خطبة الجمعة (604) 30 رجب 1435هـ – 30 مايو 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : الطّهارة والقذارة
الخطبة الثانية : يوم المبعث النبوي الشريف – الإسلام بقاء واندثارًا – المحكمة العربية لحقوق الإنسان – قيمة الحوار
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا يُقِرُّ عقلٌ سليمٌ بالرّبوبيّة إلّا له، ولا يَطمئنّ قلبٌ زكيٌّ إلّا إليه، ولا تتعلّق الفطرة النقيَّة إلّا به، ولا تركَنُ النفس اليقظة إلّا إلى رحمته؛ إذ لا خَلْقَ ولا تدبير إلا مِنْه، ولا حول ولا قوّة إلا من حوله وقوّته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله إنما كرامة الإنسان بعقله ورُشده، وأخذه بالعقل والرُّشد في حياته، والعقلُ دالٌّ على الله سبحانه بدلالة منه. وما الرّشد إلا في عبادته والاستجابة لأمره ونهيه.
ومن تخلّى عن دلالة العقل وهدايته، وأخذ في عمله بالسَّفَهِ دون الرّشد، وبمعصية المولى مكان طاعته فلا كرامةَ له بعدما أعرض عمّا لا نيل للكرامة إلا به.
فلنطلب عباد الله الكرامة بمعرفة الله، والانقياد إليه، ولزوم تقواه، والتمسُّك بطاعته ومفارقة معصيته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن هديته، ووفّقته لسبيل الطاعة، وجنّبته مزالق المعصية، وسلكت به طريق الغابة، وبلّغته رضاك، وكتبت له كرامة جنتك، ونعيمَ القرب إليك يا جواد يا كريم إنك أنت الفعّال لما يريد.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى موضوع عنوانه:
الطّهارة والقذارة:
يأتي على الأبدان أن تتقذر بقذارات عرفية وتتلوث بتلوّثات بيئية، ذلك مما تُفرزه من داخلها، وما يعرض عليها من غبار الجوّ، وأدخنته وغازاته، وما تلامسُه من أجسام يصل إليها من تأثيرها قذر وقذر.
ويأتي على القلوب أن تتقذّر وتترجّس مما يعرض عليها من أفكار سوء، وخواطر سوداء، ومشاعر رديئة، ونيّات شر فتخبث وتتردّى.
والطبيعي في الإنسان أن يرى من بدنه قذاراته، وأن يعرف تلوّثه، وسوء حاله ومنظره لما عرضه من قذارة، وما أصابه من تلوث، وأن يؤذيه ذلك، ويزعجه ما هو عليه.
والطبيعي كذلك منه أن يبادر للتخلّص من قذارته، وطلب نظافته حتّى إذا تمّ له ذلك صارت نفسُه إلى الرّضا والرّاحة.
أما إذا استمرّ به الحال لا يعرف ما يعرض بدنه من أوساخ، أو استوى في نفسه حال قذارته ونظافته، ولم يُسرّ لنظافة، ولم ينفِرْ من قذارة فهو ليس بالسويّ نفسًا ولا ذوقًا، وانكشف أنه خارجٌ عن حدّ الاعتدال، وفاقد للذوق الإنساني السليم.
ومن النّاس من تتراكم القذارات على قلبه، وتتكثف الأرجاس وهو لا يشعر بشيء من التغير، أو وهو يرى تراكم الأوساخ عليه ثم لا يتأذّى لشيء من ذلك، ولا يهمّه أن يزداد سوء حاله، ويتألّم الآخرون له لما يظهر من ذلك على سلوكه، وبما يفضحه ظاهرهُ من داخله من قُبْح، وهو لا يتأذّى لنفسه، ولا يشعر بالضجر لحاله.
وهذا يكشف عن أن مثل هذا الإنسان خارج على الطبيعة الإنسانية في عدم الإقامة على عدم الرؤية لتغيّرُات القلب([1]) وما يعرض عليه من قذارات وتلوّثات وانتكاس، أو عدم الشّعور بأذًى لما يَرى من أوساخ تأتي على نظافة قلبه، وعدم المبادرة لطلب طهره ونقاوته.
وإذا كان عَمَى جارحةِ العين يمنع من رؤية قذارات البدن فإنَّ عمى البصيرة يمنع عن رؤية أيّ شيء من قذارات القلب.
