لقاء مع الطلبة الجامعيين بمأتم السنابس – 13 سبتمبر 2013م
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم للطلبة الجامعيين في لقائه معهم بمأتم السنابس الكبير والذي نظمه المركز الشبابي التابع لجمعية الوفاق – 13 سبتمبر 2013م:
للمشاهدة :
نص الكلمة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا.. هذه هي الوصية التي تلقيناها من بيت الرسالة، أن نكون زيناً لهم، وهم زين الحياة، زين هذه الدنيا، وهم الأنوار الساطعة فيها، والتمسك بهم هو المنجي في الآخرة، ومحقق للغاية التي خلق من أجلها الانسان، فلنكن عند وصيتهم سلام الله عليهم.
هذا حديث بسيط معكم.. قوام الشخصية الانسانية علم وإيمان، الشخصية الانسانية المعدة لغاية كبيرة ودور كبير، ولغاية ترتبط بالآخرة.. ماذا يجعل الانسان على كفاءة عالية بالقيام بدوره المطلوب؟ وماذا يبلغ به غايته؟ لابد من هذه المهمة بشقيها من علم وإيمان.
الانسان بلا علم قريب في حالته من حالة الحيوان من حيث القدرة على التغيير، على الصنع، على التطوير، وهو بلا إيمان يمكن أن يكون قوة مادية هائلة ولكنه في نفس الوقت حيوان مفترس وبهيمة سائبة، وكلا الأمرين يجعل الإنسان بعيداً عن مستواه معاكساً لما خلق من أجله دور الصنع والتغيير والغاية الكبرى أن تنمو إنسانيته وأن يكمل.
لابد من علم وإيمان اذا فكرنا في نهضة دنيوية، في تحسين مستوى إجتماعي، في تحسين مستوى الأمة.. لابد أن نطلب العلم، ولابد من إيمان وإلا أدى بنا العلم بلا إيمان إلى أن نكون الظلمة الباغين المفسدين، وأدى بنا إلى أن نهدم الحياة بعلمنا وأن نفسد البيئة ونفسد الإنسان.
علينا أن نطلب القوة لتكون القوة بيدنا ولكن بحيث تكون رحمة للناس، نطلب القوة لتكون القوة بيدنا ولكن أيضاً لتكون رحمة للناس، أي ناس؟ كل الناس.. أي شعب؟ كل الشعوب.. أي أمة؟ كل الأمم.. أن تكون سعادة لهم لا شقاء.. كيف نبلغ هذا؟ كيف نبلغ أن تكون قوتنا رسالية؟ ورسالتنا في الأرض هي الايمان والأمن والسلام والعدل..
لنا رسالة في الأرض هو أن نأخذ بأنفسنا وبالآخرين على هذا الطريق، على طريق القوة الصالحة.. على طريق العدل والأمن والسلام، وليس لذلك من سبيل إلا بسلوك طريق الايمان، وأن تكون الرحلة لله سبحانه وتعالى..
أول الرحمة بالناس أن نرحم أنفسنا، من لم يرحم نفسه لا يتوقع منه أن يرحم الآخرين، وقد يتراءى لي أني أرحم نفسي، ولكنني واهم، الرحمة بالنفس ليس أن أشبع هذا البطن، ليس أن أجمع مالي ومال الآخرين من حصة في هذه الحياة، ليس أن أتبذخ في جاهي.. وأن يكون لي سلطان على الناس.. اذا كنت أتصور أن الرحمة بنفسي تتحصل من خلال هذه المفردات وأكثر منها فأنا أعيش وهماً عميقاً جداً..
لا تنفصل رحمة الانسان لنفسه عن بناء ذاته، البناء الذي يسمو بها، ويجعلها قوية في داخلها قبل أن تكون قوية في الخارج، وقوة الذات إنما هي استمساك منها أمام كل التحديات والآغراءات والشهوات، وأن تكون دائماً قاردة على التفوق والنهوض من الكبوة، على تجاوز ما يحدث بالضعف وما يحدث بالسقوط..
نفس لا تملك شهوتها نفس لا تسعد، نفس لا تستمسك أمام قوتين قوة الاغراءات المادية وقوة التهديد المادي هذه نفس وهي لا تستمسك هذا الاستمساك واهنة ضعيفة لا يمكن أن تقود نفسها فضلاً أن تقود حركة الحياة..
نعم اذا أردنا أن نرحم الآخرين فعلينا أن نرحم أنفسنا أولاً، ورحمتنا لأنفسنا ببناء ذواتنا البناء الذي يضعها على طريق الغاية الصحيحة، ويجعلها لا تنهزم أمام أي موقف من مواقف هذه الحياة..
علينا أن نفهم الرحمة بالنفس والرحمة بالغير، وهي لا تنفصل عن هذا المطروح، وهو أن تبني ذاتك في داخلك، قبل أن تفكر أن تكون قوياً في الخارج.
والايمان والعلم وكل القوة طريقها الجهاد والسعي، والتحامل على النفس، ومعاندة عوامل الضعف فيها، الانشداد للدنيا ضعف، والتبجح ضعف، الغرور ضعف، ونسيان الرب ضعف، ونسيان الآخرة ضعف..
