خطبة الجمعة (599) 25 جمادى الآخر 1435هـ – 25 أبريل 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : قبل أن تُحبّ، وقبل أن تُبغض
الخطبة الثانية : ذكرى مولد الصدِّيقة الزهراء – سفهٌ أو حكمة – هذا عدل
الخطبة الأولى
الحمد لله في ذاته وفعله وكلّ ما قدَّره وفيما أعطى ومنع، وأصحَّ وأمرض، ورفع ووضع، وعجّل بالفرج أو أبطأ. الحمد لله المحمود عند كلِّ عقل، وفي كلّ شيء في أرضٍ أو سماء، ولا ينقطع حمده، ولا منتهى للثَّناء عليه، ولا يبلغ حمده حامد، ولا يفي بشكره شاكر، وهو الغفور الرَّحيم الشّكور المحسن العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ارغبوا في ما عند الله فلا خيرَ مما تطلب نفسٌ إلا وعنده منه المزيد، ولا شيءَ بما يَصلح به حالُ امرئ إلا وقدرتُه أوسع منه وكرمُه أبعدُ وأسمى. وما من شرٍّ يُتّقى، ومحذور يُحذر إلّا ودفعه له عن عبده يسير. وما أبطأ سبحانه بإجابة دعاء العبد عن غفلةٍ أو نسيانٍ، أو عجزٍ، أو شُحّ فإنه على كلّ شيء قدير وبكلّ شيء عليم ولا تعرضه غفلة أو نسيانٌ، ولا يضيق كرمُه، وكلّ فعله عن علم وقدرة وحكمة وتقدير دقيق، وهو أنظرُ لمصلحة عباده من نظرهم لها.
ومن رَغِبَ في ما عند الله تبارك وتعالى، وطَلَبَ اللجأ إليه والامتناع به فليطلب رضاه، ويَتَقْهِ ويُدِم طاعته وعبادته.
فلنستغنِ عباد الله بالتقرّب لله الغنيّ القادر الرَّحمان الرحيم العليم الخبير عن التقرُّب للفقراء المحاويج من دونه، وكلّهم عبادَه المرزوقون من رزقه، المحكومون لحكمه، المقهورون لقهره.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ربنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا الله يا عليُّ يا قدير يا عليم يا خبير يا رؤوف يا رحيم لا تجعل لنا لجأ إلّا إليك، ولا احتماء إلّا بك، ولا توكّلًا إلا عليك، ولا تملُّقًا إلّا لعفوك وكرمك. ربّنا افعل بنا ما أنت أهله يا أهل العفو والمغفرة والكرم والرحمة.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى موضوع بعنوان:
قبل أن تُحبّ، وقبل أن تُبغض:
الحبّ والبغض شعوران لا يخلو منهما إنسان، ولا يوجد إنسان ذو شعور لا حبَّ في نفسه ولا بغضَ على الإطلاق.
والحبُّ تقوم عليه مواقف، والبُغض تقوم عليه مواقف، ومواقفُ تقوم على هذا تُضادّ مواقف تقوم على ذاك، كما هو التضَادُّ بين الحبّ والبغض نفسهما واللذين لا يجتمعان.
من أحبَّ شخصًا قد يصل به حبّه إلى التضحية بنفسه من أجله، وإذا أبغض شخصًا ربّما دفعه بُغضُه له للقضاء عليه وتصفيته.
وقد تكون في تضحيته من أجل مَنْ أحبَّه الجنّة وقد تكون في هذه التضحية النار. وقد تكون النتيجة هذه أو تلك في القضاء على من أبغض الإنسان.
وقد ينتهي بالمحبِّ حبُّه إلى خزيه وذُلّه، وقد ينتهي به إلى رِفعته وسُموّه، وكذلك يفعل البغض. كلٌّ من الحبّ والبغض قد يؤدّي بصاحبه إلى أفظع الفظائع وأخسِّ الأعمال، وينأى به عن الله سبحانه، ويُسقطه، وقد يأخذ به إلى طريق الحقّ، ويُجنّبه الغواية، ويُصحِّح من سلوكه حتى يتقوَّم، وينال بما وصل إليه مرضاةَ الخالق العظيم، ويرفع شأنَه بعيدًا بعيدًا عما كان فيه من الحضيض.