وإذا كانت خسارة الذّوق الجمالي على مستوى الحسّ المادي تجعل المبتلى بها تستوي عنده القذارة والنظافة والطهر والرجس فيما يعرض بدنه، فإنَّ خسارة الذوق الجمالي على المستوى الرّوحي تجعله يُساوي بين حال طُهْر القلب ورجسه.
وربما صارت خسارة الذّوق الجمالي على مستوى الحسّ أو المعنى بصاحبها حال تصل إلى حدّ الانحراف الخطير في الذّوق إلى تقديم القذارة على النظافة، والرجس على الطهر([2]).
وهذه النماذج الساقطة تجدها على مستوى حياة البدن وحياة الروح إلّا أنها أوسع وأوسع وهي الأكثر في مجتمع الإنسان فيما يتّصل بروحه.
ولنسأل هل يولد الإنسان على صنفين، وهل خُلِقَ كذلك؟ صنفٌ بلا بصيرة، ولا ذوق جماليّ معنوي ليكون معذورًا في عدم معرفته أوساخ قلبه وعيوبه وذنوبه وفي عدم تألُّمه لها، ومبادرته في تخليص قلبه منها، وطلب ما يزين به من طهارة ونقاوة، وما يزداد به من فعل الخيرات والصالحات نورًا على نور، وهدى فوق هداه؟
وصنف على خلاف الصنف الأول فيكونُ ملومًا لو تغافل عن قذارة وسوء يعرض على قلبه أو تغاضى عن تخليصه منه، وإعادة طهره إليه([3]) ؟
الأمر ليس كذلك فالفطرة واحدة وقابلية الهدى والضلال، والتدارك والإهمال، والرقيّ والتسافل، والازدياد من الطّهر أو الرجس موجودة عند كلّ إنسان حسب ما عليه الفطرة.
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}([4]).
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}([5]).([6])
وما دمنا نملك هذه القابلية فطهر قلوبنا ونجاستُها من مسؤوليتنا.
صورتان للقلب يختار الإنسان لقلبه إحداهما، ويصنعها بيده.
قلب نظيف نقي طاهر نوره مشع منبسطٌ على سلوك المرء وعلاقاته وكلِّ حياته.
غنيّ بالإيمان، عامر بالخير، مفعم بالطمأنينة.
محبّ للخير لصاحبه وللآخرين، وحبُّهُ لهم الخير حبُّه لحامله نفسه، وبغضه لهم الشرّ على حدّ بغضه له.
يؤلمه من شرّ النّاس ما يؤلمه من شرّه([7])، ويُفرحه من خيرهم ما يفرحه من خيره.
لا يسكنه الحقد، ولا تقطنه البغضاء، وإذا أبغض فإنما يُبغض القبح والسّوء.
هذه صورة لقلب الإنسان من جهد العبد وتوفيق ربّه، والصورة الأخرى التي يصنعها بيده صورة قلب أسود كالح تسوده الظلمة، ويعشعش فيه الحقد، وتملأه البغضاء، وينفِر من الحُسْن، ويعشق القُبْح، وينوي السوء، ويُضمر للناس الشرّ، ويهوى الرذيلة، وينفر من الفضيلة.
لا يريد الدّنيا إلا له، ويؤلمه أن تصل إلى الغير نعمة من نِعْمَها.
يؤلمه أن يصاب بخسارة من خسائرها، بينما يُنعشه أن يصاب الآخرون بكل مصيبة من مصائبها، أو لا تشعر نفسُه بألم أصلا لمصيبة من مصائب الآخرين.
يسعى في الكثير لشرِّ الغير، ولا يسعى لخير أحد.
والمسوّف لنظافة بدنه أو قلبه من الأدران ينتهي به التسويف إلى اعتيادها، والشعور بالألفة لأذاها ثم إلى حدّ الأنس بها.
ولنظافة القلب منابت ولقذارته منابت أخرى. فطرة الهدى والنور، والدين الحق، والقيم المعنوية الجمالية التي تغنى بها الخلقة هي المنابت الرئيسة لهذه النظافة وشدّة التألّق والإشعاع للقلوب.
