خطبة الجمعة (577) 11 محرم 1435هـ – 15 نوفمبر 2013م
مواضيع الخطبة :
الخطبة الاولى : البِرّ
الخطبة الثانية : الدّم المنتصر – أقانون أم قانونان؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جَعَلَ لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدةً، وجَعَلَ لنا منها سبيلًا إلى التشرُّف بمعرفته، وطريقًا إلى الاهتداء إلى نعمة طاعته، والبصيرةِ لأمر الدّنيا والآخرة، والسّلوك إلى الغاية القصوى من رضوانه، والنعيم المقيم الذي أعدّه لأوليائه وأهل طاعته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله اطلبوا لأنفسكم خير الدنيا والآخرة باتّباع منهج الله المتمثّل في الإسلام الحقّ الذي شرّعه لنجاتكم وفوزكم وسعادتكم، فإنه لا خبير بنفس الإنسان، وما يصلحه، وما يفسده كخالقه، وخالق كلّ شيء غيره، ولا علم لأحد بشيء إلا ما علّمه ربّه، فلا احتمال في العقل أن يساويَ تشريعٌ من غير الله سبحانه تشريعه، أو يدنوَ منه.
فمن أراد خيرَ دنياه وآخرته فلا سبيل له إلى ذلك إلا باتّباع منهج ربّه، والتزام طاعته.
ولا ريبَ في خسران من حادَ عن هذا المنهج الحقّ، ومالَ عن هذا الصِّراط القويم. فلا إلى منهجٍ من هنا أو هناك، وإنما كلّ القصد إلى منهج الله، وكلّ الاهتمام والتمسُّك به.
ألا فلنتّق الله الذي لا غنى لأحد عن فضله، ولا رادّ لغضبه، ولا طاقة لأحد بعذابه، ولنطلب رضا الله تبارك وتعالى، وإنْ سَخِطَ من سخط، وعادى من عادى، وحاربَ من حارب.
اللهم صلّ وسلِّم وزدْ وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربَّنا اغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا ومن علّمنا علمًا نافعًا في دينٍ أو دنيا من المؤمنين والمؤمنات.
ربّنا ارحم فقرنا إليك، وذُلّنا بين يديك، واستجارتنا بك، واستغاثتنا برحمتك، وحقّق أملنا في مغفرتك، ونيل الكرامة لديك يا حنّان، يا منّان، يا أكرم من كل كريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث لا زال في موضوع البِرّ:
البرُّ علامة عقلٍ ودينٍ ورجاحة رأي، وسدادٍ ورشدٍ، وهو خُلُقٍ عظيم. ومنه ما هو أعلى شأنا، ومنه ما هو أولى وأشدّ ضرورة، ويمتاز بالرجحان.
ويأتي هذا التفاوت في النوع الواحد من البر وذلك حسب اختلاف المواضع واختلاف الوجوه.
وممن هو أولى بالبر ممن يأتي ذكره هنا:
الوالدان، الأبرار، المحتاج، الأيتام، الرحم، صديق الأب، من لا يغفل برّك، أهل القبور.
وتجد لكل مورد من هذه الموارد شاهدا من النصوص الدينية أو أكثر من شاهد، وليُكتفى بذكر البعض في هذا المقام.
{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}([1]).
عن الإمام الصادق عليه السلام:“جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال: من أبرّ؟قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك([2])، قال: ثمّ من؟ قال: أباك([3])“([4]).
وعن الإمام علي عليه السلام:“خير البر ما وصل إلى المحتاج”([5]).
وعنه عليه السلام:“من أفضل البر برّ الأيتام”([6]).
وكذلك عنه سلام الله عليه:“أوفر البر صلة الرحم”([7]).
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“لا برّ أفضل من برّ أهل القبور، ولا يصل([8])أهل القبور إلا مؤمن”([9]).
وإذا كان البرُّ هو عملُ الخير، والإتيانُ بالإحسان فمنطَلَقُه لابد أن يكون العلم لا الجهل، وصلاح النفس لا فسادها، والأخذَ بهدى الدين، لا ضلال الكفر والعمى، والرشدَ لا الغيّ.
وهو توفيق عظيم يُنال باللجأ إلى الله سبحانه، ويمدّ به من استعان به.