فأَمْرُ الحبّ والبغض أمرٌ خطير، ولا يسوغ لمن تدبّر عِظَمَ خطرهما أن يتساهل أو يتسرّع في حبّه لأحد أو شيء أو بُغضه له.
ما يدخل النفسَ منهما مدخلًا غير صحيح وبلا مراجعةِ عقلٍ قد تتعطّل فاعليّة العقل أمامه، وقد يُسقِط العقل، ولا يُبقي من قيمة له على الإطلاق.
والإنسان يُحب أشياء، ويُعجب بأفعال وممارسات، وأشخاص وجهات، وتروق له علاقات، وتستهويه لذائذ وشهوات فيُقدِم مُتسرِّعًا على ما أحب، ويرتبط بمن حلا له، ويرتمي على ما استهواه ليجد بذلك أنه أسرع إلى شرٍّ ما كان في الحسبان، وأنه فرّط بذلك في حقّ شرفه ومكانته، أو صحته وحياته، وأساء لنفسه في دنياه وآخرته، وليجد من نفسه أنّه مُطوّقٌ تمامًا لذلك الحبّ الأبله المخسِّر، ومحكومٌ لذلك البغض غير المدروس.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل قلوبَنا مشدودةً إليك، ذاكرةً لك، مُبتغيةً رضاك، مائِلةً عمن سواك، لا تُحبّ إلّا من أحببت وما أحببت، ولا تُبغض إلا من أبغضت وما أبغضت، ولا ترتضي إلّا هُداك يا خير من سُئِل، وخير من أعطى.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([1]).
الخطبة الثانية
الحمد لله العليم بما في السّماوات والأرض الذي لا يختلف في علمه ما طواه ماضٍ سحيق، أو يأتي من بعد الزّمن الطّويل، وما يشهده الحاضر. كلُّ ذلك في علمه حاضر، ولا يقبل علمُه الغموض، ولا تشتبه عليه الأمور، ولا شيء يُخفي عن علمه شيئًا، ولا يَمَسُّ علمَه غفلةٌ ولا سهوٌ أو نسيان.
وما من عمل لعامل، أو قَصْدٍ لقاصد، أو شعور لنفس أو خاطرة لها إلا ويُحيط به علمُه، لا يُصيبه غياب ولا ضياع، ولا يذهب به عن علمه شيء.
أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله اطلبوا الدُّنيا للآخرة، وبيعوا منها ما تشترون به الآخرة، وبيعوها كلّها من أجل الآخرة، ولا تبيعوا شيئًا من نصيب الآخرة طلبًا لها، وتقديمًا للعابر الخادع من لذائذها، وإلّا فلا دين بحقّ، ولا عقل، ولا عُقبى محمودة مرضيَّة كريمة.
ولا ننسَ ما حذّرنا الله سبحانه منه من الاغترار بالدّنيا وشهواتها، ونسيان الآخرة وهول خَطَرِها، وعظيم نعيمِها؛ فإنه لن يجد أحدٌ تحذيرًا، أو ترغيبًا من أحد أصدق من تحذير الله، وترغيبه لعباده.
ومن صَدَقَ حذرُه مما حذَّر الله، ورغبتُه في ما رغَّب لَزِمَ تقوى الله وطاعته وإلّا كان من الكاذبين.
اللهم اجعل لنا قلوبًا نقيَّة وعيَّة تقيَّة، ونفوسًا طاهرة زكيّة، واكتب لنا العاقبة الكريمة الحميدة، والمنقلب المفلح السعيد.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرَّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات في الإيمان فإلى هذه الكلمات:
ذكرى مولد الصدِّيقة الزهراء:
لكلِّ حضارة، ولكلِّ أطروحة هُويَّتُها ونماذجُها البشريّة الخاصّة بها، وكما تتمايز الحضارات تتمايز النماذج والشخصيات التي تُنتجها، وتُفاخر بها.
