خطبة الجمعة (597) 11 جمادى الآخر 1435هـ – 11 أبريل 2014م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : معرفة الله
الخطبة الثانية : مولد فاطمة الصدِّيقة الطاهرة – رجل السباق البارز – الحوار والسلاح
الخطبة الأولى
الحمد لله ربّ العالمين الذي لا عِلْمَ لأحد بشيء من خلقه علمَه به، ولا قدرةَ له عليه مِثْلُ قدرته، ولا حافظ له غيره، ولا متصرِّف فيه تصرُّفَه، ولا منقذ له عما يراد به سواه، وما يُصيبه من خير أو شرّ إلا بإذنه، ولا يحقّ التوكّل إلّا عليه.
عبادَ الله جَعَلَ الله الأسباب التي لا شيء منها إلّا من خلقه فاعلة وهو المالك الحقّ لفاعليّتها إن في حدوث أو في بقاء. فمن أخذ بالأسباب فقد أخذ بما لا يخالف إرادته سبحانه.
وإنما مخالفة العبد لأمر الله بأخذه وسيلة محرّمة في أمر منه سبحانه ما لم يكن هناك سبب شرعي معروف عند أهل العلم([1]). والأخذ بالأسباب إنما يخالف إرادة الله سبحانه حينما يُتعدّى بها على حدوده
ومن فرّط في طلب الخير والطّاعة في ما يوصل إليهما من أسباب فقد تحمَّل إثمَ تفريطه وتقصيره، ونتيجةَ ما يقع فيه.
ولأنه لا فاعليّةَ لسبب إلّا بالله جلّ وعزّ ولا مالِكَ له غيرُه فالتوكُّل لا يكون إلّا عليه، وتفويض الأمر لا يكون إلّا إليه.
وكيف يكون توكُّلٌ على الله من مقيمٍ على المعصية له سبحانه، غير تائب من ذنبه، لا يؤوبُ إلى ربّه؟!
فالتوبةَ التوبةَ من كلّ ذنب، والتقوى التقوى في كلِّ المواقف.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم فقِّهنا في الدين، واجعلنا من الموقنين، وارزقنا هدى المتَّقين، واحشرنا في زمرة الصّالحين، وهب لنا جنّة النعيم يا رؤوف يا رحمان يا رحيم.
أمّا بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فقد كان الحديث في آثار معرفة العبد لله سبحانه، وما تمدّه به من بصيرة وهدى وقوة، وما تُحقِّقه له من فوز ونجاح، والحديث اليوم هو الحديث وذلك في سياق الكلام في الموضوع الأساس وهو معرفة الله.
الشعور بالغنى والكرامة:
عن الإمام عليّ عليه السلام:“من عرف الله توحّد”([2]).
المعرفة بالله لما تُعطيه من شعور بالكرامة، وما تؤدّي إليه من شرف الذّات، ورِفعة الذّوق، وسموّ النفس، وعظيم التطلُّع إلى الكمال تحمي النفس عن الدنوّ من الأجواء الملوَّثة، والمخالَطة للنفوس المتدنية([3]).
فأهل معرفة الله تبارك وتعالى يربأون بأنفسهم عن مخالطة أهل معصيته، الغارقين في مخالفة دينه، لا يقبلون أن يذوبوا في أهل الدنيا من طُلّابها المحكومين لهواها.
ولو كانت الدنيا ملؤها هذا النوع من الناس لهان على أهل المعرفة الحقّة أن ينعزِلوا عن الالتصاق بهم، وأن لا يطلبوا وِدَّهُم ولكن في غير تخلٍّ عن واجبهم الديني المرتبط بالناس، أو نسيانٍ لمسؤولياتهم([4]).
وعنه عليه السلام:“من عرف الحقّ لم يَغتَنِ بالخلق”([5]).
لا يركض وراء رضا أحدٍ ليس فيه رضا الله، ولا يُفرحه ثناء الخلق، ولا يُحزنه أن ذمّوه ما دام على طريق ربّه، واثقًا بأنّه لم يَحِدْ عن هذا الطريق.