وكما علينا ان نكون على جهاد دائم وسعي دائب في مواجهة عوامل الضعف في الداخل، علينا أن نواجه عوامل الضعف في الخارج، وما يفرض علينا الضعف من الآخر..
سعينا يجب أن يكون لا ببناء أمة عضلاتها قوية، وآلتها قوية، وارادتها أمام شهواتها ضعيفة.. البناء الذي يريده لنا ديننا لذواتنا وللانسانية هو بناء كما سبق لداخل الانسان في ل هذه الدوائر قبل أن يكون بناءاً لما يقيمه في الخارج من صروح مادية شامخة..
علينا أن نطلب القوة المادية إلى أقصى حد، لنا ولمجتمعنا ولأمتنا وللانسانية كلها، ولن علينا أن نوجد لأنفسنا ومجتمعنا وللأمة والانسانية الارادة القوية التي تحكم القوة المادية التي تتمتع بها اليد، ما لم يكن كذلك فالقوة ضد الآنسان، هي عليه وليست له.
انه يتقدم في الصناعة ليقتل نفسه، يتقدم في مجالات كثيرة ليضل عن الغاية، ليهوى ويسقط، وينشر الفساد بقدرة أكبر..
مطلوبنا يجب أن يكون أمة راقية ذاتاً أولاً، ثم راقية أوضاعاً على الأرض وفي خارجها. والقوة في الذات أصعب في بناءها من القوة في الخارج.. جرب مع نفسك أن تقلع عن عادة من عادات لا ترضاها، تجد العملية ليست سهلة.. واذا اجتمعت عيوب كثيرة ونواقص كثيرة في هذه الذات فإن طريق التخلص من تلك التبعات وعوامل الضعف تبلغ حد الصعوبة..
تجده يبلغ حد الفقاهة، حد الاستاذية، لكنه من جهة أخرى يبقى الطفل المهزوم أمام شهواته ورغباته، ويبقى الانسان المهزوز أمام أي حادث من حوادث الحياة، لقد جاهد وصبر وكافح وقاوم على طريق العلم والمعرفة المتلقاة من الخارج على مستوى الفهم والحفظ، ولكن يبقى تمثل المعرفة، بناء الذات في ضوء المعرفة، استقامة الذات أمراً يصعب عليه.. هذا مع الذات فكيف ببناء الأسرة والمجتمع والأمة والانسانية؟ ولذلك لم توكل مهمة البناء في الأرض لعقلية الانسان ولإرادة الانسان دون قمة النبوة والرسالة.. أصل العملية وقيادة العملية تطلبت في تقدير الله سبحانه وتعالى أن يأتي نبي ورسول وإمام.. المهمة صعبة جداً..
وعلى صعوبة المهمة ومشقة الطريق وبعد المسافة لابد أن يكون لنا طموح وطموح كبير يتناسب مع موقعنا الايماني والرسالي في الأخذ بالذات والمجتمع والأمة والانسانية إلى طريق هداها.
وأنتم أيها الأعزاء من طلاب الجامعة وطالباتها، أنتم ستكونون ما ستكونون عليه في الغد من خلال ما تكونون عليه اليوم، وأنتم لمستقبل أنفسكم ومستقبل هذا الوطن ومستقبل الأمة كلها أمامكم طريق طويل وأمامه عليكم جهد ضخم.
من تكون اليوم من ناحية خلقية؟ من تكون اليوم من ناحية إيمانية؟ من ناحية علمية؟ من ناحية الصبر؟ من ناحية الحيوية والنشاط؟ لن تكون غداً أكبر من اليوم، اليوم يوم شبابك، اليوم يوم بناءك وتفتح ذهنك.. أنت غداً من جهدك اليوم، ومن انتمائك اليوم، ومن جهادك اليوم، ومن قدرتك على مقاومة عوامل الضعف في النفس من كل حيثية وجهة..
تكن اليوم قوياً تكن غداً قوياً.. اذا تعلمت اليوم الهزيمة والكسل والاهمال، اذا لم تنافس فيما يحسن فيه التنافس، اذا حدثتك نفسك بالقعود والتساهل الخلقي، اذا انهزمت اليوم أمام شهواتك فأنت غداً مهزوم لا محالة.. إلا ما يشاءا لله..
في الجامعة كما في كل الساحات، ألوان من التحدي، كلها تحتاج إلى مقاومة وقوة وصلابة وخلق ودين.. أنت ما لم تثبت على هذه المستويات فلابد أن تذوب وتتلاشى أمام تحديات في الجامعة وفي أي ساحة من ساحات الحياة الأخرى..
وأقول لك عزيزي ليكن حقل دراستك من حقول الدنيا.. لا بأس وممتاز.. ولكن لتتخذ من منظاراً يدل بك الى الدين.. لا يكن همك علمك الدنيوي، لا يأخذك الاعجاب به، لا ترضى بنفسك أن تقف عند حده، اتخذ منه مظاراً يدلك على صدق الدين وعظمته.. هذا الدين أعظم من كل هذا الدين من هدى يمكن أن يستعطيه من هذه المدرسة أو تلك، من هذه الجامعة أو تلك.