وهناك نمطان متقابلان في عالم الحضارات؛ النّمطُ الإسلاميّ الذي يُمثّل اختيار السماء، والنمط الماديّ الذي تأخذ كلّ الحضارات من اختيار الأرض وإنسانِها المادي منه.
ومعالم هذين النمطين الرئيسين من الحضارة كلٌّ منهما واضحُ المعالم ولا يشتبهان.
وإنما الكلام عن النموذج البشريّ هنا والنموذج البشريّ هناك، والتركيزُ على المقابلة بين المرأة من صناعة الإسلام، والمرأة من صناعة الحضارة الماديّة. وفاطمةُ بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله هي النموذج الأُنثوي الأعلى للشخصيّة الإنسانيّة من صُنْع الإسلام.
وهناك أصناف من النماذج للحضارة الماديّة على مستوى الأنثى والتي تخرج من رَحِمها، وتفتخر بها تلك الحضارة.
ولك أن تقرأ النماذج البشرية التابعة لأيّ حضارة من قراءة الحضارة نفسِها، كما لك أن تقرأ طبيعة أي حضارة من قراءة النماذج البشرية التي تُمثلها.
وفاطمة عليه السلام وهي النموذج الأنثوي الأكمل والمرآة الأنقى على مستوى الأنثى التي يُرى من صفائها الإسلام، وتمثيلُها له في كلِّ أبعاده في ظلّ خصائص المرأة، وما خصّها الإسلام به من أحكام كسقوط الجهاد الابتدائي الحربيّ عنها.
وفاطمة عليها السلام شخصيّة([2]) باختصار:
- عقيدةٌ توحيدية صافية.
- عبادة واعية مكثفة وصادقة.
- إلمامٌ شرعيٌّ مستوف تامّ.
- وعيٌ سياسيّ واجتماعي وعلمي ومواكبةٌ لأحداث الأمة ببصيرة ثاقبة.
- عِشْرَةٌ زوجية قرنتها مع أعظم رجل في الإسلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يفتخر بها للتسانخ بينهما في الطُّهْر والبصيرة والنقاء.
- تربية عالية للأبناء والبنات من عطائها شخصية الإمامين سيدي شباب الأمة الحسن والحسين في الجنّة، وزينب الفذّة بطلة كربلاء عليهم جميعًا السلام.
- تدبير للشأن المنزلي في أعلى درجات الرَّقي وبعثٌ لروح الهدوء والطمأنينة النفسية في كلّ جنبات المنزل المتواضع ماديًّا الرفيع المشعّ معنويًّا يجعله واحة روح. وهو من هدى ما يتمتع به من أنوار الإيمان والعبادة مهوى ملائكة.
- حياة متقشفة وظروف ماديَّة صعبة لم تنل من النفسية العالية، ولا من أنس المنزل، أو العلاقة المثالية بين الزوجين، أو درجة الإخلاص المتبادل بينهما أو الدور الرسالي لأي من الطرفين، أو الثقة بالخط والقضية التي كُلّهما إيمان بها، والتي كان المحيط يستمد ثقة بها من ثقتهما لأنهما مَثَلٌ إنساني ضخم في معرفة المحيط.
- إيثار على النفس رغم الشُّحّ المعيشي الذي مرَّ به وضع الأسرة وفي أشد المواقف الضاغطة كما في حالة الإيثار للأسير والمسكين واليتيم.
- وكما كانت الزوج الذي ملأ حياة علي عليه السلام على عظمته وشرح صدره، كانت البنت التي ملأت حياة الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله وغذّته بحنانها ولطفها بما يناسب شخصيته الكبرى الهادية العالية، ووجد فيها ما يعالج في نفسه جراحات المحيط، ويُخفف من آلامه التي يتلقاها من الجفاة الغلاظ البُهم الذين يكثرون في جو الجاهلية الضالة المظلمة.