والشّهوات الماديّة المغروسة في الإنسان بمقتضى حاجة الحياة في الدنيا، ولحكمة الاختبار لهذا المخلوق منابت لترجُّس القلوب.
وقد مُلِّك الإنسانُ قدرة الاختيار([8])، وأن يصنع بنفسه ولمصيره ما يريد.
فمن طلب لقلبه الاحتفاظ بهداه، وازدياد هذا الهدى وتوسُّعه أخذ بمنهج الله في هذه الحياة([9]). ومن طلب غير ذلك([10]) كان هجر ذلك المنهج الكريم الطريقَ لما أراد([11]).
وقلب طاهر وقلب نجس لا يستويان، ولا يتآلفان، ولا يلتقيان.
ومن أفاقت نفسه على أهمية الرّوح، وسلك طريق ازدهارها، وعظمت لذته الروحية استحال على قلبه أن يستريح لقلبٍ مترجّس قذر موبوء.
ولو رأى أحدُنا قذارات قلبه وهو على ذوقه الإنساني السليم لأفزعه ذلك ونَفَرَ من نفسه حتّى يصلحها. ولو رأيتُ قذارات قلبي وروحي رؤيتي لقذارات جسمي وهي أشدّ قبحًا وأعظم سوءًا لما كنت أصبر عليها، ولا تلتذّ لي الحياة مع بقائها، ولقلوتُ نفسي وتمنّيت الموت لو كان في ذلك طُهرها، ولما توانيت لحظة عن الجدّ في التخلُّص من بلواها وأذاها([12]).
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إن أمرنا كلّه بيدك، ولا حول لنا ولا قوّة إلا بك فلا غنى لنا عن توفيقك وتسديدك، وردِّنا إلى الطريق السويّ في خير وعافية بإحسانك. ربّنا افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله يا أكرم الأكرمين ويا أجود الأجودين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([13]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كتب على نفسه الرَّحمة، وفتح لعباده باب التوبة، ووعد بالعفو والمغفرة، وضاعف الحسنة، ولم يَجز بالسيئة إلا سيئة مثلها.
الحمد لله الذي سعِدَ بقربه المحسنون، وشقي بطرده لهم العاصون، ولا مهرب لأحد إلّا إليه، ولا خلاص من عقوبته إلّا بالتوسل برحمته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله الحازِمُ من أخذ أُهْبَتَه ليوم منيّته وقيامته. وأشدّ ما فرّط مفرّطٌ أن يهمل شأن معاده، والتأهّب له، أو أن يأخذ بالتسويف في ما كان من أمر المعاد، وذلك تخاذل عظيم وفوق كل تخاذل، وغفلة عن يوم لا خطر ليوم مثل خطرة، ولا غفلة تناظِر الغفلة عنه سوءًا ونتيجة وخيمة.
فلأكن الحازم في هذا الأمر، ولتكن الحازم فإنه لا شيء يهدّد الإنسان بأكبر خسارة مثلُ الإهمال له، أو التسويف في ما يتّصل به.
وما الحزم فيه والرشد المطلوب له إلا بسلوك طريق التقوى والجدّ في طلب الطاعة لله سبحانه، ونيل مغفرته ورضاه.
اللهم اجعلنا أخشى من يخشاك، وأتقى من اتقاك، وأصدق من طلب جادًّا مخلصًا رضاك يا حنّان يا منّان، يا متفضّل يا محسن، يا كريم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرَّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذه الكلمات:
يوم المبعث النبوي الشريف:
كان يومًا لبعث الحياة في عالم الإنسان والأرض. فقبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله كانت حركة الإنسان محكومة من داخله وخارجه لحكومة الشرك والجاهلية والضلال، واليهوديّة والمسيحية المحرّفتين.
وكانت أوضاعه في حياة الخارج محكومة لهوى الأرض وقيم المادة وطاغوتية الطاغوت.
وببعثة المصطفى صلَّى الله عليه وآله وتنزُّل القرآن الكريم، وما أعطته التربية القرآنية على يد المبعوث بالرحمة حدث انقلاب هائل على مستوى داخل الإنسان وخارجه وكلّ أوضاعه، اتجه به إلى السماء بدل ما كان عليه من الانكباب على الأرض، وأعاد إليه عقله، وصحَّح تفكيره، وقوّم إرادته، وطهَّر مشاعره، ورفع مستوى همّه وطموحه، ومدّ في رؤيته، وأنضج وعيه، وعالج نفسيّته، واستقام بأوضاع حياته. قل عن ذلك الانقلاب العظيم أنه هدى الإنسان إلى سواء السبيل، وأخرجه من الظلمات إلى النور.
