مقال : قاسم والغياب الصعب
قاسم، والغياب الصعب
محسن البحراني
بعد طول غياب عن المحبين، واستمرار كريهِ البين مع العاشقين، عاد سماحته في طلّته البهيّة، وبطلعته السنيّة، ليأخذ بمجامع القلوب كعادته، ويناغي ألباب العقول بحكمته..
لقد كان لعودته هذه المرّة مذاقٌ آخر؛ حيث اعتدنا تجديد الشحن الروحي والفكري بمعيّته في يوم الجمعة من كلّ أسبوع، فكيف وقد غاب بدره عن فلك محرابه طيلة أسبوعين؟! بقينا فيها كالحيرى، لا ندري إلى أين نتّجه، وعمّن نأخذ، ولو لا منّة الله علينا بعبده الصالح، سماحة الورع التقي، العلامة السيد عبد الله الغريفي (حفظه الله تعالى)، لكانت نار الفرقة أشدّ، وأوجع، ولكنّ لله تعالى حكمة، يعلمها هو سبحانه، وليس منّا سوى التسليم، والرضا بقضائه عزّ وجلّ..
بعد هذه المقدّمة، قد يرى البعض فيّ شيئًا من الغلو تجاه شخصية سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله)، وشخصيًّا، لا أرى في ذلك أيّ عيب؛ فبعد أن يقتنع أحدُنا بقيادة ما، فإنّ الحالة الطبيعية المتوقّعة هي أن يتّجه الأتباع إلى تعظيم قائدهم، وهو حاصل لدى الجميع، فلماذا يحرم ذلك حين تصل النوبة إلى قاسم؟!
وكيف كان، فإنّني أجد بموضوعية، أنّ هذا الرجل جدير بالقيادة، ولا ألزم أحدًا برؤيتي، وعلى هذا الأساس أعمل، ومن مقتضيات ذلك، هو أنّني أربط فكري السياسي، وحركتي في الشأن العام – وفي أيّ مجال من مجالاته – برؤية هذا القائد، وأجد أنّ غيابه عن منبر التوجيه والإرشاد مشكلة كبيرة؛ لأنّني أؤمن أنّ مسألة القيادة لا ينبغي أن تنقطع في إرشاداتها؛ لأنّ الظروف الصعبة الّتي نمرّ بها، تحتاج إلى توجيه مباشر غير منقطع، ومن خصوص شخصيّة حكيمة، ذات خبرة، وكفاءة، وفقاهة، أجدها في قاسم..
ورغم ذلك، فإنّ شخصيّة بهذا الوضوح لم تسلم من النقد، أو إثارة التساؤلات حولها، وكذلك ليس في ذلك عيب، حين يُحدّ في حدود الموضوعيّة، والأدب، فالكلّ حرّ في اختيار قائده حسب قناعاته، ولكنّ المشكلة هي حين توجّه هذه الانتقادات ضدّ هذه الشخصية الدينية والوطنية الثقيلة، وكأنّها توجَّه إلى طفل لم يبلغ الحلم!!
ولأمثّل ذلك بما سمعته في نقد قاسم من أناس متنوّعين في ثقافاتهم، ومختلفين في مستويات أذهانهم، حيث قالوا – ويقولون – بكلّ بساطة: ما الّذي يقوله قاسم من على منبر الجمعة طيلة أكثر من سنتين؟! ما الّذي قدّمه للناس؟! الكلام يتكرّر، ولا جديد!
لا أعرف ما هي منطلقات هؤلاء في إثارة مثل هذا التساؤل، ولا يهمّني ذلك؛ حيث لم نكلَّف بمحاكمة النوايا، ولا أريد أن أقع في ما وقع فيه الكثير منهم، إلّا أنّني أتساءل من جانب آخر عن الجديد الّذي قدّمه كلّ الشعب، بكافّة فصائله، وبمختلف قياداته المتعدّدة، تجاه الثورة المباركة..
هل سنقول: إنّ الشعب لم يقدّم الجديد؟! حيث يهتف في كلّ مسيرة بنفس الشعارات، وينادي بنفس المطالبات، ويؤكّد على عدم التنازل، أو التراجع، فما هو الجديد؟!
التضحيات مستمرّة، والانتهاكات مستمرة، وها هو الشهيد يسقط تلو الشهيد، والحال على ما هو عليه من كلّ الأطراف، فهل سنقول: (لا جديد)؟!
إنّ طريقة التفكير هذه خاطئة حسب اعتقادي؛ فهي طريقة تفكير سلبية، لا تصدر إلّا ممّن يعيش استعجالًا في تحصيل النتائج، ممّن نفد صبره، أو قلّ عزمه، أو ربط نجاح قضيّته بسراب، فتتناقص همّته كلّما اقترب من هذا السراب، كي يعلم أخيرًا أنّه سراب، لا نصيب له من الواقع!
وهنا يأتي دور الارتباط الروحي والفكري بشخصيّة فذّة كشخصيّة قاسم، حين يكرّر، ويكرّر، كما يكرّر غيره، إلّا أنّه تكرار استثنائيّ لا بدّ منه، به يحفظ سماحته اتّجاه البوصلة، وبه تتجدّد روح الثورة في من ضعف بمبادئها الأصيلة، وبه يبقى الحراك متوهّجًا، يستمدّ وضوح الرؤية من الإسلام، على يد الخبير، البصير، بعيدًا عن الاجتهادات الجريئة الّتي تصدر من طفل هنا، أو ساذج هناك..
نحن نعيش الثورة، والثورة هي هي، بنفس المنطلقات، بنفس الأهداف، بنفس الأسلوب إلا ما ندر، ولذلك هي تفرز نفس النتائج، فقط ما نحتاج إليه هو: المحافظة على المبادئ، لنسير نحو النصر على خطى واثقة، لا تبتعد عن الهدف الأصيل، بأن تشوبه بالأمر الدخيل، والتكرار المرشَّد، والموجِّه، هو الحلّ..
ولو صحّ ما قاله هؤلاء، لورد على الأنبياء(ع)!! فما هو الجديد الّذي قدّمه كلّ نبيّ لاحق، جاء خلفًا للسابق؟! أليست الدعوة هي الدعوة؟! والمضمون هو المضمون؟! فلماذا احتاج الناس للتكرار؟! فقط التكرار؟!
وفي هذا السياق أفهم ما جاء في خطبة سماحته بعد طول غياب، حين قال (مكرّرًا): (الشعب هنا لا يربط مصير حراكه بأيّ نوع من الظروف والمعادلات السياسية في المنطقة، أو في العالم، إيجابيّة كانت أو سلبية، وهو آخذ على نفسه أن يستمرّ في حراكه العادل المسالم، مهما يكن من أمر هذه الظروف، والمعادلات)[1]..
حفظ الله لنا هذا القائد، وأطال في عمره ذخرًا، وتاج عزٍّ، وفخر، تتحقّق تحت ظلّه الوارف معاني الانتصار على النفس أوّلًا، وعلى الطاغوت ثانيًا، بإذن الله تعالى.
الهوامش:
1) خطبة الجمعة، جامع الإمام الصادق (ع) بالدراز، بتاريخ: 14 ذو الحجة، 1434هـ، الموافق: 18 أكتوبر، 2013م.
مجلة رسالات | الاثنين 21 أكتوبر 2013م