التسليم لقضاء الله والرضا به:
الإمام الباقر عليه السلام:“أحقّ خلق الله أن يسلّم لما قضى الله عزّ وجلّ من عرف الله عزّ وجل”([6]).
العارف بالله لا شكّ عنده في قدرته أو علمه، أو حكمته، أو عدله، ورحمته وإحسانه فلا يبقى من بعد ذلك إلّا أن يُسلِّم لقضائه ما وافق منه النفس وما لم يوافقها لجهلها وما أدرك مصلحتَه أو لم يدرك مصلحتَه.
وليس هذا التسليمُ تسليمَ المضطر الذي لا حيلةَ له وإن رأى في ما جرى به قضاء الله ظلمًا وشرًّا لا مفرّ منه([7]). وإنما هو التسليم عن نفس راضية تعلم أنّ قضاءه عزّ وجلّ لا منفذ في ([8]) الحقّ والعدل والحكمة للمؤاخذة عليه، وأنه لا أحسن منه، ولا يمكن لقضاء أن يُجاري حسنه ودقّته([9]).
ونقرأ في هذا عن الإمام زين العابدين عليه السلام من دعاءٍ نُسِبَ إليه:“كيف أحزن وقد عرفتك؟!”([10]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:“إنّ أعلم النّاس بالله أرضاهم بقضاء الله عزّ وجلّ([11])“([12]).
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“قال الله عزّ وجلّ: علامة معرفتي في قلوب عبادي حسنُ موقع قدري أن لا أشتكى، ولا أُستبطى، ولا أُستخفى”([13]).
تنتفي في ضوء معرفة العبد لله سبحانه كلُّ أسباب الشكوى من قضائه وقدره، وكل أسباب الاستبطاء والتأذّي من تأخّر ما يتمنّى العبد، أو أن يكون عند النفس أنه سبحانه ليس حاضر العلم أو القدرة والإرادة والتدبير([14]).
استبشار الوجه وحزن القلب:
عن الإمام عليّ عليه السلام:“العارف وجهُه مستبشر متبسم، وقلبه وجِل محزون”([15]).
وعنه عليه السلام:“كلّ عارف مهموم”([16]).
أما استبشار وجه العارف فلأنّ هذا الاستبشار من خُلُقِ الإسلام إذا لم يكن مما يُشجّع على المعصية، وأما وجَلُ القلب وحزنه فلما يشعر به المؤمن العارف من تقصيره في حقّ الله وإن عظُمت طاعته له.
والحديث الثاني من الحديثين السَّابقين ناظرٌ إلى ما عليه حال قلب العارف دون وجهه.
وتستطيع أن تقول بأنَّ العارف مسرور القلب لما يعمر به قلبه من الأمل في الله ورجاء عفوه ورحمته، وجميل إحسانه، وهو حزينُ القلب لشعوره بتقصيره، وخوفه من عدل ربّه.
وربما حصل للمؤمن من خير دنياه مما لا ثَلْمَةَ منه في دينه لذلك تنبسط أسارير وجهه ولكن ذلك لا يستغرقه، ولا يؤدي به إلى نسيان عظيم الإحسان من ربّه، والنظر إلى قلّة شكره فيحمل من قلة الشكر من نعمة الربّ همَّ تقصيره، فتلك قلوبٌ حيّة لا يُفارقها ذكر الله، ولا تلهو عن النظر إلى عظمته.
التعلّق بالدعاء وكثرته:
عن الإمام عليّ عليه السلام:“أعلم النّاس بالله أكثرهم له مسألة”([17]).
وعنه عليه السلام:“إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك!! وكيف لا أدعوك وقد عرفتك”([18]).
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام:“يا من آنس العارفين بطيب مناجاته”([19]).
إنك لا تدعو من لا ترجوه([20])، ولا ترجو من لا قدرة له على الاستجابة للخير الذي تطلبه، أو لا يسمع نداءك واستغاثتك، ولا يصله دعاؤك، أو لا يتّسع لك كرمه.