بدأ ذلك من جزيرة العرب، وامتدت أنواره وتأثيراته الكريمة إلى أقاصي الدّنيا، وأبعد تخوم الأرض المأهولة للإنسان.
ومستحيل على الأرض في ذلك اليوم، وفي أيّ يوم آخر، وعلى كل أمة، وكل جيل أن ينقذه من آثار الجاهلية المضيِّعة لحياته، المحقّرة له، المنحطّة بمستواه، المفسدة لكل أوضاعه غير الإسلام والقرآن والقيادة الربانية الممثلة لرقي الإسلام والقرآن وهدايتهما ورحمتهما التي هي من رحمة الله الواسعة.
والجاهلية رؤية كونية مقابل رؤية الإسلام، وفكر يضادّ فكره، ومنهج يناقض منهجه، وشعور على خلاف ما يعطيه من شعور، وسياسة على خلاف ما يريد من سياسة، وتربية منحرفة عن تربيته.
وليس أمام هذه الأمة وكل أهل الأرض من فرصة نجاة، وتحقيق عدل واستقرار، وإيجاد أجواء المحبة والإخاء والاطمئنان، والصيرورة على طريق الغاية التي تعطي الحياة الدّنيا قيمتها الغالية إلّا أن يشدّوا الرحال جادّين مخلصين للإسلام والقرآن والقيادة الربانية الممثلة لهما.
الإسلام بقاء واندثارًا:
للإسلام في عقيدته وشريعته أصول عقليّة وروحيّة ونفسيَّة في كيان الإنسان بما هو إنسان بغضّ النظر عن مختلف تشعّباته، وهي أصول خلقية لا تقبل الاجتثاث.
وحاجة الإنسان والحياة في تقوّمهما وصلاحهما لهذه الأصول لا تقبل الارتفاع، ولا يسدّها شيء آخر.
أمّا ظهور تأثيرها وفاعليتها العملية بهذه الدرجة أو تلك فيرتبط بتلون الظروف، ومساعدة أو مضادة الأوضاع الخارجية التي تسود المجتمع الإنساني وتشارك في تكييف الإنسان والأخذ به في هذا الاتجاه أو الاتجاه المعاكس. فالإنسان في صناعته الفعليّة خاضع لتأثير فطرته والخارج معًا، وتتنازعه هاتان القوتان عند المفارقة بينهما([14]).
فالإسلام بما له من قوّة أصيلة في كيان الإنسان لا يمكن أن يغيّب تمامًا على مستوى اشتغال الإنسان الفكري، وكذلك الشعوري والعملي، ومن مسرح الحياة.
لكن أن يبقى الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجًا على وضوحه ونقاوته وأصالته على مستوى الإيمان والفاعلية العملية المطلوبة في حياة الناس، وأن يأخذ مكانته اللائقة في قيادة الحياة خارجًا وفي مختلف الأبعاد فإن ذلك يعتمد على أمرين أن يصل عقول الناس في كل أجيالهم بصورته الحقيقية غير المنقوصة وبلا تزيّد ولا مغالاة ولا تحريف ولا تشويه، وأن تتولى قيادة ربّانية بحق قيادة الحياة كما يرى([15]) ويريد ويحكم.
وكلّ من الأمرين يتطلّب وجود المعصوم الذي لا مفارقة له عن شيء من الإسلام، ولا تنفكّ له مقارنة عقلية ونفسية وعملية عن القرآن.
ومن هنا تأتي أهمية حديث الثَّقلين أو الثِّقلين أو الخليفتين، والذي تزخر به المصادر السنية والشيعية بألسنة متعددة يفسر تعدُّدَها صدورُه في أكثر من موقف ومناسبة. ولنقرأ منه هذا النص:
عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبيّ صلَّى الله عليه (وآله) وسلم:“أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، أمرين أحدهما أكبر من الآخر، كتابُ الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض([16])، وعترتي أهلُ بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض”([17]).
