلام لهم لردّ عدوانهم فهو الأمر الذي يفرضه الاضطرار، ويقضي به شرع الله العدل الحكيم.
وعن البحرين فإنَّ ثمّة مفارقة غريبة منكرة يتسم بها موقف السلطة لا يمكن أن يسترها إعلام مضلِّل ولا دعاية واسعة.
تتمثل هذه المفارقة في أوضاع عملية ظالمة متصاعدة ومتكثرة منها هذه الأحكام الكيفية على رموز الشعب وقادته ومختلف فئاته، وفي سلسلة من القوانين المتسرعة الجائرة التي لا تُبقي شيئًا من الحرية لهذا الشعب، ولا متنفّسًا للتعبير، وتمكّن من إطلاق يد السلطة في مصائر الناس كيف تشتهي ومتى تريد ومصادرة حقّ أصل المواطنة متى شاءت وممن تريد.
تتمثَّل هذه المفارقة الشنيعة الفاضحة والتناقض السافر في هذا كله مما يسد الباب تمامًا أمام مشاركة المعارضة في ما يُقال عنه بأنه تجربة برلمانية قادمة من جهة، ومن جهة أخرى في ما تبديه السلطة نفسها على مستوى الإعلام الكاذبُ والدعاية الفاشلة من رغبة في مشاركة المعارضة في هذه التجربة. وما أكثر المفارقات والتهافتات والتناقض بين أقوال السلطة وممارساتها!!
دعوة جادة أو هازلة؟
دعت السلطة المنابر الدينيَّة والصحف المحلية والكل بتجنب التعرض لأحداث الساحة الإسلامية والعربية في الخارج بما يثير الفتنة الطائفية ويشعل نارها. لكنّ هذا الطلب منها جادّ أو هازل؟
لو فُرِضَتْ جدّيته كذّب هذا الفرض تعرّضُ صحيفة محليّة يوميّة معروفة محسوبة على السلطة لا تنطق إلّا برأيها بلا شبهة ولا ريب لسماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي يرجع إليه الملايين من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في فتاوى دينهم الذي هو أهم أمر في حياتهم ويُعطونه الثقة التامَّة لموقع هذه المرجعية العظمى بالغة الأهميّة…. تعرّض له على جلالة علمه وتقواه، وعظيم حرصه على مصلحة الأمّة ووحدتها بالسَّاقط من الكلام، والخسيس من الوصف، والسّيء من الفعل. وأيُّ فعل أسوأ مما نسبته الصحيفة المعنيَّة لسماحته – وحاشاه – من الخيانة العظمى للإسلام وبيع الذمّة بثمن رخيص – مائتي مليون دولار([26]) – للأمريكي لتمكينه من احتلال العراق، والوقوف في وجه الشيعة هناك دون مقاومة احتلاله له.
أمعقول أن تكون دعوة السلطة وتوصيتها جِدّية وعلى ظاهرها وتخالف في اليوم الثاني عبر هذه الصحيفة التي لا تنطق إلّا عن رأيها وقد أنشئت من أجل خدمة سياستها وبقيت وفية لما أنشئت من أجله وإن لم يكن نطقها بالاسم الصريح للسلطة؟!([27])
اتهام الصحيفة ذاك الظالم الشائن الباغي ألا يثير روح الطائفية على أشُدِّها؟ ألا يعصف بوحدة الأمة؟ أو أن سماحة السيد بلا أتباع ولا أنصار؟ وأنَّ إهانته لا تعني إهانة الملايين من أتباعه؟ أو أنَّ هذا الكلام غير مهين ويناسب المقام الشّامخ النزيه لسماحة السيد وجلاله؟ أو أنَّ السلطة لا تستطيع أن تضبط أجهزتها ومستأجريها؟
نحن نعلم أنَّ الصفحة البيضاء لسماحة السيد لا تملك الألسن البذيئة المأجورة أن تُلوّثها بشيء ولكن يبقى التطاول على هذه المقامات المستطيلة ظلمًا سببَ فتنة عامة، وطريقًا لحرق وحدة الأمة، وإهانةً للدّين وخطرًا من أخطر الخطر. والسلطة أول مسؤول عنه وهو يصدر تحت رعايتها.