ولكنَّك تدعو وتعاود الدعاء، وتطلب كلَّ ما تتمنّى من الخير ممن علمت بقدرته، وأيقنت بعلمه بحاجات الطّالبين وفقر المفتقرين ودعاء الداعين، وبأنَّ عطاءه يشمل المحسن والمسيء والمطيع له من عباده والعاصي له، وأنَّ كرمه واسع لا يضيق. فمعرفة الله عزّ وجلّ تُطْمِع عارفيه في كثرة الدعاء والتوجّه إليه عند كلّ مفزع من الشر، وكلّ مطمع في الخير.
والعارفون بالله تمنعهم معرفتهم من أن يتسلَّل إليهم اليأس من استجابة الله لدعائهم بكفاية الشرّ والخروج من الوَرَطات والهفوات، ونيل الخير وقضاء المآرب.
ثم فيما يجدون به سبحانه من أُنسٍ من طيب مناجاته ولذيذ الانقطاع إليه لا يفارقون دعاءه، ولا يصبرون عن مناجاته. فهي لذّةٌ ليس مثلها عندهم لذة، وهي النعمة الكبرى.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم زدنا من معرفتك معرفة على ما رزقتنا، ونورًا من نورك على ما هَدَيتنا، وطاعة لك فوق ما وفقتنا إليه، وقربًا منك ترفع به درجتنا يا من لا حدَّ له في جمال وجلال، ولا منتهى لحقّه يا عظيم يا متعال يا حنّان، يا منّان يا رحمان يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([21]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يتعاقب بقدرته الليلُ والنهار، وبقضائه وقَدَرِه الشدّةُ والفرج، وبإذنه تحدث كلّ الأمور، ولا ابتداءَ لشيءٍ ولا انتهاء له إلّا بعلمه، ولا سَبْقَ لسابق ولا تأجيل لموقّت عن تقديره، ولا مجرى لشيء خارج ما أراد له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله لئن غَفَلنا عن الأيام والليالي وما ينبغي لنا أن نُنفقها فيه فهي لا تغْفُلُ عنّا، فما ينقضي يوم منها في ليل أو نهار منه إلا وثَلَمَ من أعمارنا، وسجّل علينا ما كان منّا من إهمال لشأنه، أو سوءٍ لاستعماله، أو تقصيرٍ في حقّ نعمته لنلقى ما كان منّا من ذلك فيه عاجلًا أو آجلًا، وليس المهمّ أن تنقضي الأيام والليالي وتأتي لحظة الفراق لهذه الحياة، وإنما المهم كلّ المهم نوع ما حملت أيام العمر من خير أو شر مما اكتسبناه، وما ينتهي بنا هذا من نوع خاتمةٍ ومصير، واستحقاقٍ لجنّة الخلد أو سعير مقيم.
ولكثيرًا ما يشغل الإنسانَ قضيةُ كم أعيش عن قضية حسنِ العمل([22]). فلنتذكر الله، ونُصْدِق تقواه، ونحسن العمل، لتُحمَدَ العاقبة.
اللهم لا تجعلنا ممن يُقدِّم الدّنيا على الآخرة، ويشتري عافيتها بما فيه خسارة العاقبة، ويُنسيه يوم حياته يومَ مماته، وشرّ عاجله العابرُ، وخيرها الزائل، عن شر آجله الماكث المستطير، وخيرها المقيم الوفير.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، وصلّ وسلّم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وفاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، والأئمة الهادين المعصومين، حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيما.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى موضوعات ثلاثة:
أولًا: مولد فاطمة الصدِّيقة الطاهرة:
- فاطمة عليها السلام حوراء أنسية. هي واحدة من نساء هذا العالم الكبير، ولكنها بإنسانية متميزة من بين نسائه… إنسانيةٌ غزيرة، ومواهب عالية، وطُهْرٌ مثال، ونورانية مشعّة، وإيمان وهّاج([23])، وقلب عارف، وروح غنيَّة بذكر الله، ونفس لا يَمسُّها الشيطان، وعمل صالح، ولسان تُتعلّم منه العفّة، وتتدفّق منه الحكمة، وتتفايض منه المعارف الكريمة، والعلم المنير. وهي خلق قرآني جذّاب، وسيرة من سيرة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومدرسة حياة، فهي بذلك كلّه حوراء في عالم الإنسان.