وقد غني مثل هذا الشهر الميمون في تاريخ الأمة الإسلامية بانبثاق ثلاثة أنوار إلهية في الأرض لحفظ الإسلام ونقاوته وقيادة حركة الحياة على طريقه. أنوارُ أطهارٍ قادة أبرار؛ الحسين بن علي بن أبي طالب شهيد كربلاء، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر عليهم السلام، وانضمّ إليهم قمر بني هاشم في ولادته في الشهر نفسه.
ولقد أنقذ الإمام الحسين عليه السلام الإسلامَ من انحرافة جاهلية خطيرة على يد الحكم الأموي تكاد أن تقضي عليه([18])، وتشويه بليغ له، وفصل شبه نهائي للأمة عن فكره وأخلاقيته وكل منهجه.
وواصل الإمام السجّاد عليه السلام عملية هذا الإنقاذ على المستوى الإعلامي والتربوي لشريحة واعية من الأمة، ورعاية أبوية لصالحي الأمة، وتوعية على الحقيقة رغم ما أحاط به من ظروف الشدّة والرقابة والحصار.
أمّا الإمام المنتظر عليه السلام فهو المُعدّ لإنقاذ الإسلام وأمّة الإسلام والبشرية جمعاء وبصورة عملية تتكفّل عودة الإسلام وتطبيقه التطبيق الأمين الدقيق على مستوى العالم في ثورة عالمية ظافرة.
المحكمة العربية لحقوق الإنسان:
أساسًا نُكنُّ كلّ الحبِّ لوطننا ، ونحبّ له كل خير ونتمنى له السبق في الحقّ والفضيلة، وأن يحتضن أي مؤسسة كريمة فيها خدمة الإنسانية وحقوق الإنسان، ومناهضة الظلم.
لكنّ اختيار البحرين مقرًّا للمحكمة العربية لحقوق الإنسان في الظروف الراهنة التي تنتهك فيها السلطة حقوق مواطنيها في أبشع صور الانتهاك، وتزجّ في السجون وتعذّب، وتصدر على يدها الأحكام الجائرة المشدّدة على المنادين بهذه الحقوق، ومن يخرج في مسيرة أو اعتصام انتصارًا لها، وتقتل الصبيَّ واليافع والشاب ممن يرفع صوته بها كما حدث لآخر ضحية على طريق المطالبة بالحق وهو السيد محمود ابن السيد محسن الذي قُتِل بصورة عمدية على يد قوات الأمن ([19])يفتقد التفسير الإنساني ويصبُّ في صالح انتهاك حقوق الإنسان.
لماذا هذا الاختيار؟ أهو شهادة زور ببراءة السلطة من انتهاك حقوق الإنسان، وتلميع صورتها افتراء على الحق، وتطاولًا على الواقع؟ أهو إعلان بعدم الجدية لمشروع هذه المحكمة من الأساس وأنها للتغطية على انتهاك حقوق الإنسان الشائع في البلاد العربية؟ أهو ليس أكثر من دعاية لا يمكن أن تصمد أمام فضائح الواقع؟ أينسجم أن تختار مقبرة الحقوق مقرًّا لمشروع مهمته المدّعاة الدفاع عن الحقوق وإحياؤها؟
إن يكن هذا المشروع جادًّا فالبحرين أولى من أي بلد آخر بمعالجة الوضع الحقوقي المتدهور على السلطة فيها.
قيمة الحوار:
قيمة الحوار ليس في نفسه، وإنما قيمته في غيره، وفيما يؤدّي إليه من إصلاح وعدمه. ونتيجته الصغيرة تجعله صغيرًا، ونتيجته المهمّة تعطيه وصفها.
ولذلك لا جدوى في حوار لا سلطة تملك التنفيذ فيه أو ما دام يمكن عدم التزام تلك السلطة بنتائجه، ويبقى كل ما يفضي إليه أو قسم منه حبرًا على ورق.
ثم إنّه لا قيمة لنتيجة حوار وإن علت قيمتها في نفسها وكانت بموافقة من يملكون تنفيذها ولكن بلا ملزم واضح من دستور ضامن ولا جهة قويَّة ضامنة. ولا غنى عن ضمان الدستور.