- ومن عرف الرسول صلّى الله عليه وآله وعظمته وصدقه وأنّه لا ينطق عن هوى وإنما نُطْقه عن وحي يوحى لابد أن يعرف ما لفاطمة عليها السلام من شأن عند الله عز وجل يفرض على الأمة أن ترى لها الشأن العظيم، الذي يستتبع من الأمة الولاء لها، وعدم مخالفتها في أمر أو نهي أو نصيحة، وأن تتخذ منها مصدرًا يقينيًّا من مصادر هداها وتشريعها([3]).
ويكفي شاهدًا من تقديم الإسلام فاطمة عليه السلام دليلًا على الهدى للإنسانية كلها وقدوة تُحتذى من رجال العالم ونسائه أن تكون داخلة في المعنيين بآية التطهير وآية المباهلة.
- فاطمة عليها السلام ذات دور سياسي رسالي قوي ومؤثّر وصريح وفاصل لا ينطلق من نظرةٍ أو همٍّ أرضي، ولا صراعات الأرض.
- كانت عليها السلام لا تُمثِّل مرجعية لنساء محيطها يُستقى منها فقهٌ من فقه أبيها وبعلها وفهمٌ دقيق لا يشك فيه من فهم الإسلام فحسب، وإنما كانت مرجعيّة كذلك لعظماء من رجال الأمة.
وأما عن انفتاح واسع على هموم الآخرين ومعاناتهم وحاجاتهم فنجده يتمثّل في دعائها بالخير ودفع الشر لهم قبل أن تدعو لنفسها مثلا.
- غنًى نفسي يجعل المادة والدنيا رخيصة عندها، وبَذْلَها لها في سبيل التخفيف من معاناة الآخرين من أيسر اليسير عندها. تأخذ بعقدها الوحيد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وتتخلى عن زينة الدنيا ولو كانت متواضعة والتي لا تُساوي شيئًا مما عند الأخريات لقضاء بعض حاجات من كانوا يُسمّون بأهل الصُفَّة ممن كانوا في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم([4]).
- وأمّا عن أصناف النماذج البشرية من تخريج الحضارة المادية ورموزها على مستوى النساء فهذه بعض أمثلة:
1)فاتنة جمال جسدي وملكةُ جمال من هذا الجمال.
2)ثريّةٌ طائلة الثروة.
3)داهية سياسية ذات شيطنة بالغة في هذا المجال.
4)حاكمة حديديّة تفرض ما تريد بقوة وبطش وعناد، وتسابق الرجال في العناد والشدّة.
5)راقصة مستقطبة، ومغنّية مستهوية للجماهير.
6)سبّاحة ماهرة تقطع مسافة قياسية.
7)رياضية وعدّاءة سبّاقة، وملاكمة حديديّة.
8)امرأة بارزة في تخصّص علمي معيّن نفعت أو أضرّت.
9)متبرعة بقسط من ثروتها لمشروع علمي أو اجتماعي وخدمي.
وهذه النماذج البشرية بين نموذج مؤثّرٍ سلبًا على إنسانية المجتمع الإنسانيّ ومُقوِّضٍ لأخلاقيّته وسببٍ من أسباب الفساد العامّ، وبين نموذج له عطاءٌ إنسانيٌّ مناسب في مجال من مجالات الحياة ولا يُغطّي الحاجة إلى القدوة الحسنة والنموذج المشعّ في مختلف أبعادها([5]).
والنوع الأول من النماذج هو بلا شك من رحم الحضارة المادية والتَّوجُّه في الأرض.
أما النوع الثاني فهو من منطلق بقيَّةٍ من فطرة، أو ومضةٍ من دين مثلًا، ولا يمكن للروح المنشدّة إلى الأرض والقيم المادية، ولحبّ الدنيا أن يعطي شيئًا من هذا النموذج الثاني الإيجابي على محدوديّته([6]).