ولا يَكْرُم إنسان إلّا بمثل ما لفاطمة عليها السلام من جمال معنى وكمال، ونزاهة وجلال.
ولا سَبْقَ لأحد عند الله سبحانه إلّا بما سبقت به فاطمة عليها السلام من كلّ هذا الزّاد الكريم بلايين من العالم من نساء ورجال.
- ولنا أمَّةَ الإسلام مع الإسلام ورموزه العالية النموذجية والمتمثلة في أعلى قِمّتها في المعصومين عليهم السلام ومنهم الصدّيقة الطاهرة مشكلتان أُولاهما فهم الإسلام ورموزه فهو فَهْمٌ يعاني من تخلُّف ونقص وغموض، وبخس من بعض وغلوّ وتزيُّدٍ من بعض آخر. ومن حقّ الإسلام ورموزه على الأمة أن يُفهم الإسلام كما هو، وأن تُفهم رموزه كما هم الفهم الصحيح من غير نقص ولا زيادة فيها غلوّ.
وبرغم فداحة هذه المشكلة إلا أنَّ المشكلة الأكثر فداحة أننا لا نملك الإرادةَ الجادّة للارتفاع بمستوانا في أبعاده المختلفة إلى ما يقرب بنا إلى ما يريده الإسلا ورموزه العالية لنرقى وتصلح كلّ أوضاعنا.
نعاني كثيرًا جدًّا في هذا الجانب من كسلٍ وانهزامية شنيعة أمام ضعف النفس وأمانيها الدّنيوية وهواجسها وشهواتها([24]). نحن مسجونون لحبّ الأرض والانكباب عليها، ولا نتحرّر في كلّ أبعاد حياتنا إلّا بأن تنتفض إرادةُ الخير فينا وتأخذ بنا في اتّجاه الإسلام ورموزه.
- عندنا حبٌّ باردٌ للإسلام وقُدواته العالية لا حرارةَ فيه ولا دفء. لا يُحرّك عمليًّا، ولا يُوجِدُ موقفًا، ولا يُصحِّح واقعًا. وهو غير ما يتطلبه صِدْق الإسلام في النفس، وصِدْق الاقتداء بمن أمر الله عزّ وجلّ بالاقتداء بهم من حبٍّ ما عَمَرَت به نفس إلا ونَشِطَت في الخير، واندفعت الاندفاعة القوية المتّصلة على طريقه في منأى ثابت عن الشرّ، ومأمن حصين من الفساد والسقوط.
حبُّ الإسلام وحبُّ رموزه ومنهم فاطمة الطاهرة حبّ العظمة والعظماء الذي لا يتناسب معه إلا المسلك القويم والسّيرة العَطِرة، وتحليق الذّات في الأفق الرفيع.
- تتحدث نساءٌ كثيرات من نساء الأمة ورجالٌ كثيرون من رجالها عن لزوم نهضة المرأة وحقوقها وتحرُّرها وكرامتها. والصحيح أن لابد للمرأة أن تتحدّث عن ذلك وتطلبه وتُطالب به، وأنَّ على الرجل وهو أخٌ لها أن يدفع بحركتها في هذا الاتجاه وأن يُنصفها، ولا كلام في ذلك ولا تردُّد عند من يفهم الإسلام، وتكريمه للإنسان رجلًا أو امرأة. وإنّ إهانة الإنسان تستوي بإهانة الرجل أو المرأة.