ولا حوار يتصف بالعدل والجديَّة في طلب حلٍّ متوازن إذا دخلت فيه عدة أطراف من رأي واحد تابع لرأي السُّلطة وعُدّت أطرافًا متعددة لكل واحد منها حسابه الخاص في التوصُّل إلى حل بينما يكون تمثيل المعارضة ومِنْ ورائها غالبيّة الشعب طرفًا واحدًا في اعتبار النتيجة.
وليس حوارًا ما كان للتلهية وتمضية الوقت، وليس حوارًا ما كان للإعلام وذرّ الرماد في العيون وإسكات المنظمات الحقوقية المطالبة بالإصلاح.
والحوار بنتيجة بعيدة عن سقف المطالب الشعبية والتي تفرضها ضرورة الإصلاح حوار هازل لا جديّة فيه، وهو للهزء لا للحلّ.
والحوار لا يكون بلا سقف زمنيّ محدَّد، ولا جدول أعمال متّفق عليه.
إن يكن حوارٌ فليكن جادًّا متوفّرًا على العدل في الاعتبار للأطراف ووزن المعارضة، وعلى كافّة الشروط التي تُمكّن له أن يحقق نتيجة متوافقًا عليها، وأن يؤدّي إلى إصلاح حقيقي يمثّل الحل.
والحوار ليس حربًا، ولا محاكمة، ولا جدلًا عقيمًا ولمجرد إحراج الآخر. الحوار المطلوب حوار يُمثّل مقدّمة قادرة على أن يصير بالوضع إلى الإصلاح، وينقذ من الأزمة، ويفضي إلى حل.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحمنا برحمتك، وأنزل علينا بركاتك ونصرك، وأيدنا بتأييدك، وادفع عنا كل سوء.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([20]).
[1]– الطبيعة الإنسانية إذا بقيت على ما هي عليه تكتشف تغيّر القلب من حسن إلى قبح، ومن القبح إلى الحسن، أما أن أفقد هذه الرؤية معنى ذلك أن هناك تأثّرا خطيرا فيما كنت عليه من طبيعة الإنسانية.
[2]– ستكون النفس لا تأنس إلا برجس البدن أو برجس القلب.
[3]– هل خُلقنا على هذين النحوين، وننتمي إلى هذا الصنف أو ذلك الصنف؟
[4]– 10/ البلد.
[5]– 2، 3/ الإنسان.
[6]– يسمع ليس بسمع الحيوان، ويبصر ليس ببصر الحيوان، ويهتدي سبيل الشكر وسبيل الكفران.
[7]– أن تراني على شر يؤلمك كما لو أنت كنت على شر، من أي نوع كان هذا الشر.
[8]– قلبه له منابت من هذا النوع، ومنابت من ذلك النوع، وله قدرة وإرادة تستطيع أن تميل به إلى هذا أو ذاك.
[9]– عندنا اختيار، عندنا إرادة، وعندنا الطريق لإشعاع القلب، لسلامته، لرقيّه وهو منهج الله، غير هذا المنهج فاشل، ساقط، يؤدي إلى اسوداد القلب، إلى سقوط الإنسان.
[10]– أي غير الهدى وازدياده.
[11]– وهو لا يريد بنفسه في هذا الحال إلا سوءًا.
[12]– ولكن مع عمى البصيرة وعمى القلب يكون الأنس إلى الانحراف والانحطاط.
[13]– سورة التوحيد.
[14]– قد تلتقي هاتان القوتان: قوة الخارج والفطرة، فتتناصران على التربية للإنسان التربية السليمة، والصعود به إلى أعظم درجة ممكنة. وقد يفترق خارج الإنسان عن الداخل، وهنا تتنازع في الإنسان هاتان القوتان.
[15]– أي الإسلام.
[16]– الأرض دائما محتاجة إلى أن تتعلّق بالسماء، وأن تجد روح الإنسان سبيلا إلى هذا التعلّق والاشتداد. روح الإنسان عقله وقلبه كل حياته محتاج فيه الإنسان إلى التعلّق بالسماء. حبل ممدود ما بين السماء والأرض هو الوسيلة.
[17]– راجع: الإمام المنتظر قراءة في الإشكاليات، السيد عبدالله الغريفي عن المعجم الكبير 3:65/2678.
[18]– أي على الإسلام.
[19]– هذا الاختيار.
[20]– 90/ النحل.