وكلّ ذلك نجد فيه حديثًا من أهل بيت العصمة عليهم السلام.
من ذلك ما عن الرسول صلّى الله عليه وآله:“اللهم وأسألك السعة والدعة والأمن…. والرضا والصبر والعلم والصدق والبر والتقوى”([10]).
وعن الإمام الكاظم عليه السلام:“يا إله الأولين والآخرين بك اعتصمت، وبك وثقت، ارزقنا القسمة من كل بر، والسلامة من كل وزر، يا سامع كل صوت”([11]).
وعن الإمام علي عليه السلام:“إن التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به”([12]).
وكيف لا يدعو التفكيرُ إلى الإيمان الحق بعظمة الآمر بالبر، وجليل وصدق ما وعد به عباده الأبرار فيدفع ذلك إلى البرّ والأخذ به، والإكثار منه؟!
وكيف لا يدعو التفكير إلى البر وهو يعرّفنا قدر ما عليه الدنيا من شأن حقير، وما عليه الآخرة من شأن كبير، وما يعنيه البر من كرامة النفس، وعدمُه من هوانها، وما يؤدّي إليه البر من سموّ، وما يعقبه تركه من انحطاط؟!
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“تعلّموا العلم… يُنزل الله حامله منازل الأخيار، ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة([13])“([14]).
من كان له علم صحيح، ومعرفة نقيَّة صادقة كان له من ذلك مقتضٍ لأن يكون من الأخيار، ويلحق بالأبرار، فينال ما نالوه من منزلة عالية ومقام رفيع([15]).
وما من عمل سيّء أو صالح إلَّا وكان له أثره النابع من طبيعته في ذات فاعله، ومردودُه المناسب له على تفكيره، وشعوره، وإرادته، وجزاؤه الموافق له الذي قدّره ربّه([16]).
الفعل يُحدث ظلمة أو نورًا من جنسه، ويقرُب بالنفس من هداها أو فجورها، ومن الرشد أو الغي أو الانحلال.
فالبر وهو خير، وينطلق فعله من تقدير الخير، وحبِّ الخير، والانجذاب له، وحمل النفس على فعله لابد أن يُعطيَ عطاءه الكريم الوفير في ذات صانعه، وفيما يعود على أوضاعه في دنياه، وعاقبته في آخرته.
وما أعظمَ ما يُعطيه البرّ، وما أسناه، وما أبقاه، وما أكرمه!!
يُعطي التقرّبَ إلى الله، وما معنى التقرّب إلى الله؟([17]) هناك بُعْدٌ عن الله سبحانه، وهناك قُرْب. البعد عنه عزّ وجلّ يكون بسقوط الذات، وتردّي صفاتها بارتكاب الفجور. ويكون القرب منه سبحانه بسموِّ الذّات، وعلوّ صفاتها بالبر والتقوى والعمل الصالح.
فما قَرُب عبدٌ من عباد الله إليه سبحانه إلا بمقدار ما كان له من حظٍّ من كمال الذات ونزاهتها وطُهرها وجمال صفاتها([18]).
عن الإمام الصادق عليه السلام:“المعروف شيء سوى الزّكاة([19])، فتقرّبوا إلى الله بالبرّ وصلة الرّحم”([20]). وإنما يُقرِّب هذا الصنيعُ إلى الله سبحانه لأنه ينعكس بدرجةٍ من الطُّهر والجمال والكمال على ذات فاعله.
وللجمال الذي يدخل به البرُّ على نفسِ من أتى به يكون البارُّ محبوبًا لله، ومحلًّا لرحمته وكرامته.
الكافي عن جميل بن درّاج عن الإمام الصادق عليه السلام:”خيارُكم سُمحاؤُكم([21])، وشراركم بخلاؤكم، ومن خالص الإيمان البرُّ بالإخوان، والسعيُ في حوائجهم، وإنَّ البارّ بالإخوان ليحبُّه الرّحمان، وفي ذلك مَرغمةٌ للشيطان، وتزحزحٌ عن النيران، ودخول الجنان.
يا جميل أخبر بهذا غُرَرَ أصحابك. قلت: جُعِلت فداك مَنْ غَرَرُ أصحابي؟ قال: هم البارّون بالإخوان في العُسر واليُسر”([22]).