ولكن ما هي النهضة، ماهي الحقوق، ما هو التحرُّر، ما هي الكرامة، ما هو الإنصاف الذي تطلبه المرأة وتطالب به، وعلى الرجل أن يعينها على ذلك، ويطلبه لها؟ أهو ما تراه الجاهلية الغربية أو الشرقية أو المحلية من داخل الأمّة، أو ما اختاره الله سبحانه لعباده من ذلك، ودلَّ عليه دينه وتضمّنته وتكفّلت به شريعتُه؟
صالحو هذه الأمة والصَّالحات منها لا يختارون إلّا ما اختار لهم الله، ولا يرون إلا ما يرى دينُه. ولا يختار رجل رشيد وامرأة رشيدة لأيّ من الناس فضلًا عن نساء هذه الأمة ورجالها وشاباتها وشبابها غير ما اختاره لهم الخالقُ المالكُ العليمُ الحكيمُ الرؤوفُ الرحيم.
وأيُّ رجل وأيُّ امرأة وأيُّ شاب أو شابة ممن له رشد من أبناء هذه الأمة وبناتها لا يُقدِّم ما كان عليه أعلى قدوات هذه الأمة ومَنْ هم أصدقُ الناس صدقا، والإيمان إيمانا، والعلم بالإسلام علمًا وإحاطة، وألزم الناس بالتقوى([25]) على ما يقوله كافر أو فاجر، أو فاسق عربيد هنا أو هناك من أبناء الدنيا كلها؟([26])
ومعروف ما يريده الإسلام من الرجل والمرأة، وما تريد لهما الحضارة المادية المهترئة من انحراف وفسوق ومجون وتبذُّل وفُحْشٍ وحيوانية وسقوط.
- كلمة أخيرة في الموضوع اختصارًا:
خطوات يسيرة في اتجاه فاطمة الطهر القدوة المثال:
* تصحيح قضية اللباس عند الفتاة والأخذ بالحشمة فيه والتوقُّف عن متابعة الموضة الساقطة. وهذه من مسؤولية الفتاة وأمِّها وأبيها وأيّ قريب مؤثّر والوسط المؤمن العام. والبداية من لباس الصبية وقبل سنّ البلوغ.
* الإقلاع الفوري عن هذا الانحراف الخطير في ما يُسمّى بحفلات الخطوبة وما شابهها([27]).
وكيف لنا أن ندّعي الإيمان، وأننا من أتباع الرسول صلّى الله عليه وآله، والمتعلِّقين بشخصية فاطمة عليها السلام والصادقِين في حبّها وحفلاتنا تشهد ما تشهد من مخالفات شرعية كأنْ تُصِرّ الفتاة على أن يدخل خطيبها على جمع النساء في حفل الخطوبة بمن فيهن من متبرِّجات ومتزيّنات ومعرّيات لمواضع الزينة في الجو الضاحك المثير وأن يكون معها على المنصة يُبادلها القُبُلات أمام الصبيّات واليافعات ومختلف الأعمار؟!
وتبقى مصرة على زوجها بذلك مهدِّدة له بالطلاق الفوري وكأنَّ الطلاق بيدها فأين هذا من الإسلام ومن سيرة الزهراء فاطمة عليها السلام([28]).
يجري هذا بمباركة الأسرتين المؤمنتين؛ أسرة الزوج والزوجة وعدد من الأقارب أو السكوت على هذا التصرُّف من الزوج أو الزوجة أو كليهما([29]).
عقدتما([30]) عقد الزواج على كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وآله، طالبين فيه البركة من الله والذريَّة الصالحة وهذه أولى الخطوات ثم بعده تأتي منكما المخالفة الصريحة للدين وكأنّكما تهزءان بكتاب الله عزّ وجلّ وسُنّة رسوله صلّى الله عليه وآله.
نريد لمجتمعنا المؤمن هذه الخطوات اليسيرة وتصحيح هذه الانحرافات على أقلّ تقدير ليستمرّ عنده مسار التصحيح، والتراجع عن كلِّ ما نعيشه من انحراف.
ومسألة خطيرة أخرى تَرْكُها للتفاقم فيه هدم للمجتمع وفساد كبير وهي مسألة كثرة الطّلاق، والإسراع فيه لسبب مقبول وغير سبب.
ووراء هذه المسألة ما وراءها من أسباب.
والتخلّص من خطر هذه الظاهرة يحتاج إلى استحضار الدّين، والضمير الحي، والوعي، والحكمة والتدبّر في المصير وإلى درجة كافية من الأخلاق العامة في المجتمع، والخاصة بالأفراد واحترام إنسانية الإنسان.