ومن ذاقوا طعم التقوى وقيمة الدّين في النفس ووجدوا ما يرتفع بها تقواهم إليه من أُفق رفيع لابد أنهم يعلمون أنَّ عظماء الدين وأهل تقوى الله العالية لا يجدون في الدنيا كلّها ثمنًا لأنفسهم ولا لشيء مما يتنعّمون به من نعمة الدين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تبلّغ السَّاعين لفرقة أمة الإسلام مأربهم، ولا تُحقِّق لهم أمنية الاقتتال الجاهلي بين طوائف الأمة وفئاتها، وردّ كيدهم إلى نحورهم يا قوي يا عزيز.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين يا عزيز يا حكيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([28]).
[1]– بحار الأنوار ج72 ص137 ط3 المصححة.
[2]– كنز العمال ج10 ص174.
[3]– الخير والبركة في الكتاب والسنة ص252 ط1.
[4]– المصدر السابق.
[5]– معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص152.
[6]– كنز العمال ج11 ص99.
[7]– 96/ آل عمران.
[8]– 96/ آل عمران.
[9]– بحار الأنوار ج40 ص158 ط2 المصححة.
[10]– الأمالي للشيخ الصدوق ص298 ط1.
[11]– بحار الأنوار ج98 ص116 ط2 المصححة.
[12]– وإذا كانت عشرة الأميال هي الامتداد لبركة قبره الشريف المتشرف به سلام الله عليه المنطلقة منه فهي غير الهداية التي توفرها زيارته عليه السلام للقريب والبعيد، والآثار التي تولّدها هذه الزيارة.
[13]– المصدر السابق ص132.
[14]– بحار الأنوار ج57 ص217 ط3 المصححة.
[15]– سورة التوحيد.
[16]– هذا هو التصوير، هذه هي القناعات الموصّلة إلى رؤوس الأنصار.
[17]– أقنعت الجميع من هؤلاء وأولئك.
[18]– هذا الظلم للشعوب، هذا التفريق يخلق أرضية خصبة لاستغلالها من قبل الفئات التكفيرية.
[19]– ليست كلمة لواحد أو اثنين.
[20]– هؤلاء الذين سفحوا دم أصحاب علي عليه السلام، وكانوا يستهدفون سفح دم علي عليه السلام أولًا وقبل كل شيء، هذا أمره بأن يُدعى لهم.
[21]– حرص على الوحدة الإسلامية، الوحدة المطلوبة عند علي عليه السلام وحدة هدى وعلى طريق الحق.
[22]– نهج البلاغة ج2 ص185، 186 ط1.
[23]– والذي نهى عنه عليّ عليه السلام.
[24]– ولم يأتِ ذلك السبُّ ابتداءً.
[25]– وليس ذكر حالهم لمجرد التشفّي، ولإسقاط شخصية الآخر.
[26]– يستكبرها كاتبها على نفسية السيد السيستاني ويراها يمكن أن تهزم إيمانه، على أنّ إيمان الرجل فوق أن يُشترى بالدنيا. (هتاف جموع المصلين: بالروح والدم نفديك يا فقيه).
نعم، فقهاؤنا العظام كسماحته أيّده الله يستحقّ الفداء بالروح من استحقاق الدين لذلك، ولكننا دائما نقدّم الوحدة ونقدّرها. (هتاف جموع المصلين: وحدة وحدة إسلامية).
[27]– أمعقول أن تكون دعوة السلطة هذه جادّة وتأتي صحيفتها في اليوم الثاني لتحرّض على ما هو خلاف هذه التوصية؟!
ما ادّعته الصحيفة وما اتهمت به سماحة السيد السيستاني حفظه الله مخالفة مناقضة صريحة من الدولة نفسها لما أوصت به.
[28]– 90/ النحل.