ومن آثار البرّ المُطمعة فيه لطالب خير الدّنيا والآخرة والتوفيق في أمرهما:
عُمران الدّيار، زيادة العمر، زيادة الرزق، نزول الرَّحمة، إجابة الدعاء، المحبّة والألفة، انتشار الصِّيت، طاعة الحرّ كما في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”بالبرّ يُستعبد الحرّ”([23])، وقاية مَيتَةَ السوء، تهوين الحساب، نعيم يوم الدّين([24]).
وكلُّ ذلك قد وردت فيه النصوص عنهم عليهم السلام.
ونقرأ عن نعيم يوم الدين قولَهُ سبحانه:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}([25])، وذلك إلى جنب آيات قرآنية كريمة أخرى، وحديث غير قليل.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا من الأخيار لا الأشرار، ومن الأتقياء لا الفجّار، ومن أبرِّ الأبرار، وأسعى السَّاعين إلى رضوانك والجنّة، وأنأِ النّائين عن غضبك والنار يا غفور يا رحيم، يا عفوّ، يا كريم، يا جواد، يا ستَّار.
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}([26]).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يُثيب على الحسنة ويضاعف ثوابها وهي من توفيقه، ويعفو عن السيئة وقد بيّن سوء عاقبتها، وحذّر عباده من عقابها. ويدفع ربُّنا البلاءَ بعد الاستحقاق، ويقبل التوبة من المسرفين على أنفسهم، ويدعو العاصين إلى العودة إلى الرّشد، واستدراكِ الأمر، وطلب المغفرة، والفِرار من النّار، والنجاةِ من العذاب، والأوبةِ إلى طريق الجنّة، وكلّ ذلك تفضُّلًا منه ورحمة، وجودًا وكرمًا، وتعطُّفًا على العباد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله إنّ كلَّ خير الدّنيا، وخير الآخرة بيد الله وحده، فما مِن طالبٍ لخير من خيرهما إلّا ويجده عنده سبحانه، ولا يجد منه شيئًا عند من سواه؛ لأنّ لا أحد ممن سواه يملك من نفسه خيرًا أبدًا.
وإنّ كلّ شرّ من شرّ الدنيا والآخرة أمرُه بيد الله سبحانه، ولا يقع شرٌّ بعبد، ولا يُدفع عنه إلّا بإذنه، فما من فارٍّ من شرٍّ من شرّهما يجد دفعًا لهما عنه غيرَ الله، ولو اجتمع أهل السماوات والأرض على جَلْبِ خير لعبد لم يقدِّرهُ عزّ وجلّ، أو دفع شرّ عنه أراده به لم يملكوا من الأمر شيئا([27]).
وإذا كانت هذه حقيقة الأمر، وهي كذلك لا غير، فإلى شَطْر من يُيمِّم العبدُ بوجهه في قضاء حاجاته، واستدفاع الشرّ عن نفسه من بعد الله الذي لا مالكَ غيرُه، ولا ربَّ سواه، ولا قادر من دونه؟!
فليكن مقصودُنا بالحاجات، واستمطارُنا للخير، وللخروج من السّوء، واستبعاد الشرّ هو الله وحده، وتعويلنا عليه، وثقتُنا به، وطاعتُنا له؛ لا نطلب عنه بدلًا، ولا نُشركُ به أحدًا، ولا نُفارق تقواه، ولا نُبارح صراطه، ولا ننسى فقرَنا إليه.