ثانيًا: رجل السباق البارز:
إنه ليس سباقًا من السِّباق الرّخيص.
إنه سباق عالم الفكر المُحلِّق، وصفاء الروح والإيمان الحقّ، والوعي والعلم والخبرة الواسعة، والإرادة الكريمة، والدور الجهاديّ، والهِمَمِ العالية، والضمير الحي… إنه السّباق على طريق الله إلى الرِّفعة والكمال.
أما الرجل فهو الشهيد الصدر الأول في عصرنا أعلى الله مقامه.
كانت كلُّ معاركه من معارك الشرف حيث دوره فيها. كانت معاركه من أجل الله… بعيدةً عن الساحة التي يتصارع فيها الملايين، وحتى كبارٌ منهم، هذا ما دلّت عليه سيرته، ما دلّ عليه نضجه، وعيه، خلقه. أبى الرجل الكبير أن يدخل معارك الطين والأرض، وحلبة الصراع، والتنافس والسباق على المناصب والشهرة.
ومسؤولية الأمة أن لا تنسى رجالها الأفذاذ وقممها السامقة لحادث الوفاة، وأن لا تضع نهايتهم بوفاتهم في ذاكرتها ووعيها وسلوكها ومواقفها، وأن لا تقتصر على ميراثهم الفكري الضخم ناسيةً ميراثهم المنقِذ المصوِّب لمسيرتها الذي تُقدِّمه سيرتهم العملية ومواقفهم الصلبة الرسالية الهادية([31]).
والعظماء لا يتطلّعون من مجتمعهم لأكثر من ذلك([32]).
الشهيد الصدر رضي الله عنه وأرضاه من الرجال الذين يصعب قطع الطريق إلى قِمَمِهم، والاستطالة إلى قاماتهم، ولكن لابد مع ذلك من الاقتداء بهم، والتطلُّع إلى ما وصلوا إليه، وأن يكونوا أمثلة فاعلة في حياة الأمة.
إنه رجلٌ عَمِلَ في ظروف صعبة وما قعدت به: شحُّ العيش، وقساوةُ الوضع الأمني، وأوضاعٌ حوزوية خاصّة متحدّية، كثرةُ معجبين ومحبين، وكثرةٌ من حساد، وكلا الأمرين([33]) فيهما مشكلة.
أمَّا المواقف فلا مُنازعة منه على المرجعية رغم قامته العالية، جهادٌ في ظلّ نظام حاكم من أشرس الأنظمة، وفي ظلّ صمت مطبق تحت بطش الحديد والنار لا يخترقه إلا صوتٌ جريء باع صاحبه نفسه لله.
موقفه من الدنيا موقف الترفُّع والشعور بأنَّ المؤمن أكبر من كلّ ما فيها مما يهزم النفوس وتندكّ أمامه إرادات الأقوياء.
وكان الرجل لا لقضية العراق وحدها، ولا لقضية الشيعة وحدهم وإنما لقضية الأمة كل الأمة، ويَشغله هم الإنسانية كلّها.
وعن فكره فهو فكرٌ إماميٌّ علميّ استدلالي مستنير لا يُقيم مسألة من مسائل الإسلام عقيدة وشريعة إلّا على أساس ما يصل إليه من الدليل في تحرُّر من ربقة التقليد، وأسر فكر المحيط.
وله فكره الإبداعي في أكثر من حقل علمي.
وكان للسيد الشهيد (رض) صموده البطوليّ العظيم أمام هول القتل البشع والتعذيب الظالم على يد الطغاة الذي تجرّع آلامه المذيبة، وتجرّعتها كذلك أخته الأبيّة الطاهرة على مرأى ومسمع منه وهو ذو الغيرة التي لا تتحمَّل ما هو أقلّ من ذلك لو أصاب غريبًا أو غريبةً من المسلمين.
ذهب السيد الشهيد وأخته الهاشميّة البطلة في السُّعداء إن شاء الله، وأصحاب الدرجة العليا عند الربّ الكريم.