وتبقى نساء الأمة والمؤمناتُ في خيار يتحمّلن مسؤوليته بين حضارتين: الحضارة الإسلامية والحضارة المادية وقيمهما وأمثلتهما البشرية… في خيار لا تخفى نتيجتُه بين الاقتداء بفاطمة عليها السّلام، وبين النماذج النابعة من رحم الحضارة المادية غربيةً كانت أو شرقية.
سفهٌ أو حكمة:
من حاول أن يكسب رضا المستهدِف له على كلّ حال وعن عناد ومن منطلق مصلحة من مصالح الدنيا لا يُمكّن له هواه أن يتخلّى عنها، في حين أنّه لا يُقدِّم له ما يزيد عنها مما يتطلّع إليه في دنياه أو ما يُساويها على الأقل فَعَلَ سفهًا وارتكب حماقة لا يرتكبها عاقل.
من يعلم أنك تنبُذُ العنف الظالم من منطلق دينك، وبمقتضى طبعك ونفسيتك، وتأكيدات بيانك، ورفضك له مرارًا على مسمع كل من تحتمل أنه يستجيب لندائك ثم يُصرّ على أنك تُحرّض على العنف وتدعو إليه يكون طلبك إرضاءه بتكرار الإدانة والرفض من السفه البيِّن، والحماقة الواضحة، ومن عدم احترام النفس وتقديرها، ومن عبادة العباد خوفًا أو رجاء.
وعندما يكون الهدف من رمي شخص بتهمة التحريض على العنف ليس شخصيًّا بقدر ما هو لإجهاض حركة إصلاحية، وبثّ الفتنة المجتمعية، وقطع الطريق على أيّ محاولة للإصلاح، وخروج وطنٍ معذّب من أزمته، وشعب مظلوم من محنته يأتي وجهٌ وجيه لتكرار الدعوة لنبذ العنف ورفضه حتى لا يأخذ الهدف السّيء عند الطرف الآخر طريقَه سهلًا إلى التحقّق، ولا يُكوِّن رأيًا مضادًّا للمطالبين بالإصلاح عبر التزوير والكذب الذي قد يوقع في حبائله الشيطانية غافلًا وقاصرًا، وسريع ظنٍّ، وقليل تفحّص.
وداعٍ آخر قويٌّ لهذا التكرار وهو الخطورة البالغة لموضوع العنف والإرهاب الذي صار يحصد النفوس البريئة في الساحة العربية والإسلامية وبلدان أخرى حَصْدًا بلا رحمة ولا حدود.
لا نريد لهذا البلد أن يتحوَّل إلى بلد مجازر بشرية لا تعرف دينًا ولا عقلا ولا قيمة لإنسانية الإنسان، ولا مصلحة وطن كما هو الواقع القائم وبكلّ أسف في العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، مصر، أفغانستان، باكستان، الصومال، نيجيريا، وغيرها.
ولي ولغيري ممن يحترم الدين وإنسانية الإنسان وله غيَرةٌ على وطنه من ذلك عُذْرٌ في تكرار الدعوة إلى نبذ العنف ورفضه وإدانته والتحذير من شره وخطره.
لا تفجير، لا تخريب، لا تدمير. إصرارٌ على المطالبة بالحقوق والإصلاح، وتمسُّكٌ بالسلمية.
وماذا عن موقف السلطة من مسألة العنف من جهتها؟
أربعةُ أمور أذكرها هنا هي ما يجري على الأرض من عنفها ضد المظاهرات السلمية:
1- التوقيفات والمداهمات، وما يحصل في السجون، وخارجها من عمليات قتل وجرح وإعاقة بدرجة مرتفعة، ومحاكمات كثيرة لا تتوقّف، وأحكام قاسية لا تفتُر، وفي ازدياد من وتيرتها([7]).