اللهم لا تجعل لنا ذكرًا شاغلًا عن ذكرك، ولا همًّا يُنسينا عظمتَك، ولا وهمًا في نيلِ خيرٍ على خلاف ما قدّرت، ولا نجاةٍ من شرٍّ على خلاف ما أردت. اجعلنا موحِّدين لك، وعلى يقينٍ بأنَّ مردّ كلّ أمر إليك، وأن المشيئة مشيئتك، لا مشيئة من سواك، وأكرِمنا بلزوم الطاعة التي أمرتنا بها، ولا تُهِنّا بالمعصية التي نهيتنا عنها يا حنّان يا منّان يا متفضّل يا أكرم الأكرمين.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرَّبين، وأيِّده بروح القُدُس ياربَّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيها الملأ الكريم فإلى كلمتين:
الدّم المنتصر:
انتصر دم الحسين عليه السلام والشهداء النبلاء تحت رايته على سيف الباطل الذي شهره يزيد في وجهه حربًا للإسلام، ومحاولة خبيثة للقضاء عليه. وقاتِلُ الحسين عليه السلام مستعدٌّ لأن يقتُلَ ألف نبيّ، وألف رسول استجابةً لهوى نفسه السَّاقطة، وانسياقًا وراء ضلالته. وما سَلَكَ مَسلَكَ يزيدَ سالكٌ واقتدى به إلا هان عليه كلُّ دمٍ وكلّ حرمة من حرمات الله.
والمنتصر هنا([28]) ليس الدَّم بما هو دمٌ، المنتصر في الحقيقة ما وراء الدّم من سموّ الفكرة التي أرخصتَه، وصِدْق الإيمان الذي هوّن بذلَه، وجلال الدّين، وجمال التقوى العامر به قلبُ صاحبه، والعِشقُ الإلهيُّ الذي كان زخّارًا به، وتعلُّقه بدارٍ لا يعدل شيءٌ من هذه الدار الدنيا شيئًا منها، وهدفٍ فوق كلّ هدف، وفوق كلِّ لذّة، وفوق كلِّ نعيم، وهو منتهى الأهداف، ألا وهو رضوان الله تبارك وتعالى الذي لا طلب للبيبِ عقلٍ بعده([29]).
على الدم أولًا أن يطهر ويزكو، ويشفّ ويسمو، ليكون له النصر، وله الخلود.
وما كان لِدَمٍ أن يكون منتصرًا كلّ القرون، وخالدًا وقائدًا إلى الله سبحانه باستمرار إلا دّمُ قلبٍ لا يفارقه ذكر الله، ولا يُخالط توحيدَه له شرك، ولا يكون بذلُه إلا خالصًا لوجهه الكريم([30]).
ودم الحسين عليه السلام من هذا الدم ولذلك انتصر، وسيبقى منتصرًا، ولذلك قادَ أجيالًا على طريق الحقّ، وسيواصل قيادتَه للناس على هذا الطريق، ولذلك كانت له الحرارةُ الدافعة، والطاقة المحرِّكة في قلوب المؤمنين، والتي لا تبرُد([31])، وتدفع دائمًا لمقاومة الظلم، ومناهضة الباطل، والانتصار للحقّ.
وأمَّا الدّم الباغي، والفاسق، والفاجر، وما حرّكته روحُ الطمع الدنيوي، والعصبيَّة الجاهلية، وشهوات الأرض، وهوى التسلُّط، ورغبة الاستكبار على النّاس فهو دم ساقط، ودمٌ هباء، وضياع، وسُبّة، وعار، ولا مكانة لهذا الدّم القذِر في نفس إنسان يعيش الكرامة الإنسانية في نفسه.
إنما كانت ثورة الحسين عليه السلام الشمسَ التي لا تغيب، والمدَّ الذي لا يُقهر، والطاقةَ التي لا تنفد، والمحرِّكَ الذي لا يتوقَّف، والهداية التي لا تنطفئ لأنها كانت ثورة الحسين عليه السلام حيث هو الإمام الحقّ… ثورةَ ذلك الدّم الطاهر الزكي الرسالي المشعّ بالإيمان… ثورةَ الإسلام بكلّ حقيقته وأصالته ونورانيته التي هي من نور الله عزّ وجلّ وهداه. {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}([32]).
وحرارةُ الدفع لهذه الثورة، وحرارةُ المأساة التي ارتكبتها أمةُ الإثم في حقّ ابن نبيها العظيم صلَّى الله عليه وآله إنَّما هي وفي كل الأجيال في قلوب المؤمنين([33]) الذين يُوصِلُ عقولَهم بعقل الحسين عليه السلام ما لهم من سلامة عقل، وسلامة تفكير، وسلامة خيار في هذه الحياة، ويوصل قلوبهم بقلبه ما فيها من إشعاعات الإيمان، وأرواحَهم بروحه ما هي عليه من درجة طُهر روحٍ وزكاة. لهم هدف من هدفه، همٌّ من همّه، إرادةٌ من إرادته، لهم حبٌّ لله سبحانه، وانشدادٌ للحقّ مما للحسين عليه السلام من حبِّ ربّه عزّ وجلّ، وما له من انشداد للحقّ وذوبان فيه.