رحم الله الصدر الشهيد وأخته الطاهرة ورضي الله عنهما وأرضاهما وضاعف لهما الثواب العظيم.
ثالثًا: الحوار والسلاح:
1- أيُّهما الأصل؟ أيهما قبل؟ عند العقل والدّين لا سلاح ما وُجدت فسحة للحوار في أيّ خلاف. وما أسرع دفع الهوى والغرور لحمل السلاح !!
زوجٌ لا يملك عقله، ويُفقده الطيش لأقل سبب صوابَه، ويتبع هواه تُسرع يده إلى لطم زوجته، ورِجله إلى ركلها لأتفه سببٍ وبلا تفاهم([34]).
أبٌ لم يتعلّم الرويَّة، ولا يحضره في مواقفه عقل ولا دين، ويغلبه غضبه لصرخةٍ من ابنه الطفل أو كَسْر شيء أو عبث بأثاث على يده ينزل به العقوبة التي تعيقه.
وحال الهوى في نزاعات الدول، والأحزاب، والحكومات مع شعوبها لا يختلف عنه في حياة الأفراد.
فحيث يكون عقل ودين يكون تريُّث، ومقايسة، وعرض على الشريعة، وتدبُّر في المصير، وتفكير في النتائج وقد ينهي ذلك النزاع، ويُعيد الأمور إلى طبيعتها وقد يُحرك الحرب في عقلانية ورشد وعدل وانضباط([35]).
وحيث لا عقل ولا دين لا لجأ إلَّا للغة السلاح.
في لغة الهوى السلاح قبل بل ولا شيء غير السلاح، وفي لغة العقل والدين الحوارُ أولًا ولا مبادرة أصلًا للسلاح إلّا مع انسداد أفق الحوار وعند الاضطرار. الأقوياء بما عندهم من سلاح يحتاجون إلى ضوابط فعلية ونفسية ودينية أضعاف ما يحتاجه من ليس عندهم قوة السلاح فكيف يصير الأمر إذا ضَعُفت عند القويّ أسباب الانضباط؟([36])
ولا يُؤمِن هذا النوع من أقوياء السلاح بالحوار ولا يُلجأ إليه منهم إلا بعد عجز السلاح وفشل السّلاح.
هاك مثلًا من تونس في تجربتين وإن كان اللجوء إلى السلاح في تونس أقلّ منه بكثير من اللجوء إليه في بلدان أخرى، وإن تمسّك الحاكمون هناك كثيرًا بالسلطة وكابروا شديدًا محاولة التغيير.
ومثلا آخر من مصر في تجربتها الأولى، واليمن، وما تتجه إليه السودان ظاهرًا، ولا بد أن تنتهي إليه ليبيا ومصر في تجربتها الثانية على تقدير فشل وبطلان فاعلية السلاح.
وفي البحرين حكّم الطرف القويّ بسلاحه لغةَ السّلاح، وطال استعمال هذه اللغة، ودمّرت كثيرًا، وفكّكت كثيرًا، وخسَّرت الكثير، وتقهقرت بأوضاع الوطن إلى الوراء في كلِّ الأبعاد بما يُقيم ضرره إلى زمن طويل.
وبعد كلِّ هذا من الغريب أن تنتظر السلطة ما يقنعها ببطلان لغة السلاح وأضرارها البالغة وبؤس وفشل هذه اللغة.
أما ما يكشف عن قناعة الحكومة بهذا الفشل في يوم من الأيام المقبِلة هو أن تُرحِّب بدعوة الحوار الجاد، وأن تبادر هي بهذه الدعوة، وتكشف عن صدق النية وراء هذه الدعوة بتهيئة الأجواء عمليًّا على أكثر من صعيد وفي أكثر من بُعْدٍ لنجاح الحوار وإنتاجيته المرضية.
وهذا ما عليه الدعوات الجادّة للحوار في مختلف البلدان التي عاشت التجاذب السياسي، والتجاذب الأمني.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، ولا تتركهم لهوى النفس وحبّ الدنيا، وكيد الأعداء، ونسيان دينك العظيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([37]).