2- سنّ قوانين جائرة متتابعة لمواجهة الحراك السّلمي بالشدّة والقمع.
3- الامتناع عن الإصلاح مما يدعوها إلى تشديد القبضة الأمنية([8]) والإسراف في القمع دعمًا لهذا الامتناع، ومن أجل إذعان الشعب له.
لأنَّ شيئًا آخر لا ترى فيه السلطة ما يجعل الشعب يسكت على استمرار الفساد والامتناع عن الإصلاح.
4- الإعلام الإرهابي الذي تمارسه السلطة، والسكوت على فتاوى التكفير التي تطال أبناء مكوِّنٍ رئيس لهذا الشعب بكامله وهي تعرف أن لا مادة للإرهاب، ولا مُشْعِل له، ولا دافع أقوى للاعتداء الدموي على الطرف المستهدَف لهذه الفتاوى أشدُّ منها.
هذه أربعة أمور تجعلنا نقول بأن السلطة تمارس الإرهاب من غير أن نعطي مبررًا لأيّ طرف آخر أن يُقابل السلطة بمثل ما تفعل. وإنما نؤكد أنه لا عنف، لا إرهاب، لا إرهاب.
وهنا كلمة لا ريب فيها فالحقُّ أنَّ كلًّا من استمرار الظلم والاضطهاد الذي تُمارسه السلطة، ومن العنف المتبادَل مصيبة كبرى ومُدمِّر للبلاد والعباد. أما ما فيه إنقاذ الوطن وأهله وخيره وهو الإصلاح فالقادرون عليه لا يريدون فعلَه. والسلطة هي التي بيدها الإصلاح والتعجيل به ولكنها شديدة الامتناع عن التحرُّك في اتجاهه.
أمَّا عن الحراك الشعبي فيجب له أن لا تقلّ اندفاعتُه، وأن يزداد زخمه وكثافته، ويشتدّ إصراره وصلابته، وأن يبقى على سلميّته من غير شائبةِ عنفٍ على الإطلاق.
وواضح جدًّا أنَّ من لا يؤمن بالعنف، ويعرف خطرَه لا يُفكّر في التحضير للعنف والإرهاب، ولا يبحث عن أدواته وأساليبه، ولا يتحمّل تبعةَ مثل هذا.
هذا عدل:
صارت تتكرر الحوادثُ الغامضة من حوادث التفجيرات وذكرُ المؤامرات، والاختلاف في وجودها أو عدمها أحيانًا، وفي النسبة إلى هذا الفاعل أو ذلك الفاعل أحيانًا أخرى.
والمطالبون بالتحقيق في هذه الأمور الغامضة منصفون جدًّا، وطلبهم عادل كلّ العدل.
وإذا كانت السلطة متأكّدة من صحّة ما تذكره من النسبة إلى فلان المعيَّن أو الجهة المعيّنة فما أجدر بها أن تقبل بهذا العرض لأنها ستكسب بشهادة هذه اللجنة أو الجهة المتّفق عليها دليلًا إنْ لم يفِد الأطراف المحايدة الأخرى اليقين بصحة ما تذكره من وقوع الأمر المختَلف عليه، أو الفاعل الذي تنسب إليه الحادث المعلوم فهو يقطع لسان المحتجّ المقابل([9]).
فهلّا تفعل؟!
وإذا لم تفعل مع تأكُّدها من كل ما تقول أفلا تكون هي التي تفتح الباب للتشكيك ولمن يريد أن يبادلها التهمة أن يفعل؟!
وتحية لهؤلاء الآباء والأحبّة الذين يُفجعون في أبنائهم وأعزائهم وهم ينادون بالسّلمية([10]).
وتحية لهذا الجمهور العريض للمعارضة الذي لا تخرجه كلُّ الأحداث المرّة عن سلميته.