وهذا ما يجعل لمأساته عليه السلام حرارة في قلوبهم، ويجعل ثورته مشتعلة نارها في نفوسهم، ودفعها حيًّا في وجودهم وحياتهم([34]).
ولأن ثورة الحسين عليه السلام ثورةُ الحقّ، وثورةُ العقل، وثورةُ الدين والضمير، وثورة الحريّة والانعتاق فإنّ لها انتصارًا من كلِّ إنسان بقدر ما يعرفه من الحقّ، ويعرف الحسين عليه السلام، ومن كلّ ذي عقلٍ بمقدار ما له من عقل، ومن كلّ ذي دينٍ وضمير بما هو عليه من حاقّ الدّين، وصِدْق الضمير، ومن كل عاشق للحرية، وتوّاق للانعتاق. ذلك بغضِّ النظر عن المكان والزمان وفارق الجنس، والعنصر، والانتماء.
وكما كانت ثورة الحسين عليه السلام من أجل كلِّ إنسان، وكلّ الأجيال، وكلّ الأمم، فإنّ كل إنسان ذي إنسانية يلتقي مع الحسين عليه السلام في ثورته وأهدافها وقيمها وأخلاقيّتها العالية، ينتصر له ولثورته المباركة بما يكون له من احتفاظ بإنسانيته وإحساس بها، ومعرفة بالحسين عليه السلام والثورة.
كلُّ من يرى أنَّ لدم الإنسان حرمة، وللإنسان نفسه حقَّ الحياة الكريمة، والتمتّع بالحريّة البنّاءة النظيفة الراقية، والأمن اللائق به، وأنّ له كرامة لا يصح أن تُهدر، فلابد أن يكون مع ثورة الحسين عليه السلام ونصيرًا لها، إذ لا هدف لثورة الإمام عليه السلام وهي تطلب رضوان الله سبحانه، وتنطلق من هدى دينه، ولا تتعدى الدين الحقّ في كل ما تأتيه وتدعُه، وتهدف إليه إلا حريّةُ الإنسان وكرامته وسعادته([35]).
وما أعظم الحسين عليه السلام!! وما أصدقه مع الله تبارك وتعالى، وما أسمى ثورته!!
تساقطت أجساد الشهداء يوم كربلاء لتستقرّ في ثراها المضمّخ بدماء الشهادة في سبيل الله، ولترتفع الأرواحُ زكيّة راضية مرضية لبارئها لتجد عنده الكرامة والنعيم…… تساقط الشّهداء أجسامًا حتى آخر نصير، وأُفرد الإمام الحسين عليه السلام بين عساكر بن زيادٍ ويزيد من جحافل الضلال ليكون مرمى كلّ السهام، ومقصد كلّ الرّماح، ومهوى كلِّ السيوف، وليكون وهو المفرد الوحيدُ كلَّ الإيمان الحقّ، وكلَّ العزم، وكلَّ التصميم، وكلَّ الشَّجاعة والثبات…. ليكون الإسلامَ في أجلى صورة، وليحيا على يده في تلك اللحظات الصعبة الحاسمة المريرة كلّ التاريخ الحافل بصمود وتضحيات وبطولات الأنبياء، وقوةِ إيمانهم القاهرة، وليكون وهو وحده بلا ثانٍ في تلك الحال الأمةَ الإسلامية كاملةً([36]) حيث يكتمل لها إسلامها، وحيث تعتنق بصدق وجدٍّ إسلامها، ويخلص توحيدها، ولا ينال من هُداها وإخلاصها لله سبحانه ظرف من الظروف، ولا تلين عزيمة لها على طريق ربّها العظيم أمام قوى الأرض جميعًا وكلّ طواغيتها، ولِيُقدّم دليلًا على عظمة الإسلام، وما يعطيه النفسَ البشرية من قوّة الصمود عن وعي، وفي سبيل إحقاقِ الحقّ، وإبطال الباطل وإن يكن ما يكون([37]).