اتخذ من علمك الدنيوي طريقا لله، وأنت في دراستك الاكاديمية، ذاك في دراسته الفقهية، ذاك يطلب منه أن يكون مخلصاً.. أنت في جامعتك ترتبط بهذا العلم الدنيوي، ولكن وأنت تسابق الدارسين الدراسة الدينية سابقهم في أن تخدم دينك، وتنقذ إنساناً أو وضعاً إجتماعياً وتكون قوة بيد الدين.. أن تتقرب بهذا الى الله سبحانه وتعالى وأن يكون لك سبيلاً بأن تتبصر في آيات الله بدرجة أكبر وأكبر..
وعليك أن تنافس في أمر آخر.. عليك أن تنافس أهل الحوزات في أمر آخر.. أن تنافس النماذج العالية من أهل الحوزة من أهل العفة عفتم وخلقهم وتقواهم، كن عابداً في دراستك الجامعية، اكسب ثواب العابد وأنت تدرس الهندسة أو الطب أو أي اختصاص آخر..
جامعتك مدرسة وهي واحدة من مدارس، فكل ساحات الحياة مدارس.. فلا تنس أن تعيش دائماً طالب علم حتى الوفاة.. وطالب حقيقة وطالب وعي ونضج وروح عالية وارادة خيرة صلبة قويمة وقدرة على الصمود، نحن لا نتعلم ملعومات نظرية فقط، جزء من ذلك نظرية.. وتبقى أمور أخرى كثيرة..
طلب الحقيقة، طلب الروح العالية، الارادة الخيرة، القدرة على الصمود أمام تحديات الحياة، وضعف النفس في كل آنات الحياة التي نحياهاو والساحات التي نخوضها..
أنت قوي في البحرين تنتقل إلى أمريكا تنهزم؟ تنتقل إلى جو مغرياته أكبر وخالٍ من الرقابة ومشجع للرذيلة، تنهزم؟ اطلب لنفسك ذاتاً أقوى من الظروف العاتية العاصفة..
ما تقدم كله دروس نتحتاج تعلمها، وكل تلك الساحات دروس حتى تأتي لحظة الوفاة..
أعود فأقول لا تنسى عزيزي أنك غداً منن مستوى جهدك اليوم، ومن مستوى صبرك على الطريق، ومستوى اصرارك على الانتصار، فإن تكن الرجل اليوم تكن الرجل غداً، وإن تكن الطفل اليوم تكن الطفل غداً.. مرتعد ساقط أمام أي شهوة وأي رغبة..
لا انتصار لك اليوم أو غداً إلا ما كان فيه رضى لله سبحانه، النصر في غضب الله هزيمة، التقدم في غضب الله تخلف.. ما كان النصر هو ما كان مرضياً لله.. خطوة للأمام ولكن بشرط أن تكون خطوة للأمام في الداخل..
تحقيقك موقعاً متقدما من المواقع التي ترضي بارئك العظيم، ورقياً في إنسانتيك هو النصر.. ولا تكون نصراً إلا بأن تكون إنتصاراً للذات وكل ما خالف ذلك هو هزيمة وتخلف ورسوب..
أين نجد طريق عزتنا؟ طريق العلم البناء، القوة.. ليس لأهل الأرض كل أهل الأرض من طريق سوي واصل بعيد عن الانتكاسات كطريق الدين..
اطلبوا الدين بحيث يكون فهمنا للدين صحيحاً.. وأن نكون عبيداً للدين في فهمنا للدين، وأن لا نكون سادة عليه نفرض عليه فهماً خاصاً..
فهم الدين هو بناء الذات على طريق الدين هو سر السعادة في الفرد والمجتمع والانسانية كلها.. الطرق كثيرة السبل متعددة، فكن وأنت في باكورة حياتك على وعي شديد وقف الوقفة الدقيقة المحاسبة لهذه الاطروحات والدعوات المتعددة وأنت لا تحتاج إلى دراستها الدراسة المعمقة حتى تقارن بينها..
لو وقفنا.. ورجعنا إلى أنفسنا فيما ألهمها الله من هدايات وأنوار وحاسبنا القضايا الرئيسة، العقيدة، الرؤية الكونية، للانسان، للدنيا.. ارجع إلى نفسك وإستفتِ صدرك محاولاً التخلص من رواسب هنا وهناك، ومن مؤثرات فوقية وبيئية واسمع ما يقول لك صدرك.. أن تتوج لله أم لغير الله؟ أن تبيع حياتك لله أو لغير الله؟ أن تقضي هذه الحياة جهاداً أو تقضيها رحلة انتكاسية تتوجه إلى حيث انحدار حيث الشيطان والأرض.. إما أن نصعد، إما أن نلتصق بالأرض أو نتوجه للسماء.. وحاجة النفوس إلى السماء حاجة دائمة وثابتة ومن كان مرجعه الأرض ومهواه الأرض فهو طين والطين ليس خلّاقاً وليس سعيداً وليس مليئاً بالشعور الكريم..
غفر الله لي ولكم.. والسلام عليكم ورحمة الله و بركاته..