طفى الاضطهاد طغى:
- بالبيان عن تهجير سماحة آية الله الشيخ نجاتي عن البحرين والصادر من وزارة الداخلية أُعلِنت الحرب الصريحة من قِبَل السلطة على مذهب أهل البيت عليهم السلام، وانتقال الاضطهاد وبصورة علنية من كونه لأهل المذهب إلى المذهب نفسه وإن كانت الممارسة سابقة للإعلان تمثّلت في هدم المساجد والتعدّي على الحسينيات والمواكب الدينية، ورموز المذهب في أعلى قمّة، ومضايقة الشّعائر، والمطاردة لمصلّي الجماعات والجمعات وغير ذلك من أمثلة مكشوفة يعرفها الجميع.
- اليوم يُفرض طلبُ الاستجازة من السلطة للأخذ بالمذهب، بمقرّراته، بأحكامه، بثوابته([11]).
من ذلك أن لا تأخذ الخمس إذا كنت من وكلاء الخمس، ألا تأخذ بأي وجه من وجوه صرفه الشرعي، أن لا تتجاوز في مقدار صرفه حدًّا معيّنًا ولا تقرر هذا الحد إلا السلطة([12])، وكل هذه الأذونات غير معتبرة إلا بإمضاء السلطة وموافقتها، فالشرعية لها لا لمذهبك ولا لفقهائك كلّهم. أنت ومن أجازك ممن تُسمّيهم بالفقهاء حكمكم جميعًا بيد القانون وتشريعكم تشريعه، ومذهبكم صفرٌ على الشمال([13]).
- حرب مشكوفة واضحة المعالم في البحرين من بين كل دول العالم على مذهب التشيع بصورة علنية فاضحة متحدّية للعالم كلّه؛ الأمرُ الذي يستوجب من الأمم المتّحدة ومجلس الأمن([14]) وكل المنظمات الحقوقية بالدرجة الكافية([15]) لحماية هذا البلد من الاضطهاد المذهبي الذي يُمارَس بأبشع صورة وعلى المكشوف على يد السلطة التي تحكمه.
وهي جريمة لا يد للإخوة الكرام من أبناء الطائفة السنية فيها، ونثق بأنّهم لا يُقِرّونها.
- يُذكّرنا السّعي المكثّف للاستئصال المذهبي والاضطهاد لمذهب أهل البيت عليهم السلام والذي تُمارسه السلطة بأيام بني العباس، وما كانت عليه سيرتهم بهذا الشأن.
ويعلم المسلمون أنَّ الاضطهاد المذهبي من السلطات الأرضية لأي مذهب من المذاهب الإسلامية لا يأتي بدافع مذهبيّ خالص، وإنما هو من دافع سياسيّ، وقد يكون للدافع الطائفي المذهبي تأثير بالغ فيه. وهو حسٌّ طائفيّ مذهبي أسود منغلق لا يتحمّل إخوتنا السنّة الكرام من الشعب شيئًا من مسؤوليته. والأثر هو تمزيق وحدة الدين والمسلمين، وفكّ التلاحم بينهم، أو هذا ما تريده مثل هذه القرارات، ثم ما تريده من استقرار سياسي على حساب وحدة المجتمع، ونيله حقوقه.
- ([16]) صار مطلوبًا منّا لتثبيت حقّ الانتماء لمذهب أهل البيت عليهم السلام والبقاء عليه والالتزام بأحكامه أن نحصل على إجازة السلطة وإمضائها لذلك([17]).
شعائرنا لا بد أن تكون بترخيص، تبليغنا لأحكامنا المذهبية وتوضيحنا لعقيدة مذهبنا الإسلامية لأتباعه يحتاج إلى ترخيص وهذا ما يقول به القرار الصادر بحلّ المجلس العلمائي، دَفْع المكلّف منا لزكاة ماله، وخمسه يحتاج إلى ترخيص، إمامة الجماعة أو الجمعة لأحدنا بمن هو من مذهبه نفسه يحتاج إلى ترخيص([18])، التحاقنا بالدراسة الدينية في الخارج قالوا بأنه يحتاج إلى ترخيص، تعليمنا لأبنائنا وبناتنا مذهبَهم وأحكامه في مسجد من مساجدنا أو حسينية من حسينياتنا يحتاج إلى ترخيص، إقامة مجلس من مجالس التعزية الحسينية في منزل من المنازل في المناطق المختلَطة يحتاج إلى ترخيص…. كلُّ هذا يعني أنك حتى تتبع مذهب أهل البيت عليهم السلام، وأن تبقى على انتمائك له يحتاج إلى ترخيص وربما إلى تجديد الترخيص وإلّا فأنت مجرم وعليك أن تنتظر السجن أو التهجير([19]).