أقانون أم قانونان؟
تصدر في البحرين أحكامٌ قضائية مشدّدة قاسية على طرفٍ هو طرف أبناء الشعب، أما الطرف المنتسب لأجهزة الدولة فإذا صدر في حقِّ بعض أفراده حكم صدر مخفَّفًا، ثم قد يزداد تخفيفًا.
هذا الأمر إذا كان القضاءُ يملك له تفسيرًا، فمن أراد أن يقف موقف الحياد لا يجد له تفسيرًا مفهومًا مقبولًا، إلّا أن يعتقد بعصمة القضاء والقضاة، وليس على ذلك من دليل.
وإذا كان القضاةُ يُصيبون ويخطئون شأنهم شأنُ غيرهم من غير المعصومين عليهم السلام فالمتوقّع مع ذلك والطبيعيُّ في الأمر أن يتوزَّع الصوابُ والخطأ بين الأحكام من غير أن يُلازِم الخطأُ الأحكامَ المتعلِّقة بهذا الطرف من المدّعى عليهم، ويكونَ الصواب دائمًا في الجانب الثاني([38]).
أو أنَّ هناك قانونين أحدَهما أحكامه مشدّدة وهو من أجل فئة معيَّنة، والآخرَ أحكامه مخفّفة ويختصُّ بفئة ثانية؟!
أو هو قانون واحد يُساوي بين كل المواطنين والمقيمين والمستورَدين لخدمة الدولة ولكنَّ تشخيص القضاة لا ينتهي في كلِّ مرة إلا إلى ما يقتضي تشديد الحكم في حق هذه الفئة، وتخفيفه في حق الفئة الأخرى، وما ذلك إلّا من فعل تفاوت الحظِّ ولعبة اليانصيب ولكن بصورة يُلازم فيها الحظُّ السيّءُ هذا الطرف، والحظُّ الحسن مُقابِلَه؟! هناك ملازمةُ من الأحكام المشددة من مثل السجن المؤبد، والسجن لمدة عشر سنوات، وخمسة عشر سنة والإعدام لجنايات لا يثبتها إلا التحقيقُ تحت ويلات التعذيب، والذي يُعلن أصحابُه أنهم أكرهوا عليه تحت العذاب الثقيل([39]) لطرف هو أبناء الشعب، وهناك ملازمةٌ أخرى من أحكام مخفّفة من مثل أحكام عشر سنوات قد تنتهي بالتخفيف إلى ثلاث سنوات لمن يَقْتُلُ تحت التعذيب، والذي تثبته التحقيقات المحايدة فيما يخص ما يجري داخل السجون ومتابعةَ حالات التعذيب، وأحكام البراءة لمنتسبي السُّلطة…. هذا التباين في طبيعة الأحكام وبصورة ثابتة ما مردُّه؟
هل لا مردّ له؟ هل مردُّه خارجٌ عن الاختيار؟ هل القول الصدق أنه أمرٌ مراد؟
إن لم يكن الاحتمال الأخير هو الصحيح، فالاحتمالان الآخران لا يوجد لهما مكان أبدًا عند الشعب، ولا عند منصف محايد، ولا عاقل له تدبُّر.
ومشكلة الاحتمال الأخير([40]) أنَّ من يتفوّه به استحقّ العقوبة في نظر السلطة، وكان من المجرمين.
يقول لك العدل الخاص بهذا البلد ابحث لك عن أيّ وجهٍ لما لا تفهمه، ولا يقبله عقلك، وضميرك، ويرفضه ما أنت عليه من دين، ولكن لا ترمِ السلطة بظلم، ولا تنسب للقانون، ولا القضاء الخلل، وحتّى الخلل عن خطأ، وإلّا فأنت محرّض على النظام، وإرهابي، ودورُك دورٌ تخريبي خطير، ولا تلم إلَّا نفسك([41]).
اللهم صلّ على حبيبك المصطفى محمد وآل محمد، واسلك بنا مسلكهم، وأحينا محياهم، وأمتنا على مِلَّتِهم، وابعثنا في زمرتهم، واجعل منقلبنا منقلبهم، ومأوانا مأواهم يا كريم يا رحمان يا رحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([42]).