[1]- يجعل المأمور به أهمَّ من المنهي عنه.
[2]- عيون الحكم والمواعظ ص425 ط1.
[3]- التوحّد يعني أن أنفرد، أن أنعزل، لكن ما هي هذه العزلة؟
[4]- فرقٌ بين أن أقوم بمسؤوليّاتي الدينية اتجاه الناس، وأن لا أودَّ باطلهم.
[5]- موسوعة معارف الكتاب والسنة ج3 ص406 ط1.
[6]- المصدر السابق.
[7]- ليس أمر هذا التسليم هذا الأمر.
[8]- أي في نظر الحق والعدل والحكمة.
[9]- من عرف الله عزّ وجلّ كانت هذه النتيجة نتجةً من نتائج معرفته.
[10]- الكافي ج2 ص60 ط4.
[11]- يعني ما جرى من قضائك عليّ لا يحزنني كما يقول الإمام زين العابدين عليه السلام لأني أعرف أن ليس فيه إلا مصلحتي، وأنه ليس خارج العدل وخارج الإحسان.
[12]- كنز العمال ج1 ص129.
[13]- موسوعة معارف الكتاب والسنة ج3 ص407 ط1.
[14]- من عرف الله عزّ وجلّ كان الله دائما حاضرا في قلبه، في عقله، في تفكيره.
[15]- عيون الحكم والمواعظ ص60.
[16]- المصدر السابق ص376.
[17]- عيون الحكم والمواعظ ص122.
[18]- بحار الأنوار ج97 ص449 ط2 المصححة.
[19]- موسوعة معارف الكتاب والسنة ج3 ص409 ط1.
[20]- هل رأيت نفسك تدعو من لا ترجوه، إذا فعل أحد هذا فقد ارتكب سفهًا.
[21]– سورة التوحيد.
[22]- وكيف أعيش.
[23]- هو سرُّ كلّ ذلك.
[24]- والمستورد من الفكر، والمستورد من الشعور، والمستورد من السلوك.
[25]- من لا يُقدّم كلام هؤلاء، ونصيحة هؤلاء على قول كافر أو فاجر..
[26]- وأبقى مؤمنا حين أقدّم قول الكافر على قول الله؟!
[27]- لا أتحدّث عن أصل حفل الخطوبة، وإنما أتحدّث عن أحوال هذا الحفل في بعض صوره.
[28]- والمخاطَبة هنا ليست الفتاة المخطوبة فقط، المخاطَب الأب، المخاطب الأم، المخاطَب الأهل، المخاطَب المجتمع.
[29]- الموقف السكوتي من الأب، من الأم، من الأقارب، من الحاضرين كلّ أولئك مشاركون في الإثم، وفي هدم الإسلام. تبدأ القضية بانحراف سلوكي لتنتهي إلى انجراف كامل عن الإسلام.
[30]- يا زوج ويا زوجة.
[31]- نحن نبقى نتغنّى بأفذاذ رجالنا الماضين ولكن بلا اقتداء ومع الأسف الشديد.
[32]- أن يقتدي بما كانوا عليه من سيرة عطرة أبناء الأمة وبناتها.
[33]- أن يحبّك كثيرون، أن يعجب بك كثيرون، أن يحسدك كثيرون هو مشكلة.
[34]- مع وجود العلاقة الزوجية المتينة، ولكن الهوى والطيش يفعل ذلك.
[35]- وبحدّ الضرورة.
[36]- وجود السلاح بيدك سبب من أسباب الغرور، سبب من أسباب عدم التوازن، سبب من أسباب الانفلات، فكيف إذا انضاف إلى ذلك انخفاض أو انعدام أسباب الانضباط، فكيف يكون الأمر؟
الحوار، الحوار، الحوار، الحوار لغة الإسلام قبل أي شيء.
ويرتكب جريمة من سدّ أبواب الحوار المنتج المصلح الجدّي الذي يُغيّر عن الظلم إلى العدل.
[37]– 90/ النحل.