والعالمُ الحرّ كما يَزْعم ساكت، ومتفرِّج على ذلك، بل ومبارك له عملًا وإن لم يباركه على مستوى الكلمة([20]).
- ماذا يريد ما صدر عن الداخلية بشأن مسألة الخمس؟ أيريد أن يُسلّم أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام زكاتهم وخمسهم للسلطة لتستعين بذلك على إقامة مزيد من السجون لهم، وعلى قتلهم، واستيراد السلاح والمرتزقة للفتك بهم ولقهرهم وإذلالهم؟!([21]) عجباه لما تتمناه السلطة من أتباع هذا المذهب، وعجباه لما قد تظنه فيهم من سذاجة وبلاهة!!
أستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات أجمعين.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أفشل سعيَ كل ساع في شر بلد من بلدان المسلمين، وتشتيت أمرهم والكيد بوحدتهم وعزتهم يا قوي يا عزيز.
اللهم ارحمنا شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([22]).
[1]– سورة الجحد.
[2]– أي من حيث الشخصية.
[3]– بعدما تلقته الأمة من أحاديث عنه صلّى الله عليه وآله بشأن ما هي عليه من مقام يجعلها قدوة بلا مراء.
[4]– وهكذا تنزع سترَ بابها ومن أجل الغرض نفسه ليتّزر من يتّزر ممن كانوا يحتاجون إلى أُزُر.
[5]– على خلاف ما كانت عليه فاطمة عليها السلام من أنها النموذج الأمثل الشامل الذي يشعّ النور والهدى في كل أبعاد وجود الإنسان وحياته.
[6]– إلا ما كان من علم لاشباع رغبة نفسية وحب الاستطلاع أو طلب شهرة والمواقع الدنيوية المختلفة.
[7]– هذا وجه واضح طافح من وجوه العنف الذي تمارسه السلطة.
[8]– إذا امتنعت عن الإصلاح لزم أمر آخر وهو أن أشدد القبضة الأمنية.
[9]– ينقطع لسان الكلّ حينما يتفق على لجنة تحقيق محايدة فتنتهي إلى أن الفاعل هو من الشعب، هنا ينقطع لسان الشعب أمام السلطة، فلماذا لا تفعل ذلك؟!
[10]– غريب هذا الشعب، وطيّب هذا الشعب، ومشكور هذا الشعب.
هتاف جموع المصلين (سلمية سلمية).
[11]– حتى أكون شيعيًّا أستأذن السلطة هل أكون يا سلطة شيعيًّا؟!
[12]– أمّا إذن ألف فقيه لك بذلك فلا قيمة له.
[13]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
[14]– وإلا فليست أممًا متحدة، وليس مجلس أمن.
[15]– أقول بالدرجة الكافية وليس بالكلام المازح أو غير الجاد.
[16]– أنا صرت شيعيًّا، الآن كيف؟
[17]– قدّموا أوراقكم للسلطة تستجيزون لتبقوا على مذهبكم.
[18]– ألم يقولوا حتى تكون إمام جماعة وجمعة لابد أن تطلب الترخيص؟ قالوا.
[19]– هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
[20]– وقد تخرج كلمات إدانة أو مطالبة باردة لا ترفع المشكلة والظلم والحيف.
[21]– ادفعوا أخماسكم حتى نقتلكم بها!
[22]– 90/ النحل.