[1]– 14/ مريم.
[2]– وهذا التكرار للتأكيد والتركيز.
[3]– ويأتي الأب في المرتبة الثانية.
[4]– جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي ج21 ص433.
[5]– عيون الحكم والمواعظ ص238 ط1.
[6]– موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) للشيخ هادي النجفي ج12 ص298 ط1.
[7]– عيون الحكم والمواعظ ص118 ط1.
[8]– يعني من الصلة وليس من الوصول الظاهر.
[9]– كنز العمال ج15 ص656.
[10]– مصباح المتهجد للشيخ الطوسي ص42 ط1.
[11]– بحار الأنوار ج92 ص449، 450 ط3 المصححة.
[12]– بحار الأنوار ج68 ص328 ط3 المصححة.
[13]– تلك مجالس رفيعة، مقامات شامخة، العلم الصحيح يرفع صاحبه إليها.
[14]– الخصال للشيخ الصدوق ص522، 523.
[15]– العلم يعرّفك مقام الله، العلم يعرّفك قدر البر، العلم يعرّفك ما عليه وزن الدنيا، ما عليه وزن الآخرة، وتعرف من العلم ما هو الفارق الكبير الشاسع بين ما عليه شأن الدنيا، وشأن الآخرة، وبذلك تعمل البر بالعلم فيرفعك الله عزّ وجلّ إلى مقام الأبرار.
[16]– ما من عمل صالح أو سيء إلا وله كل ذلك.
[17]– نحن نقول قربة إلى الله، ونعمل العمل بقصد التقرّب إلى الله، فما معنى تقرّبنا إلى الله؟
[18]– القرب للجميل لا يكون إلا بالجمال، للكامل لا يكون إلا بالكمال.
[19]– الزكاة شيء، والمعروف شيء آخر، ذاك واجب لابد منه، هناك معروف أوسع دائرة من دائرة الواجب.
[20]– موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) ج10 ص337 ط1.
صلة الرحم بصورة إجمالية واجبة.
[21]– أي أصحاب الكرم، الذين يسمحون بما بيدهم من الدنيا من أجل الله.
[22]– الكافي ج4 ص41 ط3.
غُرر: واجهة المؤمنين، قمّة في الإيمان.
[23]– عيون الحكم والمواعظ ص185 ط1.
[24]– كلُّ ذلك آثار مباركة للبر.
[25]– 13/ الانفطار، 22/ المطففين.
[26]– سورة التوحيد.
[27]– لمن أعبد، من أطيع، لمن أستكين، ممن أرجو، ممن أخاف؟ أمع هذا الواقع أشرك بالله أحدًا؟!
[28]– قلنا انتصر دم الحسين عليه السلام والشهداء على سيف يزيد وعساكره، فمن هو المنتصر حقًّا؟
[29]– هذا هو المنتصر.
[30]– ذلك هو الدم الذي يبقى رغم تقادم الزمن ومرور الأيام والليالي والسنين.. يبقى حتى آخر إنسان على وجه الأرض.
[31]– أثران: حرارة المصاب، ودافعية الثورة.
[32]– 32/ التوبة.
[33]– في قلوب من هذه الدافعية وهذه الحرارة؟ في قلب الفاسق، في قلب الفاجر؟ لا، في قلوب المؤمنين.
[34]– هتاف جموع المصلين (أبد والله ما ننسى حسينا).
[35]– ليس الإنسان في الجزيرة العربية، الأمة العربية، أو جغرافية محدودة، بل كل إنسان، وفي كل الأجيال.
[36]– ولكن الأمّة في أيّ حالاتها؟
[37]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا حسين).
[38]– لابد أن نجد خطأً هنا أحيانًا وخطأ هناك، شدّة هنا أحيانا وشدة هناك، تخفيفا هنا أحيانا وتخفيفا هناك.
[39]– حال ما تحصل لهم فرصة الكلمة الحرّة بعض الشيء يُعلنون هذا الإعلان أنهم أُكرهوا عليه تحت العذاب الثقيل.
[40]– وهو أنّ هذه المفارقة بين النوعين من الأحكام مفارقة مرادة.
[41]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
[42]– 90/ النحل.